تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

الله وعترتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (١).

ومنها : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأمر بالعرض على الكتاب ثمّ الأخذ بما وافقه دون غيره ، وهذا من أقوى الدلالة على أنّ المعروض والمعروض عليه بكليهما الطريق المجعول ، بل المعروض في المرجعيّة بحيث لا يخلّ بها طروّ المعارضة.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في ترغيب أصحابهم على ضبط الأحاديث وكتبها وفي مدح كتب جماعة منهم ، وفي إرجاع الناس إلى جماعة مخصوصين منهم ، وفي الأمر بكتابة الأحاديث كقوله عليه‌السلام للراوي : « اكتب وبثّ علمك في بني عمّك ، فإنّه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم » وفي أنّهم عليهم‌السلام لا يخلو كلّ واحد منهم من كذّاب يكذب عليه فلو لا العمل بأخبارهم متداولا بين أصحابهم ومرخّصا فيه من أئمّتهم عليهم‌السلام لم يكن لكذب الكذّابين ووضع الواضعين للأحاديث فائدة كما لا يخفى.

ومنها : ما في الأخبار الواردة في وضع الأحاديث من قوله عليه‌السلام : « فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا » وفي آخر : « فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن » حيث إنّهم عليهم‌السلام منعوا من قبول المخالف من الأخبار للقرآن والسنّة النبويّة لا من قبول سنخ الخبر ولو لا القبول مرضيّا له لوجب المنع عنه مطلقا ، إلى غير ذلك من الأخبار وقد تقدّم أكثر هذه الأنواع عند ذكر شبه الأخباريّة في منع الاجتهاد.

وبالجملة فالمستفاد من ملاحظة مجموع هذه الأنواع مضافة إلى أخبار اخر يأتي إليها الإشارة بطريق العلم واليقين إنّ الله تعالى لا يرضى في دينه وامتثال أحكامه بشيء إلاّ الاستناد إلى كتابه وسنّة نبيّه وسنّة خلفائه الأئمّة المعصومين وإن كان غيرها ممّا يؤدّي مؤدّاها أيضا وهذا واضح.

ولكن يشكل الحال في أنّ ظاهر أكثر هذه الروايات ـ وهو القدر المتيقّن في جملة منها ـ اعتبار العلم في المرجع ، على معنى الرجوع إلى ما علم كونه سنّة ، أي الأخذ بقول أو فعل أو تقرير معلوم بكونه كذلك.

ولكن يدفعه : أنّ هناك أخبارا متفرّقة اخر تكشف عن أنّ العبرة في إحراز السنّة بما يعمّ العلم والوثوق الظنّي وهي أيضا أنواع :

منها : ما تقدّم سابقا في رواية سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ سأله

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٩٤ ، ح ٣ ، الخصال : ٦٥ ، ح ٩٧ ، مسند احمد بن حنبل ٣ : ١٤.

١٠١

بقوله : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطلا ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدين ويفسّرون القرآن بآرائهم؟ قال : فأقبل عليّ عليه‌السلام فقال : قد سألت فافهم الجواب ، أنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصّا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله على عهده حتّى قام خطيبا فقال : « أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذابة ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّء مقعده من النار » ثمّ كذب عليه من بعده ، وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

منافق يظهر الإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله ، وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، إلى آخر ما قاله عليه‌السلام » (١).

وهذا كما ترى ـ مع دلالته على أنّ قبول الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من دأبهم وسيرتهم من غير نكير ولا منع من الإمام عليه‌السلام ـ يدلّ على أنّ العلم بالكذب أو كون الراوي كذّابا متّسما بالكذب مانع عن القبول لا أنّ العلم بالصدق شرط للقبول ، لا بمعنى أنّهم كانوا يقبلون الأحاديث إذا لم يعلموا بكذب رواتها كائنا ما كان ولو مع الشكّ في الصدق والكذب أو الظنّ بالكذب ، بل بمعنى ما أشار إليه عليه‌السلام بقوله عليه‌السلام : « لكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمع منه » إلخ ، فإنّ مصاحبة الرسول وسماع الحديث منه لا يصلح سببا للعلم بالصدق وإنّما هو أمارة ظنّ ووثوق بالصدق ، فدلّ الرواية على أنّهم كانوا يقبلون الأحاديث اعتمادا على أمارات الظنّ والوثوق ولم ينكر عليهم الإمام عليه‌السلام.

ومنها : الأخبار العلاجيّة الآمرة باعتبار الأعدليّة والأورعيّة والأصدقيّة والأفقهيّة ، فإنّ هذه الصفات امور يغلب معها الوثوق لا العلم ، ومثله الأمر بأخذ الخبر المشهور المجمع عليه وطرح الشاذّ النادر ، فإنّ ذلك أيضا ممّا له دخل في الوثوق ، بل في المرفوعة من هذه الأخبار أنّه قال : « خذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » حيث قيّد الأعدل والأوثق بما قيّد تنبيها على اعتبار وثوق الشخص دون ما يوجب وثوق النوع بأن يكون الوصفان

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٢ ، ح ١.

١٠٢

حاصلين للراوي في نظر النوع دون الشخص فقط.

وفي خبر أبي الجهم عن الرضا عليه‌السلام قلت : « يجيئان الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » حيث إنّ السؤال والجواب يدلاّن على أنّه لو انتفت الوثاقة عن أحد الخبرين كان الحقّ متعيّنا في الخبر الآخر.

وقضيّة ذلك كون مدار عملهم في الأخبار وجودا وعدما على وثاقة الراوي الّتي لا تصلح بنفسها سببا للعلم.

وفي خبر الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم » حيث إنّ فرض كون كلّهم ثقة يدلّ على أنّ الممنوع من العمل في نظر الإمام عليه‌السلام ما لو انتفى عنه وثاقة الراوي دون ما لا علم بصدوره ، ضرورة أنّ مجرّد الوثاقة لا توجب العلم.

ومنها : ما ورد من الأخبار في إرجاع أصحابهم إلى أشخاص موصوفين بالوثاقة وغيرها ممّا يوجب الوثوق ، كقوله لابن أبي يعفور ـ بعد ما سأله عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة ـ : « فما يمنعك عن الثقفي ـ يعني محمّد بن مسلم ـ فإنّه سمع من أبي أحاديث وكان عنده وجيها ».

وقوله عليه‌السلام لمسلم بن أبي حيّة : « إئت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا ، فما روى لك عنّي فاروه عنّي » (١).

وقوله عليه‌السلام لعليّ بن المسيّب ـ بعد السؤال عمّن يأخذ عنه معالم دينه ـ : « عليك بزكريّا ابن آدم المأمون على الدين والدنيا » (٢).

وما ورد في العمري وابنه اللذين هما من النوّاب والسفراء ، فعن الكافي في باب النهي عن التسمية عن الحميري عن أحمد بن إسحاق قال : سألت أبا الحسن وقلت له : من اعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقة فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون ».

وأخبرنا أحمد بن إسحاق أنّه سأل أبا محمّد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما

__________________

(١) رجال الكشّي : ٣٣١.

(٢) رجال الكشّي : ٥٩٥.

١٠٣

فإنّهما الثقتان المأمونان ».

وقوله عليه‌السلام : « نعم » لعبد العزيز المهدي لمّا قال له : ربّما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني قال : « نعم » (١) وقيل : ظاهر هذه الرواية أنّ قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي فسئل عن وثاقة يونس ليترتّب عليه أخذ المعالم منه.

وبالجملة هذه الأنواع من الروايات إذا انضمّت إلى الأنواع المتقدّمة كان مفاد المجموع مرجعيّة الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة في موضع الاطمئنان والوثوق بالصدق من أيّ سبب حصل ولو من غير جهة عدالة الراوي.

وقضيّة ذلك كلّه أن يكون العبرة في السنّة بما يعمّ السنّة المعلومة والسنّة الموثوق بها.

هذا كلّه من حيث السند ، وأمّا من حيث المتن والدلالة ودفع المعارضة فمسيس الحاجة إلى إعمال الظنون الاجتهاديّة لإحراز كلّ واحد من هذه الجهات ليتأتّى بها استفادة المطلب من الواضحات الّتي لا حاجة فيها إلى البيان وإقامة البرهان.

وقد يتمسّك لمشروعيّة الاجتهاد : بما ورد في الصحاح المستفيضة الّتي رواها زرارة وأبو بصير عن الباقر والصادق عليهما‌السلام والبزنطي عن الرضا عليه‌السلام وهو أيضا في جامعه عن هشام ابن سالم عن الصادق عليه‌السلام من قولهم عليهم‌السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا ».

قال بعض الأفاضل : « ومن البيّن أنّ تفريع الفروع على الاصول والقواعد لا يكون غالبا إلاّ على سبيل الظنّ ، إذ دلالة العمومات على حكم كلّ من الجزئيّات المندرجة فيها إنّما تكون في الغالب على سبيل الظهور دون التنصيص ، وأيضا كثير من التفريعات ممّا يختلف فيه الأنظار ويتفاوت الأفهام في إدراجها تحت القواعد المقرّرة ، وكثيرا مّا لا يتأتّى الحكم باندراج الفرع تحت أصل معيّن إلاّ على سبيل يندرج فيها المداليل الالتزاميّة المفهومة بتوسّط الخطاب ، كدلالة الأمر بالشيء على الأمر بمقدّمته ودلالة النهي على الفساد » انتهى (٢).

لكن نوقش فيه : بالمنع من شمولها للتفريعات الظنّية فلا يفيد.

وعن بعض المحدّثين الإيراد عليه أيضا : بأنّه لا دلالة في الأخبار المذكورة على صحّة الاجتهاد الظنّي في أحكام الله تعالى ، فإنّ مفادها الأخذ بالقواعد الكلّية المأخوذة من أهل العصمة كقولهم عليهم‌السلام : « إذا اختلط الحلال بالحرام غلّب الحرام » وقولهم عليهم‌السلام : « كلّ

__________________

(١) رجال الكشّي : ٤٨٧.

(٢) هداية المسترشدين ٣ : ٦٧٧.

١٠٤

شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » وقوله عليه‌السلام : « الشكّ بعد الانصراف لا يلتفت إليه » وقولهم عليهم‌السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ وإنّما ينقضه بقين آخر ».

وذلك : أنّ الأنظار العقليّة إذا كانت مادّة الفكر فيها وصورته مأخوذين عن أهل العصمة فلا ريب في جواز العمل بها لأنّه معصوم عن الخطأ ، ولا شكّ أنّ مفاد الأخبار المذكورة هو التفريع على الاصول المأخوذة عن الأئمّة عليهم‌السلام خاصّة. وهو عين مذهب الأخباريّين وخلاف دعوى المجتهدين.

ووهنه واضح لمن له أدنى تأمّل ، فإنّ الاصول يراد بها هنا الأحكام الكلّية المأخوذة في القضايا المنصوصة لوازم لعناوين كلّية مأخوذة في تلك القضايا موضوعات لتلك الأحكام ، وهذه اللوازم قد تكون بأنفسها ملزومات لأحكام كلّية اخر هي بالقياس إلى هذه العناوين أيضا لوازم بالواسطة ، والتفريع مقول بالاشتراك على إجراء هذه الأحكام في الجزئيّات المندرجة تحت ملزوماتها وعلى ترتيب لوازمها الّتي هي من آثارها على تلك الملزومات.

ومن البيّن أنّ الجزئيّات قد تكون بين ظاهرة وخفيّة ، كما أنّ اللوازم قد تختلف في كونها بيّنة اللزوم وغير بيّنة اللزوم ، والجزئي قد يكون ثابت الجزئيّة ويشكّ مع ذلك في شمول القضيّة المنصوصة له وعدمه ، وقد يكون الشيء مشكوكا في جزئيّته لشبهة في الاندراج أو في الصدق ، واللازم قد يكون مع ثبوت لزومه للحكم مشكوك الثبوت لملزومه ، وقد يتوقّف في لزومه له على وسط عقلي أو نقلي.

ولا ريب أنّ التفريع لو اريد به ما هو على الوجه الكلّي لا يتأتّى إلاّ بعد إعمال ظنون اجتهاديّة كثيرة يحرز بها شمول القضيّة لما شكّ في شمولها له أو الفرديّة لما شكّ في فرديّته من جهة الاندراج أو الصدق ، أو ثبوت لازم الحكم لما هو ملزوم له أو لزوم ما شكّ في لزومه للحكم ليترتّب على ملزومه ، ولو اريد بالتفريع مجرّد إجراء الحكم في الأفراد الظاهرة وترتيب اللوازم البيّنة لا غير فهو من مقتضى ظاهر القضيّة ، إذ كلّ قضيّة منصوصة تنصرف بظاهر العرف إلى أفرادها الظاهرة ولوازمها البيّنة من غير حاجة له إلى إعمال نظر ولا اعتبار فكر ، فيبقى التفريع المأمور به في الروايات بلا مورد ، لظهورها في كون المراد بالتفريع المأمور به ما يتوقّف في حصوله على عمل من الراوي ويحتاج في تحقّقه إلى نظر وفكر منه.

والحاصل نصوص الباب ظاهرة في ترخيص رواتها في الاجتهاد بإعمال الظنون الاجتهاديّة وحملهم على إعمال النظر والفكر اللذين يقصر أصل القضيّة المتلّقاة عن الإمام عن إفادة مؤدّاهما.

١٠٥

ثمّ الأصل المنصوص به قد يعارضه أصل آخر منصوص به بنحو التباين فيتوقّف العمل بهما على اعتبار التخصيص في كليهما بشاهدين خارجيّين ، أو بنحو العموم من وجه فيتوقّف الأخذ بهما على اعتبار التخصيص في أحدهما بشاهد ويعيّن مورده ، أو بنحو العموم مطلقا فيتوقّف العمل على تحكيم الخاصّ على العامّ ، وقد يحكّم العامّ على الخاصّ إذا طرأه ما يوجب وهنه من مخالفة الشهرة وذهاب المعظم إلى خلافه ونحوه ، وفي العامّين من وجه قد يكون أحدهما أظهر من الآخر وهو يقتضي بنفسه الحكومة على الآخر ، وقد يكون أقلّ أفرادا من صاحبه فيقتضي الحكومة أيضا ، وقد يكون التخصيصات الواردة عليه من الخارج أقلّ منها في صاحبه وهو أيضا يقتضي الحكومة ، ومعلوم أنّ التفريع المأمور به في نصوص الباب لا يتأتّى إلاّ بعد مراعاة جميع هذه الجهات وهذه بعينها هي معنى الاجتهاد الظنّي الّذي هو عبارة عن إعمال ظنون اجتهاديّة.

فمذهب الأخباريّين في العمل بتلك النصوص إن كان منوطا بمراعاة جميع هذه الجهات فارتفع النزاع بينهم وبين المجتهدين ورجع الخلاف بين الفريقين إلى كونه لفظيّا ، ولعلّه من هنا قد يقال : إنّ الأخباريّين مجتهدون من حيث لا يعلمون ، وإن لم يكن منوطا بمراعاتها فهم منكرون لتلك النصوص وليسوا بعاملين بها وهو خلاف طريقتهم المعروفة من أنّهم لا يتعدّون عن مقتضيات الأخبار المرويّة عن أهل العصمة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الفاضل الأمين الأسترآبادي بعد ما أورد في نفي الاجتهاد وردّ المجتهدين بما تقدّم منه من الوجوه الّتي سمعت دفعها عقد في كتابه الموسوم بـ « الفوائد المدنيّة » بابا على حدة في بيان انحصار المرجع في السماع عن الصادقين عليهما‌السلام وخصّه بغير ضروريّات الدين من المسائل الشرعيّة أصليّة كانت أو فرعيّة وتمسّك له بوجوه سخيفة :

أوّلها : عدم ظهور دلالة قطعيّة وإذن في جواز التمسّك في نظريّات الدين بغير كلام العترة الطاهرة ، ولا ريب في جواز التمسّك بكلامهم فتعيّن ذلك ، والأدلّة المذكورة في كتب العامّة وكتب متأخّري الخاصّة على جواز التمسّك بغير كلامهم مدخولة أجوبتها واضحة.

وثانيها : الحديث المتواتر بين الفريقين « إنّي تارك فيكم الثقلين [ ما ] إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (١) ومعنى الحديث كما يستفاد من الأخبار المتواترة أنّه يجب التمسّك بكلامهم إذ حينئذ يتحقّق التمسّك

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، الكافي ١ : ٢٩٤ ، ح ٣ ، الخصال : ٦٥ ، ح ٩٧.

١٠٦

بمجموع الأمرين ، والسرّ فيه : أنّه لا سبيل إلى فهم مراد الله تعالى إلاّ من جهتهم لأنّهم عارفون بناسخه ومنسوخه ، والباقي منه على الإطلاق والمأوّل وغير ذلك دون غيرهم ، خصّهم الله تعالى والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك.

وثالثها : أنّ كلّ طريق غير التمسّك بكلامهم يفضي إلى اختلاف الفتاوى والكذب على الله تعالى ، وكلّ ما هو كذلك مردود غير مقبول عند الله لما تقدّم من الروايات المتواترة معنى.

ورابعها : أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك إنّما يعتبر من حيث إفادة الظنّ بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى وبنفيها.

وخامسها : أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار بأنّ مراده تعالى من قوله : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) ومن نظائرها من الآيات أنّه يجب سؤالهم عليهم‌السلام في كلّ ما لم نعلم.

وسادسها : أنّ العقل والنقل قاضيان بأنّ المصلحة في بعث الرسل وإنزال الكتب رفع الاختلاف والخصومات بين العباد ليتمّ نظام معاشهم ، فإذا كان من القواعد الشرعيّة جواز العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها لفاتت المصلحة ، لحصول الاختلاف والخصومات كما هو المشاهد.

وسابعها : التوقيع المنقول بطرق واضحة ـ كما سيجيء بيانه ـ المشتمل على قول إمام الزمان ناموس العصر والأوان سلام الله عليه : « أمّا الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم » (٢) ونظائره من الروايات.

وثامنها : قوله عليه‌السلام : « هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة » (٣).

وتاسعها : دقيقة شريفة تفطّنت بها بتوفيق الله تعالى وهي أنّ العلوم النظريّة قسمان : قسم ينتهي إلى مادّة قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ، والسبب فيه أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة أو من جهة المادّة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقيّة وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم لقرب الموادّ فيها إلى الإحساس.

__________________

(١) النمل : ٤٣.

(٢) الاحتجاج : ٢ : ٤٧٠.

(٣) الكافي ١ : ٤٠ ، ح ٣.

١٠٧

وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ، كقولهم : « الماهيّة لا تتركّب من أمرين متساويين » وقولهم : « نقيضا المتساويين متساويان » ومن ثمّ وقع الاختلاف والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة وبين علماء الإسلام في اصول الفقه والمسائل الفقهيّة وعلم الكلام وغير ذلك من غير فيصل.

والسبب في ذلك ما ذكرناه من أنّ القواعد المنطقية إنّما هي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة ، إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام ، وليس في المنطق قاعدة بها يعلم أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من تلك الأقسام ، بل من المعلوم عند اولي الألباب امتناع وضع قاعدة تكفّل بذلك.

وممّا يوضح ما ذكرناه من جهة النقل الأحاديث المتواترة معنى الناطقة : « بأنّ الله تعالى أخذ ضغثا من الحقّ وضغثا من الباطل فمغثهما ثمّ أخرجهما إلى الناس ، ثمّ بعث أنبياءه يفرّقون بينهما ففرّقتهما الأنبياء والأوصياء ، فبعث الله الأنبياء ليفرّقوا (١) ذلك ، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضّل الله ومن يختصّ ، ولو كان الحقّ على حدة والباطل على حدة كلّ واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبيّ ولا وصيّ ، ولكن خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمّة من عباده » (٢).

وممّا يوضحه من جهة العقل ما في الشرح العضدي للمختصر الحاجبي حيث قال في مقام ذكر الضروريّات القطعيّة :

منها : المشاهدات الباطنيّة وهي ما لا يحتاج إلى عقل كالجوع والألم.

ومنها : الأوّليات وهي ما يحصل بمجرّد العقل كعلمك بوجودك ، وإنّ النقيضين يصدق أحدهما.

ومنها : المحسوسات وهي ما يحصل بالحسّ.

ومنها : التجربيّات وهي ما يحصل بالعادة كإسهال المسهل والإسكار.

ومنها : المتواترات وهي ما يحصل بالأخبار تواترا كبغداد ومكّة.

وحيث قال في مقام ذكر الضروريّات الظنّية : أنّها أنواع : الحدسيّات كما نشاهد نور

__________________

(١) في المصدر : ليعرفوا ذلك.

(٢) رجال الكشّي : ٢٧٥ ، ح ٤٩٤.

١٠٨

القمر يزداد وينقص بقربه وبعده من الشمس فنظنّ أنّه مستفاد منها ، والمشهورات كحسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم ، وكالتجربيّات الناقصة وكالمحسوسات الناقصة ، والوهميّات ما يتخيّل بمجرّد الفطرة بدون نظر العقل أنّه من الأوّليات مثل كلّ موجود متحيّز ، والمسلّمات ما يتسلّمه الناظر من غيره (١).

وحيث قال في مقام ذكر أصناف الخطأ في مادّة البرهان : الثالث جعل الاعتقاديّات والحدسيّات والتجربيّات الناقصة والظنّيات والوهميّات ممّا ليس بقطعيّ كالقطعي وإجراؤها مجراه وذلك كثير (٢).

وحيث قال في مبحث الإجماع : والجواب أنّ إجماع الفلاسفة على قدم العالم عن نظر عقلي وتعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ، وأمّا في الشرعيّات فالفرق بين القاطع والظنّي بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز انتهى كلامه (٣).

فإن قلت : لا فرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ، والشاهد على ذلك ما نشاهده من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في الاصولين وفي الفروع الفقهيّة.

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة إلى المقدّمة النقليّة الظنّية أو القطعيّة.

ومن الموضحات لما ذكرناه من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر : أنّ المشّائين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين. وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولي ، والإشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وفي أنّ الشخص الأوّل باق وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال.

ومن الموضحات لما ذكرناه أنّه لو كان المنطق عاصما عن الخطأ من جهة المادّة لم يقع بين فحول العلماء العارفين بالمنطق اختلاف ، فلم يقع غلط في الحكمة الإلهيّة وفي الحكمة الطبيعيّة وفي علم الكلام وعلم اصول الفقه والفقه كما لم يقع في علم الحساب وفي علم الهندسة.

إذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا عن الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه ، ومن المعلوم أنّ العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا.

__________________

(١) شرح القاضي : ١٩.

(٢ و ٣) شرح القاضي : ٣٤ و ١٢٦.

١٠٩

ألا ترى أنّ الإماميّة استدلّت على وجوب عصمة الإمام بأنّه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ وذلك محال لأنّه قبيح عقلا.

وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه : أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى أصلا سواء كان ظنّي الدلالة أو ظنّي المتن أو ظنّيهما.

والعجب كلّ العجب أنّ جمعا من الأفاضل القائلين بصحّة هذا الدليل رأيتهم قائلين بجواز العمل بالدليل الظنّي ونبّهتهم على تنافي لازميهما فلم يقبلوا ـ إلى أن قال ـ :

فائدة شريفة نافعة فيها توضيح لما اخترناه من أنّه لا عاصم عن الخطأ في النظريّات الّتي مبادئها بعيدة عن الإحساس إلاّ التمسّك بأصحاب العصمة صلوات الله عليهم ، وهي أن يقال : الاختلافات الواقعة بين الفلاسفة في علومهم والواقعة بين علماء الإسلام في العلوم الشرعيّة السبب فيها إمّا أنّ أحد الخصمين ادّعى بداهة مقدّمة هي مادّة الموادّ في بابها وبنى عليها فكره والخصم الآخر ادّعى بداهة نقيضها أو استدلّ على صحّة نقيضها وبنى عليها فكره أو منع صحّتها ، وإمّا أنّ أحد الخصمين فهم من كلام خصمه غير مراده ولم يخطر بباله مراده فاعترض عليه ولو خطر بباله مراده لرجع عن ذلك.

وبالجملة سبب الاختلاف إمّا إجراء الظنّ مجرى القطع ، أو الذهول والغفلة عن بعض الاحتمالات أو التردّد والحيرة في بعض المقدّمات ، ولا عاصم عن الكلّ إلاّ التمسّك بأصحاب العصمة صلوات الله وسلامه عليهم ، والمنطق بمعزل عن أن ينتفع به في هذه المواضع ، وإنّما الانتفاع به في صورة الأفكار فقط » (١) انتهى.

أقول : قد عرفت الجواب عن أكثر هذه الوجوه بصريح ما تقدّم وتعرف الجواب عن الباقي أيضا بالتأمّل فيما سبق.

ومع الغضّ عن ذلك فنقول هنا :

أوّلا : أنّ تخصيص الصادقين بالذكر مع أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كلّهم في حكم واحد غير واضح الوجه ، إلاّ أن يكون المراد بالصادق هنا معناه الوصفي مرادا به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ عليه‌السلام.

وثانيا : أنّ خصوصيّة السماع منهما ممّا لا مدخل لها أصلا ولم يقل باعتبارها أحد منّا ، ولا سبيل إليها في شيء من أعصارنا بل الأعصار القديمة حتّى أعصار الأئمّة بل عصر النبيّ أيضا بالنسبة إلى غالب المكلّفين النائين الغير المتمكّنين من الوصول إليهم والسماع

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : (٢٥٤ ـ ٢٦٠).

١١٠

عنهم ، بل المعهود المعلوم من طريقتهم عدم اعتبار السماع حتّى في حقّ المتمكّنين منه كما لا يخفى ، إلاّ أن يراد بالسماع الكلام المسموع من باب إيراد المصدر وإرادة المفعول ، بدعوى : أنّ المرجع لا بدّ وأن يكون كلامهم عليهم‌السلام.

فيرد عليه أيضا : أنّ خصوصيّة الكلام أيضا ممّا لا مدخل له ، بل المرجع لابدّ وأن يكون ما يرجع إليهم عليهم‌السلام من قول أو فعل أو تقرير.

إلاّ أن يكون ذكر الكلام من باب المثال أو يراد به ما يعمّ الامور الثلاث.

فيرد عليه حينئذ : أنّه إن اريد بكلامهم ما علم كونه كلاما لهم كما هو مقتضى الوجوه المذكورة فهذا طريق لا سبيل إليه في هذه الأعصار وغيرها إلى ما يقرب من عصر الأئمّة عليهم‌السلام بالنسبة إلى معظم الأحكام كما عرفته مرارا.

ودعوى علميّة أخبارنا الموجودة أو خصوص المودعة في الكتب الأربعة قد عرفت أنّها دعوى كاذبة غير مسموعة ، والوجوه المتقدّمة في الدلالة على هذه الدعوى قد ظهر لك فسادها وعدم استلزامها المدّعى.

وإن اريد به ما يعمّ الكلام المعلوم والموثوق به فهذا ممّا لا ينكره المجتهدون من أصحابنا وليس في طريقتهم ما ينافي ذلك ، لما بيّنّاه سابقا من أنّ مرجع تمسّكهم بجميع الأسباب الظنّية إلى التمسّك بكلام العترة الطاهرة بهذا المعنى ، فهم أيضا في جميع المسائل الشرعيّة لا يستندون إلاّ إلى كلام العترة غير أنّه عندهم أعمّ ممّا علم أو ظنّ به تفصيلا أو إجمالا.

فحقيقة مرادهم بالظنّ المطلق في نفس أحكامه تعالى لابدّ وأن ترجع إلى الظنّ المطلق الناشئ من الظنّ المطلق المتعلّق بكلامهم عليهم‌السلام ، كيف ولو لا ذلك لا متنع الظنّ بنفس الحكم أيضا.

وتوضيحه : أنّ الظنّ بالشيء كالقطع به لابدّ وأن يستند إلى سبب بينه وبين ذلك الشيء ملازمة عرفيّة أو عقليّة أو شرعيّة ، وظنّية النتيجة إمّا من جهة ظنّية هذه الملازمة الّتي مرجعها إلى ظنّية الكبرى ، أو من جهة ظنّية الملزوم في تحقّقه الخارجي الّتي مرجعها إلى ظنّية الصغرى ، أو من الجهتين معا اللّتين مرجعهما إلى ظنّية الصغرى والكبرى معا.

ثمّ الملازمة بين شيئين المأخوذة في الكبرى إمّا من جهة كون الملزوم بالقياس إلى لازمه وهو الأكبر واسطة في ثبوته كما لو كان علّة له كما في الأدلّة اللمّية ، أو من جهة كونه

١١١

واسطة في إثباته فقط كما لو كان معلولا له ، أو أثرا آخر من آثاره ولو من غير جهة ولمعلوليّة ولو لمجرّد العلاميّة كما في الأدلّة الإنّية.

ومن المعلوم أنّ الملازمة بكلا قسميها بحسب الواقع ثابتة فيما بين الأحكام الشرعيّة وعللها الواقعيّة وكواشفها المنحصرة غالبا في كلام العترة الطاهرة ولا إشكال في ثبوتها ، فأصل ثبوتها يقينيّ ، فظنّية الأحكام لا تعقل أن يكون من جهة ظنّية أصل الملازمة في الغالب ، وإنّما هي من جهة ظنّية الملزوم في تحقّقه الخارجي إمّا للظنّ بالعلّة كما في موارد القياس ، أو للظنّ بكلام العترة الطاهرة كما في موارد الأسباب المعمولة عند أصحابنا كالإجماع بقسميه والشهرة والاستقراء والمنقول بأخبار الآحاد وغيرها ، ضرورة أنّ هذه الامور إذا لو حظت في حدّ أنفسها مع قطع النظر عن جهة كشفها عن الحجّة ـ المنحصرة بعد كلامه تعالى في قول العترة الطاهرة ـ كشفا تفصيليّا أو إجماليّا امتنع إفادتها الظنّ بأحكامه تعالى لعدم علقة بينها من هذه الجهة وبين الأحكام أصلا ولا ربط بينهما رأسا ، وحيث إنّ العلم بالملزوم بأحد الوجهين متعذّر غالبا لانسداد باب العلم في معظم الأحكام الشرعيّة فانحصر الطريق المسلوك في الظنّ به كائنا ما كان ، غير أنّا قد منعنا عن اتّباع الظنّ المتعلّق بالحكم من جهة الظنّ بعلّته ، فانحصر طريقنا في أحد قسمي ظنّية الملزوم وهو الظنّ بالحكم من جهة الظنّ بما يرجع إلى العترة الطاهرة وهو الكلام بالمعنى الأعمّ من القول والفعل والتقرير.

فالاعتراف بكون المدرك المعتبر أعمّ من كلامهم المعلوم وكلامهم الموثوق به اعتراف بصحّة طريقة أصحابنا المجتهدين فارتفع النزاع بالمرّة.

نعم انحصرت المخالفة فيما بين طريقة الأخباريّين وطريقة المجتهدين من المخالفين لالتزامهم بغير طريقة المجتهدين من أصحابنا.

وقد عرفت أنّهم أيضا يخالفون مخالفيهم في سلوك غير طريقتهم ، فأدلّة الأخباريّة المقامة في منع الاجتهاد لو صحّت مقامة في إبطال طريقة المخالفين ، وهذا أمر مسلّم لدى عامّة الأصحاب بل يعدّ عندهم من ضروريّات مذهبهم ، ومعه لا حاجة إلى تجشّم الاستدلال ثمّ تجشّم تكثير الدليل كما لا يخفى.

هذا كلّه في الجواب عن الوجوه المذكورة على الجملة.

وأمّا الجواب عنها على التفصيل فعن أوّلها : بأنّه لا يظنّ في أصحابنا بأحد يجوّز

١١٢

التمسّك في نفس أحكامه تعالى بما لا يرجع إلى كلام العترة الطاهرة أصلا.

ولقد تقدّمت الأدلّة القطعيّة على أنّ كلامهم الّذي يجب التمسّك به أعمّ من المقطوع به ومن المظنون الموثوق به وإن استلزم ذلك كون الحكم في الغالب مظنونا ، إلاّ أنّ العمل بهذا الظنّ عمل في الحقيقة بالقطع المتعلّق به والعمل به على هذا الوجه ممّا لا مناص عنه ، كيف واعتبار كونه بنفسه معلوما من جهة كلامهم ممّا لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز مقدّمات عديدة علميّة :

إحداها : العلم بأصل كلامهم.

وثانيتها : العلم بكون صدوره على جهة بيان الواقع لا على جهة التقيّة.

وثالثتها : العلم بمتون الكلام المعلوم صدوره منهم.

ورابعتها : العلم بمراداتهم من تلك المتون المعلومة كونها منهم بكون دلالاتها على جهة النصوصيّة ولو بمعونة القرائن القطعيّة.

وخامستها : العلم بعدم معارض له من كلامهم وما هو بحكم كلامهم أو دفع معارضة المعارض بطريق علمي.

ومن المعلوم بحكم الضرورة تعذّر العلم في الغالب من جميع هذه الجهات لانسداد باب العلم إلى إحراز هذه المقدّمات بأسرها ، ومعه كيف يعتبر كون الحكم الشرعي في جميع المسائل الشرعيّة بنفسه معلوما؟ فبعد سقوط العلم عن درجة الاعتبار تعيّن الأخذ بالظنّ المتعلّق بنفس الحكم غالبا لكون الأخذ به في الحقيقة أخذا بالعلم المتعلّق به.

وعن ثانيها : بما يظهر بالتأمّل فيما ذكر ، فإنّ أصحابنا المجتهدين عاملون بمضمون هذا الحديث الشريف غير خارجين عنه ، بل حقّ العمل به ـ على ما هو ظاهره من استقلال كلّ من الثقلين في كونه مرجعا يتمسّك به ـ ما بنوا عليه من التمسّك بالكتاب أيضا مستقلاّ ، ولا مخرج عنه ليوجب سقوط القرآن عن الاستقلال في إفادة بعض الأحكام وتقيّده بمورد وجود التفسير من كلام العترة ، وما ورد في الأخبار المتواترة من أنّ علم القرآن مخصوص بهم منحصر فيهم لا ينافي ذلك ، لكون المعلوم من ملاحظة مجموع هذه الأخبار أنّ العلم بمجموع القرآن أو العلم بظواهره وبواطنه مخصوص بهم ، وهذا لا ينافي كون غيرهم متمكّنا من العلم ببعضه.

والّذي لا يتمكّن منه غيرهم إنّما هو العلم بمتشابهاته وبواطنه الخارجة عن قانون

١١٣

الظواهر ، ومورد استفادة الأحكام منه إنّما هو محكماته. ودعوى عروض الإجمال لها بأسرها غير مسموعة ، كما أنّ دعوى قيام المنع من الأخذ بظواهره من أهل العصمة بالخصوص غير مسموعة ، ومجرّد وجود الناسخ والمنسوخ وغيرهما فيه لا يقضي بالمنع بعد ما كان كلّ من ذلك مضبوطا في محلّه معلوما لدى أهله ، وإلاّ فهذه الامور كما أنّها موجودة في القرآن كذلك في السنّة النبويّة على ما ورد به النصوص ، بل في السنّة الإماميّة أيضا على بعض الوجوه خصوصا العامّ والخاصّ والمحكم والمتشابه والظاهر والمأوّل على ما نطق به النصوص.

وعن ثالثها : بما يظهر أيضا بالتأمّل فيما ذكر ، إذ لا طريق لنا غير التمسّك بكلامهم بالمعنى الأعمّ من المقطوع به والموثوق به ، مع أنّ أكثر الاختلافات الحاصلة فيما بين الأصحاب في المسائل الشرعيّة إنّما نشأت عن الاختلاف الموجود في الأخبار كما هو المصرّح به في كلام العلماء الأخيار المنصوص به في آثار الأئمّة الأطهار ، فمن الأوّل ما تقدّم نقله عن شيخ الطائفة ورئيس الفرقة في أوّل تهذيبه ، حتّى أنّ هذا الاختلاف في الشدّة والظهور صار بحيث أوجب عدّه عند المخالفين من مطاعن الشيعة ، بل أوجب تزلزل جماعة من الشيعة في حقيقة مذهبهم ، بل عدول بعض قاصريهم عن التشيّع بعد ما كان من الشيعة.

وإن شئت لاحظ عبارة التهذيب حيث يقول : « ذاكرني بعض الأصدقاء ممّن أوجب حقّه بأحاديث أصحابنا وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضادّ حتّى لا يكاد يتّفق خبر إلاّ وبإزائه ما يضادّه ، ولا يسلم حديث إلاّ وفي مقابلته ما ينافيه ، حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرّقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا ، وذكروا أنّه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الّذي يدينون الله تعالى به ويشنّعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع ويذكرون أنّ هذا ممّا لا يجوز أن يتعبّد به الحكيم ، ولا أن يبيح العمل به العليم ، وقد وجدناكم أشدّ اختلافا من مخالفيكم وأكثر تباينا من مبائنيكم ، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل ، حتّى دخل على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ لمّا اشتبه عليه الوجه وعجز عن حلّ الشبهة فيه ، سمعت شيخنا أبا عبد الله يذكر أنّ أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحقّ ويدين بالإمامة فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره لمّا لم يتبيّن له وجوه المعاني فيها » إلى آخر ما قال.

١١٤

ومن الثاني الأخبار الدالّة على وقوع الخلاف في الأحاديث من المعاندين أو من المعصومين ، فمن جملة ذلك ما تقدّم في أخبار الدسّ ووضع الأحاديث الكاذبة ، ومن جملته ما تقدّم من رواية سليم بن قيس الهلالي المرويّة في الكافي من قوله : « وإنّما أتاكم الحديث من أربعة » ومثله ما نقل في كلامه عليه‌السلام المنقول عن نهج البلاغة.

ومن جملته ما دلّ على أنّهم بأنفسهم أوقعوا الخلاف بين أصحابه لحقن دمائهم ، كما في المرويّ عن الكافي في الموثّق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاء رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يابن رسول الله رجلان من العراق من شيعتكم قدما ما يسألان فأجبت كلّ واحد بغير ما أجبت به صاحبه؟

فقال : « يا زرارة إنّ هذا خير لنا ولكم ، فلو اجتمعتم على أمر لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم » قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل جواب أبيه.

وفي المرويّ عن كتاب العدّة مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت ، فقال : « أنا خالفت بينهم ».

والمرويّ عن الكافي أيضا بسنده عن موسى بن أثيم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله فأخبره بها ، ثمّ دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأوّل ، فدخلني من ذلك ما شاء الله ـ إلى أن قال ـ : فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بما أخبرني وأخبر صاحبي فسكنت نفسي وعلمت أنّ ذلك منه تقيّة. ثمّ التفت إليّ وقال : « يا ابن أثيم إنّ الله فوّض إلى سليمان بن داود فقال ( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) وفوّض إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) فما فوّض إلى رسول الله فقد فوّض إلينا » إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة في هذا المعنى ، فتبيّن من ذلك أنّ الاختلاف قد يكون من مقتضى الحكمة الإلهيّة.

وبالجملة الاختلاف في الفتاوي مشترك اللزوم.

نعم يستحيل وقوعه مع التمسّك بكلام مسموع منهم شفاها مع انتفاء جهة التقيّة وسائر الجهات المخلّة بإدراك الواقع ، مع أنّ الحكم المخالف إذا أقامه الشارع مقام الواقع ورتّب

١١٥

عليه آثار الواقع بأجمعها فلا مانع عقلا ولا شرعا من الاختلاف معه خصوصا إذا اعتبر فيه مصلحة تنوب عن مصلحة الواقع الفائتة.

وعن رابعها : بما تكرّر ذكره على ما لا مزيد عليه ، فإنّ الاعتماد في نفس أحكامه تعالى إنّما هو على العلم المتعلّق بالظنّ لا على الظنّ المتعلّق بالحكم بنفسه.

وعن خامسها : بأنّ سؤالهم الواجب إن اريد به ما يحصل بطريق المشافهة فهو ضروريّ التعذّر.

وإن اريد به الأخذ بما علم كونه منهم فهو في غاية الندرة بالنسبة إلينا.

وإن اريد به ما يعمّ ذلك وما ظنّ بكونه منهم فنحن أيضا نقول به ولا نخالفه.

فالإنصاف : أنّ الأخبار المتواترة في تفسير تلك الآية ونظائرها على ما ينساق منها ويشهد به مواردها إنّما وردت في ردّ أهل الخلاف الغير المعتنين بالأئمّة عليهم‌السلام الراجعين في سؤالاتهم إلى علمائهم الضالّين المضلّين ، من غير تعرّض فيها لطريقة أصحابهم المجتهدين لعدم خروجهم عن الاستناد إلى كلامهم بالمعنى الأعمّ من الموثوق به لتعذّرهم عمّا زاد عليه.

وعن سادسها : يظهر بما مرّ سابقا في دفع الوجوه المتقدّمة في نفي الاجتهاد فراجع ، مع أنّك قد عرفت إنّ الاختلاف حاصل في نفس أخبار أهل العصمة من جهات عديدة ، والاختلاف في الفتاوى لازم لا محالة ولو مع الاختصار في المدرك على أخبارهم عليهم‌السلام ، والطريق السالم عن ذلك اليوم متعذّر ، ويقبح على الحكيم أن يتعبّد عباده بطريق متعذّر وعلى مدرك لا سبيل لهم إليه أصلا.

وعن سابعها : بأنّ الأخذ بالروايات الموثوق بها رجوع إلى رواة حديثهم بل إلى ما هو أخصّ منها كما لا يخفى.

وعن ثامنها : بمثل ما مرّ في الجواب عن خامس الوجوه.

وعن تاسعها : بأنّ هذا الدليل أيضا بعد الإغماض عمّا فيه من فساد الوضع والطول بلا طائل كسوابقه من كونه منتجا لنتيجة متعذّرة إن اريد بكلامهم ما علم به بطريق الشفاه أو غيره ، أو غير منتج بما ينفع المستدلّ إن اريد به ما يعمّ المعلوم وغيره ، ضرورة أنّ كلامهم الغير المعلوم حينئذ كما هو الغالب يندرج فيما نفاه هذا الدليل من جهة مطلوبيّة العصمة عن الخطأ.

وتوضيحه : أنّه قد عرفت أنّ الاختلاف في القطعيّة والظنّية ليس حاصلا في الملازمة

١١٦

بين الحكم الشرعي وملزومه وهو كلام العترة الطاهرة في مفروض المقام ، لكون هذه الملازمة قطعيّة على جميع التقادير ، وإنّما الاختلاف فيهما إنّما يتأتّى في إحراز ملزوم الحكم والكلام لكونه من أصله من الأسباب الضروريّة الصالحة لأن تندرج في الحسّيات أو في المتواترات.

فالعصمة عن الخطأ عند التمسّك بكلام العترة إنّما تتأتّى إذا أحرز كلامهم بطريق الحسّ كما في صورة المشافهة وهو متعذّر بالنسبة إلينا جدّا ، أو بطريق التواتر وما بمعناه كالاحتفاف بقرائن القطع وهو أيضا متعذّر غالبا ، والاكتفاء في إحرازه بالطرق الظنّية من عدالة المخبر أو وثاقته وتحرّزه عن الكذب أو غير ذلك تعريض للنفس في معرض الخطأ ، ضرورة أنّه بعد الاكتفاء بالظنّ في إحراز ملزوم الحكم لا فرق بين كون الملزوم الّذي اريد إحرازه من معلولات الحكم الّتي منها كلامهم عليهم‌السلام كما عليه مبنى العمل بأخبار الآحاد الغير المحفوفة بالقرائن ، أو من علله كما عليه مبنى العمل بالقياس ونحوه ، فالخطأ المنفيّ المطلوب خلافه بمقتضى الدليل مشترك اللزوم بين العمل بالقياس وغيره من الطرق الغير الراجعة إلى كلامهم والعمل بالأخبار المرويّة عنهم بطرق الآحاد بعد البناء على قلّة ما روي منها بطريق التواتر وما اختصّ بها بقرائن القطع كما هو المفروض المحقّق المقطوع به.

فحقّ المقام أن يقال : إنّ مقتضى الأدلّة القطعيّة أنّ الشارع تعالى يريد في امتثال أحكامه والتديّن بشرعه الاستناد إلى كلام أهل العصمة ولو أحرز ذلك بغير [ الطرق ] العلميّة ، فإنّ الخطأ حينئذ على تقدير طروّه بحسب الواقع مغتفر بخلاف الاستناد إلى غير كلامهم ممّا لا يرجع إليه أصلا ، فإنّه ممّا لا يريده الشارع فلا يكون الخطأ الطارئ مغتفرا بل يبغضه فلا يكون الصواب الحاصل مقبولا ، وهذا المعنى كما ترى لا ينافي طريقة المجتهدين من أصحابنا ، بل ينافي طريقة المجتهدين من أهل الخلاف ، فكلام الأخباري في الحقيقة كان معهم دون أصحابنا ، فلا كلام لنا معه حينئذ.

فقد تقرّر بجميع ما ذكر أنّ مؤدّيات الاجتهاد المستفادة من الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما في حقّ المجتهد إذا كان مطلقا ـ بأن يكون له ملكة عامّة بالقياس إلى جميع المسائل ـ أحكام فعليّة قد علم بها بمقتضى الأدلّة القطعيّة المتقدّمة ، هذا هو معنى مشروعيّة الاجتهاد في حقّه.

وأمّا عدم مشروعيّة التقليد له حينئذ فيدلّ عليه وجوه :

١١٧

أحدها : نفس فرض كون مجتهداته أحكاما فعليّة في حقّه ، فإنّ معنى كونها أحكاما فعليّة وجوب التديّن بها وبناء العمل عليها وتحصيل امتثال الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال بواسطة التعرّض لامتثالها ، على معنى أنّ الشارع تعالى لا يريد منه امتثال أحكامه الواقعيّة إلاّ بتلك الواسطة.

وقضيّة ذلك أن لا يجوز له العدول عنها إلى غيرها ، ومن المعلوم أنّ الامور المأخوذة بالتقليد غيرها فلا يجوز العدول إليها.

وثانيها : الإجماع الضروري المتحقّق فيما بين الطائفة على وجه لا يعتريه شائبة شبهة ، ولقد تقدّم نقل الإجماع عن جماعة من أساطين الفرقة وكلماتهم في الكتب الاصوليّة والفقهيّة مملوّة من التصريح بحرمة التقليد على المجتهد.

وثالثها : نفس الأدلّة القاضية من العقل والنقل كتابا وسنّة بحرمة العمل بما وراء العلم ، إذ قد عرفت أنّ مؤدّيات الاجتهاد في حقّه معلوم كونها أحكاما قطعيّة ، فهو بالقياس إليها عالم بخلاف الامور المأخوذة بالتقليد لعدم علمه بكونها أحكاما فعليّة في حقّه فيحرم العمل بها ، ولعلّه إلى ذلك يشير ما عن المعارج عند الاحتجاج على الحكم المذكور بقوله : « لأنّه عدول عمّا علم إلى ما يظنّ » ويمكن رجوعه إلى أوّل وجوهنا المذكورة ، وكائنا ما كان فما احتجّ به في غاية المتانة وإن أمكن المناقشة فيه من حيث تعبيره عن التقليد بالظنّ كما لا يخفى.

فالأولى أن يعبّر عنه « بما لم يعلم » ، وكيف كان فالتقليد منفيّ في حقّه بنفس الأدلّة المانعة من العمل بما وراء العلم ، بل التحقيق أنّ الرجوع إلى التقليد مع العلم فعلا بالأحكام الفعليّة قبيح عقلا وفاعله مذموم عند العقلاء ويعدّ لأجله من جملة السفهاء كما لا يخفى.

ورابعها : قاعدة الاشتغال واستصحابه ، فإنّ امتثال الأحكام المعلومة بالإجمال قد ثبت اشتغال الذمّة بها بالضرورة والإجماع ، والأخذ بمؤدّيات الاجتهاد مبرئ يقينا بخلاف التقليد ، فتعيّن المصير إليه.

لا يقال : لا كلام في جواز الاكتفاء بمؤدّيات الاجتهاد وإنّما الكلام في تعيينه على وجه لا ينوب عنه غيره ، فلم لا تقول بكونه أحد فردي الواجب التخييري الّذي فرده الآخر هو التقليد لأصالة البراءة عن الضيق الّذي يتضمّنه التعيين ، ولذا يقال بأصالة التخيير في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير؟

١١٨

لأنّا نقول : بأنّ دعوى أصالة التخيير على ما حقّقناه في محلّه بمعزل عن التحقيق ، بل الأصل في نظائره يقتضي التعيين عملا بقاعدة الاشتغال الّتي لا يجري في مجاريها أصالة البراءة.

وقد يتمسّك بأصالة عدم صحّة هذا التقليد وترتّب أحكامه ، وضعفه بناء على إرادة الاستصحاب واضح ، إذ الاجتهاد ربّما يكون مسبوقا بالتقليد فالأصل حينئذ يقتضي الصحّة وترتّب الأحكام عليه ، ولو اريد بالأصل أصالة حرمة العمل بما وراء العلم والتقليد في مفروض المسألة منه كان راجعا إلى بعض ما قدّمناه.

وقد يستدلّ أيضا : بأنّ العامّي الغير العالم يجوز له التقليد ، فلو جاز لذلك العالم أيضا لزم المساواة بينهما ، واللازم باطل لعموم قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(١) والمقدّم نحوه.

وضعفه بعد منع الملازمة واضح ، فإنّ التقليد على فرض جوازه جائز على وجه التخيير ، والّذي جاز في حقّ العامّي إنّما هو وجوب التقليد على التعيين فلا مساواة بينهما.

ثمّ لا فرق في هذا الحكم بين مساواة غيره له في العلم والعدالة والورع والتقوى وغيرها من الصفات وعدمها ، فلا يجوز له تقليد غيره ولو كان أعلم أو أورع منه ، وهذا على تقدير مخالفته له في الرأي كلّيا أو جزئيّا لكن في محلّ الخلاف واضح لا سترة عليه.

وأمّا على تقدير الموافقة كلّيا أو بالنسبة إلى موضع الوفاق ففيه نوع خفاء ، ولكن لقائل أن يقول : إنّ التقليد بالمعنى الحقيقي في حقّه وهو الأخذ من الغير ممّا لا يكاد يتحقّق لاستحالة تحصيل الحاصل ، إذ المفروض أنّه عالم بالمأخوذات قبل أن يأخذها ، فالتكلّم في جواز التقليد له حينئذ وعدمه غيره مثمر إلاّ بالقياس إلى مسألة الاستناد ، بأن يقال : هل له أن يستند في امتثال أحكامه تعالى إلى كون معلوماته مؤدّيات اجتهاد غيره الموافق له في الرأي ، أو عليه أن يستند إلى كونها مؤدّيات اجتهاد نفسه؟

وبعبارة اخرى : أن يتديّن بها على أنّها مجتهدات نفسه أو يتخيّر بينه وبين أن يتديّن بها على أنّها مجتهدات غيره ، والظاهر أنّ الاستناد بهذا المعنى بعد اتّحاد معلوماتهما وعينيّة مجتهداتهما ممّا لا مدخل له في امتثال أحكام الله ، بل لا معنى لهذا الاستناد على تقدير اعتباره إلاّ قصد الحيثيّة وهو غير معتبر جزما.

__________________

(١) الزمر : ٩.

١١٩

ولكنّ الإنصاف : أنّ الاستناد إلى كونها مؤدّيات اجتهاد نفسه ممّا لا محيص من اعتباره في صدق الامتثال ، والاستناد إلى كونها مؤدّيات اجتهاد غيره مضرّ لنفس أدلّة منع التقليد على المجتهد ، فإنّ التقليد في حاصل المعنى عبارة عن الالتزام بقول الغير ورأيه من حيث إنّه قوله ، على وجه يتضمّن الاستناد إلى قوله عند المسألة عن وجه هذا الالتزام بقولنا : « لأنّه قول فلان » على الوجه الّذي يصنعه المقلّد العامّي ، كما ينبّه عليه القياس المعروف المعبّر عنه : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي » والمنع من التقليد بهذا المعنى لا محصّل له إلاّ المنع من الاستناد المذكور.

وأيضا فإنّ كلّ حكم لم يعلمه المكلّف [ كونه ] حكما فعليّا في حقّه يقبح له عقلا أن يتديّن به على أنّه حكم الله كما هو واضح ، وهو الوجه في قبح التعبّد بالظنّ ما لم يقم قاطع بحجّيته كما بيّنّاه سابقا.

والّذي علمه هذا المجتهد كونه حكما فعليّا في حقّه إنّما هو مؤدّى اجتهاد نفسه لأنّه علمه كذلك بطريق الاجتهاد ، وأمّا هو من حيث إنّه مؤدّى اجتهاد غيره فلم يعلمه هذا المجتهد [ كونه ] حكما فعليّا في حقّه بل علم خلافه ، فيقبح التديّن به على هذا الوجه ويتعيّن التديّن به على الوجه الأوّل وهذا هو معنى الاستناد ، ولكن لا يعتبر فيه الالتفات التفصيلي بل يكفي فيه الإجمال.

وضابطه أن يكون قضيّة كون معلوماته مؤدّيات اجتهاده الّتي التزمها على أنّها أحكام فعليّة في حقّه حاضرة في نفسه مركوزة في ذهنه بحيث حيثما سئل عن وجه الالتزام يجيب : « بأنّه ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّ ما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي ».

ـ تعليقة ـ

إذا بلغ العالم رتبة الاجتهاد ولم يجتهد فعلا في المسائل كلّها أو بعضها فهل له بالقياس إلى ما لم يجتهد فيه فعلا أن يرجع إلى مجتهد غيره ويقلّده ، كما له أن يجتهد ويبني على مجتهداته أو لا؟ بل يتعيّن عليه الاجتهاد وامتثال أحكام الله تعالى المعلومة بالإجمال بطريق الاستنباط ولا يقوم مقامه امتثالها بطريق التقليد ، فيه خلاف على قولين :

أحدهما : أنّه لا يجوز له التقليد مطلقا ، وهو على ما في مفاتيح السيّد للعدّة والمعارج

١٢٠