تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

بصدور المتعارضين معا ، وإنّما ينافي القطع بكون مؤدّى كلّ منهما حكما واقعيّا ، فكيف يدّعى الاستغناء عنه؟

وقد يوجّه الدليل المذكور بما لا يجدي نفعا في إصلاحه وهو : أنّ الظاهر أنّ مراد الفاضل المذكور بالراوي هو الأصل ، فحينئذ لا احتياج إلى العلم بحال باقي السند إذا علم وجود الحديث في الأصل المنقول عنه ، وقد كانت الاصول كلّها أو جلّها موجودة عند الصدوق ، والعلم بعدم افتراء أرباب الاصول كلّهم أو معظمهم وبعدم افتراء الصدوق ليس بعزيز ، والغلط والسهو وإن كانا كالطبيعة الثانية لكن بملاحظة حال الراوي وجلالة شأنه قد يحصل العلم العادي بعدمهما.

وفيه : منع وجود الاصول كلّها أو جلّها عند الصدوق ليقطع به أخذه الرواية عن أحدها كما ربّما يقويه ما عن فهرست الشيخ من قوله : « ولم أظنّ أنّي أستوفي في ذلك كلّه ، فإنّ تصانيف أصحابنا واصولهم لا تكاد تضبط لانتشار أصحابنا في البلدان وأقصى الأرض » انتهى (١).

ولو عمّم في الدعوى المذكورة بالنسبة إلى جميع المشايخ الثلاث رضوان الله عليهم فكيف تصدّق بالنسبة إلى الشيخ فيما يرويه من الروايات في كتابيه التهذيبين بعد ما عرفت منه من التصريح بخلافها ، فلو سلّم وجود جلّ الاصول عند الصدوق فكيف يقطع بكون الرواية الموجودة في كتابه ممّا أخذه من الأصل الموجود عنده ، لجواز كونه أخذه من غير أصله أو معنعنا عن مشايخه.

قال الوحيد المتقدّم ذكره : « والظاهر أنّهم كانوا يروون كذلك أيضا وما كانوا يقتصرون على الرواية من الاصول » انتهى.

هذا لكنّ الإنصاف أنّ ذلك بالقياس إلى فقيه الصدوق مكابرة ، لتصريحه في أوّله : « بأنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، مثل كتاب حريز بن عبد الله السجستاني ، وكتاب عبيد الله بن عليّ الحلبي ، وكتب عليّ بن مهزيار الأهوازي ، وكتب الحسين بن سعيد » إلى آخره (٢).

نعم يرد عليه : أنّ القطع بوجودها في الاصول على فرضه كيف ينفع في القطع بصدورها عن الإمام عليه‌السلام مع عدم القطع بصدق جميع هذه الاصول ولا بصدق كلّ واحد واحد من الأخبار الموجودة في كلّ واحد منها ، ودعوى القطع من هذه الجهة غير مسموعة جدّا ،

__________________

(١) الفهرست : ٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣.

٢٤١

وكونها ممّا عليها المعوّل وإليها المرجع حسبما شهد به الصدوق في عبارته المتقدّمة أعمّ من القطع المذكور من الجهتين كما لا يخفى ، خصوصا مع ملاحظة كون جملة من أصحابها كذّابين أو متّهمين أو معروفين بالكذب ، ووجود الأخبار الكاذبة في اصول غيرهم من المعتمدين بدسّ الوضّاعين وتخليط المعاندين للملّة الحقّة وصادعيها الأئمّة المعصومين ، فإنّ ذلك لو لم يكن مقطوعا به فلا أقلّ من احتماله القائم الكافي في منع حصول القطع بصدور جميع الآحاد ، خلافا لبعض متأخّري المحدّثين كصاحب الحدائق في إنكاره قيام الاحتمال أيضا ، فإنّه في مقدّمات الحدائق تصدّى لدفع طريقة أصحابنا المتأخّرين في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة بعد ما تخيّل منهم أنّ منشأه حصول الاختلاف وكثرة المبائنة ووفور المعارضة ما بين أخبارنا الموجودة الاخر ، وكان ذلك مظنّة توهّم أنّ هذا الاختلاف الكذائي إنّما نشأ من جهة اختلاط الأخبار الكاذبة بالأخبار الصادقة فاضطرّوا إلى هذا التنويع ليتميّز به الأخبار الصادقة عن الكاذبة ، فأخذ رحمه‌الله بدفع التوهّم ومنع الاختلاط قائلا ـ ممّا ملخّصه ـ : « منع كون أخبارنا اليوم مشتملة على الكاذبة بل كلّها مقطوع بصدورها ، لأنّ قدماء أصحابنا المحدّثين وسلفنا الصالحين رضوان الله عليهم صحّحوا الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام ونقّحوها وأخرجوا عنها الأخبار الكاذبة ، فهذه الأخبار الّتي بأيدينا اليوم وصلت إلينا مصفّاة منقاة ، فلا يمكن حينئذ توهّم دخول الأخبار الكاذبة فيها » (١).

وفيه ـ مع أنّه يعارضه ما عن بعض المحقّقين من أنّه كان الواجب على القدماء إيراد القطعيّات وغيرها مع ما يحصل به التمييز بين المعتمد وغيره من ذكر رجال أسانيد الأخبار وقد فعلوا ذلك ـ : أنّ إخراجهم الأخبار الكاذبة ليس إلاّ باجتهادهم والضرورة قاضية بأنّ الاجتهاد غير مأمون من الخطأ ، فلو سلّمنا ارتفاع علمنا الإجمالي بوجود الأخبار الكاذبة فيما بين أخبار الأئمّة بذلك على فرض ثبوته فارتفاع احتمال الوجود غير مسلّم ، كيف وقيامه من ضروريّات الوجدان المغني عن تجشّم إقامة البرهان.

وللوحيد المتقدّم ذكره كلام لطيف في هدم هذا البنيان يعجبني نقله بعين عبارته ، فإنّه قال في جملة كلام له : « ومع ذلك كثير من أصحاب الكتب المشهورين ورد فيهم عن المشايخ المعتمدين العارفين الماهرين أنّهم وضعوا الحديث كذّابون مثل وهب بن وهب القرشي ،

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٤ ـ المقدّمة الثانية.

٢٤٢

ومحمّد بن موسى الهمداني ، وعبد الله بن محمّد البلوي ، ومحمّد بن محمّد عليّ الصيرفي ، ويونس بن ظبيان ، ومحمّد بن سنان ونظائر هؤلاء ، وكثير منهم نسبوهم إلى الاضطراب والتشويش ورداءة الأصل والضعف وأمثالها ، ومعلوم أنّ تضعيفهم ليس من جهة عدم العدالة بل من جهة عدم الوثوق به كما هو ظاهر للمتتبّع ، وكثير منهم ورد فيهم ذموم دون الذموم المذكورة مثل : « ليس بذلك الثقة » ، و « حديثه ليس بذلك النقي » ، و « حديثه يعرف وينكر » ، و « الغالب في حديثه السلامة » ، و « لا يعمل بما يتفرّد » و « يجوز أن يخرج شاهدا » ، أو « أن يخرج حديثه للشهادة » ، وأمثال ذلك.

وكثير منهم ورد فيهم أخبار كثيرة وآثار غير عديدة في ذمّهم ولعنهم واتّهامهم ونسبتهم إلى الكذب والامور الشنيعة والأفعال الغير المشروعة ، واختلف الأخبار في شأنهم واضطرب الآثار في حالهم ، وسيّما بعد ملاحظة أنّ المشايخ المعتمدين نقلوا هذه الأخبار والآثار في شأنهم ساكتين عليها أو قادحين قدحا يورث التزلزل للإنسان ، وسيّما بعد ملاحظة ومشاهدة أنّ الاصول والكتب حوت تلك الأخبار والآثار ، خصوصا بعد ملاحظة ما يظهر من حال رواة تلك الأخبار أنّهم معتقدون بما رووا معتمدون عليه ، وكثير منهم اختلف في وثاقته وضعفه مع تساوي القولين أو رجحان أحد الطرفين وكثير منهم مجهول الحال.

قال الفاضل المحقّق الشيخ سليمان البحراني في معراجه : « كون الرجل ذا كتاب لا يخرجه عن الجهالة إلاّ عند من لا يعتدّ به » انتهى.

وبعض منهم يصرّحون بأنّ له أصلا ومع ذلك يقولون : « كذّاب متّهم » ، وكثير من الأجلّة لا يحصل سوى الظنّ بوثاقته ومع ذلك فهو من علم الرجال » إلى آخر كلامه رفع مقامه.

وبالجملة مجرّد انتهاء أخبارنا إلى الاصول المعروفة لا يوجب كونها مقطوع الصدور ، بل ولا كونها مقطوع العمل.

وثانيها : تعاضد بعضها ببعض.

وفيه : أنّه يعارضه تعارض بعضها لبعض كما هو الغالب ، بل قلّما يتّفق أخبار متعاضدة إلاّ ولها معارضات متعدّدة ، فكلّ من المتعارضين يتعاضد بعضه ببعض ، ومع ذلك فأيّ أثر للتعاضد لو لا مراجعة سائر المرجّحات الّتي لا يتمكّن من العلم بها إلاّ بمراجعة كتب الرجال.

ثمّ إنّ التعاضد لو اريد به ما يبلغ حدّ التواتر لفظا أو معنى فهو مع ندوره وقلّة وقوعه خارج عن محلّ البحث ، إذ مراجعة الكتب ومعرفة الرجال إنّما تعتبر عند قائليه في غير المتواترات.

٢٤٣

ولو اريد به ما دون ذلك فكيف ينهض قرينة على الصدور بعنوان القطع ، والاكتفاء بالوثوق الحاصل من جهته على فرضه اعتراف بلزوم مراعاة الرجال في موضع انتفاء هذا النوع من القرينة.

هذا مع أنّ الغالب في التعاضد حصول مراعاته في مقام الترجيح وهو كثيرا مّا لا يجدي نفعا في الترجيح لو لا انضمام قرائن اخر إليه من صحّة طريق البعض ونحوها ، بل ربّما يترجّح الطرف المقابل بقرائن اخر من صحّة طريقه وأعدليّة رجاله ونحوها ، ولا ريب أنّ هذه القرائن لا تستفاد غالبا إلاّ بمراجعة الرجال.

وثالثها : نقل الثقة العالم الورع في كتابه الّذي ألّفه لهداية الناس ، ولا يكون أصل رجل أو روايته على ظنّ مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرواية وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم.

وفيه أوّلا : منع إطلاق دعوى كون كلّ ثقة إنّما ألّف كتابه لهداية الناس ، لجواز كونه إنّما ألّفه لدواع آخر ، وإن شئت لاحظ ما عن عدّة الشيخ التصريح : « بأنّ إيراد رواية لا يدلّ على اعتقاده بها ، ويجوز أن يكون إنّما رواها ليعلم إنّه لم يشذّ عنه شيء من الروايات » (١).

وممّا يصدّقه على هذه المقالة ما عن عليّ بن حسن بن فضّال في ترجمة حسن بن عليّ بن أبي حمزة : « من أنّه كذّاب ملعون رويت عنه أحاديث كثيرة وكتبت عنه تفسير القرآن من أوّله إلى آخره ، إلاّ أنّي لا استحلّ أن أروي عنه حديثا واحدا » (٢).

وما في ترجمة محمّد بن سنان : « أنّ أيّوب بن نوح دفع إلى حمدويه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان ولكن لا أروي لكم عنه شيئا » (٣).

وما في خصال الصدوق بعد ما روى عن عائشة وغيرها نصوصا مستفيضة متضمّنة لفعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين بعد العصر وركعتين بعد الفجر ـ من قوله : « كان مرادي بإيراد هذه الأخبار الردّ على المخالفين ، لأنّهم لا يرون بعد الغداة وبعد العصر صلاة ، فأحببت أن ابيّن لهم أنّهم قد خالفوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله وفعله » (٤).

وما في أوّل فقيهه من قوله : « وصنّفت له هذا الكتاب بحذف الأسانيد لئلاّ يكثر طرقه

__________________

(١) غدّة الاصول ١ : ١٣١.

(٢) رجال الكشي : ٥٥٢ رقم ١٠٤٢.

(٣) رجال الكشي : ٣٨٩ / ٧٢٩.

(٤) الخصال : ٧١.

٢٤٤

وإن كثرت فوائده ، ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد ما رووه ، بل قصدي إلى إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي » (١) ، إلى آخره.

وبالجملة فالمستفاد من كلمات هؤلاء الأساطين وغيرهم أنّه ليس كلّ كتاب يؤلّف في الحديث كان الغرض من تأليفه الهداية بحيث عمل به مؤلّفه أيضا فضلا عن كونه معتقدا بصدقه أو صحّته ، كيف وقد يكون الثقة يؤلّف كتابه محتويا للأحاديث مطلقا ليفرّغ نفسه عند الحاجة إلى الاجتهاد فيراجعه حينئذ ويستند إلى صحاحه بعد ما ميّزها عن ضعافها ، ويعتمد على ما يصلح للاعتماد عليه ويترك ما لا يصلح لذلك ، وقد يؤلّفه لغرض الهداية لكن لا بمعنى أن يعمل به المتأخّر كيفما اتّفق وبجميع ما فيه ، بل بصحاحه بعد مراعاة التمييز بينها وبين ضعافها ، لعلمه بأنّ له طريقا في ذلك وهو مراجعة الكتب الرجاليّة ، بل هو بنفسه ربّما يتصدّى لتأليف ما ينفعه في مقام التمييز كما أشار إليه بعض المحقّقين في كلام محكيّ له وقد تقدّم نقله ، وقد يكون هو ممّن لا يجوّز العمل بأخبار كتابه لعدم افتقاره إليها أو لمنعه العمل بأخبار الآحاد لكن يؤلّف الكتاب لعلمه بأنّ الحوائج تختلف والمذاهب في أخبار الآحاد تتعدّد ، فربّما يحتاج المتأخّر إلى كتابه وهو قد يكون ممّن يرى العمل بأخبار الآحاد جائزا من باب التعبّد لدليله التامّ في نظره أو من باب الظنّ خصوصا أو عموما ، فلا ملازمة بين نقله الأخبار ـ ولو لغرض الهداية ـ وكونها في نظره قطعيّة.

ويشهد بذلك كلّه ما سمعته عن فقيه الصدوق من قوله : « بل قصدت إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي » وعلى فرض قطعه فهو له بحسب اجتهاده الغير المأمون عن الخطأ.

وممّا يرشد إلى جميع ما قلناه جريان عادة أصحاب كتب الحديث على ضبط أسانيد الأخبار المنقولة في كتبهم ، حتّى أنّ الصدوق مع حذفه الأسانيد باعتذار ما سبق منه وضع رسالة منفردة عن الفقيه لضبط طرق رواياته المنقولة فيه وهي موسومة عندهم بالمشيخة ، فلو أنّ الروايات بأجمعها كانت قطعيّة في نظرهم أو كان قطعهم بالصدور أو الاعتبار كافيا في حصول القطع بأحد الأمرين لم يكن لهم غرض يدعوهم إلى تحمّل هذه الكلفة.

وبجميع ما ذكر يتبيّن ما في قوله : « مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل » إلى آخره.

مضافا إلى توجّه المنع إلى أصل التمكّن ، وعلى فرضه فقد يتعسّر على وجه يسقط

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢.

٢٤٥

معه وجوب الاستعلام على فرض تسليمه ، وإلاّ فكثيرا مّا لا يكون واجبا في نظره ولو مع الإمكان واليسر ، لاعتقاد عدم الوجوب أو عدم تماميّة دليل الوجوب أو عدم التفطّن بالدليل ومع تحقّق الاستعلام منه فعلا فلا يكون إلاّ اجتهادا منه ولا ينفع غيره أصلا ، وقد تقدّم منّا عند إثبات الانسداد ما يتعلّق بهذا المقام فلاحظ.

ورابعها : تمسّكه بأحاديث ذلك الأصل أو تلك الرواية مع تمكّنه من أن يتمسّك بروايات اخر صحيحة.

وجوابه يظهر بملاحظة ما سبق ، مضافا إلى ما قدّمناه في الموضع المشار إليه ، مع توجّه المنع إلى القطع بوجود روايات صحيحة أو تفطّنه بوجودها أو تمكّنه من التمسّك بها ، سواء اريد بوصف الصحّة كونها قطعيّة أو غيره.

وخامسها : أن يكون رواية أحد من الجماعة الّتي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

وفيه ـ مع ما تقدّم في الموضع المشار إليه ـ : منع العلم بتحقّق الرواية عن هؤلاء إلاّ إذا كان طبقات السند بأجمعهم منهم وهو بديهيّ الفساد ، مع أنّ معرفة هؤلاء لا تكون إلاّ من الرجال وهي مع ذلك ليست إلاّ ظنّية ، مع أنّ الإجماع على تصحيح الحديث لا يستلزم قطعيّة صدوره.

ولو سلّم حصول القطع من هذا الإجماع فهو قطع بالصحّة وهي أعمّ من الصدور ، وإلاّ فلا قطع أصلا ، بل غايته الظنّ أو الوثوق الّذي هو دون القطع.

وسادسها : أن يكون من الجماعة الّذين ورد في شأنهم عن بعض الأئمّة أنّهم ثقات ، أو مأمون ، أو خذوا عنهم معالم دينكم ، أو هؤلاء امناء دين الله في أرضه ونحو ذلك.

وفيه ـ مع ما تقدّم أيضا ـ : أنّ ما ورد في شأن هؤلاء ليست إلاّ أخبار آحاد فلا يجدي نفعا في إفادة القطع ، وعلى فرضه فهو قطع بالوثاقة والأمانة وهو أعمّ من القطع بمطابقة ما يخرج منه من الرواية.

ولو سلّم فهو لا ينفع في قطعيّة الرواية الّتي في سندها واحد من هؤلاء إلاّ مع انتهائه من الأوّل إليه وممّن بعده إلى الإمام عليه‌السلام لو كان بطريق القطع ، وتحقّقه في غاية البعد ، وأبعد منه اتّفاق كون جميع رجال السند من هؤلاء.

ومع ذلك كلّه فهم لا يعرفون غالبا إلاّ بمزاولة الكتب الرجاليّة.

٢٤٦

وسابعها : وجودها في أحد كتابي الشيخ والكافي ومن لا يحضره الفقيه ، لاجتماع شهاداتهم على صحّة أحاديث كتبهم ، أو على أنّها مأخوذة من الاصول المجمع على صحّتها.

وفيما تقدّم في الموضع المشار إليه غنية عن التعرّض لما يرد عليه وما يدفعه.

واعلم أنّه ربّما يحكى عن بعض الأخباريّة أنّه وجّه قولهم بقطعيّة الأخبار ودعوى حصول العلم بصحّة الأصل وصدوره عن المعصوم بأنّ : المراد بالعلم هو ما يطمئنّ به النفس وتقضي العادة بالصدق ، وهذا هو العلم العادي قائلا ـ على ما نقله في رسالة الاجتهاد والأخبار ـ : « إنّ لفظ « العلم » يطلق لغة على الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع وهذا ما يسمّى باليقين ، وعلى ما يسكن إليه النفس ويقضي العادة بصدقه ويسمّى العلم العادي ، وهو يحصل بخبر الثقة وغيره إذا دلّ القرينة على صدقه ، وهذا هو الّذي اعتبره الشارع في ثبوت الأحكام الشرعيّة كما يرشد إليه موضوع الشريعة السمحة ، وقد عمل الصحابة وأصحاب الأئمّة بخبر العدل الواحد وبالمكاتبة على يد شخص ، بل وبخبر غير العدل إذا دلّت القرائن على صدقه ، ولا ينافي هذا الجزم تجويز العقل خلافه نظرا إلى إمكانه كما لا ينافي العلم بحياة زيد الّذي غاب لحظة تجويز موته فجأة.

ومن تتبّع كلام العرب ومواقع لفظ « العلم » في المحاورات جزم بأنّ إطلاقه عليه عندهم حقيقة وأنّ تخصيصه باليقين اصطلاح جديد من أهل المنطق ، وتحقّق أنّ « الظنّ » لغة هو الاعتقاد الراجح الّذي لا جزم معه أصلا ، والعلم بهذا المعنى اعتبره الاصوليّون والمتكلّمون في قواعدهم.

وفي الذريعة عرّف العلم : « بأنّه ما اقتضى سكون النفس » وهو يشمل اليقيني والعادي فهذا هو العلم الشرعي ، فإن شئت سمّه علما وإن شئت سمّه ظنّا ولا مشاحّة بعد العلم بأنّه كاف في ثبوت الأحكام ، فالنزاع لفظيّ لأنّ الكلّ أجمعوا على أنّه يجب العمل باليقين إن أمكن وإلاّ كفى ما يحصل به الاطمئنان والجزم عادة ، ولكن هل يسمّى علما حقيقة بأنّ له أفرادا متفاوتة أعلاها اليقين وأدناها ما قرب من الظنّ المتاخم ، أو حقيقة واحدة لا تتفاوت وهي اليقين وما سواه ظنّ وذلك خارج عمّا نحن فيه؟ » انتهى ملخّصا.

وفي هذا الكلام من اختلال النظام ما لا يخفى على اولي الأفهام ، فإنّ لفظ « العلم » في العرف الكاشف عن اللغة حسبما تساعد عليه الأمارات المميّزة للحقيقة عن المجاز ـ على ما تقرّر في غير موضع ـ لا يطلق بعنوان الحقيقة إلاّ على الاعتقاد الجازم المطابق للواقع

٢٤٧

وإن لم يكن ثابتا لا يزول بتشكيك المشكّك ، وإطلاقه على اليقين لكونه أحد نوعي هذا المعنى العامّ لا لعنوانه الخاصّ ، واصطلاح أهل المنطق ليس مبنيّا على تخصيصه به ، بل هو حسبما يطّلع عليه المتتبّع في كلماتهم مبنيّ على التعميم بالقياس إلى ما ذكر من المعنى العامّ وغيره حتّى الجهل المركّب بل الظنّ بل مطلق التصوّر أيضا ، وإطلاقه على ما عدا الأوّل في العرف واللغة بعنوان الحقيقة غير معهود.

فمعناه الحقيقي يعتبر فيه أمران : الجزم الّذي لا يحتمل معه الخلاف ، ومطابقة الواقع ، فلا يطلق على الظنّ ولا الجهل المركّب.

نعم قد يطلقه الظانّ لغفلته عن الاحتمال المرجوح الموجود في نفسه على الظنّ ما دام غافلا لا لأنّه إطلاق له في نظره على الظنّ ، بل لأنّه إطلاق له بزعمه الناشئ عمّا طرأه من الغفلة على الجزم المطابق ، كما أنّه يطلقه الجازم عن جهل مركّب على جزمه لاعتقاده بمطابقته ، فلذا لو تفطّن الأوّل بما في نفسه من الاحتمال لسلب العلم عن اعتقاده ، كما أنّ الثاني لو انكشف عنده عدم المطابقة جزم بعدم كونه عالما من أوّل الأمر.

ومن هنا أيضا يصحّ سلب الاسم عنه عند من اطّلع على عدم مطابقة جزمه ، فالعلم بحقيقته اللغويّة متضمّن لعدم احتمال الخلاف ، سواء كان عقليّا وهو الاعتقاد الجازم المطابق بشيء يقضي العقل بامتناع خلافه كالعلم بزوجيّة الأربعة ونحوها ، أو شرعيّا وهو الاعتقاد الجازم المطابق بشيء يقضي الشرع بامتناع خلافه كالعلم بطهارة الماء ونجاسة الكلب ونحوهما ، أو عاديّا وهو الاعتقاد الجازم المطابق بشيء يقضي العادة بامتناع خلافه كعلمنا بعدم انقلاب ماء البحر دما ، وبعدم انقلاب الجبل الّذي غبنا عنه بعد لحظة ذهبا ، وبعدم انقلاب الأواني الموضوعة في البيت الّتي غبنا عنها بعد ساعة علماء عارفين بالعلوم الدقيقة وما أشبه ذلك من العلوم العاديّة ، فإنّ الامتناع عبارة عن ضرورة جانب العدم ، ومن البيّن أنّ الحاكم بضرورة عدم خلاف الزوجيّة في الأربعة هو العقل ، وبضرورة عدم خلاف الطهارة في الماء وخلاف النجاسة في الكلب هو الشرع ، بحيث لو لا حكمه بهما فيهما لم يكن النجاسة في الأوّل والطهارة في الثاني ممّا استحاله العقل ، وبضرورة العدم لانقلاب الماء والجبل والأواني دما وذهبا وعلماء هو العادة ، بحيث لو لا حكمها بالعدم فيها لما استحال العقلاء الانقلاب في شيء منها ، لإمكانه الذاتي بالنظر إلى عموم قدرته تعالى وكون الممكنات بأسرها متساوية النسبة إلى قدرته الكاملة.

٢٤٨

فالعلم العادي يشارك العلم العقلي في عدم قبول حقيقته الواقعيّة ما دامت موجودة لاحتمال الخلاف ، ويفارقه في أنّ الحاكم بامتناع الخلاف في الثاني هو العقل وفي الأوّل هو العادة لا غير.

فما اشتهر في الألسنة والأفواه من أنّ العلوم العاديّة ممّا يحتمل النقيض تعليلا بما في عدا الأوّل من الأمثلة الثلاث المذكورة من تجويز العقل لانقلاب الجبل ذهبا والأواني علماء ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، بعد ملاحظة أنّ حكم العقل لا يخالف حكم العادة في القضيّة الّتي ينظر في حكمها العادة ، فإنّ المأخوذ في ماهيّة العلم هو انتفاء الاحتمال الذهني للخلاف ، على معنى عدم معارضة الإدراك المتعلّق بإحدى طرفي النسبة لاحتمال وقوع الطرف الآخر ولو مرجوحا ، وهذا المعنى حاصل في العلوم العاديّة أيضا بل وفي الأمثلة المذكورة أيضا ، والّذي يوجد فيها من التجويز العقلي إنّما هو تجويز إمكاني ، وإن أبيت إلاّ وأن تسمّيه بالاحتمال فهو احتمال بالمعنى المرادف لقابليّة المحلّ بحسب ذاته ، على معنى أنّ كلاّ من البحر والجبل والأواني بملاحظة ما فيها من الإمكان الذاتي بالنظر إلى قدرته تعالى قابل للانقلاب المذكور وإن لم يكن هذا الانقلاب واقعا في الخارج بمقتضى العادة.

ولا ريب أنّ كون الشيء محتملا للوقوع بمعنى القابليّة غير كونه محتملا له بحسب الذهن ، نظرا إلى أنّ قابليّة الوقوع أعمّ من فعليّة الوقوع ، ومتعلّق الجزم العادي هو عدم الفعليّة وهو لا ينافي الجزم العقلي بالقابليّة لتصادق القضيّتين وعدم مناقضتهما حسبما قرّر في محلّه من اشتراط التناقض بوحدة القضيّتين في القوّة والفعل ، ولذا لا يتحقّق بين عدم كتابة زيد فعلا وكتابته قوّة تناقض حتّى أنّه جاز تعلّق الجزم واليقين بكلتيهما ، وهذا ممّا لا سترة عليه.

فالعلم كائنا ما كان ينافي احتمال خلافه ذهنا مادام نقيض معلومه محكوما عليه بالامتناع ولو عادة ، وإن كان قد يشتبه الحال فيطلق لفظه غفلة من الاحتمال ، أو منشأه على ما يزعم كونه من الصور الذهنيّة خالصا عن الاحتمال وهو بحسب الواقع ليس كذلك ، ومنه ما ادّعى من العلم بحياة زيد الغائب لحظة المحتمل لموته فجأة ، فإنّه ما دام الغفلة عن هذا المنشأ صورة علم لا أنّه علم في الحقيقة ، ولذا مع التفطّن ينكشف مقارنته الاحتمال المركوز في النفس حيث لا قاضي بامتناع وقوع الخلاف وهو الموت من العقل ولا الشرع ولا العادة.

٢٤٩

ومن هنا مع ملاحظة ما تقدّم يعلم أنّ إطلاق لفظ « العلم » على ما ذكر ونظائره إن اريد به الحقيقة غفلة ، كما أنّ توهّم كونه من العلوم العاديّة غفلة في غفلة ، كيف وإنّ العادة لا تقضي بامتناع وقوع الموت فجأة لوقوعه في الخارج كثيرا.

ولا ريب أنّ التفطّن بذلك المنشأ قد يورث قوّة احتمال الوقوع ، كما أنّه كلّما طالت مدّة الغيبوبة يورث قوّة فوق قوّة حتّى أنّه قد يؤول الأمر إلى تساوي هذا الاحتمال لاحتمال الحياة فينعقد به صورة الشكّ.

وبالجملة فالمدار في احتمال الخلاف بحسب الذهن وجودا وعدما وضعفا وقوّة على المنشأ وجودا وعدما وضعفا وقوّة وهو وقوع خلاف المعلوم في الخارج ، فإن كان ذلك ممّا لم يقع في الخارج قطّ كان منشأ لعدم الاحتمال ، وهو المعنى المراد من قضاء العادة بالامتناع ، وإن كان ممّا وقع بندرة كان منشأ للاحتمال الضعيف ، وإن كان ممّا كثر وقوعه كان منشأ للاحتمال القويّ ، وهكذا بالقياس إلى مراتب الندرة والكثرة بحسب الضعف والقوّة ، فإنّ اختلاف هذه المراتب يوجب اختلاف مراتب الاحتمال.

ولا يذهب عليك أنّه قد ينعكس الأمر فيحدث في نفس الإنسان بالقياس إلى معتقده احتمال وقوع خلافه ، فيكون ما في الذهن ـ لطروّ هذا الاحتمال ـ ظنّا أو شكّا غفلة عن منشأ زوال هذا الاحتمال وهو عدم الوقوع في الخارج قطّ الّذي هو مناط الامتناع العادي ، أو عدم قابليّة الوقوع فيه الّذي هو مناط الامتناع العقلي أو الشرعي ، بحيث لو زالت الغفلة وحصل التفطّن بالمنشأ المذكور في أحد وجوهه لارتفع الاحتمال وانقلب ما في الذهن جزما بل ويقينا.

ومن هنا نشأ الظنّية والشكّيّة والوهميّة والاعتقاد الجهلي في المسائل العلميّة من العقليّات والشرعيّات والعاديّات وفي القضايا العرفيّة وغيرها.

وبجميع ما ذكر يظهر ما في دعوى إطلاق « العلم » على ما يسكن إليه النفس بقول مطلق إن اريد به الإطلاق بعنوان الحقيقة ، إلاّ أن يرجع إلى إطلاقه عليه بزعم انتفاء الاحتمال غفلة عن حقيقة الحال.

وأضعف من ذلك دعوى رجوع نزاع الفريقين إلى أمر لفظي.

نعم لا نضائق أن نقول : إنّ أحد الفريقين إنّما أطلق « العلم » في دعوى قطعيّة الأخبار على ما ليس منه في الحقيقة لمجرّد وهم وغفلة ، ولذلك ونحوه قد يقال : إنّ الأخباريّين

٢٥٠

مجتهدون من حيث لا يعلمون.

وأضعف من ذلك أيضا دعوى حصول العلم العادي بخبر الثقة وغيره إذا دلّ القرينة على صدقه إن اريد به ما لا يجامعه الاحتمال ظاهرا وواقعا ، ضرورة أنّ الوثاقة بنفسها ـ على فرض ثبوتها بعنوان القطع ـ إنّما يصلح أمارة لظنّ الصدق وأقصى مراتبه كونه على وجه الاطمئنان ، ونحوها سائر قرائن الصدق على فرض اتّفاق حصولها ، فليس شيء من الأمرين من موازين العلم العادي بالمعنى المتقدّم.

نعم قد يتّفق العلم العادي بالصدق في مورد التواتر ، غير أنّه مع ندوره ليس للوثاقة وغيرها من أنواع القرينة مزيد دخل فيه ، لإناطتهم العلم فيه ببلوغ المخبرين في الكثرة حدّا يمتنع عادة تواطئهم على الكذب ، فالعبرة فيه بكثرة المخبرين لا غير ، لكنّ الخطب في ذلك سهل حيث إنّ الموجّه بمقتضى ظاهر كلامه إنّما أراد بالعلم العادي هنا مجرّد ما يسكن إليه النفس وإن كان قد أخطأ في تسميته علما.

نعم كونه علما شرعيّا على معنى قضاء الشرع بقيامه مقام العلم الحقيقي من حيث العمل والاعتبار لا مانع منه ، بل هو الّذي يجب الإذعان به حسبما مرّ تفصيله وإقامة الدليل عليه.

ثمّ إنّه قد بقي الكلام في مستند سائر الأقوال المتعلّقة بالمسألة المتقدّم إليها الإشارة.

فأمّا القول بكون أخبار الكتب الأربعة قطعيّة الاعتبار وإن لم تكن قطعيّة الصدور ، فلم نقف على تفصيل مستنده سوى ما تقدّم عند حكاية هذا القول من التعليل بشهادة مصنّفيها بذلك ، وللحرّ العاملي فيه كلام محكيّ عنه في الوسائل متضمّن لعدّة امور يمكن أخذها مستندا لهذا القول ، وإن كان سياق هذا الكلام وأكثر فقراته أظهر في دعوى القطع بالصدور والصحّة بمعنى الصدق ، لجواز كونها مرادا بها الاعتبار الّذي هو أعمّ ، فإنّه بعد ما صرّح بحصول القطع العادي من شهاداتهم كالعلم بأنّ الجبل لم ينقلب ذهبا قال : « إنّه لاتّفاق الشهادات وغير ذلك أولى من نقل ثقة واحد كالمحقّق والشهيد من الفتوى من فتاوى أبي حنيفة في كتابه ، مع أنّا نرى حصول العلم لنا بذلك من النقل المذكور فكيف لا يحصل بشهادة الجماعة » وعنه أنّه ذكر : « أنّه لو لم يجز لنا قبول شهاداتهم في صحّة أحاديث كتبهم لما جاز لنا قبولها في مدح الرواة وتوثيقهم ، فلا يبقى حديث صحيح ولا حسن ولا موثّق ، بل يبقى جميع أخبارنا ضعيفة ، واللازم باطل فكذا الملزوم والملازمة ظاهرة ، بل الإخبار بالعدالة أشكل وأعظم وأولى بالاهتمام من الأخبار بنقل الحديث من الكتب المعتمدة ، فإنّ

٢٥١

ذلك أمر محسوس والعدالة أمر خفيّ عقليّ يعسر الاطّلاع عليه ، ولا مفرّ لهم عن هذا الالتزام عند الإنصاف ».

وعنه أنّه ذكر أيضا : « أنّ علماءنا الأجلاّء الثقات إذا جمعوا أحاديث وشهدوا بثبوتها وصحّتها لم يكن أدون من أخبارهم بأنّهم سمعوها عن المعصوم عليه‌السلام ، لظهور علمهم وصلاحهم وصدقهم وعدالتهم في أنّه مع إمكان العمل بالعلم لم يعملوا بغيره ، ففي الحقيقة هم ينقلوها عن المعصوم عليه‌السلام وقد وردت روايات كثيرة جدّا في الأمر بالرجوع إلى الرواة الثقات مطلقا إذا قالوا : إنّ الخبر من المعصوم ، وليس هذا من القياس بل عمل بالعموم ».

وعنه أيضا أنّه قال : « إنّهم إن كانوا ثقات حين شهادتهم وجب قبولها لكونها عن محسوس وهو النقل من الكتب المعتمدة ، وإلاّ كانت أحاديث كتبهم ضعيفة باصطلاحهم فكيف يعملون بها ».

والجواب ـ مضافا إلى ما سبق في دفع كلام الأستر آبادي : ـ أنّه إن اريد بذلك أخذ شهاداتهم طريقا تعبّديّا إلى العمل بأخبار كتبهم كقطعيّة العمل بالشهادة شرعا ـ مع أنّه خلاف سيرة العلماء قديما وحديثا في إثبات حجّية أخبار الآحاد ـ منع كلّ من صغراه وكبراه.

أمّا الأوّل : فلما بيّنّاه سابقا من الوجوه القادحة في تحقّق عنوان الشهادة منهم بالقياس إلى محلّ البحث فراجع وتأمّل.

وإن اريد به أخذها طريقا علميّا إلى اعتبار كتبهم بزعم أنّها تفيد العلم الغير القابل للاحتمال بحجّيّة اعتبار تلك الكتب ووجوب العمل بها.

ففيه : أنّ علمنا الضروري بأنّهم لم ينقلوا لنا إلاّ ما ساعدهم عليه نظرهم واجتهادهم الغير المأمون من الخطأ يمنعنا عن الجزم بصحّة جميع ما في كتبهم من الأخبار واعتبارها أيضا ، وإن بلغوا في الوثاقة والورع والصدق بما بلغوا ، وكونهم قاطعين في إخبارهم لما بلغهم من دليل اجتهادي لا يجدينا في القطع بما أخبروا به ما لم يتبيّن لنا هذا الدليل واستفاضته وقطعيّته ، كما أنّ علمنا بوجود ما يكون صحيحا فيما بين تلك الأخبار وما يكون صدقا مطابقا للواقع لا يجدينا نفعا في التعويل على جميع تلك الأخبار كما هو واضح.

فانحصر طريق العمل بكلّ خبر عند الحاجة إليه في التحرّي لتحصيل الوثوق بصدقه وسكون النفس إلى صدوره.

ولا يتأتّى ذلك بالقياس إلينا إلاّ بمراجعة الكتب الرجاليّة وما يقوم مقامها ممّا تقدّم

٢٥٢

الإشارة إليها ، وليس في حكم العادة ولا غيرها من القرائن الخارجة ما يقضي بامتناع خطأهم فيما أخبروا به واعتقدوا بموجبه ، والوقوف في قبول خبرهم المعبّر عنه بـ « الشهادة » تعسّفا لا يستلزم العدول عن قبول قولهم في مدح الرواة وتوثيقهم بعد ملاحظة ابتناء القبول هنا على الوثوق والاطمئنان أو الظنّ الاجتهادي بقول مطلق.

ولا ريب أنّ شيئا من ذلك لا يحصل بمجرّد خبرهم كما يشهد به الوجدان السليم ، خصوصا بعد ما اطّلعنا من المخبرين على ردّ كثير من أخبار كتبهم وإعراضهم عنه واستضعافهم لأسانيد كثير منها كما عرفته سابقا عن الشيخ في تهذيبيه ، وغاية ما يحصل لنا من أخبارهم بنقل الحديث من الكتب المعتمدة هو القطع بأنّهم غير مفترين في هذه الأخبار ، وهو كما ترى بمجرّده لا يلازم اعتمادنا على ما نقلوه ، حيث لا ملازمة بين كون شيء معتمدا في نظرهم وكونه كذلك عندنا.

والمفروض عدم ابتناء المقام ونظائره على التقليد ، والاعتماد النفساني ليس بأمر اختياري ، بل لابدّ فيه من واسطة تبلغ في القوّة حدّا يورث الاعتماد ، ونقلهم واعتمادهم على ما نقلوه أو على ما نقلوا عنه بمجرّدهما غير بالغين لهذا الحدّ.

نعم لا نضائق وقوعهما في بعض المقامات من أجزاء هذه الواسطة ، بأن يكون لهما مدخل ما في حصول الاعتماد في بعض الأحيان.

والفرق بين إخبارهم بما أخبروا وإخبارهم بالسماع من المعصوم بعد الإحاطة بجميع ما تقدّم واضح كوضوح الفرق بين الأرض والسماء ، والروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى الرواة الثقات مسلّمة ونقول بموجبها لمكان استفاضتها بل وتواترها معنى ، غير أنّها غير شاملة لمفروض الكلام جدّا ، مع ما عرفت سابقا من أنّ المستفاد منها إناطة القبول بحصول الاطمئنان والوثوق ، كما يرشد إليه ورود الوصف المناسب فيها من الثقة والأمانة والعدالة ونحوهما ، وهما لا يحصلان هنا بمجرّد إخبارهم ما دام استناده إلى اجتهادهم معلوما أو مظنونا أو محتملا ، فكونهم ثقات حين الإخبار المعبّر عنه بالشهادة لا يقضي بوجوب قبولها إلاّ من حيث كونها منقولة عن الكتب المعتمدة عندهم فإنّا نصدّقهم على هذه الدعوى ، غير أنّ الإشكال يسري إلى هذه الكتب حيث لا علم لنا بل ولا وثوق بصحّة جميعها ولا باعتبار كلّ ما فيها ، ولزوم خروجها في نظرنا قبل الفحص والتثبّت ضعيفة بالمعنى المصطلح عليه عندهم لا يقدح في جواز عملهم بها باعتقاد الصحّة لديهم ، لكونهم إنّما حصّلوا الصحّة بهذا

٢٥٣

المعنى بفحصهم واستفراغ وسعهم وإعمالهم النظر في القرائن والقواعد ، وقد ذكرنا مرارا أنّه لا يجدي نفعا في إحراز الصحّة بالقياس إلينا بالمعنى الّذي يوجب لنا الوثوق والاطمئنان ، بل لا مناص لنا من الفحص واستفراغ الوسع تحصيلا لما هو مناط العمل من الأمر المذكور.

وأمّا القول بالتفصيل بين متعارضات الأخبار فيمسّ فيها الحاجة إلى الرجال وغير متعارضاتها فلا حاجة فيها إليه.

فمستنده على الأوّل ـ على ما حكي ـ دلالة الأخبار على الترجيح بالأعدليّة وغيرها ممّا يعلم بالرجال بل بشهادة الاعتبار القاضي بأخذ الراجح دون المرجوح ودون التسوية بينهما لقبحهما.

وعلى الثاني أنّ أخبار الكتب الأربعة لأخذها من الاصول المعتمدة ـ بشهادة مؤلّفيها ـ معتضدة بقرائن الوثوق والصحّة ، وهذا القول في شقّه الأوّل حقّ ومستنده متين ، وأمّا في شقّه الثاني فقد تبيّن ما فيه وما في مستنده بما لا مزيد عليه.

وأمّا القول بالتفصيل بين وجود الشهرة بأحد قسميها على وفق بعض الأخبار وغيره ، فهو خيرة كلّ من يرجّح أحد المتعارضين بالشهرة بقول مطلق ـ كما يستفاد من غير واحد منهم السيّد في الرياض ـ أو إذا كانت الشهرة استناديّة ، خلافا لغير واحد منهم ثاني الشهيدين على ما يستفاد منه في جملة من كتبه من عدم اعتداده بالشهرة حتّى في مقام الترجيح.

وأمّا مستنده فيما وافق الشهرة فلا يحتاج معه إلى مراجعة الرجال على ما نقل أنّ الشهرة من أقوى المرجّحات المنصوصة والاعتباريّة ، لوضوح قوّة الظنّ بتراكم الظنون من شخص واحد فكثيرا مّا ينتهي إلى القطع ، بل لعلّ أغلب العلوم من هذا الباب ، وكذا إذا كانت من أشخاص فإنّ موافقة الآراء خصوصا مع شدّة اختلاف الأفهام من أقوى أسباب الاعتضاد والقوّة.

وأيضا فإنّ غالب أحكام هذا المذهب كغيره من المذاهب ممّا لم يذهب بذهاب الموجودين من أهله في كلّ طبقة ، بل وصل من المتقدّم إلى المتأخّر يدا بيد.

قال في بعض مقدّمات كشف الغطاء ما مفاده : « أنّه لا حاجة في كلّ مسألة إلى مراجعة الكتاب والسنّة ، بل هما ممّا ينبغي أخذهما ذخيرة ليوم الفاقة وهو حيث تعارض مقتضى القواعد وفقد الإجماع ولم يعلم ما كان في أيدي الطائفة المحقّة ، وإلاّ فلا افتقار إليهما ، لأنّ مذهبنا ليس أقلّ عن المذاهب الأربعة عن أربابها ، وكلّ أو جلّ ما صدر عنهم في أيدي تبعته ».

٢٥٤

ولو سلّم المنع عمّا ذكر فلا ريب أنّ انعقاد الشهرة على خلاف ما هو من المذهب في غاية البعد ، مضافا إلى وجود النصّ على الترجيح بها ، وتعليله : بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، والتعليل في نفسه من أسباب القوّة والترجيح ، ولذا يقدّم المعلّل على غيره خصوصا بمثل التعليل المذكور المعتضد بالاعتبار كما عرفت. وأمّا وجه الافتقار في غير ذلك فيظهر ممّا مر في حجّة القول بالافتقار مطلقا.

واعلم أنّ عدّ ذلك قولا برأسه قبالا للقول المختار من إثبات الحاجة إلى الرجال بقول مطلق مبنيّ على كون

معرفة الرجال المحتاج إليها مرادا بها خصوص ما يحصل بمراجعة الكتب الرجاليّة.

وأمّا على ما نبّهنا عليه سابقا من حملها على ما يعمّه وما يحصل من المعرفة بغير المراجعة من الأسباب الموجبة لها ، ومحصّله تحصيل ما يوجب الوثوق بصدق الرواية وصدورها ، فلا مخالفة بينه وبين المختار بل هو هو باعتبار المعنى ، وعليه فلا يمكن دفعه ولا القدح في شيء من شقّيه وإن ضعف الوجه المذكور في مستنده باعتبار بعض فقراته.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقصود بالبحث هنا هو الشهرة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء المعبّر عنها في مقابلة الإجماع : « بذهاب المعظم » الّذي يلزمه وجود المخالف ، وعليه فلا يمكن جعلها من المرجّحات المنصوصة فضلا عن كونها من أقواها ، لأنّ ما ورد في النصوص الآمرة بالترجيح بالشهرة لا ينزّل على هذا الاصطلاح الحادث المتأخّر عن زمن الصدور جدّا ، وهو في العرف واللغة ـ حسبما نصّ عليه أئمّة اللغة ويساعد عليه التفاهم العرفي ـ عبارة عن ظهور الشيء ووضوحه على وجه لا يبقى معه فيه خفاء.

ومن هنا يقال المشهور على المعروف ، وهذا المعنى كما ترى يرادف الإجماع المقابل للشهرة بالمعنى المصطلح عليه.

وممّا يرشد إلى ذلك أيضا ما ورد في هذه النصوص من تعليل الأمر بالترجيح بالشهرة : « بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ».

ويرشد إليه أيضا إضافة الجمع في قوله عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » من حيث إفادتها العموم ، ومفاده اعتبار الاشتهار بين جميع الأصحاب وهو بحكم التبادر والانسياق العرفي عبارة عن تلقّيهم الخبر بالقبول وعملهم به وأخذهم بموجبه ، فلا يكفي في اشتهاره بين الأصحاب مجرّد كون وجوده فيما بين الروايات معروفا لديهم وإن لم يتحقّق له عامل

٢٥٥

أو عمل به نادر ، ولا مجرّد كونه بحيث اتّفق الرواة على روايته أو المحدّثون على ذكره في كتب الأحاديث.

ولا ريب أنّ الشهرة بالمعنى المذكور لا تتناول الشهرة الفقهائيّة سواء كانت استناديّة أو فتوائيّة صرفة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الغرض بمراجعة الشهرة في المقام إنّما هو إحراز سند الرواية واستكشاف صدورها ولو بنحو الظنّ البالغ حدّ الاطمئنان.

ولا ريب أنّ كون غالب أحكام هذا المذهب ممّا لم يذهب بذهاب الموجودين ممّا لا مدخل له بحصول هذا الغرض ، ضرورة أنّه لو بني على عدم كفاية الشهرة في حصول هذا الغرض لسرى الشبهة إلى زمن الموجودين أيضا ، وهم المعظم الذاهبين إلى قول إذا لم يكن الناظر في الشهرة فيما بينهم من جملتهم في المصير إلى هذا القول ، بأن يكون في أوّل زمن الاجتهاد بالقياس إلى المسألة هذا ، مع أنّ أحكام هذا المذهب تختلف بالواقعيّة والظاهريّة والّذي لا يذهب من المذهب بذهاب الموجودين الذاهبين إليه هو ما إذا كان حكما واقعيّا وكون ما ذهب إليه الموجودين في الأعصار السالفة هو الحكم الواقعي أوّل المسألة ، والشهرة لا تفيد اعتبارا بالقياس إلى الرواية إلاّ باعتبار كشفه الظنّي عن الواقع الّذي وافقه الرواية بمضمونها.

فتحقيق القول في مسألة إثبات الاعتبار بالشهرة : أنّ الشهرة بالقياس إلى الرواية إن كانت استناديّة على معنى كون الرواية بحيث عمل بها المعظم واستند إليه بخصوصها الأكثر ، فلا إشكال في أنّها تعطيها الاعتبار لكشفها عن قوّة علموا بها وقرينة صدور عثروا عليها وإن ضعف سندها لإرسال أو جهالة أو فسق أو نحو ذلك ، وهذا أظهر أفراد قاعدة جبر الرواية الضعيفة بالشهرة من غير فرق فيه بين ما عارض فيها رواية اخرى ـ ولو صحيحة ـ وغيره ، فإنّها في صورة المعارضة كما تكشف عن قوّة ما تواقفها فكذلك تكشف عن خلل فيما تخالفها في سندها أو جهة صدورها أو متنها أو دلالتها أو مضمونها ، ولو كانت من حيث صحّة السند حسبما اصطلحوا عليه في أعلى مراتب الصحّة.

وإن كانت فتوائيّة صرفة كما إذا شكّ في استنادهم إليها أو علم بعدم استنادهم إليها فثمرة إفادتها القوّة أو الترجيح إنّما تظهر على القول بعدم حجّيتها بنفسها ، كما أنّ إفادتها الأمرين مبنيّة على إفادتها الظنّ بالواقع ، بل وهي من لوازم عنوانها المعبّر عنه بـ « الأمارة » ،

٢٥٦

إذا الشيء ما لم يفد الظنّ لا يصير أمارة.

وحينئذ فلا إشكال أيضا في إفادتها الترجيح عند التعارض بناء على ما هو الأقوى ـ كما سيأتي في محلّه ـ من جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى الخارجيّة الّتي منها الشهرة ، خصوصا على المختار من إناطة العمل بالأخبار بظنّ صدورها على جهة الاطمئنان به كإناطة الترجيح حسبما يستفاد من الأخبار العلاجيّة بأقربيّة أحد المتعارضين إلى الواقع ، ضرورة أنّ موافقة الظنّ أو المفيد للظنّ بالواقع مرجعها إلى الظنّ بموافقة الواقع الّذي هو المراد بالأقربيّة.

ويشكل الحال في إفادتها الاعتبار بالقياس إلى ما لا معارض له في موضع الشكّ في صدقه وكذبه ، من حيث إنّ الظنّ بالواقع من جهة الشهرة الموافقة له لا يوجب هاهنا إلاّ أقربيّة مضمونة إلى الواقع وهي لا تلازم ظنّ الصدور وصدق السند ، والمفروض أنّ الاعتبار لا يتأتّى إلاّ بظنّ الصدور بل الوثوق به ، ولا يكفي فيه مجرّد مطابقة مضمونة للواقع ، ولا يقاس ذلك على صورة الترجيح ، لأنّ السند فيها محرز والاعتبار المعبّر عنه بالحجّية الذاتيّة ثابت ، والشبهة إنّما هي في تعيين ما يتعيّن العمل به فيرتفع بموافقة الشهرة.

وبعبارة اخرى : مقتضى العمل عند التعارض بكلّ من المتعارضين موجود والمرجّح إنّما يطلب لرفع مانع التعارض.

ويتأتّى ذلك بموافقة الشهرة المورثة للظنّ بالمطابقة ، بخلاف ما لو كانت الشبهة في أصل السند والاعتبار ، فإنّها حينئذ شبهة في المقتضي والشهرة على فرض عدم الحجّية غير صالحة لإحرازه ، ضرورة أنّ فاقد الاعتبار لا يعقل معطيا له.

والسرّفيه : أنّ العمدة في العمل بالأخبار إحراز السند ولو بطريق الظنّ الاطمئناني ، والشهرة ما لم تكن استناديّة لا تتعرّض لسند الخبر الموافق لها ، وتعرّضها للمضمون إنّما يجدي بعد الفراغ عن إحراز السند كما في صورة الترجيح ولذا تعدّ من المرجّحات المضمونيّة.

ومن البيّن أنّ وجوب الأخذ بالمضمون فرع على اعتبار السند وإحراز الصدور ، وكونه مظنون المطابقة لا يفيد شيئا من الأمرين ، كما أنّ مطابقته المظنونة لا تجدي في وجوب الأخذ به ، ضرورة أنّ ظنّ المطابقة إنّما جاء من جهة الظنّ بالواقع الحاصل من جهة الشهرة ، وهو مع عدم كونه حجّة بالفرض لا ينشأ منه أثر بالنسبة إلى المضمون الموافق له الخالي عن مقتضى الحجّية من جهة اخرى ، ولو فرضت المسألة على تقدير حجّية الشهرة ـ ولو

٢٥٧

وأن يكون عالما بالمطالب الاصوليّة من أحكام الأوامر والنواهي والعموم والخصوص إلى غير ذلك من مقاصده الّتي يتوقّف الاستنباط عليها * ، وهو أهمّ العلوم للمجتهد ، كما نبّه عليه بعض المحقّقين ، ولابدّ أن يكون ذلك بطريق الاستدلال على كلّ أصل منها ، لما فيها من الاختلاف ، لا كما توهمّه القاصرون.

__________________

من جهة حجّية الظنّ المطلق ـ كان المعتمد ومناط العمل هو هذا الظنّ وافقه مضمون رواية أو لم يوافقه ، فلا يترتّب على موافقة المضمون حينئذ فائدة يعتدّ بها.

فإن قلت : إنّ الشهرة على تقدير عدم الحجّية إنّما نشأت عن مستند لا محالة ، وموافقتها لمضمون الخبر ممّا يكشف عن استنادها إليه أو إلى ما يرادفه ، وهذا كاف في إحراز السند وظنّ الصدق والصدور.

قلت : دعوى الكشف في مفروض المسألة بإطلاقها ـ خصوصا مع العلم باستنادهم إلى ما ليس من مقولة الأخبار ، أو اختلافهم في المستند بحيث لم يكن الفتوى المشهورة مستندة إلى الأخبار إلاّ من بعضهم ـ غير مسموعة.

وبالجملة فالشهرة في غير صورتي الاستناد والترجيح لا تصلح رافعة للحاجة إلى الرجال ، وليس ممّا يغني عن المراجعة إلى الكتب الرجاليّة.

وأمّا الاكتفاء بتصحيح الغير فهو المعلوم من سيرة بعض الفقهاء ، بل يعزى إلى أكثر العلماء كما عرفته ، ومستنده ـ على ما نقل ـ أنّ اعتبار قول أهل الرجال سواء كان من جهة كونه شهادة أو رواية أو لإفادته الظنّ أو غيرها مثله تصحيح بعض العلماء خصوصا إذا كان من أهل الرجال ، أو كثير البصيرة بذلك العلم كصاحبي التعليقة والمنتقى وغيرهما ، وفي إطلاق هذه الدعوى ما لا يخفى ، والأقوى إناطة الاكتفاء وعدمه بما هو معيار العمل بالأخبار حسبما استفدناه من أدلّة الباب من ابتنائه على الوثوق بالصدق والصدور ، فحيثما حصل الوثوق من تصحيح الغير ولو مع إعمال بعض القرائن فيجوز الاكتفاء به عن مراجعة الكتب الرجاليّة وإلاّ فلا مناص عن المراجعة أو ما يقوم مقامها.

* وبداهة الحاجة في استنباط الأحكام الشرعيّة عن الأدلّة المعهودة ولا سيّما الكتاب والسنّة إلى مسائل اصول الفقه ممّا يغني عن تجشّم إقامة الحجّة.

وعن الفوائد : « أنّ الحاجة إليه من البديهيّات كما صرّح به المحقّقون ، وأنّه الميزان في الفقه والمعيار لمعرفة مقاصده وأعظم الشرائط وأهمّها كما صرّح المحقّقون الماهرون الفطنون

٢٥٨

الّذين ليسوا بجاهلين ولا غافلين ولا مقلّدين من حيث لا يشعرون » انتهى (١).

والعجب من مقلّدة الأخباريّة كيف خفي عليهم هذا الأمر مع ظهوره وكمال وضوحه بحيث يدركه المخدّرات في الحجرات ، فأنكروا الحاجة إليه رأسا وهو كما ترى مع الاعتراف بابتناء معرفة الأحكام على الأدلّة أو السنّة فقط ـ حسبما يزعمونه ـ ممّا يشبه التناقض ، لوضوح أنّ شيئا ممّا ذكر لا ينهض دليلا ولا يتمّ حجّة إلاّ بإعمال القواعد الاصوليّة ومراعاة ضوابطها المقرّرة ، إلاّ أن يرجع الإنكار المذكور إلى إنكار ابتنائها على النظر في الأدلّة حتّى السنّة بدعوى الضرورة في كافّة الأحكام الشرعيّة ، وهو كما ترى أوضح فسادا ، مع أنّهم ينادون بأعلى صوتهم بانحصار المرجع في السنّة وهو ممّا لا يجامع نفي الحاجة إلى مراعاة المسائل الاصوليّة بالمرّة.

وأوضح ما يرد على مقالتهم هذه من التدافع ما هم عليه من منع حجّية ظواهر الكتاب إلاّ ما ورد تفسيره في الروايات ، فإنّ التفسير حقيقة معناه ترجع إلى تخصيص عامّ الكتاب أو تقييد مطلقه بالرواية أو أخذها قرينة لمجازاته أو بيانا لمجملاته أو ناسخة لمنسوخاته.

وهذا كما ترى التزام بنبذة من المسائل الاصوليّة ، ومنه ما هم عليه من العمل بالبراءة الأصليّة لنفي الوجوب في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، ومنع العمل بها لنفي التحريم في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، بدعوى : كون الأصل فيه التحريم أو وجوب الاحتياط أو الوقف والعمل باستصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص ، وحكم النصّ إلى أن يرد الناسخ ، واستصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت المقيّد.

ومنع العمل (٢) باستصحاب حكم شرعي في موضع طرئت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، على معنى ثبوته في وقت ثمّ يجيء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفائه فيه ، فلا يحكم ببقائه على ما كان استصحابا للحالة السابقة كما عليه المحقّقون من الفقهاء والاصوليّين.

وقد صرّح في الحدائق (٣) بنفي الإشكال وعدم الخلاف في حجّيّة البراءة الأصليّة بالمعنى الأوّل ، وحجّية الاستصحاب بالمعنيين الاوليين ، ومصيرهم إلى عدم الحجّية في الثاني من معنى البراءة الأصلّية والأخير من معاني الاستصحاب ، والكلّ كما ترى من المسائل الاصوليّة بل عمدتها.

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٣٣٦.

(٢) عطف على قوله : « ومنه ما هم عليه ... ».

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٥١.

٢٥٩

ومنه ما هم عليه من حجّية الأخبار مطلقة أو خصوص ما في الكتب الأربعة وعدم ترجيح متعارضاتها إلاّ بالقواعد الممهّدة من لدن أهل الذكر ، ومع فقدها في بعض الأخبار يتوقّف كما قال عليه‌السلام : « أرجه حتّى تلقى إمامك » وفي بعضها : « يتخيّر في العمل بأيّهما شاء من باب التسليم » ، وعن بعضهم أنّه جمع بينهما بأنّه حمل الأوّل على حقوق الآدميّين كالميراث ونحوه ممّا لا مجال للتخيير فيه والثاني على ما عداه ، كما نقله الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني في رسالته المعمولة في الفرق بين الأخباري والمجتهد.

وفيها أيضا : « أنّه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة عند جملة من الأخباريّين منهم الفاضل الأمين الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة والمجتهدون مطبقون على امتناعه ، وإنّما الخلاف عندهم في تأخير البيان عن وقت الخطاب » وفيها أيضا : « من الفروق عدم العمل على الإجماع المدّعى في كلام متأخّري فقهائنا ، إذ لا سبيل إلى العلم بدخول قول المعصوم عليه‌السلام بغير جهة الرواية عنه ، ووافقهم على هذا بعض المجتهدين.

ومنها : أنّ خلاف معلوم النسب عند المجتهدين أو أكثرهم لا يلتفت إليه ولا يقدح في الإجماع ، وأمّا الأخباريّون فلا يلتفتون إلى هذه القاعدة » انتهى.

وهذه الامور كلّها من المسائل الاصوليّة.

وبالجملة فهم بإنكارهم المضادّ لعملهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، وظنّي أنّ هذه المقالة ونظائرها من الخرافات الّتي منشائها تعصّبهم وشدّة عنادهم لحفظة الشريعة وخزّان علوم أهل العصمة ، ولو لا ذلك فأيّ عاقل يتفوّه بما يدافع البداهة ويناقض الطريقة؟

ومع ذلك يستند في مقالته الفاسدة ودعواه الرديّة إلى ما لا يلتفت إليه جاهل فضلا عن العاقل من الشبهات الواهية والتشكيكات الوهميّة الّتي منها : أنّ هذا العلم حدث بعد زمان الأئمّة عليهم‌السلام وأنّا نقطع بأنّ قدماءنا ورواة أحاديثنا ومن يليهم لم يكونوا عالمين به مع أنّهم كانوا عاملين بهذه الأحاديث الموجودة ولم ينقل عن أحد من الأئمّة إنكارهم بل المعلوم تقريرهم لهم ، وكان ذلك الطريق مستمرّا بين الشيعة إلى زمان ابن أبي عقيل وابن الجنيد ثمّ حدث بين الشيعة ، فلا حاجة إلى هذا العلم.

ومنها : أنّ البداهة حاكمة بوجوب العمل بأوامر الشرع ونواهيه ، ومن علّم العلوم اللغويّة فهو ممّن يفهم الأوامر والنواهي ، فالحكم عليه بوجوب التقليد المنهيّ عنه بمجرّد جهله باصول الفقه ممّا لا دليل عليه ولا عذر له في التقليد ، وليس مثله في التقليد إلاّ مثل شخص

٢٦٠