تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

والجواب : منع هذا الإجماع ، كيف وحجّيّة خبر الواحد معركة للآراء.

نعم هاهنا إجماع نقله الشيخ على خصوص الأخبار المرويّة عن أئمّتنا المعصومين بطرق أصحابنا ، وهو لا ينفع المقام لأنّه منقول ، مع عدم اندراج المقام في مورده ، هذا مع منع الأولويّة على فرض صحّة الإجماع لوضوح الفرق بين الخبر عن حسّ والخبر عن حدس واجتهاد ، والإجماع إنّما يسلّم في الأوّل والثاني يفارقه في قوّة احتمال الخطأ فلا يكون أولى منه في الحكم.

وسادسها : أنّه إذا ظنّ المجتهد بفتوى مجتهد آخر فقد ظنّ أنّ حكم الله تعالى ذلك ، فيحصل ظنّ العقاب بترك العمل فيجب العمل دفعا للضرر المظنون.

والجواب : أنّ ظنّه بفتوى مجتهد آخر المستلزم لظنّه بأنّه حكم الله إن اريد به ظنّه بحكم الله بسبب فتوى ذلك المجتهد على أن تكون الفتوى ملحوظة من باب الطريقيّة على حدّ سائر طرق الظنّ وأماراتها فهو داخل حينئذ في ظنونه الاجتهاديّة الّتي لها أسباب منها فتوى الفقيه ، ولزوم اتّباعه ـ لو دلّ عليه دليل ـ لا ينافي كونه متعبّدا باجتهاد نفسه من غير أن يكون ذلك تعبّدا بفتوى الغير من حيث إنّه فتوى الغير.

وإن اريد به ظنّه به على وجه تكون عنوان فتوى الغير ملحوظا من باب الموضوعيّة.

ففيه ـ مع بعد اتّفاق حصول الظنّ بهذا العنوان ، مضافا إلى عدم إناطة الأمر في التقليد بالظنّ فوجوده بمنزلة عدمه ـ : أنّه إن اريد بالحكم المظنون كونه حكم الله الحكم الواقعي المجعول للواقعة بحسب نفس الأمر القابل لأن يكون مع ذلك حكم الله الفعلي في مقام العمل الواجب اتّباعه في مقام الامتثال وعدمه ، ففيه : أنّ الظنّ به من هذه الجهة لا ينافي الشكّ في كونه الحكم الفعلي الواجب اتّباعه وعدمه كما هو المفروض ، فحصول ظنّ العقاب حينئذ غير معقول ، ضرورة أنّ العقاب من لوازم مخالفة الحكم الفعلي والظنّ باللازم لا يجامع الشكّ في الملزوم كما لا يخفى.

بل لنا أن نقول : إنّ مجرّد الشكّ في الملزوم يكفي في القطع بانتفاء اللازم هنا ، نظرا إلى ما تقدّم من الأدلّة القطعيّة على أنّ الظنّ بنفسه لا يصلح ميزانا للحكم الشرعي.

ومع الغضّ عن ذلك فأصل البراءة الجاري في نظائر المقام يؤمننا عن العقاب فلا ضرر حينئذ ليجب دفعه ، ولا يلزم من إجراء أصل البراءة في جميع الوقائع ـ لو فرض حصول الظنّ له في كلّ واقعة واقعة أفتى بها المفتي ـ الخروج عن الدين والمخالفة القطعيّة كما كان

١٤١

يلزم من إجرائه كذلك بالقياس إلى ظنون المجتهد نفسه على ما قرّر في تتميم دليل الانسداد ، من جهة أنّ ذلك ثمّة إنّما كان لازما لأجل انحصار العلم الإجمالي في الوقائع المظنونة.

والمفروض أنّ طريق العلم الإجمالي هاهنا ليس منحصرا في فتاوى مجتهد آخر ، لأنّ له طريقا آخر وهو أخذه بمؤدّى اجتهادات نفسه فيحصل التديّن وامتثال العلم الإجمالي باتّباع مؤدّى اجتهاداته البتّة وإلاّ خرج الفرض عن محلّ البحث.

وإن اريد به الحكم الفعلي ، ففيه : أنّ الظنّ بفعليّة فتوى هذا المجتهد المستتبع لترتّب العقاب والضرر على المخالفة لا يجامع العلم بجواز الاجتهاد لنفسه وصحّة هذا الاجتهاد لو حصل ، بل معنى الظنّ المذكور عند التحقيق الظنّ بعدم جواز الاجتهاد وعدم صحّته لو حصل ، ومرجعه إلى الظنّ بعدم أهليّته للاجتهاد فيكون الفرض مخرجا له عن محلّ البحث ، لأنّ تكليفه مع الشكّ في أهليّة الاجتهاد هو التقليد فيكف مع الظنّ بعدم الأهليّة.

وسابعها : أنّه لو وجب على المجتهد المفروض الاجتهاد في المسائل الّتي لم يجتهد فيها ولم يجز له التقليد فيها لوجب عليه في مدّة طويلة كعشرة سنين أو عشرين أو ثلاثين سنة ترك الاشتغال بجميع الامور الّتي تنافي الاجتهاد من الأكل والشرب والنوم والجماع والمصاحبة والعشرة مع العباد والمسافرة والمعاملة ونحو ذلك إلاّ بقدر الضرورة ، ولوجب عليه تأخير الصلاة ونحوها من العبادات الموسّعة إلى وقت الإمكان ، والثاني باطل فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب مع احتياج المكلّف إلى معرفة المسائل الكثيرة الّتي لا تكاد تحصى ، كمسائل الوضوء والغسل والتيمّم وإزالة النجاسة والصلاة والبيع ونحو ذلك ممّا لا يتمكّن من الاجتهاد في جميعها في يوم أو يومين بل شهر أو شهرين بل سنة أو سنتين بل عشرين وثلاثين سنة ، خصوصا بالنسبة إلى صاحب الأذهان الدقيقة والأفهام العميقة.

وأمّا بطلان التالي فلوجوه :

الأوّل : أنّا لم نجد أحدا من المتقدّمين والمتأخّرين من مجتهدي الخاصّة والعامّة من ضيّق على نفسه الأمر بعد بلوغه رتبة الاجتهاد في شطر من الزمان هذا التضييق وترك الاشتغال بجميع المنافيات ، وأخّر العبادات إلى آخر وقتها من هذه الجهة ، بل نراهم يؤخّرون الاجتهاد بالسفر المباح والأفعال الغير الضروريّة ويتسامحون فيه غاية المسامحة ، ولم نجد

١٤٢

أحدا قدح فيهم وحكم بفسقهم من هذه الجهة ، إلى آخره.

والثاني : أنّه لو وجب الاجتهاد وترك التقليد على المجتهد المفروض بالنحو المفروض من ترك الاشتغال بالمنافيات وتأخير العبادات الموسّعة المنافية إلى آخر الأوقات والاشتغال بالاجتهاد في جميع الأزمان للزم العسر العظيم الّذي هو أعظم من الضرر الحاصل من العمل بالاحتياط في جميع المسائل ، والتالي باطل.

الثالث : أنّ ذلك لو كان واجبا لوردت الأخبار بذلك لتوفّر الدواعي عليه ومسيس الحاجة إليه ، وبطلان التالي في غاية الوضوح.

والجواب عن ذلك : منع الملازمة ، أمّا أوّلا : فلما قرّرناه في محلّه من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن أضداده الخاصّة.

وأمّا ثانيا : فلعدم ابتناء الأمر بالاجتهاد على المضائقة المستلزمة لما ذكر ، بل المأمور به هنا لابدّ وأن يؤخذ على وجه يتحمّل عادة من غير تضمّنه شيئا من العذر والعسر ، أمّا أوّلا : فلما تقدّم من التنبيه عليه من أنّ محلّ البحث الاجتهاد الّذي لم يقم ضرورة دعت إلى عدمه ولا مانع شرعي منه ، وكما أنّ العذر مانع عقلي وكذلك العسر مانع شرعي لأنّه ممّا أخذه الشارع مانعا عن تعلّق التكاليف بما هو ملزوم له.

وأمّا ثالثا (١) : فلما عرفت عند تقرير دليل الانسداد من أنّ العدول عن الاحتياط إلى الاجتهاد ـ مع أنّ مقتضى الأصل بعد تعذّر العلم التفصيلي بامتثال أحكامه تعالى هو الرجوع إلى العلم الإجمالي الّذي لا يتأتّى إلاّ من الاحتياط ـ إنّما هو لأجل التفصّي عمّا نفاه الأدلّة الأربعة من العسر والحرج الّذي لا يتحمّلان عادة ، ومعه كيف يصحّ أن يعتبر الاجتهاد على وجه يقتضيهما ، ضرورة أنّه لو لا كونهما منفيّين في نظر الشارع كان المتعيّن في المقام بل في غير المقام ـ كموضوع المسألة المتقدّمة ـ الأخذ بالاحتياط.

وقضيّة ذلك بناء الأمر في الاجتهاد على المواسعة الّتي لا يجب معها الاقتصار في امور المعاش على قدر الضرورة ، فلا تأخير الصلاة وغيرها من العبادات الموسّعة إلى آخر وقت الإمكان.

فتحقيق المقام : أنّ الواجب من الاجتهاد عينا بمقتضى الجمع بين دليل وجوبه وقاعدة العذر والعسر النافيين للتكليف صرف الوقت في الاشتغال باستنباط الأحكام من مداركها

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « وأمّا ثانيا ».

١٤٣

بما لا ينافي الاشتغال بسائر الأفعال العادية بحسب العادة الّتي لو تغيّرت فيها لاختلّ به النظم ولزم منه عسر لا يتحمّل عادة.

وبهذا البيان يضعّف ما قد يتمسّك لعدم وجوب الاجتهاد بالسيرة ، بتقريب : أنّ أرباب الملكات من العلماء نراهم أنّ سيرتهم على عدم استغراق وقتهم للاجتهاد ، بل نراهم يسافرون ويجالسون ويعاشرون ويباشرون النساء وينامون ويحضرون المجالس والمحافل ويتشاغلون غير هذه من الأفعال المضادّة للاجتهاد.

فإنّ هذه السيرة وإن كانت في الجملة ثابتة غير أنّ كونها لأجل عدم وجوب الاجتهاد رأسا غير واضح ، لجواز كونها لأجل عدم ابتنائه على المضائقة المانعة عن الاشتغال بالأفعال المذكورة إلاّ بقدر الضرورة ، مع جواز ابتناء تركه في محلّ هذه الأفعال على العمل بالاحتياط ، فلا تكشف عن تجويزهم لأنفسهم تقليد غيرهم حيث لم يظهر منهم أنّهم حال الاشتغال بالأفعال أنّهم يقلّدون.

فالحقّ أنّ الحكم الواقعي في حقّ اولي الملكات أحد الأمرين من الاجتهاد أو العمل بالاحتياط بعد معرفته ومعرفة موارده.

وثامنها : الاستصحاب الّذي قرّره بعضهم بأنّ المجتهد المفروض قبل بلوغه رتبة الاجتهاد كان مقلّدا لغيره في المسألة الّتي لم يجتهد فيها وفي المسألة الّتي اجتهد فيها ، وبطل حكم الاستصحاب بالنسبة إلى هذه بالدليل الأقوى وأمّا الّتي لم يجتهد فيها فلا دليل على حرمة التقليد فيها ولزوم ترك ما كان عليه سابقا فيها ، فيجب البقاء على ما كان عليه من التقليد والعمل بقول الغير عملا بالاستصحاب.

وأمّا المسألة الّتي لم يقلّد فيها فلا يخلو إمّا أن يكون ممّن وجب عليه التقليد أو لا؟

أمّا الأوّل : فيجري فيه الاستصحاب أيضا.

وأمّا الثاني فعدم جريانه فيه غير قادح في صحّة القول بالتقليد مطلقا ، لأنّه إذا صحّ التمسّك به في بعض الصور وجب إلحاق الباقي به بعدم القول بالفصل بين الصور.

وضعفه واضح بعد ما عرفت من الأدلّة على حرمته مطلقا ، مع ما أشرنا سابقا إلى ما يقدح في صحّة الاستصحاب من تبدّل موضوع المستصحب ، مع أنّ في صحّة التمسّك بالإجماع المركّب فيما يثبت أحد شطريه بالأصل كلاما أوردناه في محلّه.

١٤٤

خاتمة

يظهر بالتأمّل في كلماتنا السابقة أنّ الاجتهاد بالنسبة إلى من بلغ رتبته واجب مطلق وبالنسبة إلى غيره واجب مشروط ، وشرط وجوبه البلوغ رتبته الّذي معياره حصول الملكة المقتدر بها على استنباط الأحكام من مداركها ، والقوّة المقتدر بها على ردّ الفروع إلى الاصول ، ومن حكم الواجب المشروط ـ على ما حقّق في محلّه ـ عدم وجوب تحصيل مقدّماته الوجوبيّة ، فلا يجب على فاقد الملكة والقوّة المذكورتين تحصيلها ، وأمّا ما عداها من الشروط فهي من المقدّمات الوجوديّة ومن جملتها استحضار الكتب الّتي لها مدخل في الاستنباط من كتب الحديث والرجال والتفسير والكتب الفقهيّة الاستدلاليّة.

ومن المقرّر في المقدّمات الوجوديّة بعد حصول شرط الوجوب وجوب تحصيلها على القادر عليه ، فيجب على البالغ رتبة الاجتهاد تحصيل الكتب المذكورة حسبما يحتاج إليه في استنباطه إن قدر عليه كما يجب عليه رفع موانع الاستنباط المقدور على رفعها من باب المقدّمة.

نعم إن لم يقدر على تحصيل المقدّمات الوجوديّة أو على رفع الموانع سقط عنه فرض الاجتهاد لكون الواجب بالقياس إلى القدرة على المقدّمات الوجوديّة أيضا مشروطا.

وحينئذ ففي تعيّن العمل بالاحتياط أو جواز التقليد له وجهان أشرنا إليهما سابقا ، ولكنّ الوجه فيه التفصيل فيتعيّن عليه العمل بالاحتياط للأصل العقلي المتقدّم ذكره إلاّ ما تعذّر الاحتياط أو أدّى إلى عسر لا يتحمّل عادة فيقلّد حينئذ لقبح التكليف بغير المقدور والأدلّة النافية للعسر والحرج.

ـ تعليقة ـ

ما عرفت من البحث في المسألتين السابقتين إنّما هو في حكم المجتهد المطلق ـ أعني صاحب الملكة العامّة لجميع المسائل ـ وأمّا المجتهد المتجزّي فقد اختلفوا في حكمه فتارة بالنظر إلى إمكانه المعبّر عنه بجواز تجزّي الملكة وعدمه ، واخرى بالنظر إلى اعتبار مجتهداته المعبّر عنه بمساواته المجتهد المطلق في حجّيّة ظنّه وعدمها.

فالكلام في هذه المسألة يقع في مقامين تعرّض لهما المصنّف.

١٤٥

وقد اختلف الناس في قبوله للتجزئة بمعنى جريانه في بعض المسائل دون بعض * ،

__________________

* المراد بالاجتهاد المختلف في قبوله التجزئة هو الملكة المقتدر بها على الاستنباط ، وبتجزّيه كونها مقصورة على بعض المسائل قبالا للمجتهد المطلق الّذي له ملكة عامّة لجميع المسائل.

وأمّا ما عن بعضهم من توهّم كون النزاع في تجزّي الاجتهاد بحسب الفعل لا بحسب الملكة فهو وإن كان ممّا يوهمه بعض أدلّة أهل القول بإمكان التجزّي حسبما تعرفه ، غير أنّه عند التحقيق ممّا لا محصّل له إلاّ بأن يرجع بنحو من التأويل إلى بعض الصور الآتية ، وهو تعلّق النزاع باعتبار استنباطه الفعلي الحاصل في المسألة بمقتضى ملكته المقصورة على تلك المسألة خاصّة ، إذ المجتهد المتجزّي اصطلاح لهم فيما يقابل المطلق.

ومن البعيد تعلّق النزاع بما لو كانت الملكة تامّة حاصلة في الجميع والفعليّة ناقصة مختصّة بالبعض.

بل ظاهر كلماتهم يعطي إجماعهم على أنّه لا يشترط في المجتهد المطلق حصول الاستنباط الفعلي في جميع المسائل تحقّقا ولا اعتبارا شرعيّا ، ولا إمكان تحقّقه إذ استند امتناعه إلى فقد شرط أو وجود مانع راجع إلى اقتضاء المقتضي وهو عموم الملكة لا إلى فقد المقتضي وإلاّ كان متجزّيا.

ثمّ قبول التجزئة في عنوان المسألة إمّا أن يراد به ما هو بحسب الاصطلاح ، أو ما هو بحسب التحقّق الخارجي ، أو ما هو بحسب الجعل الشرعي.

فعلى الأوّل يراد به دخول ملكة البعض كملكة الكلّ في المعنى المصطلح عليه ، على معنى كون الاجتهاد بحسب الاصطلاح اسما لمفهوم عامّ صادق على ملكة الكلّ وملكة البعض وعدمه فيكون اسما لخصوص ملكة الكلّ ، فيكون النزاع في أمر لفظي.

وعلى الثاني يراد به إمكان تحقّق ملكة البعض في الخارج كما أنّ ملكة الكلّ متحقّقة فيه مع كون الاجتهاد بحسب الاصطلاح للمفهوم العامّ.

ومحصّله إمكان تحقّقه في ضمن كلّ من فرديه وعدمه ، بل هو كواجب الوجود كلّي منحصر في الفرد مع امتناع فرده الآخر وهو ملكة البعض ، فيكون النزاع في أمر عقلي.

وعلى الثالث يراد به اعتبار ملكة البعض شرعا كما يعتبر ملكة الكلّ ، ومعنى اعتبارها

١٤٦

شرعا كونها منشأ لصحّة المستنبطات وصيرورتها أحكاما فعليّة يجب بناء العمل عليها شرعا ، فيكون النزاع في أمر شرعي.

لكن لا خفاء في سقوط أوّل الوجوه عن البين ، إذ لا كلام لأحد في ثبوت التسمية لكلا القسمين ، وهو ظاهر أكثر التعاريف ولا سيّما تعريف الزبدة ، ولذا صرّح الفاضل الجواد في شرح « الحكم » المأخوذ فيه بما صرّح (١).

ويكفيك شاهدا بذلك تقسيمهم المجتهد إلى المطلق والمتجزّي ، فإن أوهم بعض التعاريف اختصاصه بملكة الجميع فلا يلتفت إليه بعد ملاحظة أنّ الامور الاصطلاحيّة إنّما تثبت بما عليه الأكثر ولا اعتداد بما عليه الشاذّ الأندر.

وأمّا الوجهان الآخران فكلماتهم المتعرّضة لتشخيص موضع الخلاف مختلفة ، فالمعروف المصرّح به في كلام غير واحد أنّ النزاع في كلا المقامين وهو الأظهر.

وقد يخصّص الخلاف بمقام الاعتبار ويصرف عن مقام الإمكان ، ومنه ظاهر عبارة التهذيب قائلا : « والأقرب قبوله التجزّي ، لأنّ المقتضي لوجوب العمل مع الاجتهاد في جميع الأحكام موجود مع الاجتهاد في بعضها ، وتجويز تعلّق المجهول بالمعلوم يدفعه الفرض » انتهى.

ولعلّ السرّ فيه توهّم سخافة الخلاف في مقام التحقّق ، إمّا لعدم معقوليّة تجزّي الملكة كما قد يتوهّم ، أو لشذوذ المخالف وندور المنكر على وجه يعدّ إنكاره مدافعة للعيان ومكابرة للوجدان كما قيل.

وقد يعكس الأمر بتخيّل أنّ النزاع في اعتبار ظنّ المتجزّي على فرض حصوله على نحو ما يحصل للمطلق ليس على ما ينبغي ، إذ الظنّ بعد اعتباره لا يتفاوت فيه الحال بين كون الظانّ مطلقا أو متجزّيا ، بل الّذي يليق بأنّ ينازع فيه إنّما هو إمكان التجزّي ، على معنى إمكان حصول الظنّ في بعض المسائل لغير القادر على استنباط الجميع على نحو ما يحصل للمجتهد المطلق ، وهذا هو الّذي يظهر من بعض كلماتهم الآتية.

لا يقال : إنّ هذا يعطي دعوى كون النزاع في تجزّي الاجتهاد بحسب الفعل ولذا عبّر عنه بحصول الظنّ وعدمه ، لمكان قوله : « لغير القادر على استنباط الجميع » فإنّه يعطي كون مفروض الكلام في صاحب الملكة الناقصة الّذي هو المتجزّي في اصطلاحاتهم ، وعليه فلا بدّ

__________________

(١) راجع ص ١٨.

١٤٧

وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل فقط * ، فله حينئذ أن يجتهد فيها أو لا.

__________________

وأن يستند دعوى عدم حصول الظنّ على القول بعدم قبول التجزّي إلى فقد المقتضي له وهو أصل الملكة ، لعدم إمكان تحقّقها مع البعض ولو مع وجود الدليل ودلالة الدليل الموجود وسلامته عن المعارض الّتي هي من شروط اقتضاء المقتضي على تقدير وجوده ، لا إلى فقد شروط الاقتضاء أو وجود موانعه.

وقد يحتمل كون النزاع لفظيّا.

ومنه ما قيل على ما حكاه شارح الوافية من « أنّه لا كلام في تجزّي العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّته التفصيليّة فعلا ، فإنّ الإحاطة بجميع الأحكام الفرعيّة بالفعل غير مقدور لأحد غير المعصوم عليه‌السلام ، ولو فرض مقدوريّته فهو ليس بشرط إجماعا ، وإنّما الكلام في تجزّي نفس القوّة والملكة الّتي تسمّى اجتهادا والظاهر أنّه غير معقول أيضا ، وإنّما المتجزّي الاجتهاد الفعلي لا نفس القوّة ، ولعلّ من جوّزه إنّما لاحظ ذلك فيرجع النزاع لفظيّا وإن أبته عبارات أكثرهم » انتهى.

وفيه من البعد ما لا يخفى بل ينبغي القطع ببطلانه ، وما أبعد بين ما ذكر هذا القائل من عدم معقوليّة تجزّي الملكة وبين ما ادّعاه قائل آخر من كون إنكار جواز تجزّي نفس الملكة مكابرة للوجدان ، كما حكاه السيّد في شرحه للوافية أيضا قائلا : « قال بعض الفضلاء : الحقّ أنّ التجزّي بمعنى الاقتدار على بعض المسائل دون بعض على وجه تساوي استنباط المجتهد المطلق أمر جايز بل واقع ، والمنازع فيه يكاد يلحق نزاعه بالمكابرة ، فإنّ الاقتدار ربّما كان على نوع خاص من الأحكام بل على صنف من الأنواع للانس بمداركه والاطّلاع على مأخذه واستعداد النفس بسبب ذلك استعدادا قريبا للعلم بذلك الحكم من دليله وليس هذا بمنكر ، وكيف ينكره من يسلّم تجزّي الاقتدار والاستعداد في العلوم الإلهيّة والطبيعيّة والعربيّة والشعر والإنشاء والرسائل وغيرها من الصناعات ، وأنّ الفرق بينها وبين الاستعداد القريب لاستنباط الأحكام الشرعيّة تحكّم بارد واقتراح مردود لا يرتكبه المنصف المحقّق ».

* والتعبير بحصول مناط الاجتهاد كما هنا أو بما يرادفه كما في كلام جماعة أحقّ ممّا في الزبدة من التعبير بالاطّلاع على دلائل الحكم ، وما في المحصول من التعبير بمعرفة ما ورد في المسألة من الآيات والسنن والإجماع والقياس ، لوضوح أنّ التمكّن من استنباط

١٤٨

الحكم الشرعي من المأخذ ليس بمجرّد معرفة ذلك المأخذ ، إلاّ أن يراد منها معرفتها على وجه يتمكّن معه من إعماله المستتبع للتوصّل إلى مؤدّاه من الحكم الشرعي.

وكيف كان فمقصود المقام أن يحصل لمريد الاستنباط جميع ماله دخل في المسألة المجتهد فيها من معرفة دليلها ومبادئها عربيّة واصوليّة ورجاليّة وغيرها من المقدّمات القريبة أو البعيدة المأخوذة في الاستدلال عليها مع التمكّن من إعمالها ووضع كلّ موضعه اللائق به على وجه يختصّ جميع ذلك بمسألة أو مسألتين أو عدّة مسائل بحيث لم يكن عنده ممّا يتعلّق بسائر المسائل شيء ممّا ذكر ، أو كان مع عدم وفائه بحصول ما هو الغرض من معرفة أصل الحكم ، ومرجعه إلى قصور استعداده عن معرفة الحكم في باقي المسائل.

فبما شرحناه تبيّن أن ليس المراد بتجزّي الاجتهاد تبعّض الملكة التامّة الحاصلة بالقياس إلى جميع المسائل حتّى يقال : إنّها بعد حصولها أمر بسيط لا يتبعّض ، أو أنّها إذا كانت من مقولة الكيف فلا يقبل لذاتها قسمة ولا نسبة.

ولا أنّ المراد بقبولها التجزئة اشتمالها باعتبار الشدّة والضعف على مراتب ، فهي في بعض المراتب قويّة وفي بعضها الآخر ضعيفة وفي الثالث متوسّطة وليس ذلك إلاّ من جهة قبولها الزيادة والنقصان.

والمفروض أنّ من يقول بالتجزّي فيها يرجع كلامه إلى دعوى قبولها النقص على معنى كونها حيثما حصلت ناقصة.

حتّى يرد عليه : أنّ الاختلاف من هذه الجهة لا ينافي امتناع التجزّي حسبما يدّعيه أهل القول به من أنّ ملكة استنباط بعض الأحكام لا ينفكّ عن ملكة استنباط جميعها ، على معنى أنّ المتمكّن من استنباط البعض متمكّن من استنباط الجميع ، ومن لا يتمكّن من استنباط الجميع لا يتمكّن من استنباط البعض أيضا ، فلا يتفاوت الحال عنده بين فرض كونها في مرتبة القوّة أو الضعف أو المرتبة المتوسّطة بينهما ، إذ القوّة والضعف فيها بحسب المراتب ليست باعتبار عمومها لجميع المسائل أو اختصاصها بالبعض ، بل باعتبار الاختلاف فيما يترتّب عليها من حصول الاستنباط بسهولة أو صعوبة وعدم حصوله ، ومن التوصّل إلى الإدراكات الجزئيّة من جهتها بسرعة أو بطؤ وعدمه ، فإنّ الملكة المقتدر بها على الاستنباط أو على الإدراك الفعليّين كلّما قويت سهل الاستنباط وحصل الإدراك بسرعة وكلّما ضعفت صعب الاستنباط وحصل الإدراك ببطؤ ، وذلك إمّا من جهة تفاوت انسه بمقام

١٤٩

ذهب العلاّمة رحمه‌الله في التهذيب ، والشهيد في الذكرى والدروس ، ووالدي في جملة من كتبه ، وجمع من العامّة ، إلى الأوّل * ، وصار قوم إلى الثاني **.

حجّة الأوّلين *** : أنّه إذا اطّلع على دليل مسألة بالاستقصاء فقد

__________________

التفريع أو من جهة اختلاف خبرته ووقوفه على طريقة الفقهاء في الدخول في المسائل والخروج عنها ، أو من جهة تفاوت ممارسته في اصول المسائل الفرعيّة وفروعها ، أو من جهة الاختلاف في استحكام ما يبتنى عليها الاستنباط من القواعد الحاضرة عنده والمبادئ الحاصلة لديه ، أو من جهة التفاوت في دائرة القوّة الفكريّة ، أو من جهة غير ذلك من دواعي القوّة والضعف في الملكة.

وبالجملة ليست العبرة في التجزّي بضعف الملكة بحسب الماهيّة ليكون المجتهد المطلق من له الملكة القويّة ، وإن شئت فعبّر عن تجزّي الاجتهاد باعتبار الملكة بتجزّي المسائل بالإضافة إلى الملكة وجودا وعدما ، بأن يكون الملكة الموجودة مقصورة على البعض قاصرة عن الباقي سواء كانت في مرتبة القوّة والضعف أو المرتبة المتوسّطة بينهما.

* وفي الوافية : « الأكثر على أنّه يقبل التجزئة » وفي أصل الاصول : « نسبه جمع من الأصحاب إلى المشهور » ، وفي نسبة ذلك إلى تهذيب العلاّمة إشكال لما عرفت وجهه من انطباق عبارته على دعوى قبول التجزئة في مقام الاعتبار والحجّية ، إلاّ أن يقال : بأنّ تجويز التجزئة في هذا المقام يستلزم تجويزها في مقام الإمكان ، ضرورة أنّ الاعتبار والحجّية فرع الإمكان بل فرع الوقوع أيضا.

ويمكن القول بابتناء كلامه على تنزيل العنوان المعروف إلى النزاع في هذا المقام كما صنعه بعض الفضلاء وغيره لسخافة النزاع في غير هذا المقام.

** قال بعض الأفاضل : « وكأنّهم من العامّة إذ لم نجد في أصحابنا ممّن تقدّم على المصنّف من صرّح بالمنع منه ».

أقول : وقد تقدّم فيما حكاه السيّد صدر الدين عن بعض الفضلاء وجود القول بالمنع هنا في أصحابنا أيضا.

وعن الإيضاح والمنية التوقّف ، حيث ذكرا حجج القولين ولم يرجّحا شيئا.

** والمنقول من حجّة الأوّلين وجهان :

١٥٠

أحدهما : ما تعرّض له جمع من العامّة وأشار إليه الحاجبي في مختصره وفصّله بعض شارحيه في شرحه الموسوم بالبيان وهو : أنّه لو لم يتجزّ الاجتهاد لعلم المجتهد جميع الأحكام لوجوب تمكّنه من استخراج الجميع ، والتالي باطل. فإنّ مالكا مع علوّ شأنه في الاجتهاد لم يعلم الجميع ، لأنّه سئل عن أربعين مسألة فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري.

وفيه : منع الملازمة تارة ، ومنع بطلان التالي اخرى ، إذ لو اريد بالعلم وقولهم : « لعلم المجتهد جميع الأحكام » العلم الفعلي بجميع الأحكام فالملازمة ممنوعة ، بناء على أنّ المانع إنّما يمنع تجزّي الملكة لا أنّه يعتبر فعليّة الجميع بل هذا ممّا لا قائل به ، بل بعضهم على ما سبق في بعض الكلمات المتقدّمة أحاله ، فحصول ملكة العلم بالجميع لا يستلزم العلم بالجميع فعلا.

ولو اريد به العلم الملكي بالجميع فبطلان التالي ممنوع ، إذ الحكاية المنقولة عن مالك إنّما تقضي بانتفاء فعليّة الجميع وهو لا يستلزم انتفاء ملكة الجميع ، مع توجّه المنع إلى كون الجواب بلا أدري من جهة انتفاء الفعليّة بالمرّة ، لجواز كونه لعدم تذكّره لمؤدّى اجتهاده الفعلي لبعد عهد ونحوه.

وبالجملة « لا أدري » في جواب المسألة لا يستلزم عدم الاستنباط فعلا في جميع المسائل ، لجواز طروّ نسيان المستنبط.

ولو سلّم فعدم استنباط الجميع لا يستلزم عدم التمكّن من استنباط الجميع لكون الاستنباط تدريجيّ الحصول فيحصل بمرور الدهور لا دفعة واحدة ، ولو سلّم فعدم التمكّن من استنباط الجميع لا يستلزم كونه لعدم ملكة الجميع ، لأنّها بالإضافة إلى الاستنباط الفعلي من باب المقتضي ، ولاقتضائه شروط وموانع فعدمه قد يستند إلى فقد المقتضي وقد يستند إلى فقد شرط اقتضائه وقد يستند إلى وجود مانع له ، وإنّما يكشف من انتفاء الملكة التامّة على الأوّل دون الأخيرين ، فالحكاية المذكورة لا تقضي بكون مالك متجزّيا على معنى كون ملكته ناقصة مقصورة على بعض المسائل ، لكون انتفاء فعليّة الجميع على فرض تسليمه قد يجامع الملكة التامّة وقد يجامع الملكة الناقصة فيكون أعمّ من جهات عديدة ، ولا يعقل دلالة الأعمّ على الأخصّ.

وثانيهما : ما نقله المصنّف وقرّره شارح المختصر في بيانه من : أنّه إذا اطّلع المستفرغ على أمارات مسألة فهو وغيره ـ أي المجتهد المطلق ـ سواء في تلك المسألة ، فكما يتمكّن

١٥١

المجتهد المطلق من استخراج حكم تلك المسألة يتمكّن المستفرغ أيضا.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم أنّه والمجتهد المطلق سواء في تلك المسألة ، فإنّه قد يكون ما لم يعلمه متعلّقا بتلك المسألة فلا يتمكّن من استخراج حكمها بخلاف المجتهد المطلق فإنّه يتمكّن لعلمه بما يتعلّق بتلك المسألة وما لا يتعلّق.

وملخّصه : أنّه قد يكون فيما لم يعلمه من أمارات بقيّة المسائل وأدلّتها ما يناقض مقتضي ما علمه من أمارات تلك المسألة من مقيّد أو مخصّص أو ناسخ أو قرينة مجاز أو غير ذلك من أنواع المعارض ، وهذا الاحتمال مادام قائما فهو مانع من استخراج حكم المسألة ، وهذا معنى عدم تمكّنه من الاستخراج.

واجيب عنه تارة : بالنقض بالمجتهد المطلق إذ المعتبر فيه وجود الملكة التامّة لا الإحاطة الفعليّة ، فيأتي في حقّه الاحتمال الآتي في حقّ المتجزّي لتساويهما في منشائه ، فإنّ وجود الملكة على هذا التقدير لا يوجب الاطّلاع على المعارض.

إلاّ أن يدفع بالفرق بأنّ المطلق يقدر على رفعه بالفحص في أمارات سائر المسائل لعموم ملكته والمتجزّي لا يقدر عليه لقصور ملكته.

وسيظهر ضعفه بمنع الملازمة بين قصور ملكة استخراج الحكم وبين العجز عن رفع احتمال وجود المعارض ظنّا أو علما عاديّا.

واخرى : بفرض مساواته المطلق ، فإنّ المفروض استكماله جميع ما يتعلّق بالمسألة من الأمارات ومعارضاتها ومبادئها ـ تصوّريّة وتصديقيّة ـ على نحو ما يفرض للمطلق بالقياس إلى تلك المسألة ، وكونه لا يعلم أمارات بقيّة المسائل لقصوره عن الإحاطة التامّة غير قادح في معرفة متعلّقات تلك المسألة.

والقول بعدم إمكان العلم بعدم المعارض من مخصّص ونحوه بدون الإحاطة بجميع مدارك الأحكام فبطل التساوي.

يدفعه : أنّ إنكار حصول الظنّ بعدم المعارض في حقّه ولو بتصريح غيره من أهل البصيرة بهذا الشأن مكابرة ، بل قد يحصل له العلم العادي من العادة بالعدم ، فإنّ المسائل الّتي وقع الخلاف فيها أوردها كثير من الفقهاء في كتبهم الاستدلاليّة واستدلّوا عليها إثباتا ونفيا ممّا يحكم العادة بأن ليس لها مدارك غير ما ذكروه ، ولا أقلّ من حصول ظنّ متاخم بالعلم وهذا كاف في معرفة حكم المسألة ظنّا ، مع أنّا نقول : يكفينا عدم إحاطته بجميع

١٥٢

الآيات المتعلّقة بالأحكام ، إذ المعلوم أنّه لا تعلّق للآيات المتعلّقة بالفرائض بالمسألة الصلاتيّة إذا فرضنا المتجزّي مستفرغا في المسألة الصلاتيّة قاصرا نظره عن الفرائض.

ومع الغضّ عن ذلك نقول أيضا : ربّما يحيط علم المتجزّي بجميع الأحاديث المتعلّقة بأبواب الفقه كلّها من حيث إنّه ليس فيها ما يعارض دليله مع عدم قدرته على استنباط ما يتعلّق بها من المسائل منها ، أما تجد من نفسك تقدر أن تعلم أنّ قوله عليه‌السلام : « تدرأ الحدود بالشبهات » ليس معارضا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة إلاّ بطهور » مع عدم قدرتك على استنباط ما يمكن استنباطه منه من الأحكام.

واعترض عليه العلاّمة البهبهاني في رسالته في الاجتهاد والأخبار بوجوه مرجع بعضها إلى ما تقدّم ونذكرها ملخّصا :

أحدها : أنّ ما فرضتموه إنّما هو حصول جميع ما هو أمارة في تلك المسألة في ظنّه نفيا وإثباتا وذلك كيف ينفعه في أن يحصل له ضابط الاجتهاد في الواقع ، مع أنّ الكلّ متّفقون على أنّه ما لم يحصل له الظنّ بعدم المانع من مقتضي ما يعلمه من الدليل لا يصحّ له الاجتهاد.

وثانيها : أنّ المجتهد المطلق بعد إحاطته بجميع مدارك الأحكام وعلمه فالظاهر أنّه يحصل له العلم بعدم مدخليّة الغير ، ودعوى مساواة العلم للظنّ كما ترى.

وثالثها : أنّ حصول العلم للمتجزّي ممّا ذكرت فساده ظاهر كما لا يخفى ، كيف واطّلاع المتأخّرين على بعض ما لم يطّلع عليه المتقدّم منهم أكثر من أن يحصى.

ورابعها : أنّه على تقدير ما لو قلنا بحصول الظنّ للمطلق فدعوى التساوي أيضا مكابرة ، لاطّلاعه على ما اطّلع عليه المتجزّي وعلى جميع مدارك الأحكام ، وعدم تأثير الاطّلاع ، عليها وعدم حصول التفاوت بسببه أصلا مباهتة بيّنة ، إلاّ أن يكون غرضهم التساوي في نفس الظنّ لا في مقداره ومرتبته ، على أنّه على تقدير تسليم التساوي في مقداره فتساويهما في الحجّية محلّ تأمّل.

ولا يخفى ما في هذه الوجوه من الضعف والتعسّف.

أمّا في الوجه الأوّل : فلأنّه إن اريد بذلك أنّ ظنّ عدم المانع لا يتأتّى لمن حصل عنده جميع ما هو أمارة في المسألة في ظنّه فهو قريب من مدافعة الضرورة ، لأنّ ظنّ عدم المانع مع الظنّ بحصول جميع ما هو أمارة في تلك المسألة ضروريّ الحصول وإنكاره يلحق

١٥٣

بالمكابرة ودفع الضرورة.

وإن اريد به أنّ ضابط الاجتهاد هو العلم بعدم المانع ولا يتأتّى ذلك إلاّ مع حصول جميع ما هو أمارة في المسألة بحسب الواقع ، فمرجعه إلى اعتبار العلم بجميع ما هو أمارة في المسألة المستلزم للعلم بعدم المانع.

ويظهر بطلانه بملاحظة بطلان الوجه الثاني ، وهو أنّ الإحاطة بجميع مدارك الأحكام الموجبة للعلم بعدم مدخليّة الغير إن اخذت في المطلق على وجه الاعتبار ـ على معنى أنّه لا يصير مطلقا إلاّ بعد الإحاطة الفعليّة بجميع مدارك الأحكام ـ.

ففيه : منع واضح ، حيث لم نقف على قائل به من أصحابنا ولا من مخالفينا ، كيف ويلزم من اعتباره في الاجتهاد محذور ما لو اعتبر العلم بالأحكام في جميع المسائل ، أو العسر والحرج المختلّين بنظم المعاد والمعاش ، أو تعطيل أمر الاستنباط.

وإن أخذت على وجه الفرض ولو من باب أحد أفراده ـ على معنى أنّ المطلق لو فرض في الإحاطة الفعليّة بهذه المثابة لكان عالما بعدم مدخليّة الغير ـ.

ففيه : أنّه لا ينفي ماهيّة المساواة بينه وبين المتجزّي بجميع أفراده ، فيفرض الكلام فيما بين المتجزّي وصاحب الملكة الكاملة الّذي لم يحط علمه فعلا بجميع المدارك ، فإنّ الكلام إنّما هو في مطلق مساواة المتجزّي للمطلق لا في المساواة المطلقة بينهما حتّى في نحو الإحاطة الفعليّة بجميع الأحكام أو مداركها على فرض حصولها للمطلق ، مع أنّ فرض الإحاطة التامّة في المتجزّي أيضا بالنسبة إلى نفس المدارك من غير نظر إلى مقتضياتها جائز كما سبق الإشارة إليه.

وأمّا في الوجه الثالث : فلأنّ منع حصول العلم بملاحظة العادة حسبما فرضه المجيب مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليه ، خصوصا بعد ملاحظة كون المتعرّض للمسألة والمتصدّي لنقل الخلاف فيها وتحرير أقوالها وتقرير أدلّتها الموجودة ممّن عادته جارية على ضبط الأقوال الشاذة حتّى ما كان من العامّة وأدلّتها كالعلاّمة في كثير من كتبه ، وذلك لا ينافي كون المتقدّم لا يطّلع كثيرا مّا على ما يطّلع عليه المتأخّر من الأمارات والأدلّة ، ولا يلزم بذلك قدح في اجتهاد الغير المطّلع ولا في تمكّنه من معرفة حكم المسألة ولو ظنّا بواسطة الظنّ بأماراتها وظنّ عدم المانع ، وإلاّ ينفتح بذلك باب الكلام على اجتهاد قدماء أصحابنا وأحزابهم حسبما ادّعاه المعترض من عدم اطّلاع المتقدّم على ما اطّلع عليه المتأخّر ، وهذا

١٥٤

ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، وعدم علمه بأدلّة غيرها لا مدخل له فيها. وحينئذ فكما جاز لذلك الاجتهاد فيها فكذا هذا.

واحتجّ الآخرون : بأنّ كلّ ما يقدّر جهله يجوز تعلّقه بالحكم المفروض.

فلا يحصل له ظنّ عدم المانع من مقتضي ما يعلمه من الدليل *.

وأجاب الأوّلون : بأنّ المفروض حصول جميع ما هو دليل في تلك المسألة بحسب ظنّه ، وحيث يحصل التجويز المذكور يخرج عن الفرض.

__________________

ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم الكامل.

وإن أراد بما ذكره اطّلاع المتأخّر من الفروع المتجدّدة على ما لم يطّلع عليه المتقدّم فهو ممّا لا مدخل له بمحلّ البحث ، نظرا إلى أنّه ليس من جهة ضعف ملكة المتقدّم وقوّة ملكة المتأخّر ، ولا من جهة كمال قوّة المتأخّر وقصور قوّة المتقدّم ، بل لأنّ المتأخّر إذا دخل في المسألة ووجد المتقدّم محيطا بجميع جهاتها الظاهرة ومستوفيا لسائر أطرافها المنضبطة رافعا للكلفة عن المتأخّر بالقياس إليهما فلا جرم هو يبالغ في استخراج ما شذّ عن المتقدّم تعصّبا ، أو اختبارا لمقام فكره وسعة نظره ، أو حبّا منه ليشتهر بين الناس بإحداث فكر جديد كما يشاهد كلّ ذلك بين أبناء النوع من أهل الصناعة.

وأمّا في الوجه الرابع : فلأنّ ظاهر كلام القوم واحتجاجاتهم ونقوضهم وإبراماتهم فرض التساوي بينهما في أصل الظنّ لا في مقداره ومرتبته ولا في اعتباره ، بل هذا صريحهم في المقام الثاني مع أنّ إطلاق منع التساوي في المقدار أيضا كما ترى.

* ويظهر جوابه ممّا تقدّم مستوفى في تحرير ثاني دليل المجوّزين ، ومخلّصه أمران :

أحدهما : أنّ المفروض حصول جميع ما هو دليل وجودا وعدما بحسب ظنّه وحيث يحصل التجويز المذكور خرج عن الفرض ، مع أنّه إن اريد بالتجويز مجرّد احتمال وجود المانع فهو لا ينافي تأتّي حصول الظنّ بعدمه ، كيف وأنّ الظنّ ما اخذ في ماهيّته احتمال الخلاف ، وإن اريد به رجحان وجوده فهو خلاف فرض المساواة.

وثانيهما : أنّه بعد تحرير الأئمّة للأمارات وتخصيص كلّ بعض منها بما يليق به من المسائل عرف الفقيه أنّ ما عداها لم يكن له تعلّق بتلك المسألة وإنكاره مكابرة بيّنة.

١٥٥

والتحقيق عندي في هذا المقام : أنّ فرض الاقتدار على استنباط بعض المسائل دون بعض ، على وجه يساوي استنباط المجتهد المطلق لها ، غير ممتنع * ولكن التمسّك في جواز الاعتماد على هذا الاستنباط بالمساواة فيه للمجتهد المطلق **

__________________

* لوضوح أنّ هذا الاقتدار هيئة في النفس تنشأ من ممارسة مسائل الفنّ واستحضار مبادئها ـ تصوّريّة وتصديقيّة ـ وغيرها ممّا يتعلّق بها من الأدلّة ، والتمكّن من معرفة وجوه دلالات الأدلّة ودفع معارضة معارضاتها وإعمال مبادئها حين النظر ، ومعلوم أنّه ليس كلّ مسألة بحيث يحتاج فيها إلى إجراء جميع الأدلّة وإعمال كلّ المبادئ من مسائل جميع العلوم عربيّة واصوليّة ورجاليّة وغيرها فيها.

فمن الجائز أن يكون الممارسة مقصورة على بعض أبواب الفقه بل على صنف خاصّ من مسائل هذا الباب ، فإذا ابتلى العالم الممارس في هذا المقدار بمسألة أو عدّة مسائل منه وعرف مع ذلك جميع ما يتعلّق به من الأدلّة ومسائل كلّ علم ممّا ذكر وغيره على قدر ما يحتاج إليها فيه ، وتمكّن من إعمال ما عرفه من مسائل كلّ علم في موضع حاجته وصنع ما لزمه للنظر وراعى جميع ما له دخل في حصول المعرفة حسبما يصنعه المطلق يحصل له الظنّ حسبما طلبه على نحو ما يتّفق حصوله للمطلق.

وبالجملة هذا كلّه واضح وإنكاره دفع للضرورة فلا يلتفت إليه.

** هذا تعرّض لحكم المتجزّي بالقياس إلى مقام اعتبار اجتهاده وحجّية ظنّه ، وينبغي قبل الخوض في الترجيح والاستدلال التنبيه على امور من باب المبادئ.

الأمر الأوّل : في أنّه في وجوب عمل المتجزّي بظنّه تعيينا أو رجوعه إلى التقليد كذلك ، أو أخذه بالاحتياط كذلك ، أو جواز الأوّلين أو الأخيرين أو الأوّل والأخير أو الجميع تخييرا ، أو تعيّن العمل بالظنّ إن كان مسبوقا بالاجتهاد المطلق ، وتعيّن التقليد إن كان مسبوقا بالتقليد ، وتعيّن الاحتياط أو التخيير بينه وبين العمل بالظنّ أو التقليد أو بينه وبينهما إن لم يكن مسبوقا بشيء من الأمرين ، وجوه جارية في حقّه ابتداء وفي بدو النظر.

لكن ما عدا الأوّلين هاهنا ساقط عمّا بين العلماء لعدم قائل من العامّة والخاصّة ، وعدم وجود قول محقّق بشيء من المذكورات عدا ما رجّحه ببعض الفضلاء من التفصيل بين سبق التقليد أو الإطلاق فيأخذ بمقتضى الاستصحاب فيهما ، وعدم سبق شيء منهما فيبنى

١٥٦

التخيير ، وأمّا غيره من أصحابنا المتقدّمين عليه فلم ينقل منهم إلاّ تعيّن العمل بالظنّ أو تعيّن الرجوع إلى التقليد فإنّهم اختلفوا على قولين :

أحدهما : جواز أن يعمل بظنّه ، صار إليه العلاّمة في التهذيب والمبادئ والقواعد والتحرير ـ على ما حكي عنها ـ وعزى أيضا إلى الذكرى والسرائر والمقاصد العليّة وشرح الألفيّة لوالد البهائي والزبدة وكشف اللثام والوافية والمحصول وشرح الشرح ، وشرح المعالم لابن التلمساني.

وفي المفاتيح : وبالجملة الظاهر أنّه مذهب المعظم.

وفي أصل الاصول ـ بعد قوله : وهل هو حجّة له أو لا؟ ـ قال : والمشهور الأوّل. لكن في كلام الفاضل المتقدّم ذكره القائل بالتفصيل المذكور ما يقضي بإنكاره الشهرة المدّعاة هنا ، حيث إنّه قال : « ولم يثبت القول بحجّية نظر المتجزّي بهذا المعنى إلاّ من بعض المتأخّرين ، ولم يتعرّض الشيخ والسيّد لهذا المبحث في العدّة والذريعة ، ولا المحقّق في اصوله فما ظنّك بغيرهم من المتقدّمين عليهم.

والظاهر أنّ مرادهم بالجواز هنا ـ على ما يستفاد من أدلّتهم ـ الجواز في ضمن الوجوب تعيينا لا مطلقا ».

وثانيهما : ما صار إليه المصنّف من منع الجواز وإنكار حجّية ظنّه. ويستفاد من المحقّق البهبهاني أيضا في رسالته في الاجتهاد والأخبار ، وحكاه في المفاتيح عن والده أعلى الله مقاماته ، ونسب أيضا إلى السيّد العلاّمة بحر العلوم قدس سرّه ويظهر الميل إليه من بعض الأفاضل ، ولم نقف ممّن تقدّم على المصنّف على من صار إليه ولا على حكاية المصير إليه عن غيره ممّن تقدّم عليه.

نعم عن بعض الأفاضل أنّه نقل عن ظاهر الشيخ في بعض مصنّفاته القول بالمنع عليهم.

إلى أن قال :

« وبالجملة فكلمة المتعرّضين من أصحابنا لهذه المسألة ليست جارية على مورد واحد ، فدعوى قيام الشهرة على حجّية نظر المتجزّئ بالمعنى الأخير غير مسموعة ».

الأمر الثاني : أنّه يمكن أن يكون بناء المسألة على أنّ جواز التقليد هل هو معلّق على عدم التمكّن من الاجتهاد أو عدم حصوله فعلا ، فالمدّعي لجوازه مع حصول الأمرين يطالب بالدليل ومع انتفائه يتعيّن العمل بالاجتهاد.

أو هو معلّق على انتفاء الدليل على الاجتهاد ، فالمدّعي لجواز العمل به يطالب بدليله ومع انتفائه يتعيّن الرجوع إلى التقليد.

١٥٧

وربّما يستفاد ذلك من العلاّمة البهبهاني حيث إنّه في جملة ما ذكره في دفع الاستدلال على منع التقليد بأنّه خلاف الأصل خرج العامي لدليل فبقى الباقي قال : « على أنّ الظاهر أنّ فرض من لا يعلم الرجوع إلى من يعلم والأخذ منه وأنّه مسلّم عند الكلّ ، فإنّهم يستدلّون بجواز الاجتهاد ولا يستدلّون بجواز تقليده ، وظاهرهم أنّ بعد عدم ثبوت جواز الاجتهاد يعيّنون العمل بالتقليد » انتهى.

وهاهنا وجه ثالث وهو توقّف كلّ من العمل بالاجتهاد والعمل بالتقليد على نهوض الدليل عليه بعد انتفاء الدليل على الآخر.

وبعبارة اخرى : تعيّن كلّ منهما على وجود المقتضي وفقد المانع ، فلا يكفي في شيء منهما مجرّد انتفاء الدليل على الآخر.

ولك أن تقول في تقرير الوجوه الثلاث المذكورة : بأنّه بعد تعذّر العلم بأحكام الله المعلومة بالإجمال وعدم التمكّن من امتثالها العلمي هل الأصل هو العمل بالاجتهاد إلاّ ما خرج بالدليل؟ أو الأصل هو العمل بالتقليد إلاّ ما خرج بالدليل؟ أو لا أصل في البين أصلا بل لابدّ في تعيّن كلّ من الأمرين من نهوض الدليل عليه بالخصوص فلا يكفي فيه مجرّد عدم الدليل على صاحبه.

ومنشأ هذه الوجوه أنّه يستفاد من عمومات الآيات والأخبار من الاصول الأوّلية ثلاثة اصول :

أحدها : أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ، وهذا يعمّ العمل بالظنّ والعمل بالتقليد وغيرهما.

وثانيها : أصالة حرمة العمل بالظنّ.

وثالثها : أصالة حرمة العمل بالتقليد ، إلاّ أنّ الأوّل بعد تعذّر العلم وانسداد سبيله قد خصّص بالقياس إلى المجتهد والمقلّد ومن تردّد بينهما ، كما أنّ الثاني خصّص بالقياس إلى المجتهد المطلق ، والثالث قد خصّص بالقياس إلى العامي والعالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد.

وأمّا العالم المتجزّي فبعد خروجه كالمطلق عن الأصل الأوّل بما ذكر يمكن كونه مخرجا أيضا كالمطلق عن أوّل الأصلين الأخيرين ، بدعوى : أنّ الأصل بعد تعذّر العلم العمل بالاجتهاد إلاّ في حقّ من لم يتمكّن منه كالعامي ومن بحكمه.

كما يمكن كونه مخرجا عن ثاني الأصلين الآخرين بدعوى : أنّ الأصل بعد تعذّر العلم العمل بالتقليد إلاّ في حقّ من قام الإجماع على تعيّن الاجتهاد عليه كالمجتهد المطلق.

كما يمكن عدم كونه مخرجا عن شيء من الأصلين على التعيين ، بدعوى : أنّه بعد تعذّر

١٥٨

العلم ليس في البين أصل كلّي قاض بتعيين أحد الأمرين إلاّ ما خرج بالدليل ، بل الحكم بجواز أحد الأمرين تابع لدليله الخاصّ به.

وهاهنا وجه آخر وإن كان ضعيفا من جهة مخالفته الإجماع ظاهرا وهو كونه مخرجا عن الأصلين معا فيلزم منه جواز الأمرين له معا على وجه التخيير.

وعلى الوجه الثالث بطل الاستدلال على منع العمل بالاجتهاد هنا بأنّه خلاف الأصل خرج المطلق لدليل فبقي الباقي ، كما أنّه بطل الاستدلال على منع التقليد بأنّه خلاف الأصل خرج العامي لدليل فبقي الباقي ، لأنّ هذا الأصل في كلّ من الطرفين معارض بمثله في الطرف الآخر ، فالعمل بهما معا مخرج للمتجزّي عن طريقي الاجتهاد والتقليد معا وهو خلاف الإجماع ظاهرا ، وبأحدهما معيّنا تحكّم.

كما أنّه على الوجه الثاني ـ على فرض صحّته ـ بطل الاستدلال على منع التقليد هنا بكونه خلاف الأصل ، لانقلاب هذا الأصل بعد انسداد باب العلم بأصالة الجواز إلاّ ما خرج بالدليل على الفرض ، إلاّ أن يكون المستدلّ ممّن ينكر هذا الوجه باختيار الوجه الأوّل.

وعلى الوجه الأوّل ـ على فرض صحّته ـ بطل الاستدلال على منع العمل بالاجتهاد بكونه خلاف الأصل ، لانقلاب هذا الأصل بعد انسداد باب العلم بأصالة الجواز إلاّ ما خرج بالدليل على الفرض ، إلاّ أن يكون المستدلّ ممّن ينكر هذا الوجه باختيار الوجه الثاني.

وكيف كان فكلماتهم في هذه المسألة في غاية الاضطراب وطرقهم في الاستدلال على كلّ من القولين في كمال التشويش ، ومبنى الاختلاف فيها إمّا على اختلافهم في الوجهين الأوّلين كما يساعد عليه احتجاج كلّ من الطرفين لإثبات مطلوبه بالأصل أو على الاتّفاق على الوجه الثالث كما يساعد عليه احتجاجهم بأدلّة اخر غير الأصلين وإن كان يأباه الاحتجاج بالأصل كما عرفت.

وتحقيق المقام في تأسيس الأصل أن يقال : أنّ عمدة دليل تعيين المرجع حال انسداد باب العلم إنّما هو حكم العقل بواسطة مقدّمات دليل الانسداد ، وليس موضوع حكم العقل هنا عند التحقيق المجتهد المطلق ولا المقلّد ولا الظنّ بالخصوص ولا التقليد كذلك ، بل موضوعه المكلّف وحكمه إلزام المكلّف بالرجوع إلى ما هو أقرب إلى العلم ، فإنّه بعد إبطاله اعتبار العلم باستلزامه التكليف بغير المقدور واحتمال الاحتياط باستلزامه العسر والحرج المخلّين بنظم المعاد والمعاش المنفيّين بحكمه وحكم الشرع معا يلزم المكلّف من

١٥٩

الطرق المحتملة في حقّه بما هو أقرب إلى العلم بعد الاحتياط ممّا لم يستلزم محذوريهما ، وهو في حقّ المجتهد أخذه بمؤدّى اجتهاد نفسه كائنا ما كان لا أخذه بمؤدّى اجتهاد غيره الحاصل بالتقليد ، لأنّ في فتوى الغير وإخباره عن مجتهداته من الاحتمالات المبعدة عن العلم والواقع ما لا يجري في أخذه بمؤدّى اجتهاد نفسه كما سبق ذكره مفصّلا في المسألة السابقة.

وأمّا في حقّ المقلّد وإن كان الأقرب أيضا هو الأخذ بمؤدّى الاجتهاد ، لكن إلزامه به يفضي إلى محذور العلم أو إلى محذور الاحتياط على سبيل منع الخلوّ بالنظر إلى النوع المختلف أشخاصه في حالاتهم ، فلم يبق له ما يرجع إليه حينئذ إلاّ التقليد والأخذ بمؤدّيات اجتهاد غيره من المجتهدين.

وهذا كلّه بالنسبة إلى المجتهد المطلق والعامي بالمعنى الأعمّ من العالم الفاقد لملكة الاجتهاد واضح.

وأمّا بالنسبة إلى العالم المتجزّي فالرجوع إلى كلّ من الطريقين ممكن في حقّه من دون محذور ، والشبهة إنّما هي في تعيين ما هو أقرب منهما إلى الواقع في حقّه ليندرج في موضوع حكم العقل وتشمله حكمه بلزوم الرجوع إلى الأقرب ، فإن تبيّن كون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد نفسه تعيّن له ذلك بحكم العقل ، وإن تبيّن كون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد غيره من المجتهد المطلق تعيّن له ذلك ، وإن تبيّن كون الطريقين من جهة القرب والبعد بالنظر إلى الواقع في مرتبة واحدة من غير مزيّة لأحدهما على الآخر كان حكمه التخيير بينهما.

وقد عرفت أنّ مناط القرب والبعد بقلّة الاحتمالات المبعدة عن الواقع وكثرتها ، ومثلهما ضعف الاحتمال المشترك بينهما في أحدهما وقوّته في الآخر ، وحينئذ فملاحظة كون احتمال الخطأ بالنظر إلى مقام الاجتهاد في حقّ المتجزّي أقوى منه في حقّ المطلق لنقصان ملكته وكمال ملكة المطلق تقضي بكون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد المطلق.

لكن النظر في أنّ فتوى المطلق يجري فيه من احتمال الخطأ فيها زائدا على ما كان محتملا في اجتهاده واحتمال السهو والنسيان والكذب والتورية والقصور في التأدية وإرادة خلاف ظاهر اللفظ بلا قرينة أو مع قرينة خفيّة أو مع قرينة مغفول عنها ونحو ذلك ما لا يجري في مؤدّى اجتهاد نفسه كما لا يخفى تقضي بكون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد

١٦٠