تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

المجتهدين كانت ظاهرة في الأفقهيّة ، وإذا اعتبرت بين الشاهدين كانت ظاهرة في الأعدليّة ، وإذا اعتبرت بين المخبرين كانت ظاهرة في الأصدقيّة ، إذ الوثوق في مقام الإخبار يرجع إلى مطابقة الخبر والمفروض أنّهما في المرفوعة اعتبرت بين المخبرين فتصرف إلى الصدق لا غير ، إلاّ أنّ الأمر في ذلك سهل ، والحمل على إرادة القدر الجامع في مقام الجمع وعلاج التعارض ممكن وإن كان في تعيينه نظر لخلوّه عن شاهد الجمع.

ومنها : اشتمال المرفوعة في صورة تساوي الخبرين في الأعدليّة والأوثقيّة على الأمر بأخذ ما يخالف العامّة مطلقا من غير اعتبار لموافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، فتدلّ على تقديم المخالف على الموافق وإن وافق الكتاب والسنّة أيضا ، والمقبولة قد دلّت على تقديم ما يوافقهما على المخالف لها ، ثمّ تقديم ما يخالف العامّة على الموافق لهم على تقدير موافقتهما الكتاب والسنّة.

ومنها : اشتمال المرفوعة بعد تساويهما في مخالفة العامّة أو موافقتهم على الأمر بأخذ ما وافق الاحتياط والمقبولة دلّت في هذا الفرض على وجوب التوقّف من دون اعتبار الاحتياط.

ومنها : اشتمال المرفوعة بعد فقد جميع المرجّحات على الأمر بالتخيير والمقبولة قد دلّت على وجوب التوقّف وعلى هذا فيشكل العمل بهذين الخبرين. ويمكن دفع الإشكال من الجهة الاولى تارة : بالجمع بينهما بالأخذ بظاهر المقبولة وإرجاع المرفوعة إليها بحملها على مجرّد بيان ما يصلح للترجيح من دون نظر وقصد إلى كيفيّة الترجيح وترتيب المرجّحات من حيث التقديم والتأخير كما تقدّم الإشارة إليه.

واخرى : بطرح المرفوعة رأسا لعدم صلاحيتها لمعارضة المقبولة لضعفها بسبب عدم وجودها في جوامع الأخبار ، مع كون المعتبرة موجودة في الجوامع المعتبرة الّتي عليها المعوّل وإليها المرجع كجوامع المشايخ الثلاث عطّر الله مراقدهم وشكر الله مساعيهم ، مع كونها متلقّاه بالقبول عند الأصحاب ولذا سمّيت مقبولة وهذا يقتضي كون المرفوعة مردودة عندهم.

وثالثة : بترجيح المقبولة بما معها من المرجّحات السنديّة من حيث الأعدليّة والأفقهيّة والأورعيّة ، فإنّ كون المشايخ الثلاث قدّس أرواحهم في أعلى مراتب العدالة والفقاهة والصداقة والورع من الواضحات الّتي لا حاجة لها إلى البيان ، بخلاف المرفوعة فإنّ راويها عن العلاّمة وهو ابن أبي الجمهور ليس بتلك المثابة ، بل هو على ما وصف مقدوح ومطعون عليه ، وربّما يرمى إلى الغلوّ وغيره من الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة ، ولذا ترى أنّ

٦٤١

صاحب الحدائق مع كونه من الأخباريّين الّذين ليس ديدنهم في العمل بالأخبار على الطعن بالسند ولا الراوي ولا اعتبار الأنواع الّتي أحدثها المتأخّرون طعن على هذه الرواية في سندها وراويها ، وقال : لا اعتداد بهذا الخبر ولا بالكتاب الّذي هو فيه ولا بكاتبه ».

لا يقال : إنّ مع المرفوعة أيضا مرجّحا وهو الشهرة ، على ما سبق إليه الإشارة من أنّ المشهور بين العلماء تقديم الخبر المشهور على غيره وإن كان راويه أعدل أو أفقه أو أصدق أو أورع ، والمرفوعة موافقة من حيث الدلالة لتلك الشهرة لقضائها بتقديم المشهور على خبر الأعدل والأفقه وغيره على حسب ما هو المشهور.

لأنّا نمنع تحقّق الشهرة بالمعنى الّذي يعدّ من المرجّحات ـ وهو شهرة الرواية ـ في المرفوعة ، بل المتحقّق فيها ـ على تقدير تسليمه ـ إنّما هو الشهرة الفتوائيّة لا بمعنى عمل الأكثر بمضمونها لينجبر ضعفها أو قصورها بالعمل ، بل بمعنى موافقة مضمونها لفتوى الأكثر ، وهذه ليست من الشهرة المرجّحة للمتن في شيء ، مع تطرّق المنع إلى تحقّق الشهرة بهذا المعنى لو اريد به أنّ الأصحاب يقدّمون الخبر المشهور على غيره ممّا رواه الأعدل في الواقع مع علمهم بأعدليّة راويه ، ولو اريد به أنّهم يقدّمون المشهور على ما كان راويه أعدل في الواقع من حيث عدم علمهم بأعدليّة الراوي فهو وإن كان مسلّما غير أنّه لا ينافي اتّفاقهم على تقديم رواية الأعدل في موضع العلم بالأعدليّة على رواية غير الأعدل وإن كانت مشهورة من حيث الرواية كما نبّهنا عليه سابقا.

كما يمكن دفع الإشكال من الجهة الثانية : بإعمال قاعدة حمل المطلق على المقيّد ، بتقريب : أنّ النسبة بين المرفوعة والمقبولة عموم وخصوص مطلق ، إذ المقبولة في الأمر بالأخذ بما خالف العامّة مقيّدة بصورة تساوي الخبرين في الموافقة للكتاب والمرفوعة مطلقة بالقياس إلى هذه الصورة وإلى صورة مخالفة أحدهما للكتاب وموافقة الآخر له أو مخالفتهما معا له أو ما لم يكن في الكتاب شيء يوافقهما أو يخالفهما.

ومن البيّن أنّ المطلق قابل للتقييد ، فليحمل على ما عدا صورة موافقة أحدهما ومخالفة الآخر للكتاب.

ومن الجهة الثالثة : بحمل المقبولة على صورة لم يمكن الاحتياط في الواقعة باعتبار دوران الأمر فيها بين المحذورين ، أو على صورة موافقة الخبرين أو مخالفتهما الاحتياط ، نظرا إلى أنّ الأمر بالأخذ بما وافق الاحتياط الوارد في المرفوعة مشروط بأمرين ، أحدهما :

٦٤٢

كون الواقعة الّتي تعارض فيها الخبران ممّا يمكن فيه الاحتياط ، وثانيهما : عدم موافقة المتعارضين ولا مخالفتهما الاحتياط ، فالمقبولة منزلة على إحدى صورتي انتفاء الأمرين.

ومن الجهة الرابعة : بالجمع بينهما بحمل المرفوعة على حال انسداد باب العلم وصورة عدم التمكّن من السؤال بخلاف المقبولة الآمرة بالوقف والسؤال المخصوصة بحال التمكّن من العلم والسؤال ، ومرجع هذا الجمع أيضا إلى حمل المطلق على المقيّد كما هو واضح.

الموضع الثاني : الّذي هو أيضا من جهات الإشكال بين الأخبار العلاجيّة الاختلاف الموجود فيها من حيث الإطلاق والتقييد في الأمر بالترجيح أو بالتوقّف ، فإنّك إذا لاحظت مجموعها لوجدت بعضها ما هو في الأمر بالترجيح مقيّد بحالة التمكّن من العلم والسؤال كالمقبولة ، وبعضها ما هو مطلق في الأمر بالترجيح كالمرفوعة وغيرها.

وبعضها ما هو مقيّد فيه أيضا بحالة انسداد باب العلم وعدم التمكّن من السؤال كرواية سماعة بن مهران قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا ، قال : « لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل ، قلت : لابدّ أن يعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما فيه خلاف العامّة » فإنّ ترخيص العمل بما يخالف العامّة مقيّد بعدم المناص عن العمل بأحدهما ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع عدم تمكّن السؤال حال الابتلاء بالواقعة.

وبعضها ما هو مقيّد في الأمر بالتوقّف بفقد المرجّحات كالمقبولة ، وبعضها ما هو مطلق فيه.

ولكنّ الأمر في الذبّ عن هذا الإشكال أيضا هيّن ، لأنّه يقيّد مطلق الأمر بالتوقّف بما إذا لم يمكن هناك مرجّح أصلا أخذا بموجب الأخبار الآمرة بالترجيح ، ويطرح المقيّد منها بحالة عدم التمكّن أخذا بموجب المقيّد منها بحالة التمكّن الّذي لا ينافي مطلقاتها.

فإن قلت : العكس أيضا ممكن.

قلت : الأوّل راجح بل متعيّن ، لعدم صلاحية المقيّد بعدم التمكّن لمعارضة غيره ، لمكان كثرة الأخبار الآمرة بالترجيح مطلقة ومقيّدة وقوّتها في حدّ ذاتها واعتضادها بالعمل والاعتبار ومرجّحات اخر بخلاف العكس.

الموضع الثالث : ما ينشأ ممّا دلّ على قصر حكم الترجيح على المرجّحات المحرزة للدلالة من دون تعرّض لبيان الترجيح بمرجّحات اخر ممّا يرجع إلى السند أو المتن أو المضمون ، كخبر أبي حيّون عن الرضا عليه‌السلام : « أنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا ».

٦٤٣

وخبر داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام : « يقول أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، أنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب » فإنّ « المحكم » عند الاصوليّين وإن كان هو القدر المشترك بين النصّ والظاهر ، و « المتشابه » هو القدر المشترك بين المجمل والمؤوّل ، إلاّ أنّ المراد بهما هنا ما يعمّ الأظهر في مقابلة الظاهر والظاهر في مقابلة النصّ ، فالأوّل محكم والثاني متشابه باعتبار تطرّق التأويل إليه بصرفه إلى خلاف الظاهر ، ومعنى الردّ هو الحمل كحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد والمجمل على المبين.

وقوله : « أنتم أفقه الناس » يريد به الحثّ على المبالغة والاجتهاد في التوصّل إلى المقاصد والمرادات بمراجعة القرائن وإعمال الاصول والقواعد المحرزة للدلالات المشخّصة للمرادات ، ومرجعه إلى الترجيح بمرجّحات الدلالة من دون التفات إلى مرجّحات السند وغيرها ، وهو يقضي بوجوب ردّ العامّ أو المطلق إلى الخاصّ أو المقيّد وإن كان راوي العامّ والمطلق أعدل أو أفقه أو أصدق أو أورع وهكذا ، ويلزم من ذلك طرح الأخبار المتكفّلة لبيان المرجّحات السنديّة وغيرها.

ويندفع هذا الإشكال أيضا : بأن نقول بموجب هذين الخبرين وما بمعناهما ، لأنّه الحقّ الّذي لا محيص عنه لقيام الإجماع الضروري على تقديم المرجّحات الدلاليّة ـ ما دامت موجودة صالحة لإحراز الدلالة وترجيحها في أحد المتعارضين عليها في المتعارض الآخر ـ على المرجّحات السنديّة ، وغيرها فحيثما أمكن الجمع بين المتعارضين بترجيح الدلالة لا يلتفت إلى مرجّحات السند أو المتن أو المضمون الّتي مرجع الترجيح بها إلى طرح الخالي عنها ، وعليه مضافا إلى طريقة العلماء بناء العرف أيضا ، ولا يلزم بذلك ما ذكر من طرح الأخبار المتكفّلة لبيان المرجّحات السنديّة وغيرها لأنّها مخصّصة بواسطة الإجماع وغيره بما إذا لم يكن هناك مرجّح دلالتي.

الموضع الرابع : ما ينشأ ممّا ورد في بعض الأخبار من الترجيح بالأحدثيّة ، كما في خبر أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ، ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى الله إلاّ أن يعبد سرّا ، أما والله لئن فعلتم ذلك أنّه لخير لي ولكم ، أبى الله لنا في دينه إلاّ التقيّة ».

٦٤٤

وفي معناه مرسلة الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال كنت آخذ بالأخير ، فقال لي : رحمك الله تعالى ».

ووجه الإشكال : أنّ أحدثيّة أحد الخبرين وتأخّر صدوره عن الآخر لا مدخليّة لها في الترجيح ، وليست مزيّة في الخبر المتأخّر لتوجب تعيّن الأخذ به ، فما معنى الترجيح بها؟ ويمكن الذبّ عن هذا الإشكال : إمّا بأن يقال : إنّ هذا تعبّد من الشارع فيجب علينا اتّباعه وإن لم نعلم حكمته كسائر موارد التعبّد.

أو يقال : بكون ذلك من باب النسخ حيثما اجتمع شرائطه ، فيكون الخبر المتأخّر ناسخا ، ومن حكم الناسخ تعيّن الأخذ به ، بناء على جوازه بعد انقطاع الوحي ، مع كون معنى ناسخيّة المتأخّر كشفه عن انتهاء مدّة الحكم في وقت صدوره ، وقد أخبر به النبيّ وصيّه في زمان الوحي وأعلمه إيّاه وأمره بإظهاره في وقته ، كما يشهد له موثّقة محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتّهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه؟ قال : « إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » ولكن يأباه قوله ـ : « أبي الله إلاّ أن يعبد سرّا ـ إلى قوله ـ : أبي الله لنا في دينه إلاّ التقيّة ».

أو يقال : بخروج الخبرين مخرج التقيّة العمليّة الراجعة إلى الراوي المخاطب لا التقيّة القوليّة المخصوصة بالإمام عليه‌السلام في البيان مع تردّدها بين الخبر المتقدّم أو الخبر المتأخّر وتعيّن التعبّد بالمتأخّر على التقديرين.

والسرّ في ذلك : أنّ موجب التقيّة في حقّه إن كان متحقّقا حال صدور الأوّل كان الثاني صادرا على جهة بيان الواقع ، وإن كان متحقّقا حال صدور الثاني كان ذلك الثاني صادرا على جهة التقيّة ، وعلى التقديرين يجب التعبّد به.

وبعبارة اخرى : إنّ في زمان صدور الأخير إن لم يكن موجب التقيّة متحقّقا في حقّه وجب عليه اتّباعه على أنّه الحكم الواقعي ، وإن كان متحقّقا وجب عليه اتّباعه على أنّه الحكم الظاهري التابع للتقيّة.

وأمّا احتمال تعيّن التعبّد بالأوّل فممّا يقطع بانتفائه ، لاستلزامه كون الأخير صادرا على جهة التقيّة القوليّة المخصوصة بالإمام عليه‌السلام ، أو كونه صادرا على جهة اللغويّة ، والأوّل خلاف الفرض والثاني محال على المعصوم الحكيم.

٦٤٥

ويشكل هذا البيان بعدم جريانه في حقّ من تأخّر عن الراوي إلى زماننا هذا ، فلم يثبت كون الأحدثيّة مرجّحة مطلقا ، بل غاية ما ثبت كونها مرجّحة في خصوص المخاطب الواحد الّذي اختلف في حقّه الخبران على الوجه الوارد في روايتي الكناني وابن المختار.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بتعيّن الأخذ بالأحدث لغير المخاطب أيضا ممّن تأخّر عنه ، بتقريب : أنّ صدور هذا الخبر لمخاطبه بحسب الواقع إن كان على جهة بيان الحكم الواقعي فلابدّ لنا من الأخذ به أيضا لمشاركتنا لهم في التكاليف ، وإن كان على جهة التقيّة وكان موجب التقيّة موجودا في حقّنا أيضا فلا مناص لنا من الأخذ به أيضا لوجوب التقيّة علينا أيضا ، وإلاّ فيقع الشكّ في جهة صدور هذا الخبر هل هي التقيّة أو بيان الواقع؟ فينفى احتمال التقيّة فيه بأصالة عدمها الّتي هي من الاصول المحكّمة المجمع عليها ، وبعد انضمام ذلك الأصل إليه يتعيّن الأخذ به أيضا.

ولا يعارض ذلك الأصل بأصالة عدم التقيّة في الخبر المتقدّم ، لأنّا لم نقصد به إلى إثبات كون صدور الخبر المتقدّم على جهة التقيّة ليقابل بنحو هذه المعارضة.

ولكن في هذا البيان من المغالطة ما لا يخفى ، إذ على تقدير كون صدور الخبر الأحدث لمخاطبه على جهة التقيّة ـ كما عليه مبنى الشقّ الثاني من الترديد ـ فلا يعقل الشكّ في جهة صدوره وأنّها التقيّة على تقدير عدم تحقّق موجب التقيّة بالنسبة إلينا ، بل قضيّة ذلك أن لا يجوز لنا الأخذ به ويتعيّن الأخذ بالخبر المتقدّم ، فالبيان المذكور واضح الفساد جدّا.

وهاهنا بيان آخر وهو : أنّا نفرض الخبر الأحدث ابتداء مشكوك الحال من حيث جهة صدوره ـ أهو التقيّة أو لا؟ ـ في نظرنا كما هو كذلك بالفرض ، وبانضمام أصالة عدم التقيّة إليه نثبت تعيّن العمل به.

ولكن يزيّفه أيضا : أنّ الخبر المتقدّم أيضا مشكوك الحال في نظرنا من هذه الجهة ، وجريان الأصل المذكور لنفي احتمال التقيّة به متساوي النسبة إليه وإلى الخبر الأحدث ، فإعماله في أحدهما دون الآخر تحكّم بحت وترجيح بلا مرجّح. ويمكن إثبات تعيّن الأخذ به ببيان ثالث وهو : أنّ الأحدثيّة في الخبر الأحدث ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع ، فبانضمام قاعدة الاشتغال يتعيّن الأخذ به لا بالخبر المتقدّم.

وهذا أيضا ضعيف ، باعتبار أنّه عدول عمّا نصّ بكونه مرجّحا في الروايتين إلى إثبات تعيّن العمل بقاعدة الاشتغال ، والمقصود بالبحث مرجّحية الأحدثيّة ليكون تعيّن العمل

٦٤٦

بالأحدث لترجيحه على معارضه بمرجّح منصوص لا غير.

نعم يمكن إثبات تعيّن الأخذ به من جهة الترجيح بالأحدثيّة بطريق آخر ، وهو التزام كون الصادر على جهة بيان الواقع من المعصوم إنّما هو الخبر الأحدث حتّى بالنسبة إلى مخاطبه ، وأنّ الخبر المتقدّم إنّما صدر على جهة التقيّة لا غير ، وذلك لأنّ المصلحة في زمان الصدور في حقّ بعض الأشخاص قد تقتضي أن يأمره المعصوم أوّلا بالعمل بما وافق العامّة في السرّ والعلانيّة ليعرف عندهم بذلك كونه منهم ، ويطمئنّوا منه بذلك حتّى لا يفتّشوا فيما بعد عن أحواله ، ولم يتعرّضوا له باختباره في عمله في خلواته ، ثمّ يبيّن له فيما بعد ذلك الحكم الواقعي ويأمره بالتعبّد به سرّا وفي خلواته وبكتمانه عن المعاندين ، كما يشهد بذلك قصّة داود بن زربي (١) مع أبي جعفر منصور الدوانيقي المرويّة في باب كون الوضوء مثنى مثنى لا ثلاثا ثلاثا إلاّ في مقام التقيّة ، حيث أمره أبو عبد الله عليه‌السلام أوّلا بما وافق طريقة العامّة حقنا لدمه وصونا له عمّا أضمره منصور من قتله لما بلغه من كونه من الرفضة ثمّ بيّن له الواقع وأمره به.

فلم لا يجوز أن يكون مورد الروايتين ونظائرهما من هذا الباب ، بل لا بدّ من الإذعان به لشهادة قوله في خبر الكناني : « أبى الله إلاّ أن يعبد سرّا » فإنّه إرشاد للراوي إلى طريقة العمل بالواقع المخالف لمذهب العامّة في زمان التقيّة ، وأمر بالتعبّد به سرّا لا علانية ، وهذا أيضا ضرب من التقيّة لأنّها قد تتأتّى بإظهار الموافقة لهم وقد تتأتّى بكتمان المخالفة لهم ، وعليه ينطبق قوله عليه‌السلام : « أبى الله لنا في دينه إلاّ التقيّة » بعد ما أمره بالتعبّد بالخبر الأحدث سرّا ، ومرجعه إلى الأمر بكتمان العمل به ، فليتدبّر.

فإنّا لم نجد تحرير المقام في كلام الأعلام ، وكأنّه للغفلة عمّا ذكرناه لم يتعرّض معظم الاصوليّين من أصحابنا لذكر هذا المرجّح أصلا كما نبّه عليه بعض الفضلاء.

المطلب الثاني

في أنّه إذا ثبت وجوب الترجيح وعلم المرجّحات المنصوصة الّتي هي صفات الراوي ثمّ الشهرة ثمّ موافقة الكتاب والسنّة ثمّ مخالفة العامّة ثمّ مخالفة أميل حكّامهم ، فهل يجوز التعدّي منها إلى غيرها من المزايا الغير المنصوصة ـ وهي الّتي لم يصرّح بها في النصوص بالخصوص ، كما عليه جمهور المجتهدين لإجماعهم خلفا عن سلف على عدم الاقتصار ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٤٣ الباب ٣١ من أبواب الوضوء ح ٢.

٦٤٧

بل قيل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع على وجوب العمل بالراجح من الدليلين وعدم ظهور الخلاف فيه ـ أو لا؟ بل يجب الاقتصار على المنصوص بالخصوص كما عليه الأخباريّون ، حتّى أنّه طعن غير واحد منهم على المجتهدين بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمد عليها العامّة في كتبهم ممّا ليس منه في النصوص عين ولا أثر ، ومن ذلك ما عن صاحب الحدائق في مقدّمات الكتاب من « أنّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصّل ، والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات » انتهى.

وظاهر أنّه كما أنّ فائدة البحث عن أصل وجوب الترجيح وعدمه إنّما تظهر على القول بحجّية أخبار الآحاد من باب الظنّ الخاصّ لا من باب الظنّ المطلق المنوط بالظنّ الشخصي الّذي لم ينفتح بابه إلاّ بدليل الانسداد ـ بل قد عرفت أنّ على هذا المذهب لا يعقل التعارض بين الخبرين ولا يقع قطّ حتّى يرجع لعلاجه إلى المرجّحات ثمّ ينظر في جواز التعدّي وعدمه ، بل المناط هو الظنّ الشخصي وهو دائما يكون مع أحد المتعارضين فيخرج الآخر عن الحجّية ـ فكذلك فائدة البحث عن التعدّي والاقتصار أيضا تظهر على هذا القول ، إذ على الظنّ المطلق ينوط الأمر بالعمل بكلّ مزيّة أوجبت الظنّ الشخصي بصدور الخبر أو مطابقته الواقع منصوصة كانت أو لا.

وحينئذ نقول : إنّ مقتضى الأصل من جهة الاشتغال بعد ثبوت التكليف في المتعارضين بالعمل إمّا بأحدهما على التعيين أو بكلّ منهما على التخيير هو تعيّن العمل بما اشتمل منهما على ما احتمل كونه مرجّحا عند الشارع ، لكونه مبرئ للذمّة على اليقين بخلاف غيره ، لكون جواز العمل به بل كونه مبرئ للذمّة مشكوكا.

هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من أخبار الترجيح المتكفّلة لبيان المرجّحات ـ ولو بمعونة فهم جمهور الأصحاب وفتاويهم ـ وجوب العمل بكلّ مزيّة أوجبت أقربيّة ذيها إلى الواقع كائنة ما كانت ، وبذلك يخرج عن إطلاقات أخبار التخيير المتناولة لصورتي وجود المرجّحات الغير المنصوصة مع أحد المتعارضين وانتفائها الحاكمة أو الواردة على الأصل المذكور بحملها على صورة التكافؤ من جميع الجهات من باب حمل المطلق على المقيّد.

وقد يمنع إطلاقها أيضا بدعوى اختصاصها بصورة التكافؤ من جميع الوجوه استنادا إلى شهادة التأمّل الصادق فيها بذلك ، ودون استفادة الاختصاص المذكور من نفس

٦٤٨

أخبار التخيير خرط القتاد.

نعم قوله عليه‌السلام : « إذن تخيّر أحدهما ودع الآخر » في ذيل المقبولة مقيّدا بالتساوي من جهة المرجّحات المذكورة فيها ، غير أنّه لا يلازم كونه مقيّدا بالتساوي من جهة سائر المرجّحات الغير المذكورة فيها ، إلاّ أن يستفاد منها عدم وجوب الاقتصار على ما ذكر فيها بل وجوب التعدّي إلى كلّ مزيّة أوجبت أقربيّة ذيها إلى الواقع ، وبعد استفادة ذلك صار التخيير المستفاد منها مقيّدا بالتكافؤ من جهة جميع المزايا المنصوصة والغير المنصوصة ، ثمّ يحمل عليه سائر مطلقات أخبار التخيير من باب حمل المطلق على المقيّد.

فالعمدة في المقام إنّما هو النظر في استفادة وجوب الترجيح بكلّ مزيّة موجبة لأقربيّة ذيها إلى الواقع ، ويكفي في ذلك ما نبّهنا عليه عند شرح المقبولة ، فإنّ فيها على ما نبّهنا عليه مواضع من الدلالة على هذا المطلب ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض تلك المواضع هنا.

فمن جملة ذلك الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة ، وفي معناه الترجيح بالأوثقيّة في مرفوعة زرارة ، فإنّ الصدق عبارة عن مطابقة الواقع والأصدق بصيغة التفضيل عبارة عن الأقرب إلى مطابقة الواقع ، فالترجيح بالأصدقيّة مرجعه إلى الترجيح بالأقربيّة إلى الواقع ، فيدلّ ذلك على أنّ المناط في باب الترجيح إنّما هو الأقربيّة من دون مدخليّة لخصوص سبب دون آخر ، فلو كان راوي أحدهما أضبط وأثبت أو أعرف باللغة في مقام النقل بالمعنى كان خبره أقرب إلى مطابقة الواقع ، ومن ذلك يجوز التعدّي إلى غير صفات الراوي من الكيفيّات اللاحقة بالرواية كالنقل باللفظ والنقل بالمعنى ، فالمنقول باللفظ أقرب إلى الواقع إذ لا يحتمل فيه ما يحتمل في المنقول بالمعنى من الاشتباه في فهم المعنى والغفلة عن حقيقة المراد.

ومن جملة ذلك أيضا تعليل الإمام عليه‌السلام للترجيح بالشهرة في الخبر المشهور بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، بتقريب : ما مرّ من عدم كون المراد من الريب المنفيّ فيه سنخ الريب وطبيعته ليلزم من نفيه كون الخبر قطعيّا في سنده ومتنه ودلالته ، وإلاّ لم يمكن كونهما معا مشهورين على ما فرضهما الراوي بعد ذلك ، بل الريب الإضافي ، على معنى أنّه ليس فيه الريب المحتمل في الخبر الشاذّ.

فحاصل التعليل : أنّ المجمع عليه لا يحتمل فيه ما يحتمل في الشاذّ ، ولا ريب أنّ ما كان من الخبرين أقلّ احتمالا كان أقرب إلى الواقع ، وما كثر الاحتمال فيه كان أبعد عن

٦٤٩

الواقع ، فرجع الترجيح بما ذكر إلى ترجيح الأقرب إلى الواقع ، والتعليل بعد إلقاء الخصوصيّة يفيد عموم العلّة وتأثيرها في الحكم حيث توجد.

ومن جملة ذلك أيضا تعليله عليه‌السلام للترجيح بمخالفة العامّة بكون الرشد في خلافهم ، وفي بعض الروايات كون الحقّ في خلافهم.

وقضيّة ذلك كون مناط الترجيح هو الأقربيّة إلى الحقّ والأبعديّة عن الباطل ، ومن تهافت الأخباريّة في زعمهم للاقتصار على المنصوص ـ مع أنّ ظاهر النصّ في الترجيح بصفات الراوي اعتبار اجتماع الصفات الأربع ـ عدم اقتصارهم على ظاهر النصّ بجعلهم كلّ واحد مرجّحا بانفراده ، غاية ما هنا لك قيام صارف وهو الإجماع على أنّ الرواية ليست على ظاهرها ، فجعل كلّ واحد من الصفات الأربع مرجّحا مستقلاّ تعبّديّا ليس بأولى من جعل ورودها من باب المثال ، بدعوى : أنّ الترجيح بكلّ واحد من هذه الصفات لإفادة أنّ العبرة في الترجيح بقوّة ظنّ الصدور واطمئنان الصدق والوثوق بمطابقة الواقع.

هذا ومن تهافتهم أيضا أنّ ظاهر النصّ في الترجيح بصفات الراوي اعتبار العلم بالأعدل والأفقه والأصدق والأورع ، وهو في الأزمنة المتأخّرة عن أعصار الرواة إلى زماننا هذا غير ممكن الحصول ، إذ لا طريق إلى إحراز هذه الصفات في الغالب إلاّ بيانات علماء الرجال وهي أخبار آحاد لا تفيد العلم ، بل غايتها الظنّ ، فالترجيح بما ظنّ من هذه الصفات خروج عن المنصوص ، والمفروض عدم بلوغ الأخبار المذكورة حدّ البيّنة لتكون حجّة تعبّديّة.

فإن قالوا : بأنّ ذلك ظنّ اجتهادي قام الدليل على اعتباره ، يقع الكلام في دليله وليس إلاّ دليل الانسداد ، وهو يقضي بجواز العمل بكلّ ما يورث ظنّ الصدور بل الصدق ، وربّما يحصل من غير المنصوص من الظنّ ما لا يحصل من المنصوص ، مع أنّ الاقتصار على المنصوص ربّما يؤدّي إلى سدّ باب الترجيح ، إذ إحراز صفات الراوي ولو ظنّا غير متيسّر غالبا لغير المعاصرين للرواة والملاقين لهم ، وكتب الرجال غير متكفّلة لبيان هذه المزايا ، والشهرة لترجيح الخبر المشهور أيضا ممّا لا يتيسّر إحرازه ، سواء اريد به ما أجمع الكلّ على نقله أو ما رواه الأكثر ، لأنّ الروايات الّتي بأيدينا اليوم لم يبلغنا إلاّ بواسطة كتاب أو كتابين أو ثلاثة أو أربعة فهذا المرجّح أيضا إنّما يتيسّر حصوله لأهل زمان الصدور.

وبالجملة فإحراز كون أحد الخبرين مشهورا قلّما يتّفق لنا في هذه الأزمنة.

ثمّ ننقل الكلام إلى موافقة الكتاب والسنّة ، أمّا موافقة السنّة فممّا لا مصداق لنا ، إذ ليس

٦٥٠

من السنّة النبويّة القطعيّة شيء بأيدينا ، وكونها حاصلة لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام لعلمهم بالسنّة لا يجدي لنا نفعا ، والأخبار النبويّة العاميّة لا توجب ظنّا فضلا عن القطع.

وأمّا موافقة الكتاب فلا ينبغي عدّها من المرجّحات ، لكون الكتاب بنفسه حجّة مستقلّة ، ولعلّ ترجيح ما يوافق عامّ الكتاب لا يحتاج إلى بيان ، فتأمّل.

ثمّ ننقل الكلام إلى مخالفة العامّة ، والترجيح بها أيضا فرع الاطّلاع على مذاهب العامّة وهو أيضا ممّا لا يتيسّر غالبا إلاّ بواسطة النقل في كتب أصحابنا الفقهاء ، وهو من نقل الآحاد الّذي يقصر عن إفادة العلم ، مع أنّ المعلوم من سيرة العلماء انعقاد إجماعهم قديما وحديثا من لدن بناء العمل على أخبار الآحاد على عدم الاقتصار وعلى التعدّي إلى المرجّحات الغير المنصوصة ، حتّى أنّ الأخباريّين أيضا لا يقتصرون على خصوص المنصوص فقولهم بالاقتصار قول بلا عمل.

فالحقّ أنّ الاقتصار على المرجّحات المنصوصة باب لا يكاد يمكن الأخذ بفتحها ، ولا وجه للمنع عن التعدّي إلى غيرها ، إمّا لقلّة حصولها لنا اليوم وفي أخبارنا الموجودة بأيدينا ، أو لاستفادة جوازه عن نفس الروايات المتكفّلة لبيانها ، أو لإجماعهم قديما وحديثا خلفا عن سلف على عدم الاقتصار حتّى المطّلعين على تلك الروايات والمتعرّضين لبيان هذه المرجّحات.

المطلب الثالث

في بقايا أحكام المرجّحات واعلم ، أنّها تنقسم إلى الداخليّة والخارجيّة ، والمرجّح الداخلي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسها بأن تكون متقوّمة بما في الخبر من سند أو متن أو مضمون أو دلالة.

والمرجّح الخارجي كلّ أمارة خارجيّة مستقلّة في نفسها ، وهي إمّا أن تكون بحيث اعتبرها الشارع بالخصوص ، كالأصل إذا وافقه أحد المتعارضين بناء على إفادته الظنّ ، والكتاب بناء على أنّه المرجّح لا موافقته ، والفرق بين الاعتبارين أنّ الكتاب على تقدير الترجيح به يرجّح الأمر المردّد بين الصدور ووجه الصدور والمضمون ولم يتعيّن كونه مرجّحا لأحدها ـ وكذا الحال في سائر المرجّحات الخارجيّة على تقدير الترجيح بها ـ وموافقته ترجّح المضمون لأنّه عبارة عن موافقة مضمون الخبر للكتاب.

أو تكون بحيث منع منها الشارع كالقياس ونحوه ، أو تكون بحيث أهملها الشارع أي

٦٥١

لم يعتبرها ولم يمنع منها بالخصوص كالشهرة والاستقراء والأولويّة الظنّية ، وإطلاق المرجّح على القسم الأوّل مسامحة إذ يعتبر فيه عدم بلوغه حدّ الحجّية.

وعلى القسم الثاني مبنيّ على جواز الترجيح به كما نقله المحقّق في المعارج عن بعضهم على ما حكي ، والأقوى خلافه لعموم النهي عن العمل به وكونه ممّا محق به الدين.

وبالجملة مقتضى منع الشارع كون الاستناد إليه مبغوضا سواء قصد به أخذه مدركا للحكم أو مرجّحا لمدرك الحكم.

وأمّا القسم الأخير فهو المقصود بالبحث هنا من حيث جواز الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة وعدمه.

والمراد بالشهرة هنا هي الشهرة في الفتوى ، بأن أفتى المعظم بما وافق أحد المتعارضين من دون أن يعلم استنادهم فيها إليه ، سواء علم عدم استنادهم أو لم يعلم عدم استنادهم أيضا ، وهذه غير الشهرة في الرواية الّتي هي من المرجّحات الداخليّة ، وغير الشهرة الجابرة على ما هو المشهور من جبر ضعف الرواية بها ، فإنّها إنّما تتحقّق فيما كان استناد معظم الأصحاب في الفتوى إلى رواية ضعيفة فتكشف عن قوّة في نفس تلك الرواية وأمارة اعتبار ظفروا بها وأخذوا بموجبها.

ثمّ المرجّحات الداخليّة على أنواع :

منها : ما يرجّح به صدور الخبر على معنى أنّه يوجب كون احتمال الصدور فيه أقوى منه في معارضه ، وبعبارة اخرى كونه أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب كالأعدليّة والأصدقيّة وغيرها من صفات الراوي ، وكذلك المرجّحات المتنيّة كالأفصحيّة والأصدقيّة وغيرها من صفات الراوي ومنه الشهرة في الراوية ، فإنّ الخبر المشهور بسببها أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب ، كما ينّبه عليه التعليل بكون المجمع عليه لا ريب ، فإنّ الريب المحتمل في الخبر الشاذّ الّذي لا يحتمل في المشهور ليس إلاّ احتمال الكذب ، وجعلها من مرجّحات المضمون كما في كلام بعض مشايخنا ممّا لا نعرف وجهه.

ومنها : ما يرجّح وجه صدور الخبر ، ويوجب في أحد الخبرين احتمال الصدور على جهة بيان الواقع أقوى منه في الآخر ، ككون أحد الخبرين مخالفا لمذهب العامّة أو لعمل سلطان الجور أو قاضي الجور ، بناء على كون الخبر الموافق لأحد هذه صادرا على وجه التقيّة.

ومنها : ما يرجّح به دلالة الخبر ، ويوجب كونه أقرب دلالة من الآخر كالنصوصيّة

٦٥٢

والأظهريّة وغيرهما ممّا سيأتي من صغريات قوّة الدلالة وضعفها.

ومنها : ما يرجّح به مضمون الخبر ويوجب كونه أقرب إلى الواقع بالقياس إلى معارضه ، وملخّصه : أنّه يورث الظنّ بصدور مضمون أحد المتعارضين من الإمام ولو بلفظ آخر أو سند آخر كموافقة الكتاب ، ونحوه مخالفة العامّة بناء على أنّ الترجيح بها إنّما هو لما في أكثر الروايات من أنّ الرشد أو الحقّ في خلافهم ، والظاهر أنّ المرجّحات الخارجيّة على تقدير الترجيح به كلّها راجعة إلى المضمون ، فالشهرة الفتوائيّة مثلا توجب الظنّ بموافقة مضمون الخبر الموافق لها للواقع.

واعلم أنّ تربيع أنواع المرجّحات الداخليّة إنّما هو باعتبار ظاهر العنوان ، وإلاّ فأنواعها عند التحقيق لا تزيد على ثلاث ، لرجوع الأخير بحسب الواقع إلى أحد الثلاث الأول أعني الصدور أو الدلالة أو جهة الصدور على حدّ منع الخلوّ ، فإنّ أحد الخبرين المتعارضين إذا حصل الظنّ بموافقة مضمونه الواقع أو كون مضمونه أقرب إلى الواقع لزمه كون مضمون الآخر أبعد عن الواقع ، إمّا لحال في صدوره أو عيب في دلالته أو نقص في وجه صدوره.

وبعبارة اخرى : أنّه بواسطة وجود المرجّح للمضمون مع أحد الخبرين يظنّ إجمالا وقوع خلل في إحدى جهات الآخر وإن لم نعلمه بعينه ، فإمّا أنّه غير صادر من المعصوم ، أو أنّ ظاهره غير مراد وإن كان صادرا ، أو أنّه صدر على وجه التقيّة وإن كان مرادا به ظاهره ، فالمرجّح فيما له المرجّح يرفع في الواقع ذلك الخلل الموجود في إحدى جهات معارضه بحسب الواقع ، فإن كان الخلل في المعارض بحسب الواقع في صدوره فالمرجّح المذكور رافع لنحو ذلك الخلل عن صدور ما له المرجّح ، وإن كان في دلالته فالمرجّح رافع لنحوه عن دلالة ماله المرجّح ، وإن كان في جهة صدوره فالمرجّح رافع لنحوه عن جهة صدور ماله المرجّح.

ثمّ اعلم أنّ الافتقار إلى الترجيح الصدوري وغيره وإعمال مرجّحات الصدور وجهة الصدور وغيرها إنّما هو في الأدلّة اللفظيّة الظنّية ، إذ الدليل إذا كان قطعيّا من جميع الجهات الثلاث المذكورة ـ كالمتواترات المعنويّة أو المحفوفة بقرائن العلم ـ ملزوم للقطع بالحكم الواقعي فيه ، فلا معارض له بل لا يعقل فيه تعارض على ما سبق.

وإذا [ كان ] لبّيّا فلا يتصوّر له صدور ولا جهة صدور ، فإنّه عبارة عن أمر معنوي ومعنى نفسي أوجب العلم أو الظنّ به العلم أو الظنّ بالحكم الواقعي كالإجماع المحقّق

٦٥٣

والشهرة بناء على حجّيتها بالخصوص لا من حيث الظنّ المطلق.

نعم الإجماع إذا كان منقولا يصير من الأدلة اللفظيّة الظنّية فيطرأه الجهات الثلاث من الصدور وجهة الصدور والدلالة ، فقد تحصل الشبهة في صدوره ، وقد تحصل في جهة صدوره ، وقد تحصل في دلالته ، فظنّية الدليل إمّا من جهة ظنّية صدوره أو من جهة ظنّية جهة صدوره ، أو من جهة ظنّية دلالته على سبيل منع الخلوّ ، فقد يكون ظنّيا باعتبار دلالته مع قطعيّة صدوره وجهة صدوره كالكتاب ، وقد يكون ظنّيا باعتبار صدوره ودلالته مع قطعيّة جهة صدوره كالأخبار النبويّة ، وقد يكون ظنّيا باعتبار دلالته وجهة صدوره مع قطعيّة صدوره كالخبر المتواتر اللفظي الإمامي ، وقد يكون ظنّيا باعتبار الجهات الثلاث كالخبر الواحد الإمامي ، فجهات شبهة الخلل في الرواية لا يخلو عن هذه الثلاث ، وإن كانت الشبهة بالنسبة إلى الصدور قد ترتفع بعدالة الراوي وحجّية خبره ، وبالنسبة إلى جهة الصدور قد ترتفع بأصالة عدم التقيّة ، فالمرجّحات المعمولة لعلاج التعارض في الخبر الظنّي من الجهات الثلاث.

منها : ما يوجب الظنّ بالصدور خاصّة من غير دخل له في الدلالة وجهة الصدور.

ومنها : ما يوجب الظنّ بالدلالة خاصّة من غير دخل له في الصدور وجهته.

ومنها : ما يوجب الظنّ بجهة الصدور من غير دخل له بالصدور والدلالة.

ومنها : ما يتردّد بين الجميع ويصلح على البدل لكلّ منها ، كالمرجّح المضموني ومنه المرجّحات الخارجيّة على ما بيّنّاه.

ثمّ اعلم أنّ المرجّحات الداخليّة بعضها يعارض بعضا ، فالكلام في أحكام صور تعارضها وسائر ما يتعلّق بها وفي المرجّحات الخارجيّة يقع في مقامات :

المقام الأوّل

فيما يتعلّق بمرجّحات الصدور ومرجّحات جهة الصدور وضابط الفرق بينهما بحسب المفهوم كما أشرنا إليه أنّ مرجّح الصدور بحسب المفهوم عبارة عن كلّ مزيّة توجب قوّة في احتمال انتساب أحد الخبرين إلى الإمام من حيث الصدور على وجه ينقطع أو يضعف به احتمال عدم الصدور فيه بالقياس إليه في صاحبه.

ومرجّح جهة الصدور من حيث المفهوم عبارة عن كلّ مزيّة توجب قوّة في احتمال كون صدور أحد الخبرين لأجل بيان الحكم الواقعي على وجه ينقطع أو يضعف به احتمال الصدور لأجل بيان خلاف الواقع فيه بالقياس إليه في صاحبه.

٦٥٤

والأوّل مصاديقه بحسب الخارج غير محصورة ، إلاّ أنّها باعتبار المحلّ على نوعين يعبّر عنهما بمرجّحات السند ومرجّحات المتن ، ونحن نذكر نبذة من مصاديق كلّ من النوعين من باب المثال.

فمن مصاديق ما يرجع إلى السند : كون راوي أحدهما عدلا والآخر غير عدل مع كونه مقبول الرواية باعتبار كونه متحرّزا عن الكذب.

ومنها : كونه أعدل مع عدالة الآخر ، وقد يعرف الأعدليّة بالنصّ عليها أو يذكر فضائل ومناقب فيه لم تذكر في الآخر.

ومنها : كونه أصدق مع عدالتهما معا.

ومنها : كونه أضبط ، وقد يرجع الترجيح بهذه الامور إلى كون طريق ثبوت مناط اعتبار أحدهما وقبوله وهو العدالة أوضح من طريق الآخر وأقرب إلى الواقع ، كتعدّد المزكّي لأحدهما ، أو رجحان أحد المزكّيين على الآخر ، وقد يلحق بهذا الباب عدم التباس اسم المزكّى في أحدهما بغيره من المجروحين واشتباه الآخر باعتبار الاشتراك مع ضعف ما يميّز المشترك.

ومنها : علوّ الأسناد وهو قلّة الوسائط ، وقد يحدّد بأن لا يزيد الوسائط بين من يروي إلينا وبين الإمام على ثلاثة ، لوضوح أنّ الواسطة كلّما قلّت قلّ احتمال الكذب فيكون أقرب بمطابقة الواقع ، وعورض بندرة ذلك واستبعاد الإسناد فيما تباعد فيه أزمنة الرواة فيكون مظنّة الإرسال فالإحالة إلى نظر المجتهد أولى.

ومنها : أن يسند أحدهما ويرسل الآخر بحذف الواسطة مع كونه ممّن تقبل مراسيله ، وعلى تقدير كون إرساله توثيقا للواسطة فيحتمل كونه معارضا بجرح جارح.

ومنها : أن يكون راوي أحدهما متعدّدا وللآخر واحدا ، أو أن يكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر ، فإنّ التعدّد أقوى من الواحد والأكثر أقوى من الأقلّ.

ومن مصاديق ما يرجع إلى المتن : الفصاحة ، فالفصيح أقوى من الركيك لكونه أبعد عن كلام الإمام عليه‌السلام.

ومنها : الأفصحيّة على ما ذكره جماعة ، خلافا لآخرين فلم يلتفتوا إليها ولا يخلو عن وجه ، لعدم كون الفصيح في مقام بيان الأحكام الشرعيّة بعيدا عن كلام الإمام ولا الأفصح أقرب إليه.

٦٥٥

ومنها : الخلوص عن اضطراب المتن بالقياس إلى ما فيه اضطراب كما في أكثر روايات عمّار (١).

ومنها : كون أحدهما منقولا باللفظ والآخر بالمعنى فيحتمل فيه ما لا يحتمل في اللفظ المسموع بعينه.

والثاني أيضا ممّا لا حصر لمصاديقه بحسب الخارج ، فإنّ المصالح الباعثة للإمام على بيان خلاف الواقع أو إيراد الكلام بصورة خلاف الواقع وإن قصد به التورية كثيرة بل غير محصورة ، غير أنّ الغالب تحقّقه في أخبارنا الموجودة بأيدينا اليوم إنّما شيء واحد يعبّر عنه بأمارة التقيّة ، وهي موافقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف قبالا لما خالف ظاهره مذهبهم ، فيحكم على الأوّل بالصدور على وجه التقيّة ، وهو من وجوه الصدور لأجل بيان خلاف الواقع على بعض التقادير ، ويلزم منه الظنّ بكون صدور الثاني لأجل بيان الحكم الواقعي.

واعلم أنّ صدور الخبر على وجه التقيّة يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يريد به الإمام عليه‌السلام ظاهره المخالف للواقع لمصلحة التقيّة فيكون من الكذب الّذي سوّغته الضرورة.

وثانيهما : أن يريد به خلاف ظاهره المطابق للواقع من دون نصب قرينة عليه لمصلحة التقيّة ، وإذا فرضنا في كلام صادر منه تقيّة أنّ مصلحة التقيّة تتأدّى بكلّ منهما ـ كما لو قال : « غسل الرجلين في الوضوء واجب » مثلا حيث إنّ مصلحة التقيّة تحصل بإرادة ظاهر الغسل وبإرادة المسح منه من غير قرينة عليه ، فعلى الأوّل يصير كذبا وعلى الثاني مؤوّلا وتورية ـ ودار حمل كلامه على الكذب أو على التورية ، فقد يقال : إنّ الاولى من جهة الاعتبار بالنظر إلى العصمة ورتبة الإمامة وقضاء القوّة العاقلة الحكم عليه باختيار التأويل والحمل على التورية ، صونا لكلامه عن الكذب الّذي هو قبيح عقلا ومحرّم شرعا ولا يسوّغه إلاّ الضرورة ، ولا يكون مصلحة التقيّة من الضرورة المسوّغة له إلاّ حيث لا مندوحة عنه ، والتقيّة بطريق التورية مندوحة.

وفي كلام بعض مشايخنا قدس‌سره : « أنّ هذا أليق بالإمام بل هو اللائق إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية ».

ويشكل إطلاق ذلك بأنّ هذا إنّما يتّجه إذا كان هذا الدوران حاصلا في نظر الإمام كما

__________________

(١) أي عمّار الساباطي.

٦٥٦

هو حاصل عندنا ، على معنى كون مصلحة التقيّة الموجودة ثمّة الباعثة على إخراج الكلام مخرج التقيّة بحيث تتأدّى في نظره عليه‌السلام باختيار كلّ من الوجهين ، فله بل عليه اختيار الوجه الثاني حذرا عن الكذب الّذي لا ضرورة دعت إليه ، وهذا ممّا لا يتحقّق في حقّه مطّردا ، فإنّ التقيّة قد يكون قوليّة على معنى كونها حاصلة للإمام فأتي بكلام موافق ظاهره لمذهب العامّة لحفظ نفسه الشريف ودفع الضرر عن نفسه ، وقد تكون عمليّة بكونها حاصلة لمخاطبه المخالط لهم في عمله الموافق لمذهبهم فيأتي بقول موافق ظاهره لمذهبهم ، حملا له على العمل بما يوافق مذهبهم حفظا له عن القتل وغيره من أنواع الضرر كغسل الرجلين في الوضوء مثلا.

ولا ريب أنّ مصلحة التقيّة بكلا الوجهين إنّما تتأدّى في القسم الأوّل دون القسم الثاني ، ضرورة أنّه لولا إرادة الظاهر المطابق لمذهبهم الباعثة على تطبيق العمل في الظاهر على هذا المذهب لم يحصل الغرض من إيراد الكلام تقيّة.

ومن هنا يقال : إنّ التقيّة في موردها حكم ظاهري بل واقعي ثانوي ويحرم متابعة الواقع على من يعلمه ما دام موجبها قائما ، كمسح الرجلين مكان غسلهما لمن وقع في زمان التقيّة ، وعليه فالأخبار الخارجة مخرج التقيّة بالنسبة إلينا على أنواع :

منها : ما يعلم كون التقيّة المرعيّة فيه قوليّة ، فالأولى فيه الحمل على التورية.

ومنها : ما يعلم كون التقيّة المرعيّة فيه عمليّة ، ويتعيّن فيه الحمل على اختيار الكذب.

ومنها : ما يتردّد بين القسمين ، وهذا ممّا لا سبيل لنا إلى تعيين أحدهما ، ولا أصل في المقام يساعد على شيء منهما ، ولعلّه الغالب في الأخبار المحمولة على التقيّة.

فصل

إذا وقع التعارض بين مرجّح جهة الصدور كالمخالفة والموافقة [ للعامّة ] ومرجّح الصدور كالأعدليّة فيما ورد خبران أحدهما مرويّ عن عادل والآخر عن الأعدل مع موافقة رواية الأعدل لمذهب العامّة ، فهل الترجيح لمرجّح الصدور فيؤخذ برواية الأعدل ويحكم على رواية العادل بعدم الصدور ، أو لمرجّح جهة الصدور فيؤخذ بالخبر المخالف حملا له على بيان الواقع ويطرح الموافق حملا له على التقيّة أو غيرها من مصالح بيان خلاف الواقع؟

وينبغي التكلّم لتحقيق هذا المطلب أوّلا في أنّه هل يقع التعارض بين مرجّح جهة

٦٥٧

الصدور ومرجّحات الصدور أو لا؟ ثمّ النظر في ترجيح أحدهما على الآخر على تقدير وقوع التعارض ، والظاهر أنّ الحكم في المسألتين يختلف باختلاف الوجوه المحتملة في الترجيح بمخالفة العامّة ومرجّحيته ، فإنّ ذلك يحتمل وجوها :

أحدها : كونه لمجرّد التعبّد ، على معنى أنّ الشارع أوجب علينا الأخذ بما يخالف العامّة وطرح ما يوافقهم تعبّدا محضا من دون نظر إلى الواقع ، ولا إلى أنّ الأوّل مطابق للواقع أو أقرب إليه والثاني مخالف له أو أبعد عنه.

وملخّصه : كون الواقع بالمرّة ملغى في نظره ، كما هو المنساق من إطلاق كثير من الأخبار المتقدّمة الآمرة بالأخذ بما يخالفهم من دون تعليل له بما يأتي.

وثانيها : حسن مجرّد المخالفة ، على معنى أنّ المخالفة في نفسها مصلحة أوجبت كون الأخذ بالمخالف محبوبا ومطلوبا للشارع ، والموافقة لهم في نفسها مفسدة أوجبت كون الأخذ بالموافق مبغوضا للشارع وإن كان مؤدّاه حقّا ، نظير منع الاستناد إلى القياس وكونه مبغوضا وإن كان مؤدّاه حقّا ، كما ربّما يومئ إليه بعض الأخبار مثل مرسلة داود بن الحصين : « أنّ من وافقنا خالف عدوّنا ، ومن وافق عدوّنا في قول أو فعل فليس منّا ولا نحن منه » ورواية الحسين بن خالد : « شيعتنا المسلّمون لأمرنا الآخذون بقولنا المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منّا ، فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خالفوهم ما استطعتم ».

وثالثها : مطابقة المخالف لهم الواقع أو كونه أقرب إليه والموافق بخلافه ، كما يشهد له التعليل : « بأنّ فيه الرشاد » ، أو « أنّ الرشد في خلافهم » ، أو « أنّ الحقّ في خلافهم » في غير واحد من الأخبار المتقدّمة.

وفي معناها رواية عليّ بن أسباط قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الّذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ فقال : « ائت فقيه البلد واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه ».

وخبر أبي إسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّا صلوات الله عليه لم يكن يدين الله بشيء إلاّ خالف عليه العامّة إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه صلوات الله عليه عن الشيء الّذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا الحقّ ».

٦٥٨

ورابعها : كون الخبر الموافق يجري فيه من احتمال التقيّة ما لا يجري في الخبر المخالف إمّا للعلم بأنّه على تقدير الصدور إنّما صدر لبيان الواقع ، أو لكون احتمال التقيّة فيه أضعف منه في الآخر ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه ».

ومن الظاهر أنّ مرجّح الصدور لا يعارض مرجّح جهة الصدور على الوجه الأوّل ، لأنّ قضيّة إطلاق التعبّد الشرعي حسبما بيّنّاه طرح الخبر الموافق ولو كان رواية أعدل ، وكذلك على الوجه الثاني لأنّ موافقة مذهب العامّة إذا كانت في نفسها مفسدة قبالا لمصلحة المخالفة فلا تأثير لأعدليّة الراوي في رفعهما ، وكذلك على الوجه الثالث لأنّ مخالفة [ العامّة ] إذا أوجبت أقربيّة الخبر إلى الواقع وأبعديّة معارضه عن الواقع فلا يزاحمها أعدليّة راوي المعارض الموجبة لكونه أقرب إلى الصدور ، لأنّ غاية ما يقتضيه الترجيح به الحكم عليه بكونه صادرا عن المعصوم ، وهذا لا يلازم كونه أقرب إلى الواقع ، لأنّ الخبر قد يصدر تقيّة أو لا لبيان الواقع لمصلحة غير التقيّة.

وأمّا على الوجه الأخير فربّما يتراأى في بادئ النظر وقوع التعارض بينهما ، إذ المفروض عدم معلوميّة صدور الخبرين كما في المتواترين اللفظيّين وقضيّة مرجّح الصدور طرح الخبر المخالف على أنّه غير صادر ، ومقتضى مرجّح جهة الصدور طرح خبر الأعدل على أنّه على تقدير الصدور إنّما صدر على وجه التقيّة ، وهما مدلولان متنافيان ولا نعني من التعارض إلاّ هذا.

وبعبارة اخرى : أنّ كلاّ من المخالف والموافق أقوى احتمالا من الآخر في جهة وأضعف احتمالا منه في جهة اخرى ، ضرورة أنّ الخبر المخالف يحتمل فيه من عدم الصدور ما لا يحتمل في الخبر الموافق بملاحظة أعدليّة راويه فإنّه أبعد من الكذب والافتراء ، كما أنّ الخبر الموافق يحتمل فيه من الصدور تقيّة ما لا يحتمل في الخبر المخالف بملاحظة كونه مخالفا ، فللكلّ رجحان ومرجوحيّة.

وحينئذ فينبغي القطع بأنّ الترجيح إنّما هو لمرجّح الصدور ، لأنّ له نحو موضوعيّة لمرجّح جهة الصدور ، لأنّ الخبر إنّما يحكم عليه بكونه صدر لبيان الواقع بعد إحراز صدوره ، والصدور في المتعارضين يحرز بمرجّحه ، وأعدليّة الراوي في الخبر الموافق إذا أوجبت الحكم على الخبر المخالف بعدم الصدور فلا يبقى لمرجّح جهة الصدور محلّ يترجّح به

٦٥٩

على معارضه ، إذ المفروض عدم صدوره.

ولك أن تأخذ هذا البيان وجها لعدم وقوع التعارض بينهما على الوجه الأخير أيضا ، لأنّ مثلهما على هذا البيان مثل الأصل الموضوعي والأصل الحكمي ، فكما أنّ الأصل الموضوعي وارد على الأصل الحكمي برفعه موضوع الأصل الحكمي فلا يجري بعد انتفاء موضوعه حتّى يعارض الأصل الموضوعي ، ففيما نحن فيه أيضا لا موضوع لمرجّح جهة الصدور فلا يجري حتّى يعارض مرجّح الصدور.

ولعلّ هذا هو الوجه فيما هو في مقبولة ابن حنظلة من تقديم صفات الراوي الّتي هي مرجّحات الصدور على مخالفة العامّة ، وفرض الترجيح في صورة تساوي الخبرين من جهة صفات الراوي وغيرها ليحرز بها الصدور فيهما معا ، وعليه فمرجّحات الصدور كمرجّحات الدلالة ، فكما أنّ مرجّح جهة الصدور لا يعارض الدلالة على ما سنبيّنه ، فلو كان الخبر الموافق لمذهب العامّة أظهر وجب تقديمه وإرجاع الظاهر ـ وهو الخبر المخالف ـ إليه بتخصيص أو تقييد أو تأويل آخر ، فكذلك لا يعارض مرجّحات الصدور في شيء من الوجوه الأربع المتقدّمة ، وانتظر لتتمّة الكلام في ذلك في آخر المبحث.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الوجوه الأربع المذكورة لمرجّحيّة المخالفة والموافقة لا يتحصّل منها لنا اليوم إلاّ الوجه الأخير ، لأنّ غيره مبنيّ على كون الخبر الموافق موافقا لمذهب كلّهم أو أكثرهم أو ما اشتهر من مذهبهم ولو كان لبعضهم ، ولا سبيل لنا إلى العلم بشيء من هذه العناوين ، بل العلم بهما إنّما يتيسّر لأصحاب الأئمّة الموجودين في أعصارهم ومن قاربهم في العصر ممّن تأخّر عنهم ، وإنّما المتحصّل لنا اليوم الموافقة والمخالفة لمذهب بعضهم مع احتمال موافقة المخالف له لمذهب بعض آخر.

وقضيّة ذلك كون احتمال التقيّة في الموافق أقوى منه في المخالف ، وهذا هو عنوان الوجه الأخير الّذي عبّرنا عنه بأنّ الخبر الموافق يحتمل فيه من التقيّة ما لا يحتمل في الخبر المخالف ، فيكون أبعد عن التقيّة وأقرب إلى الواقع ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن في نحوه الحكم بالتعبّد في المخالف على هذا الوجه ، ولا الحكم بكون المخالفة في نفسها مصلحة ، ولا الحكم بمطابقته الواقع لقيام احتمال التقيّة والموافقة فيه أيضا.

غاية الأمر كونه أضعف منه في الخبر الموافق ، غير أنّ مجرّد ذلك الّذي مرجعه إلى أقلّيّة الاحتمال أيضا يصلح مرجّحا بناء على ما استفدناه من العلّة المنصوصة في المقبولة.

٦٦٠