تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

نفسه ، وهذا هو الأقوى في النظر القاصر لأنّ بعد اجتهاد نفسه من جهة نقص ملكته لا يقاوم بعد فتوى المطلق من جهة ما ذكرناه من الاحتمالات.

وبعبارة اخرى : فتوى المطلق مع ملاحظة الاحتمالات المذكورة الجارية فيها أبعد عن الواقع من مؤدّى اجتهاد نفسه مع ملاحظة نقصان ملكته الموجب لقوّة احتمال خطائه في مقام اجتهاده ، هذا مع إمكان المنع عن إطلاق دعوى كون احتمال الخطأ في مقام الاجتهاد بالنسبة إلى المتجزّي أقوى منه بالنسبة إلى المطلق كما ستعرف وجهه.

بل التحقيق أنّ هذا الاحتمال بملاحظة ما سنقرّره بالنسبة إلى كليهما في مرتبة واحدة.

فبما قرّرناه تبيّن الحقّ في المسألة ووجهه ، فإنّ الأصل الثانوي كما أنّه يخرج المكلّف عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم فكذلك يخرجه عن أصالة حرمة العمل بالظنّ في مقابلة التقليد ويقضي بوجوب العمل به إلاّ ما خرج بالدليل كما في العامي الغير المتمكّن من الاجتهاد.

فتبيّن أنّ الأقوى من الوجوه المتقدّمة هو الوجه الأوّل ، وأنّ مدرك هذا الأصل هو العقل القاطع ، فاحفظ ذلك واغتنم.

الأمر الثالث : في كلام غير واحد من الأعيان حكاية نفي الخلاف في جواز تجزّي الاجتهاد في مسائل اصول الفقه على وجه يظهر منهم الاعتراف بالجواز فيها ، وعلّله جماعة منهم المحقّق السلطان بأنّ مناط الاستدلال في أكثر مسائلها الأدلّة العقليّة ولا دخل فيها كثيرا لزيادة التتبّع ، وليس فيها احتمال المعارض لاستقلال العقل في إدراك كلّ مسألة منها بدون ملاحظة مسألة اخرى بحيث يجزم بانتفاء المعارض نظير الاجتهاد في المسائل الحكميّة بخلاف المسائل الفرعيّة.

ولا يخفى أنّ قضيّة التعليل كون المراد بما نفي الخلاف فيه بالقياس إلى مسائل الاصول هو التجزّي في المقام الأوّل المتقدّم ذكره ـ أعني مقام الإمكان ـ كما يظهر بالتأمّل في مساقه مع مراجعة ما تقدّم من مستند المانع ثمّة من أنّه كلّما يقدّر جهله يجوز تعلّقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظنّ عدم المانع من مقتضي ما يعلمه من الدليل.

وقد يتراءى من بعض العبارات تنزيل ما ذكر من نفي الخلاف إلى المقام الثاني الّذي نحن بصدد البحث عنه ، حيث يقال في دفع ما سيأتي من إشكال الدور من أنّ القطعي ـ وهو الإجماع ـ دلّ على جواز العمل بالظنّ الحاصل في المسائل الاصوليّة ، والتجزّي من المسائل

١٦١

الاصوليّة ، فإذا ظنّ بصحّته جاز الاعتماد على هذا الظنّ لكونه ظنّا في الاصول فيجوز إجماعا.

ووجه انطباق العبارتين أنّه لو حصل له ظنّ ببعض المسائل الاصوليّة الّتي منها جواز تجزّي الاجتهاد فيجوز العمل بهذا الظنّ بلا خلاف ، على معنى عدم الخلاف في جواز التجزّي في المسائل الاصوليّة لإجماعهم على جواز العمل بالظنّ فيها.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، لوضوح المنع من المقدّمتين معا :

إحداهما : استلزام الإجماع على جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة لعدم الخلاف في جواز عمل المتجزّي فيها بظنّه الحاصل فيها.

واخراهما : جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة على إطلاقه وانعقاد الإجماع عليه.

أمّا سند منع المقدّمة الاولى : فلأنّ الإجماع على جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة على فرض انعقاده ليس بأقوى من الإجماع على جواز العمل به في المسائل الفرعيّة على فرض انعقاده ، فكما أنّ الثاني بمجرّده لا يستلزم الإجماع على جواز عمل المتجزّي بظنّه في المسائل الفرعيّة فكذلك الأوّل ، لجواز كونه كالثاني مخصوصا بذي الملكة التامّة بالقياس إلى المسائل الاصوليّة ، فلا يتناول المتجزّي ليلزم منه عدم الخلاف في جواز تجزّي الاجتهاد في المسائل الاصوليّة بالمعنى المبحوث عنه في المقام الثاني.

وأمّا سند منع المقدّمة الثانية : فلمنع الإجماع على جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة ، كيف وقد تكرّر في كلام غير واحد نقل الشهرة بخلافه.

وإن شئت لاحظ كلام الوحيد البهبهاني قائلا ـ بعد ما حكى دعوى الإجماع هنا ـ « وفيه : منع تحقّق الإجماع على ما ذكر ، كيف والمشهور بل كاد يكون إجماعا أنّ الظنّ في الاصول غير معتبر ، فتدبّر.

ولو سلّم فإجماع الاصوليّين ـ يعني مجرّد اتّفاقهم ـ حصول القطع منه محلّ نظر بل الظاهر عدمه » انتهى.

ومن هنا قد يلزم القائل بجواز العمل بالظنّ فيها بأنّه ممّا يستلزم عدمها ، إذ المشهور عدم حجّية الظنّ فيها والشهرة ممّا يفيد الظنّ بالمطلوب ، وجواز العمل بالظنّ مسألة اصوليّة والتعويل على الظنّ بعدم الجواز الحاصل من الشهرة يوجب عدم جواز التعويل عليه في المسائل الاصوليّة.

١٦٢

وبالجملة الظنّ في المسائل الاصوليّة أمر خلافيّ ، فمنهم من صرّح بطرد المنع عن الحجّية بالقياس إليها وإلى المسائل الفرعيّة ، ومنهم من عكس الأمر.

ومنهم من منعها في الاصوليّة مع مصيره إليها في الفرعيّة تعليلا بعدم الانسداد الأغلبي في الاصوليّة الّذي هو مناط الحجّية.

ومنهم من فصّل في الاصوليّة بين ما كان منها من قبيل كون : « الخبر حجّة » و « الكتاب حجّة » فعدم الحجّية ، وبين ما كان منها من قبيل كون : « الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم » وغير ذلك ممّا يتعلّق بالألفاظ فالحجّية.

مع أنّ حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة ممّا لم نتحقّق معناه ، فإنّ المسائل الاصوليّة ـ بمعنى المسائل المدوّنة في الكتب الاصوليّة أعمّ ممّا كان من قبيل مسائل أصل الفنّ المقصودة من وضعه أصالة ومبادئها اللغويّة والأحكاميّة وغيرها ـ ليست إلاّ كمسائل سائر العلوم غير علم الفقه فهي امور واقعيّة ، فإن اريد بحجّية الظنّ فيها كونه طريقا مثبتا لها بحسب الواقع فهو غير معقول ، ضرورة عدم الملازمة بين الظنّ بالشيء وثبوته في الواقع ، كيف وإنّ الظنّ ممّا اخذ في ماهيّته احتمال الخلاف وأنّه كثيرا مّا لا يصادف الواقع. وإن اريد به كونه موجبا لترتيب آثار الواقع على المظنون وإن لم يكن واقعا في نفس الأمر ، على معنى كون الظنّ بجواز اجتماع الأمر والنهي موجبا للحكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة وإن لم يكن كذلك في الواقع ، والظنّ باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ موجبا للحكم بحرمة الأضداد الوجوديّة للمأمور به وإن لم يكن كذلك في الواقع وهكذا ، فهو ممّا لابدّ له من دليل قطعي ووجوده غير ثابت والإجماع المدّعى غير مسموع ، وجريان دليل الانسداد فيه كجريانه في الظنّ في المسائل الفرعيّة غير مسلّم لعدم جريان جملة من مقدّماته هنا.

ودعوى أنّ هذا الظنّ يتولّد منه الظنّ بالحكم الفرعي ويستلزمه كما في الأمثلة المذكورة فيصير حجّة لعين ما دلّ على حجّية الظنّ في الأحكام الفرعيّة مردودة على مدّعيها ، كيف والغرض المهمّ في المقام إثبات الظنّ في المسألة الاصوليّة من حيث إنّها مسألة اصوليّة.

وما ذكر من الطريق على فرض تماميّته واطّراده في جميع المسائل ليس إلاّ إثباتا للظنّ في المسائل الفرعيّة لدليلها الغير الجاري في المسائل الاصوليّة من هذه الحيثيّة ، كيف وقيام الظنّ في المسألة الاصوليّة بالقياس إليه في المسألة الفرعيّة على التقرير المذكور

١٦٣

ليس إلاّ كقيام أمارة ظنّية في المسألة الفرعيّة كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة ونحوها ، فكما أنّها لا تؤخذ إلاّ سببا محصّلا للظنّ في المسألة الفرعيّة فكذلك الظنّ في المسألة الاصوليّة ، فإنّ غاية ما فيه من الوصف كونه سببا مفيدا للظنّ في المسألة الفرعيّة ، واندراج هذا الظنّ في عموم دليل حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة من حيث إنّه ظنّ في المسائل الفرعيّة من أيّ سبب حصل ليس من اندراج سببه الّذي هو الظنّ في المسألة الاصوليّة من حيث إنّه كذلك في عموم ذلك الدليل ، ليكون ذلك من حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة لعموم دليل الحجّية في المسائل الفرعيّة وهذا واضح.

فتحقيق المقام : أنّ ما كان من المسائل الاصوليّة من قبيل مباحث الحجّيّة كحجّيّة الظنّ وحجّية خبر الواحد وغيره من الأمارات المأخوذة من الظنون المطلقة الاجتهاديّة فلا يعقل كون الدليل القائم عليه ظنّيا على وجه يكون التعويل في إثباته على الظنّ الحاصل منه لاستحالة الدور والتسلسل ، والتعويل على الظنّ المذكور ممّا يفضي إلى أحد الأمرين البتّة.

ولا يفترق الحال في ذلك بين كون هذا الدليل الظنّي قائما على الظنّ المتعلّق بالواقع أو الظنّ المتعلّق بالطريق حسبما يراه بعض أصحابنا المتأخّرين ، وجعل دليل الانسداد بحيث ينطبق على الظنّ بالطريق فيفيد حجّية الظنّ في المسألة الاصوليّة محلّ إشكال ، لابتنائه على مقدّمة غير ثابتة وتمام الكلام في محلّه.

وما كان منها من باب مسألة اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي لفساد العبادة أو هي مع المعاملة ، ومقدّمة الواجب واستلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ومسألة الإجزاء وتبعيّة القضاء للأداء ومسائل الواجب المخيّر والواجب الكفائي والواجب الموسّع وغير ذلك ممّا يتولّد من الظنّ فيه الظنّ في المسألة الفرعيّة ، فإن قرّرنا دليل الانسداد بحيث يشمل الظنّ من أيّ سبب حصل قضى ذلك بحجّية هذا الظنّ ، لكن من حيث رجوعه إلى المسألة الفرعيّة لا من حيث كونه ظنّا في المسألة الاصوليّة. نعم إنّما يعتبر ذلك سببا لما هو في المسألة الفرعيّة على حدّ سائر أسباب الظنّ.

وما كان منها من باب حمل المطلق على المقيّد وبناء العامّ على الخاصّ عند تنافي مدلوليهما وتخصيص الكتاب بخبر الواحد وتخصيص العامّ بمفهوم المخالفة وتحكيم التخصيص على غيره من أنواع المجاز ، وغير ذلك ممّا يذكر في باب تعارض الأحوال وغيره ممّا له دخل في إحراز الدلالة وتشخيص المراد في الموارد الجزئيّة من ألفاظ الكتاب

١٦٤

والسنّة ، فإن أوجب الظنّ في تلك المسائل ظنّا في الدلالات في الموارد الجزئيّة فيندرج ذلك في دليل حجّية الظنّ في الدلالات من حيث كونه ظنّا في الدلالات لا من حيث كونه ظنّا في المسائل الاصوليّة ، فهو أيضا من هذه الحيثيّة على تقدير كونه حجّة ليس من حجّية الظنّ في المسألة الاصوليّة من حيث إنّه ظنّ في المسألة الاصوليّة.

وما كان منها من قبيل كون صيغة الأمر للوجوب دون الندب والإباحة ولطلب الماهيّة دون التكرار والمرّة ولا الفور والتراخي ، وكون الأمر الواقع عقيب الحظر للإباحة لا الوجوب ، وكون صيغة النهي للتحريم دون الكراهة ، وكون ما ادّعي كونه للعموم حقيقة في العموم ومجازا في الخصوص ، إلى غير ذلك ممّا يرجع إثباته إلى إثبات الأوضاع الحقيقيّة أو المجازيّة فلا قاضي من الأدلّة القطعيّة بحجّية الظنّ فيها ما لم يتولّد منه الظنّ بالدلالات في الموارد الجزئيّة ، بل سبق منّا في الجزء الأوّل من الكتاب عند البحث في حجّية قول أهل اللغة ما يكفيك في وجه هذا المنع ، وبيّنّا ثمّة أنّ الظنّ في الأوضاع ما لم يحصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بالظنّ في الأحكام ليس بحجّة.

وهاهنا أيضا نقول : إنّ الظنّ في نحو المسائل المذكورة إن رجع إلى الظنّ في الدلالة في الموارد الجزئيّة أمكن كونه حجّة من هذه الجهة ، مع إشكال فيه باعتبار أنّ القدر المتيقّن من قضيّة دليل حجّية الدلالات الظنّية ما استند منها إلى العلم بالوضع لا غير ، وكون الاستناد إلى نحو المسائل المذكورة في استنباط الأحكام الشرعيّة بأخذها في مبادئ المسائل الفرعيّة ومن مقدّمات الاستدلالات عليها إجماعيّا لا يقضي بإجماعهم على الأخذ بالظنّ في إثباتها كما لا يخفى.

مع أنّه لا جدوى في التكلّم في حجّية الظنّ فيها ، بل لا حاجة إلى الأخذ بالظنّ في إثباتها لانفتاح باب العلم فيها غالبا ، بملاحظة أنّ المرجع فيها وفي نظائرها إلى العرف والطرق العرفيّة من التبادرات وغيرها من كواشف الوضع ، وهي في غالب مواردها امور مقطوع بها فيحصل من جهتها القطع في المسألة الاصوليّة ، ولا ينافيه وقوع الخلاف في هذه المسائل لأنّ الخطأ والاشتباه الّذي هو منشأ الاختلاف غير عزيز في القطعيّات ، والقدر المسلّم من مرادهم بالظهور حيثما يتمسّكون به لإثبات هذه المطالب هو الظهور المقطوع به دون ما يعمّه والمظنون ، كما أنّ ظاهرهم في إثبات الأمارات المثبتة للأوضاع من التبادر وغيره إرادة ما كان منها مقطوعا به لا ما يعمّه والمظنون.

١٦٥

وتمسّكهم بأصالة عدم النقل ونحوها من الاصول اللفظيّة في إثبات بعض المطالب ليس من التمسّك بالأمر الظنّي ، لأنّ هذا الأصل ونظراءه من الاصول المقطوع بها الثابتة ببناء العرف وطريقة العقلاء وغيرهما ، ولذا قد يدّعى الإجماع على حجّية الاستصحاب في الامور العدميّة تعويلا على عملهم بهذه الاصول من دون نكير وإن كان كون هذه من باب الاستصحاب محلّ منع.

ومرادنا من أنّ المسائل الاصوليّة لا تثبت بالظنّ إنّها لابدّ وأن تكون قطعيّة أو منتهية إلى القطع وهذا من قبيل الثاني ، إذ الاصول المذكورة امور قطعيّة يتمسّك بها لإثبات المسائل الاصوليّة الّذي مرجعه إلى إثبات الأوضاع اللغويّة.

وما كان منها من باب العمل بالاستصحاب وأصلي الإباحة والبراءة وغيرها من الاصول العامّة العمليّة الّتي يبحث لإثباتها في علم الاصول ، لا يعقل كون الظنّ المثبت لها حجّة لا لدليل خاصّ ولا لدليل الانسداد على فرض انحصار الطريق المثبت لها في الظنّ الغير القطعي العمل ، على معنى مسيس الحاجة في إثباتها إلى التعويل على الظنّ.

أمّا على الأوّل : فلفقد ما يصلح دليلا قطعيّا على هذا الظنّ بالخصوص ، والإجماع على العمل بهذه الاصول كلّ في مورده على فرض تسليمه في الجملة ليس من الإجماع على الظنّ في إثباتها ، بل هذا الإجماع إن سلّمناه فهو بنفسه دليل علمي ناهض لإثباتها فتكون خارجة عن الفرض.

وأمّا على الثاني : فلأنّ هذه الاصول على تقدير ثبوتها ـ على ما بيّنّاه في غير موضع ـ أحكام ظاهريّة مجعولة للمكلّف الجاهل من حيث كونه جاهلا ، واندراج الظنّ الناهض لإثباتها في عموم دليل الانسداد مبنيّ على كون الظنّ المأخوذ في موضوعه أعمّ من الظنّ بالأحكام الواقعيّة والظنّ بالأحكام الظاهريّة كما قد يتوهّم ، وهذا غير واضح بل محلّ منع لظهور مقدّماته في الظنّ بالأحكام الواقعيّة ، ولذا يقرّر : بأنّ التكليف بالأحكام المعلومة بالإجمال باق ، وباب العلم بها في الغالب مسدود ، فيتعيّن العمل فيها بالظنّ لئلاّ يلزم التكليف بغير المقدور.

غاية الأمر كون المظنونات بعد نهوض هذا الدليل أحكاما ظاهريّة في حقّ الظانّ ، لأنّ الحكم الظاهري إنّما يلتزم به بعد مساعدة الدليل عليه لا مطلقا.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : إنّ المسائل الاصوليّة لابدّ وأن تكون قطعيّة أو منتهية إلى

١٦٦

القطع ، وأمّا ما كان منها ظنّية فلا تعويل على الظنّ فيها إلاّ إذا رجع الظنّ فيها إلى الظنّ في المسائل الفرعيّة فيجوز العمل به حينئذ من حيث رجوعه إلى المسألة الفرعيّة لا من حيث كونه في المسألة الاصوليّة ، مع أنّ التكلّم في حجّية الظنّ فيها ممّا لا يكاد يرجع إلى طائل لانفتاح باب العلم فيها غالبا من جهة ابتنائها في الغالب على الطرق العلميّة من العرف والعقل والنقل المقطوع به ، فلا يكثر فيها الحاجة إلى إعمال الظنون لينظر في حكمها ، وهذا هو الوجه الباعث على قبولها التجزّي المدّعى فيه عدم الخلاف ، نظرا إلى وضوح مداركها وعدم اتّفاق معارض لها بحيث يتوقّف استعلامه أو إحراز فقده على الفحص والتتبّع والإحاطة بمدارك جميع المسائل حسبما يدّعيه المانع من التجزئة في المقام الأوّل.

وأمّا الاستناد لإثبات الحجّية فيها تارة إلى دليل الانسداد ، واخرى إلى قاعدة الاستلزام ، وثالثة إلى الأولويّة بالقياس إلى حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة الّتي اعتبرت المسائل الاصوليّة مقدّمة لها والأمر في المقدّمة أهون منه في ذيها ، فليس على ما ينبغي.

أمّا الأوّل : فلانتفاء الانسداد الأغلبي.

وأمّا الثاني : فلمنع الملازمة ، لبناء الحجّية وعدمها على دليل جار في الفروع غير جار في الاصول فلا يلزم من حجّية اللازم حجّية الملزوم.

وأمّا الثالث : فلمنع الأولويّة ، فإنّ المقدّمة إذا اخذت على وجه المبنائيّة كان الاهتمام في استحكامها في نظر العقل والعادة أكثر منه في ذيها ، ويتسامح في ذيها ما لا يتسامح فيها ، مع أنّ حجّية الظنّ في ذيها إنّما هي لعلّة غير موجودة فيها فحصل الفارق.

نعم لو فرض غلبة الاحتياج فيها إلى إعمال الظنون أمكن القول بحجّيتها بالنظر إلى قاعدة المقدّمة لو وجب الاجتهاد واستنباط الأحكام الفرعيّة من الأدلّة الشرعيّة عينا أو كفاية.

بتقريب : أنّ هذا الواجب لا يتمّ إلاّ بإعمال المسائل الاصوليّة الظنّية ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

ولا يعني من حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة إلاّ وجوب إعمال المسائل الظنّية منها في استنباط الفرعيّات ، ولا اختصاص لإثبات الحجّية بهذا الطريق بالمسائل الاصوليّة بل يعمّه وكلّ ما يتوقّف عليه الاستنباط من مسائل سائر العلوم نحويّة وغيرها إذا تعذّر العلم فيها ، ولعلّه إلى ذلك ينظر ما في كلام بعض الأفاضل من « أنّ البلوغ إلى درجة الاجتهاد

١٦٧

المطلق قاض بحجّيّة ظنّه في المسائل الفقهيّة وما يرتبط بها من مقدّماتها للاستنباط سواء كانت اصوليّة أو لغويّة أو غيرها » انتهى.

ويمكن الاستدلال على الفرض المذكور بدليل الانسداد أيضا بأن يقال : إنّه قد وجب إعمال المسائل الاصوليّة الظنّية مقدّمة للاستنباط ، والعلم فيها مسدود فوجب الاكتفاء فيها بالظنّ حذرا عن التكليف بغير المقدور.

وأمّا ما في كلام بعض الفضلاء من : « أنّ ظنّيات علم الاصول كظنّيات العلوم العربيّة فكما يصحّ تعويل العارف الخبير بتلك العلوم على الظنون المقرّرة فيها وإن لم يكن له خبرة بعلم الفقه فكذلك الحال في الاصول » فغير واضح إلاّ بأن يرجع إلى بعض ما ذكرناه.

الأمر الرابع : إذا اجتهد المتجزّي في الفروع في مسألة جواز التجزّي وأدّى اجتهاده إلى جواز عمله بظنّه قطعا أو ظنّا منتهيا إلى القطع جاز بناء عمله على اجتهاد نفسه في تلك المسألة فيعمل على ظنّه في المسائل الّتي اجتهد فيها ، خلافا لمن منع بناءه على اجتهاده في تلك المسألة بتخيّل لزوم الدور ، وقد يؤخذ ذلك حجّة على المنع من تجزّي الاجتهاد رأسا ، على معنى المنع من حجّية ظنّ المتجزّي في المسائل المجتهد فيها.

وقضيّة الاحتجاج به على المنع عدم كون هذه المسألة بالقياس إلى المتجزّي اجتهاديّة ، بل قضيّته حيث يؤخذ دليلا على بطلان أصل التجزّي عدم كونها بالقياس إليه تقليديّة أيضا وإن توقّف إنتاجه لذلك إلى ضمّ مقدّمة اخرى ، ضرورة أنّ عمل المتجزّي بظنّ نفسه لابدّ وأن يستند إمّا إلى اجتهاد نفسه في مسألة جواز التجزّي أو إلى تقليد غيره في تلك المسألة ، وبطلانه لا يتأتّى إلاّ بعد بطلان كلا الطريقين.

أمّا بطلان الطريق الأوّل : فلإفضائه إلى الدور.

وأمّا بطلان الطريق الثاني : فللزوم خلاف الفرض مع ثبوت الواسطة بين الأخذ بالاجتهاد والرجوع إلى التقليد أو تركّب الاجتهاد والتقليد كما ذكره المصنّف بقوله : « ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا لكنّه خلاف المراد ، إذ الغرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد وهذا إلحاق له بالمقلّد بحسب الذات وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد.

ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد ، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع إلى التقليد.

وإن شئت قلت : تركّب التقليد والاجتهاد وهو غير معروف » انتهى.

١٦٨

ومن هنا ترى بعض الفضلاء ـ تبعا لبعض الأعلام ـ ضمّ إلى الاحتجاج بلزوم الدور معنى ما ذكره المصنّف ليبطل به احتمال التقليد أيضا بقوله : « ورجوعه في جواز التجزّي إلى فتوى المجتهد المطلق يوجب خلاف الفرض ، إذ المقصود إلحاقه بالمجتهد أوّلا وبالذات لا ثانيا وبالعرض ».

وبالجملة فلو لا انضمام هذه المقدّمة لم ينهض مجرّد الدور منتجا لبطلان عمل المتجزّي بظنّه رأسا.

وكيف كان فقد قرّر لزوم الدور بوجوه :

منها : ما عزى إلى الفاضل الجواد « من أنّ صحّة اجتهاد المتجزّي في المسائل موقوفة على صحّة اجتهاده في جواز التجزّي ، وصحّة اجتهاده في جواز التجزّي موقوفة على صحّة اجتهاده في المسائل إذ هذه أيضا من المسائل المجتهد فيها ». والظاهر أنّ المراد بصحّة الاجتهاد ترتيب الآثار الشرعيّة الّتي منها جواز عمله بظنّه الحاصل.

فيقرّر الدور حينئذ : بأنّ جواز عمل المتجزّي بظنّه في المسائل موقوف على جواز عمله بظنّه في مسألة جواز التجزّي ، وهو موقوف على جواز عمله في ظنّه في المسائل لأنّ مسألة جواز التجزّي من جملة المسائل.

وجوابه أوّلا : على تقدير كون المراد من المسائل في المقدّمة الاولى ما يعمّ الاصوليّة والفروعيّة ـ كما عليه مبنى الإشكال ـ : أنّ جواز العمل بالظنّ فيها لكونه حكما شرعيّا يتوقّف ثبوته بحسب الواقع على جعل الشارع إيّاه لا على شيء آخر ، فبطل توهّم التوقّف في المقدّمة الاولى.

نعم المتوقّف على غير جعل الشارع إنّما هو العلم بذلك الجواز الثابت في الواقع ، غير أنّه لا يتوقّف على الجواز المأخوذ في مسألة جواز التجزّي الّتي هي مسألة اصوليّة ، وإنّما يتوقّف على الدليل العلمي الناهض على جواز عمل المتجزّي بظنّه المطلق.

والمفروض أنّ المتجزّي إنّما يدّعي الجواز لدليل علمي أقامه على حكم المسألة مطلقا ، ولا يفترق الحال في ذلك بين كون هذا الدليل ناهضا على الظنّ في مطلق المسائل اصوليّة وفروعيّة أو عليه في خصوص المسائل الفرعيّة ، ولا بين فرض كونه في المسائل الاصوليّة مجتهدا مطلقا أو متجزّيا أيضا ، مع كون عنوان التجزّي في المسائل الاصوليّة صادقا عليه بالقياس إلى مسألة جواز التجزّي أو بالقياس إلى غيرها من المسائل الاصوليّة ، على معنى

١٦٩

كونه قد اجتهد في تلك المسألة بالخصوص أو عدّة مسائل منها هذه المسألة أو في غيرها ممّا لا يندرج هذه المسألة فيها ، وكلّ ذلك واضح.

وثانيا : أنّ الكلام في إحراز صحّة اجتهاده فيما اجتهد فيها من المسائل الفرعيّة باجتهاده في مسألة جواز التجزّي الّتي هي مسألة اصوليّة ، فحينئذ لو توقّف الصحّة الاولى على الصحّة الثانية على ضابطة توقّف المسألة الفرعيّة على المسألة الاصوليّة لم يلزم منه توقّف الصحّة الثانية على الصحّة الاولى بل هي متوقّفة على دليلها المندرج في أدلّة المسائل الاصوليّة ، فقد يكون المتجزّي في الفروع مجتهدا مطلقا في الاصول على معنى إحاطة علمه الفعلي وقدرته على استعلام الحكم الاصولي بجميع المسائل الاصوليّة.

وقد يكون متجزّيا في الاصول مع اجتهاده فعلا في مسألة جواز التجزّي ، لكن له في كلّ مسألة اجتهد فيها أو في خصوص تلك المسألة دليل علمي أفاد له القطع بحكم المسألة.

وقد يكون متجزّيا مع كون دليله ظنّيا لكنّه يرى الظنّ في الاصول حجّة لدليل علمي حسبما تقدّم حكاية القول به ، والمناقشة معه بمنع حجّيّة الظنّ في الاصول أو بمنع علميّة دليله الناهض عليها نزاع آخر راجع إلى الصغرى غير موجب لإلزامه على لزوم الدور ، ليلزم منه بطلان مذهبه في تجزّي الاجتهاد في الفروع إذا كان هذا النزاع في نظره مكابرة كما لا يخفى.

ومنها : أنّ اعتماد المتجزّي على ظنّه بدليله الظنّي تعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ.

وإلى ذلك يرجع ما يأتي في كلام المصنّف ، وجوابه ـ مضافا إلى ما سنقرّره ـ يظهر بالتأمّل في بعض ما ذكرناه في دفع التقرير الأوّل.

ومنها : أنّ علم المتجزّي بصحّة عمله على ظنّه والدليل الظنّي الدالّ على مساواته للمجتهد المطلق موقوف على علمه بقبول الاجتهاد التجزئة ، وهذا موقوف على علمه بصحّة عمله على ظنّه.

وإن شئت بدّلت « العلم » بـ « الظنّ » في المقامات ، هكذا نقله في المفاتيح عن جدّه قدس‌سره.

والظاهر أنّ العطف في قوله : « والدليل الظنّي » تفسير لظنّه كما يفصح عنه ترك هذا العطف في المقدّمة الثانية التفاتا إلى ضابطة أنّ القياس المنتج للدور إنّما ينتجه إذا كان الموقوف عليه المأخوذ في الكبرى عين ما هو الموقوف المأخوذ في الصغرى ، والعينّية على تقدير عدم كون العطف تفسيريّا منتفية كما لا يخفى.

١٧٠

إلاّ أن يوجّه : بأنّ المراد بـ « ظنّه » في المقدّمة الاولى خصوص الظنّ في المسائل الفرعيّة والدليل الظنّي ظنّ في المسألة الاصوليّة بالخصوص ، وب « ظنّه » في المقدّمة الثانية ما يعمّ الظنّ في المسائل الفرعيّة والظنّ في المسألة الاصوليّة ، فيكون المراد منه ما يعمّ المعطوف والمعطوف عليه معا.

وكيف كان فعبارة هذا التقرير تحتمل وجوها ترتقي إلى ثمانية ، إذ العطف في المقدّمة الاولى يحتمل كونه للتفسير ولغيره ، وقبول الاجتهاد للتجزئة المأخوذ في تلك المقدّمة محتمل لمعنيين نظرا إلى أنّ هذا اللفظ في كلامهم قد يطلق ويراد منه قبوله لها بحسب الإمكان ، على معنى إمكان التجزئة في الاجتهاد عقلا ، وقد يطلق ويراد منه قبوله لها بحسب الشرع ، على معنى كون ظنّ المتجزّي جائز العمل شرعا ، فمرتفع وجهي العطف في معنيي القبول أربع ، ثمّ لفظة « ظنّه » في المقدّمة الثانية أيضا تحتمل كون المراد به ما يعمّ الظنّ الاصولي والظنّ الفرعي وما لا يعمّ إلاّ الظنّ الاصولي ، فمرتفع الأربع المذكورة في هذين ثمانية ، غير أنّ احتمال القبول الإمكاني بجميع وجوهه الأربع ساقط جدّا ، لمنع التوقّف تارة في المقدّمة الاولى واخرى في المقدّمة الثانية.

أمّا الأوّل : فلأنّ العلم بصحّة العمل بالظنّ كثيرا مّا يحصل مع الشكّ في إمكان قبول الاجتهاد للتجزئة ، بل ومع الظنّ بعدم إمكانه فضلا عن الظنّ بإمكانه ، بل ومع العلم بعدم الإمكان ، نظرا إلى أنّ قضيّة صحّة العمل بالظنّ في جميع تلك الصور مفروضة من باب الشرطيّة.

ومن البيّن أنّ كذب الشرط لا يستلزم كذب الشرطيّة ، فيقال : إنّ ظنّ المتجزّي على تقدير إمكانه وحصوله ممّا يصحّ العمل به جزما ، وهذا كما ترى لا ينافي عدم إمكان حصول الظنّ له.

وأمّا الثاني : فلأنّ العلم بالقبول الإمكاني كثيرا مّا يحصل مع عدم العلم بصحّة العمل بل ومع العلم بعدم صحّة العمل كما هو قضيّة مقالة من يجوّز التجزّي في المقام الأوّل وهو مقام الإمكان. ويمنعه في المقام الثاني وهو مقام الاعتبار وصحّة العمل ، فإنّه مع كونه في المقام الأوّل قاطعا بالإمكان ففي المقام الثاني إمّا قاطع بعدم الصحّة أو ظانّ به أو شاكّ فيه أو ظانّ بالصحّة مع عدم كون هذا الظنّ في نظره حجّة لكونه في المسألة الاصوليّة ، وهذا كما ترى آية انتفاء التوقّف بين العلم بالقبول والعلم بصحّة العمل ، فالقبول بهذا المعنى ليس

١٧١

بمراد من العبارة المذكورة جزما.

فالوجه حينئذ أن يكون المراد بالقبول معناه الثاني ، وعلى هذا التقدير فإن أخذ العطف تفسيريّا و « ظنّه » في المقدّمة الثانية بمعنى الظنّ الاصولي ، فيرد عليه : أنّ موضوع القضيّة في المقدّمة الاولى لا يرتبط بمحمولها ، فإنّ المأخوذ في الموضوع الظنّ بالمساواة والمأخوذ في المحمول هو العلم بالمساواة ، نظرا إلى أنّ العلم بقبول الاجتهاد للتجزئة معناه العلم بمساواة المتجزّي للمجتهد المطلق ، فيؤول معنى القضيّة إلى أن يقال : علم المتجزّي بجواز عمله بظنّ المساواة للمجتهد المطلق موقوف على علمه بالمساواة للمجتهد المطلق ، وهذا كما ترى كلام سفهيّ ، ويلزم ذلك أيضا لو أخذ « ظنّه » في المقدّمة الثانية بالمعنى الأعمّ من الاصولي والفروعي.

ومع ذلك نقول : بمنع كون دليله الدالّ على المساواة ظنّيا بل قد يكون علميّا ، وعلى تسليم كونه ظنّيا فالعلم بصحّة العمل به لا يتوقّف على العلم بقبول الاجتهاد للتجزئة ، بل على ما دلّ من الدليل العلمي على حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة.

وإن فسّرنا العلم بقبول الاجتهاد للتجزئة بالعلم (١) بمساواة المتجزّي للمطلق في جواز العمل بالظنّ.

فإن اريد بهذا الظنّ خصوص الظنّ الاصولي فيلزم فوات المغايرة فيما بين الموقوف والموقوف عليه في كلّ من المقدّمتين على تقدير كون المراد بالظنّ في المقدّمة الثانية الظنّ الاصولي أيضا ، وهذا خارج عن ضابطة الدور كما لا يخفى.

وإن اريد به ما يعمّ الاصولي والفروعي وكذلك بالظنّ المأخوذ في المقدّمة الثانية يلزم فوات المغايرة بالنسبة إلى أحد فردي هذا العامّ وهو الظنّ الاصولي ويمنع التوقّف بالنسبة إلى فرده الآخر وهو الظنّ الفرعي ، على معنى منع توقّف العلم بجواز العمل بالظنّ في المسألة الاصوليّة على العلم بجواز العمل به في المسألة الفرعيّة بل كلّ يتوقّف على دليله ، وعلى فرض اتّحاد الدليل فيهما بناء على بعض الوجوه المتقدّمة في الأمر الثالث فالدور فيهما مسلّم لكنّه دور معي ، لكونهما معلولي علّة ثالثة مشتركة بينهما لا دور توقّفي ليكون محالا.

وإن أخذ العطف غير تفسيري فلا بدّ وأن يؤخذ الظنّ في المقدّمة الثانية بالمعنى الأعمّ ، فإن أخذ الظنّ في معنى قبول الاجتهاد للتجزئة حسبما ذكرناه في تفسيره بالمعنى الأعمّ

__________________

(١) وفي الأصل : « العلم » ، وما أثبتناه أنسب بالسياق.

١٧٢

أيضا ، يرد عليه : انتفاء المغايرة أيضا بين الموقوف والموقوف عليه في كلّ من المقدّمتين ، وإن أخذ هذا الظنّ بالمعنى الأخصّ فإن كان ذلك هو الظنّ الاصولي خاصّة يمنع التوقّف في المقدّمة الاولى بالنسبة إلى المعطوف عليه ولو فرض دليل حجّيتهما ، متّحدا ، إذ غاية ما هنالك حينئذ هو الدور المعي وهو ليس بمستحيل ، وفاتت المغايرة فيما بين الموقوف والموقوف عليه بالنسبة إلى المعطوف كما لا يخفى.

وإن كان ذلك هو الظنّ الفروعي يتوجّه الأمران أيضا لكن بعكس الفرض ، فمنع التوقّف بالنسبة إلى المعطوف وانتفاء المغايرة بالنسبة إلى المعطوف عليه.

ومنها : أنّ صحّة اجتهاد المتجزّي في المسائل الفقهيّة وجواز عمله به متوقّفة على صحّة اجتهاده في أنّ الاجتهاد يتجزّى ، وصحّة اجتهاده في أنّ الاجتهاد يتجزّى متوقّفة على تجزّي الاجتهاد وجواز عمله بظنّه أعني صحّة اجتهاده في المسائل الفقهيّة ، ضرورة أنّ صحّة كلّ حكم يتوقّف على وقوع المحكوم به بحسب الواقع.

ولا يذهب عليك أنّ قضيّة التعليل المذكور أن يراد بالصحّة الموقوفة والصحّة الموقوفة عليها في المقدّمة الثانية الصحّة بمعنى المطابقة للواقع.

وحينئذ فإن اريد بالصحّة الموقوفة والموقوف عليها في المقدّمة الاولى أيضا الصحّة بهذا المعنى. ففيه ـ مع عدم مساعدة العبارة بقرينة العطف بقوله : « وجواز عمله به » الظاهر في التفسير ـ : منع توقّف مطابقة اجتهاده في المسائل الفقهيّة للواقع على مطابقة اجتهاده في أنّ الاجتهاد يتجزّى أي يجوز العمل به ، إذ قد يطابق الأوّل للواقع ولا يكون مرخّصا في العمل به بحسب الواقع ، ولازمه أن يكون الثاني مخالفا للواقع وإن كان مقتضاه جواز العمل بالأوّل في مرحلة الظاهر. وممّا يفصح عن عدم التوقّف هنا أنّه قد يجامع المطابقة في الأوّل للقول بمنع تجزّي الاجتهاد سواء طابق الواقع أو خالفه.

وإن اريد بها في المقدّمة الاولى الصحّة بمعنى جواز العمل كما هو ظاهر العطف حتّى يؤول معنى العبارة إلى أن يقال : جواز العمل بالاجتهاد في المسائل الفقهيّة موقوف على جواز العمل به في مسألة تجزّي الاجتهاد. ففيه ـ بعد منع التوقّف أوّلا ، ومنع استحالة الدور هنا على فرض اتّحاد الدليل ثانيا لكونه معيّا ـ : عدم ارتباط المقدّمة الثانية حينئذ على المقدّمة الاولى ، لابتنائها كما عرفت على كون الصحّة فيها مرادا بها مطابقة الواقع ، إلاّ

١٧٣

قياس لا نقول به *

__________________

أن يفكّك بين الصحّتين في المقدّمة الاولى بحمل الصحّة الموقوف عليها على إرادة مطابقة الواقع أيضا فحينئذ يمنع توقّف جواز العمل بالاجتهاد في الفروع على مطابقة الاجتهاد في المسألة الاصوليّة للواقع ، بل العلم بالجواز يتوقّف على دليله الّذي يقرّر في المسألة الاصوليّة ، وهذا الدليل وإن كان مفيدا للقطع قد يطابق الواقع فيكون الاجتهاد في تلك المسألة مطابقا للواقع وقد يخالفه فيخالفه الاجتهاد أيضا.

غاية الأمر أنّ الجواز في الأوّل حكم واقعي صار تكليفا فعليّا بسبب العلم به ، وفي الثاني مخالف للحكم الواقعي وإن صار بسبب حجّيّة الدليل القائم به تكليفا فعليّا.

وعلى تسليم التوقّف هنا من باب التنزّل يمنع توقّف مطابقة الاجتهاد في تجزّي الاجتهاد للواقع على الجواز المتوقّف عليها ، بل غايته أنّها تتوقّف على الجواز الواقعي ، والمأخوذ في المقدّمة الاولى التوقّف على المطابقة للواقع هو الجواز الفعلي الّذي هو أعمّ من الواقعي والظاهري ، فلا يلزم حينئذ توقّف الشيء على نفسه ، لأنّ النتيجة الحاصلة من هاتين المقدّمتين على فرض تسليم التوقّف في كلتيهما هو أنّ الجواز الواقعي موقوف على الجواز الفعلي وهذا كما ترى ، ولا ريب أنّ كذب النتيجة يكشف عن كذب إحدى المقدّمتين أو كلتيهما وهو المطلوب وإن لم نعلم أنّ جهة الكذب أيّ شيء ، هذا.

* خبر لما تقدّم من قوله : « ولكن التمسّك في جواز الاعتماد على الظنّ بالمساواة للمجتهد المطلق » ودفع لما احتجّ به أهل القول بجواز التجزّي.

وملخّص هذا الاحتجاج ـ على ما قرّره بعض الفضلاء ـ : أنّ المتجزّي إذا استقصى أدلّة مسألة بالفحص والتتبّع فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، وقصوره عن الإحاطة بأدلّة بقيّة المسائل لا مدخل له في معرفة تلك المسألة ، وحينئذ فكما جاز للمجتهد المطلق أن يعوّل على نظره واجتهاده فيها فكذلك المتجزّي.

وقد يقرّر هذا الدليل : بأنّ المتجزّي في مسألة مساو للمطلق فيها في الدليل وانحصار المناط ، والمتساويان لا يجوز اختلافهما في الحكم ، فيحرم على المتجزّي تقليد الغير في تلك المسألة كالمطلق.

ودفع هذا الاحتجاج حينئذ يتأتّى تارة بمنع الصغرى الراجع إلى منع المساواة ، واخرى بمنع الكبرى الراجع إلى منع كفاية هذه المساواة ـ على فرض تسليمها ـ لكونها ظنّية ،

١٧٤

نعم : لو علم أنّ العلّة في العمل بظنّ المجتهد المطلق هي قدرته على استنباط المسألة ، أمكن الإلحاق من باب منصوص العلة *.

__________________

فالاحتجاج بها على مشاركة المتجزّي للمطلق في الحكم تعويل على الدليل الظنّي وهو ليس بسائغ لإفضائه إلى الدور ، بخلاف المطلق فإنّ دليله على الحكم قطعي فلا مانع من التعويل عليه ، وقد أشار المصنّف إلى كلّ من المنعين على ما ستعرفه مع ما يزيّفه.

* استشعر به فرض صورة لو كانت محقّقة كانت المساواة المدّعاة مسلّمة ، ومحصّل مراده : أنّه لو ثبت بدليل علمي أنّ علّة جواز العمل بالظنّ الحاصل في المسألة هي القدرة على استنباط نفس هذه المسألة لا بشرط شيء من القدرة على استنباط سائر المسائل ولا عدمها كانت مساواة المتجزّي للمطلق ثابتة ، لكون القدرة على استنباط المسألة بهذا المعنى حاصلة لكلّ منهما.

غاية الأمر مفارقة المطلق عن المتجزّي بقدرته على استنباط سائر المسائل أيضا والمفروض أنّها ممّا لا مدخل له في الحكم بالنسبة إلى هذه المسألة.

وليعلم أنّ إطلاق العلّة هنا على القدرة على استنباط المسألة مثلا مسامحة في التعبير ، لوضوح أنّ القدرة على تقدير مدخليّته في الحكم ملحوظة من باب الشرطيّة إمّا بأن يقال : إنّ شرط جواز العمل بالظنّ الاجتهادي في امتثال أحكام الله سبحانه هو القدرة على استنباط المسألة.

أو يقال : إنّ شرط جواز التعبّد بالتقليد في امتثال أحكامه تعالى هو العجز عن استنباط المسألة وعدم القدرة على تحصيل الظنّ الاجتهادي ، فمع القدرة على الاستنباط انتفى شرط الجواز في التقليد ، فتعيّن العمل بالظنّ الاجتهادي المسبّب حصوله عن القدرة الحاصلة.

وليعلم أيضا أنّ القدرة على استنباط المسألة أعمّ من أن لا يكون للقدرة على استنباط مسألة اخرى مدخل فيها أصلا ، ومن أن يكون لها مدخل فيها بأن تتعلّق هذه القدرة بالقدرة على استنباط المسألة المبحوث عنها لأنّ لها دخلا في إحراز المقتضي لاستنباط هذه المسألة ، أو لأنّ لها دخلا في إحراز فقد المانع عن استنباطها وهو المعارض الّذي يمنع عن حصول الظنّ ، فيراد بالقدرة على استنباطها حينئذ القدرة على استنباط عدّة مسائل يكون لها بالقياس إلى بعضها مدخل فيها بالقياس إلى البعض الآخر.

١٧٥

ولكنّ الشأن في العلم بالعلّة لفقد النصّ عليها ، ومن الجائز أن يكون هي قدرته على استنباط المسائل كلّها *.

__________________

* وفي كون العلّة في العمل بالظنّ هي القدرة بكلا قسميها منع واضح كما أشرنا إليه ، بل هي على ما يساعد عليه النظر من شروط وجود الموضوع وتحصّله في الخارج ، وإنّما العلّة للحكم هو انحصار المناص في العمل بالظنّ الاجتهادي الحاصل بسقوط اعتباري العلم والاحتياط.

أمّا الأوّل : فبانسداد بابه.

وأمّا الثاني : فبانتفاء لازمه في الشرع.

وهذا بالمعنى الّذي قرّرناه مرارا ونقرّره هنا أيضا لا يختصّ بالمجتهد المطلق ، إذ قد عرفت أنّ مقتضى الأصل المستفاد من حكم القوّة العاقلة وبناء العقلاء بل ضرورة العقول كون المرجع في امتثال أحكام الله تعالى هو العلم ثمّ الاحتياط مع تعذّره ، ثمّ بعده ـ أيضا لتعذّره أو سقوط اعتباره شرعا ـ يتعيّن الرجوع إلى ما يقرب منهما ولم يتضمّن محذوريهما من التكليف بغير المقدور والعسر والحرج المخلّين بالنظم معاشا ومعادا من غير أن يكون بينه وبينها واسطة غير مؤدّية إلى أحد المحذورين ، وليس ذلك إلاّ الظنّ الاجتهادي في حقّ من يتمكّن منه ، لا مطلقه بل مرتبة منه لو تعدّيناها إلى ما فوقها من المراتب إن كان لأدّى إلى أحد المحذورين ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه في كلماتهم بالظنّ الأقوى ، والإجماع على العمل بالظنّ كما ادّعاه المصنّف وغيره ممّن سبقه ولحقه لابدّ وأن يكون معلقا على انسداد باب العلم وعلى سقوط اعتبار الاحتياط ، وهذا التعليق ليس لورود دليل خاصّ عليه من رواية أو آية كتابيّة ، بل لقاعدة التحرّز عن التكليف بغير المقدور وما يوجب اختلال النظم ، وبعد اعتبار هذا التعليق كان معقده الظنّ القريب منهما بلا تخلّل واسطة بينه وبينهما غير مؤدّية إلى أحد المحذورين.

وممّا يرشد إلى ذلك ما في كلام المجمعين من اعتبار الظنّ الأقوى كما لا يخفى.

والعمل بالتقليد أيضا وإن كان مآله بالأخرة إلى العمل بالظنّ الاجتهادي الّذي حصّله غير هذا العامل ، إلاّ أنّه لعروض جهة الفتوى له ممّا طرأه من الاحتمالات المبعدة عن مقتضى العلم والاحتياط ـ حسبما بيّنّاها سابقا على التفصيل ـ ما لم يطرأه بالنسبة إلى الظانّ نفسه كما لا يخفى.

١٧٦

بل هذا أقرب إلى الاعتبار من حيث إنّ عموم القدرة إنّما هو لكمال القوّة ، ولا شكّ أنّ القوّة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة *. فكيف يستويان؟

__________________

وإن شئت فقل : إنّ الظنّ الاجتهادي بالنسبة إلى الظانّ ظنّ بلا واسطة وبالنسبة إلى غيره ممّن يأخذ به ظنّ بالواسطة ، والأقرب إلى العلم والاحتياط هو الأوّل لما في الثاني من الاحتمالات المبعدة ما لا يجري في الأوّل.

وقضيّة ما ذكرناه من القاعدة أن لا يعدل عن الأوّل إلى الثاني إلاّ لداعي التأدية إلى أحد المحذورين ، ولذا انحصر المرجع للعامي في التقليد ، ومعه فكيف يجوز لغيره الّذي هو المتجزّي الرجوع إلى التقليد مع أنّ بالنسبة إليه بينه وبين العلم والاحتياط واسطة غير مؤدّية إلى محذوريهما وهو ظنّه الاجتهادي الّذي هو في حقّه ظنّ بلا واسطة.

والحاصل أنّ العلة الباعثة على تعيّن الرجوع إلى الظنّ الاجتهادي بلا واسطة مشتركة بين المجتهد المطلق والمتجزّي ، فهو يساوي المطلق على سبيل الجزم واليقين فيجوز له العمل بظنّه بعين ما دلّ على جوازه في حقّ المطلق.

* وفيه : أنّ كون عموم القدرة من جهة كمال القوّة أمر مسلّم لا إشكال فيه ويلزم منه أن يكون قصور القدرة لنقصان القوّة ، لكن قد عرفت بما بيّنّاه سابقا أن ليس العبرة في كمال القوّة ونقصانها بكون الأوّل في مرتبة قويّة أو في أقوى المراتب وكون الثاني في مرتبة ضعيفة أو في أضعف المراتب ، كيف وقد تكون القوّة في المرتبة الضعيفة أو أضعف المراتب وهي عامّة لجميع المسائل حاصلة بالقياس إليها كلّها ، كما أنّها قد تكون في المرتبة القويّة أو أقوى المراتب وهي غير عامّة لجميع المسائل.

وإن شئت توضيح هذا المطلب فافرض الكلام في مجتهدين مطلقين يكون أحدهما أعلم من الآخر ، وفي متجزّيين كذلك بناء على أنّ العبرة في الأعلم بكونه أقوى ملكة ويعبّر عنه في الفارسيّة بكونه « استادتر » في استنباط الأحكام الشرعيّة عن الأدلّة ، فالعبرة إذن في كمال القوّة ونقصانها بالاختلاف الحاصل بين متعلّق القوّة ـ وهو المسائل ـ في كونه جميع المسائل أو بعضها كائنا ما كان ولو مسألة واحدة ، فلو تعلّقت القوّة بجميع المسائل كانت كاملة وإن كانت في حدّ ذاتها في أضعف المراتب ولو تعلّقت ببعضها كانت ناقصة وإن فرضت في أقوى المراتب.

وحينئذ فلا يستقيم ما ذكره بقوله : « ولا شكّ أنّ القوّة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة ».

١٧٧

سلّمنا ، ولكنّ التعويل في اعتماد ظنّ المجتهد المطلق إنّما هو على دليل قطعيّ ، وهو إجماع الامّة عليه وقضاء الضرورة به *

__________________

وبيانه : أنّ هذا الاختلاف إنّما يتأتّى إذا اعتبر الكاملة عبارة عمّا هو في مرتبة القوّة والناقصة عبارة عمّا هو في مرتبة الضعف كما في الأعلم وغيره ، وهذا في المقام ليس بلازم الفرض ، بل نحن نفرض المسألة واقعيّة ونقول : إذا كان القدرة على الاستنباط والقوّة الباعثة على هذه القدرة في كلّ من المتجزّي والمطلق بالقياس إلى المسألة المبحوث عنها في مرتبة واحدة على وجه لم يكن لقوّة المطلق بالقياس إلى غير هذه المسألة مدخليّة في قوّته الحاصلة بالقياس إليها أصلا ، ومع هذا الفرض فكيف يعقل الاختلاف بينهما بكون قوّة المطلق أبعد عن احتمال الخطأ من قوّة المتجزّي بل قضيّة ذلك كون احتمال الخطأ بالنسبة إلى كلتيهما في مرتبة واحدة.

وبهذا البيان سقط احتمال كون العلّة في العمل بظنّ المجتهد المطلق قدرته على استنباط المسائل كلّها ، فإنّ هذا الاحتمال إنّما يقوم في المقام إذا كان لعموم قدرته مدخل في كون قدرته بالقياس إلى مسألة شاركه المتجزّي في الاجتهاد فيها أبعد عن احتمال الخطأ من قدرة المتجزّي. وقد عرفت منعه بما لا مزيد عليه.

وعلى فرض تسليم كون ما للمتجزّي من القدرة على استنباط المسألة أقرب إلى احتمال الخطأ ممّا للمطلق بالقياس إلى هذه المسألة ، نقول : إنّ هذا القرب ينجبر بخلوص ظنّ المتجزّي بالقياس إلى نفسه عن البعد الّذي يطرأ ظنّ المطلق بالقياس إلى مقلّده من جهة عروض جهة الفتوى لهذا الظنّ الباعثة على جريان جملة كثيرة من الاحتمالات المبعدة عن الواقع حسبما أشرنا إليها مستوفاة ، بل ظنّ المتجزّي لنفسه إذا قابله ظنّ المطلق له مع ملاحظة طريان هذه الاحتمالات له أقرب إلى الاعتبار منه لكونه أبعد عن احتمال مخالفة الواقع منه.

* وعن بعض الأفاضل ـ والظاهر أنّه صاحب الوافية ـ الاعتراض عليه : بأنّ حصول الإجماع في هذه المسألة غير ظاهر ، إذ ظاهر أنّ هذه المسألة ممّا لم يسأل عنه الإمام عليه‌السلام فالعلم بالإجماع الّذي يقطع بدخول المعصوم فيه بالنسبة إليها وإلى ما يضاهيها من المسائل الّتي لم يوجد فيها نصّ شرعي ممّا لا يكاد يمكن ، كيف والعمل بالروايات في عصر الأئمّة عليهم‌السلام للرواة بل وغيرهم لم يكن موقوفا على إحاطتهم بمدارك الأحكام والقوّة القويّة على

١٧٨

الاستنباط ، بل يظهر بطلانه بأدنى الاطّلاع على حقيقة أحوال القدماء ، فلا معنى لدعوى الإجماع في المسألة.

وما ذكره من قضاء الضرورة به إن اريد به كونه بديهيّا من غير ملاحظة أمر خارج فهو بديهيّ البطلان ، وإن أراد بداهته بعد ملاحظة أمر خارج وهو احتياج المكلّف إلى العمل وانحصار الأمر بين الاجتهاد والتقليد فالبداهة تحكم بتقديم الاجتهاد ، فهو صحيح لكنّه مشترك بين المطلق والمتجزّي.

وقد تقدّم الإشارة إلى هذا الاعتراض بالنسبة إلى الإجماع مع ما يدفعه ونزيدك هنا بيانا ونقول : إنّ الإجماع ليس ممّا يستكشف عنه بورود النصّ ، بل النصّ ممّا يستكشف عن وروده بالإجماع ، والمعتبر في الإجماع الكاشف كون انعقاده بحسب الواقع عن مستند يرجع إلى الإمام المعصوم ولو كان فعلا له أو تقريرا منه ، فلا يعتبر فيه كونه عن نصّ لفظي ، وعلى تقدير كونه عن النصّ اللفظي لا يعتبر فيه سبق السؤال.

وعلى جميع التقادير لا يعتبر في العلم به ولا في حصول الكشف من جهته سبق العلم بمستنده الموجود بحسب الواقع ، وعلى هذا فلم لا يجوز أن يكون الإجماع المدّعى في خصوص المسألة مستند إلى ما ورد في الروايات المتكرّرة والأخبار المستفيضة من قولهم عليهم‌السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا » بناء على ما سبق تحقيقه من أنّ التفريع ممّا لا يتأتّى غالبا إلاّ بإعمال ظنون كثيرة اجتهاديّة تحرز بها الصدور وجهته والدلالة وجهتها والمعارضة ودفعها ، فالإلزام المستفاد من كلمة « عليكم » ترخيص في العمل بتلك الظنون تحرّزا عن الأمر بغير المقدور.

ولك أن تقول : بجواز استناده إلى الأخبار العلاجيّة الآمرة بمراجعة المرجّحات الّتي ليست إلاّ امورا ظنّية.

ويتأكّد بملاحظة ما سنقرّره في محلّه من أنّ المستفاد من هذه الأخبار الترخيص في الترجيح بالظنّ الاجتهادي كائنا ما كان وإن لم يكن من سنخ ما نصّ به فيها ، وهذه الأخبار وإن كانت متضمّنة للمرجّحات المحرزة للسند والصدور والجهة غير أنّه يعلم منها الترخيص في مراجعة المرجّحات المحرزة للدلالة أيضا بطريق الفحوى ، لكون الأمر في الدلالة أهون منه في السند وجهة الصدور ، والدائرة في المرجّحات الراجعة إليها أوسع منها في المرجّحات الراجعة إلى غيرها من الجهات ، ولذا اتّفق الكلّ حتّى الأخباريّين على الأخذ بموجب

١٧٩

المرجّحات المحرزة للدلالة من غير توقّف فيها على التنصيص بخلاف سائر المرجّحات الّتي صار الأخباريّون فيها إلى اعتبار ورود النصّ والاقتصار في الترجيح على المنصوص بالخصوص.

ومع الغضّ عن جميع ذلك نقول : إنّه لا شبهة في أنّهم قديما وحديثا اتّفقوا على حجّية فهم من يستند فهمه إلى الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّه في الغالب ظنّي لانسداد باب العلم بالنسبة إلى معظم الأحكام فيكون هذا الاتّفاق إجماعا منهم على حجّية هذا الفهم الظنّي.

ومعنى إجماعهم عليه تواطؤهم على الجزم واليقين كما يفصح عنه تصريحاتهم بعدم كون الظنّ ممّا يثبت بالظنّ.

ومن المعلوم بملاحظة عدلهم وورعهم وتقواهم وشدّة اهتمامهم في المحافظة على فروع أحكام الشرع فضلا عن اصولها أنّ ذلك منهم ليس مجرّد اقتراح ولا محض اقتحام بلا دليل ، بل إنّما نشأ لهم عن قاطع بلغهم عن إمامهم ورئيسهم المعصوم في خصوص المسألة وإن لم نعلمه بالخصوص ، أو عن قاطع كلّي قال بموجبه الإمام وإن لم يكن له اختصاص بالمسألة كقبح التكليف بغير المقدور ، أو غيره من المقدّمات الكلّية القطعيّة عقليّة أو شرعيّة وإن لم نعلمه على التعيين ، لا بمعنى إناطة الاطّلاع على الإجماع بسبق الاطّلاع على مدركه القاطع حتّى يقال : إنّ سبق الاطّلاع عليه ممّا يغني عن التمسّك بالإجماع ويرفع الحاجة إليه ، بل بمعنى أنّ سبق الاطّلاع على الإجماع ابتداء ومن غير التفات إلى شيء آخر ممّا يوجب انكشاف رأي الإمام ومعتقده ولو من جهة كونه من جزئيّات اعتقاده بموجب القاطع العامّ المنضبط الّذي استقلّ بإدراكه العقل على سبيل اليقين وإن لم نلتفت إليها على جهة التعيين.

وبالجملة الإجماع المفروض ممّا يكشف عن رأي المعصوم بأحد الوجهين كشفا ابتدائيّا بحيث لو لا النظر إليه لم يكن الكشف حاصلا ، فلا يعتبر في انعقاده سبق سؤال ولا في الاطّلاع عليه سبق العلم بمستنده كائنا ما كان.

ومن الأعلام من تفصّى عن الشبهة المذكورة بوجوه ثلاث ، أحدها مبنيّ على حمل الإجماع المدّعى هنا على إرادة معناه اللغوي ، والآخران على إرادة معناه المصطلح عليه.

أمّا الأوّل : فقال : « إنّ مرادهم من دعوى الإجماع لعلّه إجماع العقلاء وأهل العدل من

١٨٠