تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

بأن يستند إليه الأخذ ويعتمد عليه في أخذه به ، بل كان مستنده والوسط الّذي يحتجّ به في أخذه هو نفس ذلك القول ، حتّى أنّه لو سئل من وجه أخذه وعمله به علّله بقوله : قول فلان ، أو أنّه قال به فلان.

فالفرق بين التقديرين أنّ التعريف على الأوّل لا ينطبق إلاّ على أخذ العامي من مثله وأخذ المجتهد من مثله أو من العامي في الفروع أو الاصول ، ويخرج عنه أخذ العامي من المجتهد في الفروع بل الاصول أيضا على القول بجواز التقليد في اصول الدين لقيام الدليل فيهما على جواز الأخذ ، وعلى الثاني يتناول جميع الأقسام الثمانية ولا يخرج عنه القسمان الأخيران ، فكلّ واحد منها على هذا التقدير تقليد على وجه الحقيقة.

غاية الأمر أنّه في بعضها مشروع وفي الباقي غير مشروع لعدم دليل على جوازه بل قيام الدليل على المنع ، وخرج عنه الأخذ بقول الغير من دليل عليه بالخصوص على وجه يكون مستند الأخذ في أخذه ذلك الدليل لا مجرّد كونه قول الغير ، كما يتّفق للفقهاء في المسائل الخلافيّة حيث يختار المتأخّر منهم قول من تقدّمه لمساعدة دليل عليه ، حيث يصدق على اختياره ذلك القول أنّه أخذ بقول الغير لكنّه لا لكونه قول الغير بل لمساعدة الدليل عليه ، والظاهر أنّ هذا هو الّذي قصد إخراجه من التعريف بالقيد الأخير لعدم كونه من المعرّف بحسب العرف.

ولا ينتقض بأخذ العامي من المجتهد بدعوى أنّ له دليلا عليه وهو الّذي ينتظم عنده من القياس المعبّر عنه : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي » لأنّ هذا ليس دليلا على حكم المسألة بالخصوص ممّا يستعمله المجتهد عند استنباطه الحكم الخاصّ منه ، بل هو دليل على اعتبار قول المفتي وحجّيّة فتواه المقتضية لجواز الأخذ به ، ووجه دلالته : أنّه بحكم الكلّية الكبرى يقتضي كون الحكم المفتى به حكما فعليّا على المقلّد يجب الأخذ والالتزام به على أنّه حكم الله الّذي يجب التديّن به ، على أنّ المراد من القول المأخوذ هو الحكم الخاصّ الّذي أفتى به المفتي ، وإطلاق القول عليه في لسان الفقهاء والاصوليّين شائع ، فهذا الدليل العامّ دليل على جواز الأخذ والعمل لا على خصوص الحكم المفتى به.

وممّا يؤيّد جميع ما بيّنّاه أنّ المقلّد يقال على ما قابل الفقيه الّذي هو عبارة عن الآخذ بالأحكام من الأدلّة التفصيليّة ، فالمقلّد هو الّذي يأخذ في المسائل بالأحكام من غير دليل تفصيلي في كلّ مسألة مسألة يدلّ على حكم المسألة بالخصوص ، وما يتراءى في كلماتهم

٣٦١

وعلى هذا فالرجوع إلى الرسول مثلا ليس تقليدا له * ، وكذا رجوع العاميّ إلى المفتي لقيام الحجّة في الأوّل بالمعجزة ، وفي الثاني بما سنذكره.

هذا بالنظر إلى أصل الاستعمال ، وإلاّ فلا ريب في تسمية أخذ المقلّد العاميّ بقول المفتي تقليدا في العرف ، وهو ظاهر.

__________________

من إطلاق المقلّد في مقابل المجتهد فهو مبنيّ على إرادة الفقيه من المجتهد ، أو على أنّ المراد من المقلّد من وظيفته التقليد ومن المجتهد من وظيفته الاجتهاد.

وممّن تنبّه على ما استظهرناه من التعريف وعلى جملة ممّا بيّنّاه فخر الإسلام قدس‌سره فيما حكي عنه من تعريفه التقليد ـ في شرح المبادئ ـ : « بأنّه قبول قول الغير في الأحكام الشرعيّة من غير دليل على خصوصيّة ذلك الحكم ، والقيد الأخير لأنّ المقلّد يستند إلى حجّة وهو : أنّ هذا الحكم قد أفتى به المجتهد وكلّ ما أفتى به المجتهد فهو حقّ ، فإنّ هذه حجّة لكن ترد في جميع الأحكام الّتي يقلّد فيها » انتهى.

وبالجملة هو معنى التقليد عرفا الجاري في جميع المباحث الآتية الّتي منها مسألة التقليد في اصول الدين ، ولا يلزم على هذا المعنى اشتراك ولا تعدّد نقل في اللفظ ، كما يظهر الالتزام به من المصنّف وغيره ممّن تبعه حيث أشكل عليهم الأمر في شيوع إطلاق التقليد على أخذ العامي من المجتهد وكونه على وجه الحقيقة ، فتفصّوا عنه بجعل ما فهموه من التعريف بحسب أصل الاستعمال وهذا بحسب العرف المتأخّر ، ولا خفاء في كونه تكلّفا لا داعي إلى ارتكابه بعد ما ذكره.

ونحوه ما ارتكبه بعض الأعلام حيث إنّه بعد البناء على نحو ما ذكره الجماعة استشكل ـ في قولهم : يجوز التقليد في الفروع ولا يجوز في الاصول ـ : « بأنّه إن اريد به الأخذ بقول الغير من غير حجّة لم يجز فيهما ، وإن اريد الأخذ به مع الحجّة جاز فيهما » ثمّ تفصّى عنه بحمل التقليد هناك على معنى آخر وهو الأخذ بقول الغير مجرّدا عن اعتبار القيدين ، وقد اتّضح أنّ المراد به في المقامين هو الأخذ من غير حجّة بالمعنى الّذي بيّنّاه ولا إشكال معه أصلا.

* تفريع على ما صنعه من إرجاع القيد الأخير إلى العمل وقد اتّضح بطلانه ، وأمّا على ما وجّهناه فوجه خروج الأخذ من الرسول والأئمّة عليه وعليهم‌السلام أنّ المأخوذ فيه إنّما هو حكم الله الواقعي المستفاد من قولهم المعبّر عنه بالسنّة وهو بهذا الاعتبار لا يسمّى قول الرسول ولا قول الإمام فيخرج بقيد : « قول الغير » ، ولو سلّم صدق « قول الغير » عليه

٣٦٢

إذا تقرّر هذا ، فأكثر العلماء على جواز التقليد لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد * سواء كان عامّيا ، أم عالما بطرف من العلوم.

__________________

أيضا فيكفي في إخراجه القيد الأخير ، لأنّ قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام في كلّ مسألة باعتبار كونه سنّة دليل تفصيلي على الحكم المستفاد منه بالخصوص ، وإن سمّي ذلك الحكم أيضا قولا بناء على ما عرفت من أنّ القول المأخوذ في التعريف ليس هو القول بمعنى القضيّة الملفوظة بل مضمون تلك القضيّة.

ولا ريب أنّ القضايا الملفوظة المتلقّاة عن أهل العصمة أدلّة تفصيليّة على مضامينها وهي الأحكام المستفادة منها.

ومن الفضلاء من زعم استناد خروج الأخذ منهم عليهم‌السلام إلى « قول الغير » باعتبار كون المراد به فتواه في الحكم الشرعي.

وما ذكرناه أوجه ، وقد زعم الفاضل المذكور خروج الأخذ من الراوي والشاهد والحاكم أيضا بهذا القيد بناء على الحمل المذكور لعدم كون أقوالهم من باب الفتوى.

وأمّا على ما اخترناه فوجه الخروج أنّ مضمون كلام هؤلاء لا يسمّى قولا في الاصطلاح ، فإنّ « قول فلان » يقال في العرف على مختاره في المسألة العلميّة ، يقال : قول العلاّمة مثلا في المسألة الفلانيّة الوجوب ، وقول الشيخ الاستحباب وغيره.

ثمّ بعد الفراغ عن شرح التقليد لغة وعرفا ينبغي التكلّم في حكمه وأركانه المقلّد والمقلّد والمقلّد فيه فالكلام يقع في مقامات :

المقام الأوّل في حكم التقليد وفيه جهتان :

الاولى : في مشروعيّة التقليد قبالا لمن أنكرها كابن زهرة من الأصحاب وفقهاء حلب.

والثانية : في أنّه بعد المشروعيّة هل هو واجب على التعيين أو على التخيير بينه وبين الأخذ بالاحتياط؟ ونتعرّض في ذلك لحكم تارك الطريقين المعبّر عنه بالجاهل في العبادات ، كما نتعرّض فيه أو في سابقه لتفصيل المقلّد بالكسر وتشخيص من يشرع له التقليد ومن لا يشرع.

* هذا هو عنوان الكلام في الجهة الاولى ، ونسبة الجواز إلى الأكثر كما في كلام غير واحد.

وعن النهاية والمنية : اتّفق المحقّقون على ذلك.

٣٦٣

وعن شرح المبادي نسبته إلى الإماميّة كافّة وأكثر الناس.

وعن جماعة من الأساطين كالسيّد في الذريعة والشيخ في العدّة والمحقّق في المعارج والعلاّمة في الذكرى والنهاية وفخر الإسلام في الإيضاح وشرح المبادي والشهيد في الذكرى دعوى الإجماع وما بمعناه عليه.

وقد عرفت عبارة الذريعة سابقا ، وقال في محكيّ العدّة : « والّذي نذهب إليه أنّه يجوز للعامي الّذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالم ، يدلّ على ذلك : إنّي وجدت عامّة الطائفة من عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى زماننا هذا يرجعون إلى علمائنا ويستفتونهم في الأحكام وفي العبادات ، ويفتونهم العلماء ويسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به ، وما سمعنا أحدا منهم قال لمستفت : لا يجوز ذلك الاستفتاء والعمل به ، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما علمت ، ولا أنكر عليهم العمل بما يفتونهم ، وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمّة عليهم‌السلام ولم يحك عن واحد من الأئمّة النكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب القول بخلافه ، بل كانوا يصوّبونهم في ذلك ، فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم (١) خلافه » انتهى (٢).

وفي محكيّ المعارج : « يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الأحكام الشرعيّة ، لنا : اتّفاق علماء الأعصار على الإذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر ، وقد ثبت أنّ إجماع أهل كلّ عصر حجّة » (٣) وفي محكيّ المبادي : « يجوز التقليد في الفروع ، لنا : عدم إنكار العلماء في جميع الأوقات ».

وفي محكيّ النهاية عند الاستدلال : « الثاني الإجماع ، فإنّه لم تزل العامّة من زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يرجعون في الأحكام إلى قول المجتهدين ويستفتونهم ، والعلماء يسارعون إلى الأجوبة من غير إشارة إلى ذكر دليل ولا ينهوهم عن ذلك فكان إجماعا ».

وفي محكيّ الإيضاح : « يجوز التقليد في أصل الحكم الشرعي إجماعاً ».

وفي محكيّ شرح المبادي : « لنا وجوه : الأوّل الإجماع قبل حدوث المخالف » ثمّ ذكر نحو ما عرفت عن محكيّ النهاية.

وفي محكيّ الذكرى ـ بعد الإشارة إلى قول فقهاء حلب ـ ويدفعه : « إجماع السلف والخلف على الاستفتاء من غير نكير ولا تعرّض لدليل بوجه من الوجوه ».

وفي مفاتيح الاصول عن بعض فضلاء معاصريه : « الحقّ جواز التقليد مطلقا سواء كان عاميّا بحتا أو عالما بطرق من العلوم ، للإجماع المعلوم بتتبّع حال السلف من الإفتاء

__________________

(١) الظاهر أنّ في موضع من هذه العبارة غلطا ( منه ). (٢) العدّة ٢ : ٧٣٠. (٣) معارج الاصول : ١٩٧.

٣٦٤

وعزى في الذكرى إلى بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الاستدلال على العوامّ * وأنّهم اكنفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع ، أو النصوص الظاهرة ، أو أنّ الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضارّ الحرمة مع فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته ، والنصوص محصورة. وضعف هذا القول ظاهر.

وقد حكى غير واحد من الأصحاب : اتّفاق العلماء على الإذن للعوامّ في الاستفتاء من غير تناكر ، واحتجّوا مع ذلك : بأنّه لو وجب على العاميّ النظر في أدلة المسائل الفقهيّة لكان ذلك إمّا قبل وقوع الحادثة ، أو عندها. والقسمان باطلان. أمّا قبلها فبالإجماع ، ولأنّه يؤدّي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك فيؤدّي إلى الضرر بأمر المعاش المضطرّ إليه.

وأمّا عند نزول الواقعة ، فلأنّ ذلك متعذّر ، لاستحالة اتّصاف كلّ عاميّ عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين. وبالجملة فهذا الحكم لا مجال للتوقّف فيه.

__________________

والاستفتاء وتقريرهم وعدم إنكارهم والمدّعى في كلماتهم » (١) وحكي نقل الإجماع عن جماعة من العامّة أيضا.

* كأنّه أراد ببعض قدماء الأصحاب ابن زهرة في الغنية المصرّح بمنع التقليد قائلا فيها : « لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي لأنّ التقليد قبيح ، ولأنّ الطائفة مجمعة على أنّه لا يجوز العمل إلاّ بعلم. وليس لأحد أن يقول : قيام الدليل وهو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي والعمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمنه من الإقدام على القبيح ويقتضي استناد عمله إلى العلم.

لأنّا لا نسلّم إجماعهم على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه ، كيف وهو موضع الخلاف ، بل إنّما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط فأمّا ليعمل بقوله فلا.

فإن قيل : فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم يجز العمل بقوله؟

__________________

(١) مفاتيح الاصول : ٥٩٠.

٣٦٥

قلنا : الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإماميّة سبيل إلى العلم بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين ، يبيّن صحّة ذلك أنّهم أجمعوا على أنّه لا يجوز الاستفتاء إلاّ من إمامي المذهب وإنّما حظّروا استفتاء مخالفه خوفا أن يفتيه بخلاف الحقّ ، فلو كان إيجابهم للاستفتاء من الإمامي لتقليده لم يكن فرق بينه وبين مخالفه الّذي لا يؤمن أن يكون فتياه بغير الحقّ لارتفاع عصمته ، ولأنّ مخالفه يجوز أن يفتيه بمطابقة الحقّ وموافقته ، فيثبت أنّهم إنّما أمروا برجوع المستفتي إلى فقهاء الإماميّة ليحصل لهم العلم بإجماعهم على الحكم فيقطع على صحّته » انتهى.

ونسبه في محكيّ المقاصد العليّة إلى كثير من القدماء وفقهاء حلب كأبي الصلاح وابن حمزة ، وقرّر في محكيّ الذكرى مذهب فقهاء حلب : « بأنّهم أوجبوا على العوامّ الاستدلال واكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع والنصوص الظاهرة ، وإنّ الأصل في المنافع الإباحة وفي المضارّ الحرمة عند فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته والنصوص محصورة ».

ومن الفضلاء من قرّر مذهبهم : « بأنّهم أوجبوا على العامي الرجوع إلى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم من الكتاب والسنّة ، فإن ساعد لغته على معرفة مدلولهما وإلاّ ترجم له معانيهما بالمرادف من لغته ، وإذا كانت الأدلّة متعارضة ذكر له المتعارضين ونبّهه على طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ والعامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، ومع تعذّر الجمع يذكر له أخبار العلاج على حذو ما مرّ ، ولو احتاج إلى معرفة حال الراوي ذكر له حاله » (١).

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في سخافة هذا القول وشذوذ قائله مع عدم وضوح حجّته سوى ما أشار إليه ابن زهرة في عبارته المتقدّمة من قبح التقليد وإجماع الطائفة على عدم جواز العمل بغير العلم.

ويزيّفه : أنّ قبح التقليد إن اريد به القبح العقلي على معنى استقلال العقل بإدراك قبحه.

ففيه : أنّ التقليد في حكم العقل من الامور الّتي تقبح تارة وتحسن اخرى وإنّما يختلف بحسب اختلاف الوجوه والاعتبارات ، فإنّما يقبح ممّن أقام عليه في إطاعة الله وامتثال أحكامه مع الشكّ في مشروعيّته ، لرجوعه بالأخرة إلى الإقامة على الشكّ وهو قبيح عقلا على ما قرّرناه في غير موضع ، والقائل بمشروعيّته إنّما يقول بها عن علم لا عن شكّ فيكون حسنا في حكم العقل.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤١١.

٣٦٦

وإن اريد به القبح الشرعي باعتبار المنع المستفاد من الآيات الدالّة على حرمته ، ففيه : أنّ الآيات ليست إلاّ عمومات قابلة للتخصيص وأدلّة القول بالمشروعيّة ناهضة له.

ومن الفضلاء من أجاب عنها : « بكونها معارضة بالآيات الدالّة على حرمة العمل بالظنّ » (١).

وكأنّه أراد بالمعارضة هنا معارضة الاستدلال بالمثل قبالا لمن يمنع العامي من التقليد ويوجب عليه الاجتهاد المبنيّ في غالب موارده على الظنّ ، وإلاّ فلا تعارض بينهما بالمعنى المصطلح في تعارض الدليلين ، لجواز حرمة كلّ من التقليد والعمل بالظنّ عليه ، مع إمكان كون كلّ منهما حراما باعتبار كونه عملا بما وراء العلم وهو حرام كما أشار إليه ابن زهرة في استدلاله الثاني.

ثمّ التقليد وإن كان من جملة غير العلم لكنّ الإجماع على حرمة العمل به بجميع أفراده وفروضه غير مسلّم ، بل لو لم يكن الإجماع على جواز التقليد بالخصوص كما ادّعاه جماعة من أساطين الطائفة وفي الجملة غير نافع (٢).

والاجتهاد المدّعى وجوبه هنا إن اريد ما هو بالطريق المتعارف بين أهل الصناعة فتعذّره بالقياس إلى غير المحصّلين في الوضوح بحيث لا يحتاج إلى البيان ، بل قد يتعذّر بالقياس إلى كثير من المحصّلين المستحصلين لكثير من مقدّماته ومبادئه ، ووجوبه مع استحصال مقدّماته على تقدير إمكانه لكلّ أحد ـ لكونه مستوعبا لجميع أوقات العمر أو معظمها مع ما فيه من العسر والحرج ما لا يتحمّله الطباع ـ يخلّ بنظام العالم ، ولا يكفي فيه مجرّد معرفة الإجماع على فرض إمكان حصولها للعوامّ من مناقشة العلماء ، وهو فيما أمكن حصول معرفته لا يجدي نفعا في معرفة تفاصيل معقده ، والنصّ القاطع في متنه ودلالته على فرض وجوده وإمكان الاطّلاع عليه للعوامّ في غاية القلّة ، فلا يحصل به عشر من أعشار الفقه والاقتصار عليه والرجوع في غير مورده إلى أصل الإباحة في المنافع يوجب الخروج عن الدين ، مع أنّ تأسيس هذا الأصل وأصالة الحرمة في المضارّ لا يتأتّى إلاّ من ذوي الملكات ، مع عدم مساعدة أفهام كثير من العوامّ على فهم قليل من الأحكام بطريق الاجتهاد ولو اكتفى فيه بتعليم عارف عدل يذكر مدرك الحكم من الكتاب والسنّة ، مع عدم مساعدة أكثر أوقات العالم على تعليم قليل ممّا يحتاج إليه بعض العوامّ.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالمعرفة الحاصلة لهم بهذا الوجه ـ على تقدير تسليمه ـ

__________________

(١) الفصول : ٤١١.

(٢) كذا في الأصل.

٣٦٧

غير خارج عن حدّ التقليد ، بل هو على طريقتهم أشنع وبشاعته على مذاقهم أوضح لكونه تقليدا في مدارك الاجتهاد ومبادئه.

فالحقّ الّذي لا محيص عنه : هو مشروعيّة التقليد للعوامّ للأدلّة الأربعة ، فمن الكتاب : آيات النفر ، والكتمان ، والسؤال.

دلّت الاولى على أنّه تعالى أوجب الاجتهاد على بعض الفرقة فلو وجب على الأعيان لأوجب على الجميع ، أو لأنّه جعل فائدة التعلّم إنذار القوم إذا رجعوا إليهم وهو عين التقليد.

والثانية على حرمة الكتمان ، وهي تستلزم وجوب القبول عند الإظهار وإلاّ لغى الإظهار.

والثالثة على وجوب السؤال وهو يستلزم وجوب قبول الجواب وإلاّ لغى وجوب السؤال ، وإذا وجب القبول مع سبق السؤال وجب مع عدمه إذ لا مدخل لسبق السؤال فيه قطعا ولعدم القول بالفصل.

ومن السنّة : الأخبار المتكاثرة البالغة فوق حدّ الاستفاضة ، ولا يبعد كونها باعتبار المعنى متواترة الدالّة صراحة وظهورا على جواز الإفتاء والاستفتاء ، وإن ورد بعضها في خصوص طائفة مخصوصة من الرواة وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، كالمرويّ من قول أبي جعفر عليه‌السلام لأبان بن تغلب : « اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك ».

والمرويّ عن عليّ بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : « من زكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » بناء على ظهور معالم الدين في نفس المسائل.

ونحوه المرويّ عن عبد العزيز المهتدي وكيل الرضا عليه‌السلام وخاصّته فقال : إنّي سألته فقلت : إنّي لا أقدر على لقائك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال : « خذ عن يونس ابن عبد الرحمن ».

وفي رواية : ربّما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ قال : نعم.

والمرويّ عن عليّ بن سويد قال : كتب إليّ أبو الحسن الأوّل ـ وهو في السجن ـ : « أمّا ما ذكرت يا عليّ ممّن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين الّذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ».

وقول الحجّة عجّل الله فرجه في التوقيع لإسحاق بن يعقوب ، المرويّ عن كتاب الغيبة

٣٦٨

وكمال الدين والاحتجاج : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم ».

والمرسل المرويّ عن التذكرة قال : « لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نظر إلى فرج امرأة.

لا يحلّ له ، ورجلا خان أخاه في امرأته ، ورجلا احتاج إليه الناس لفقهه فسألهم الرشوة » يدلّ على أنّ احتياج الناس إلى الفقيه لفقهه أمر مفروغ عنه ، وإنّما يحرم أخذ الرشوة على الإفتاء لهم أو ما يعمّه والحكم.

والمرويّ عن الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ) الآية قال : قال الرجل للصادق عليه‌السلام : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم؟ فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال : « بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، أمّا من حيث استووا : فإنّ الله تعالى ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم بتقليدهم علماءهم ، وأمّا من حيث افترقوا : فلا ».

قال : بيّن لي يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

قال : « إنّ عوامّ اليهود [ كانوا ] قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح ، وبأكل الحرام والرشاء ، وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الّذي يفارقون الله أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم يتعارفون المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى [ أنّ ] من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على الله تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله تعالى ، فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه [ في حكايته ] ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لا يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم ، وكذلك عوامّ امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من تعصّبوا عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، وبالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الّذين

٣٦٩

ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لتلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجوهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليتجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا فيتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون عند شيعتنا وبه فينقصون بنا عند أعدائنا ، ثمّ يضعون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا الّتي نحن براء منها ، فيقبله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد لعنه الله على الحسين بن عليّ عليهما‌السلام » (١).

والروايات الناهية عن الإفتاء بغير علم ، مثل المرويّ عن البحار بسنده عن عبد الله بن بشر عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام في حديث قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عمل بالقياس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه فقد هلك ».

والمرويّ عنه أيضا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده من الدين أكثر ممّا يصلحه ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه فقد هلك وأهلك ».

والمرويّ عنه أيضا بسنده عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه ».

والمرويّ عن الكافي بسنده عن مفصّل بن يزيد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إيّاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال : أنهاك أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم ».

ويؤيّد الجميع أو تدلّ على المطلب بالفحوى أو عدم القول بالفصل مع تأمّل فيهما قوله عليه‌السلام ـ في مقبولة عمر بن حنظلة : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته حاكما ، فإذا حكم حكما فلم يقبل عنه فإنّما بحكم الله تعالى استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله عزّ وجلّ » إلى آخره.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٤٥٧.

٣٧٠

ومن الإجماع : ـ فبعد ما سمعت من الإجماعات المنقولة المستفيضة من أساطين الطائفة الّتي هي بانفرادها حجّة مستقلّة المعتضدة بظهور الإجماع القولي ـ بناء المسلمين وعملهم خلفا عن سلف في جميع الأمصار والأعصار من لدن بناء نشر الأحكام إلى يومنا هذا على رجوع العوامّ إلى الفقهاء ومسألتهم ، والأخذ بتفاويهم من دون نكير ولا استنكار على وجه يكشف عن تقرير المعصومين عليهم‌السلام ورضاهم ، مع القطع بعدم كون ذلك في جميع فروض المسألة بطريق الرواية ولا التنبيه على مدرك الحكم ، ولا لأجل إحراز دليله ، لعدم استقلال كلّ واحد من آحاد العوام حتّى أهل البوادي والقرى والرساتيق بفهم أصل الحكم ولا استخراجه من المدرك من كتاب أو سنّة أو نحوهما ، ولا تمكّنه من إحراز دليله من إجماع ونحوه.

وبذلك كلّه يندفع ما عرفت عن ابن زهرة في عبارته المتقدّمة من منع كون فائدة الإجماع على وجوب رجوع العامي إلى المفتي العمل بقوله ، للقطع بانتفاء غير هذه الفائدة في معقد الإجماع العملي ، مع قصور أكثر العوامّ عن فهم الإجماع وإحراز مناط حجّيته وعدم إمكان اطّلاعهم عليه بمجرّد الاطّلاع على فتيا المفتين ، مع كون أكثر المسائل خلافيّة ، مع أنّ الإجماعات المنقولة في كلام أساطين الطائفة إنّما نقلت على مجرّد العمل والقبول.

ومن العقل : دليل الانسداد ، فإنّ الأحكام الواقعيّة الثابتة على المجتهدين المعلومة بالإجمال مشتركة بينهم وبين العوامّ ، وباب العلم بها مسدود ، بل انسداده للعوامّ أوضح وموارد فقد طرقه لهم أكثر ، والبناء على أصالة البراءة النافية للتكليف ـ مع استلزامه المخالفة القطعيّة ـ مبنيّ على معرفتها وتأسيسها وفهم أدلّتها ولا سبيل للعوامّ إلى شيء من ذلك ، والعمل بالاحتياط في غالب موارده متعسّر ، وتشخيص موارده لأكثر العوامّ متعذّر إن لم نقل بتعذّره للجميع ، فتعيّن عليهم في امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال الأخذ بقول أهل الخبرة وهم الفقهاء ، مع أنّه نوعا أقرب إلى الواقع من فهم نفسه بحسب نوعه ، للقطع الضروري بأنّ ما يفسده في بناء عمله على فهم نفسه أكثر ممّا يصلحه فيجب في حكم العقل الأخذ به ، ويشهد له رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصناعة إلى أهل الخبرة بهما ، بل لزوم رجوع الجاهل إلى العالم والأخذ بقوله من فطريّات الناس كما يدركه المنصف بالوجدان.

ولا فرق في ذلك بين العامي الصرف والعامي العارف بجملة من العلوم وإن تمكّن من استفادة بعض الأحكام من الأخبار الواضحة الدلالة ، لقضيّة الأقربيّة إلى الواقع وإطلاق الإجماعات المنقولة ، مع إمكان دعوى عدم القول بالفصل والإجماع المركّب بل انعقاد السيرة القطعيّة في كلا الفريقين.

٣٧١

فنتيجة الكلام : أنّ الحكم الواقعي في حقّ العامي بالمعنى الأعمّ المكتوب في اللوح المحفوظ هو الرجوع إلى أكمل أهل زمانه والأخذ بقوله ، ولا يجزئه عنه غيره.

والعمدة من دليله بعد الإجماع بقسميه هو العقل بتقريريه ثمّ الأخبار ثمّ الآيات.

لكنّ الإنصاف عدم نهوض الآيات دليلا على هذا الحكم لقصور دلالتها عليه حتّى آية النفر بكلّ من تقريري وجه الاستدلال بها.

أمّا على التقرير الأوّل : فلعدم كون التفقّه فيها من الفقه بالمعنى المعهود المصطلح ليرجع مفاد إيجابه إلى إيجاب الاجتهاد بالمعنى المتضمّن لاستفراغ الوسع في طلب الأحكام من الأدلّة الظنّية ، بل هو جريا على معناه العرفي اللغوي عبارة عن تعلّم الأحكام الحاصل من المشافهين بالأخذ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق المشافهة ، وهذا وإن كان ليس من باب التقليد لكونه أخذا بالحكم الواقعي من بابه وطريقه القطعي ، إلاّ أنّه ليس من باب الاجتهاد بالمعنى المعهود المبنيّ على استحصال عدّة مقدّمات لا يكاد يحصل لكلّ واحد من آحاد المكلّفين ، بل هو نظير أخذ المقلّد من مجتهده بطريق المشافهة المفيد للعلم بفتواه ، وإن غايره في كون الأخذ من المجتهد يستلزم العلم بما أفتى به على أنّه حكم فعلي لا على أنّه حكم واقعي ، والأخذ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستلزم العلم به على أنّه حكم واقعي صار فعليّا.

ومن هنا يشكل الحال في الاستدلال بالآية لإثبات مشروعيّة الاجتهاد وأخذها دليلا على وجوبه كفاية كما صنعه جماعة من العامّة والخاصّة ، إلاّ أن يكون مبناه على توهّم تنقيح المناط ، بدعوى : أنّ تعلّم الأحكام إذا وجب على المشافهين بحكم نصّ الآية لزم منه وجوب الاجتهاد على غيرهم ، لأنّه إنّما يجب لوجوب تعلّم الأحكام لا لذاته ، مضافا إلى مقدّمة الاشتراك في التكليف.

غير أنّه يتوجّه إليه : أنّ هذا لو تمّ لقضى بوجوب الأمر المردّد بين الاجتهاد والتقليد ، لأنّ كلاّ منهما في موارد وجوبه إنّما يجب لوجوب تعلّم الأحكام ، فيتطرّق الإجمال إلى الأمر بالتفقّه بالقياس إلى حكم الاجتهاد بالخصوص ، وظهورها في الوجوب كفاية ـ على تقدير تسليمه ـ لا ينهض قرينة على تعيين الاجتهاد ، لأنّ النفور لتعلّم الأحكام تقليدا قد يجب على المقلّدين النائين عن المجتهد فيجوز اختصاصه من كلّ فرقة بطائفة لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بعد تعلّمهم المسائل بطريق التقليد.

وأمّا على التقرير الثاني : فلتطرّق المنع إلى كون الإنذار المأمور به من باب الإفتاء ليكون قبوله من باب التقليد ، إذ كما أنّ الآخذ من النبيّ كالآخذ من المجتهد وإن لم يصدق

٣٧٢

على أخذه عنوان التقليد كما عرفت ، فكذلك إرشاده الغير إلى مأخوذاته كإرشاد الآخذ من المجتهد غيره وإن صدق عليه عنوان الإنذار مطلقا أو في بعض الفروض ، وكما أنّ قبول الغير من الثاني ليس تقليدا له في العرف فكذلك قبول الغير من الأوّل فإنّه قد لا يكون تقليدا له ، فالإنذار حينئذ أشبه شيء بالرواية بل قد يكون عينها وإن لم يصرّح المنذر بالنقل عن النبيّ.

ألا ترى أنّ الواسطة في نقل فتوى المجتهد لو قال لمقلّده : « افعل كذا ولا تفعل كذا » أو « أنّ الشيء الفلاني واجب والشيء الفلاني حرام » ينساق منه في العرف كونه ناقلا عن المجتهد ، وكما أنّ الأخذ بقول الواسطة هنا أخذ بقول الأصل بواسطة هذا النقل فكذلك الأخذ بقول الواسطة ثمّة.

وهذا هو السرّ في استدلال كثير من العلماء بالآية لإثبات حجّية خبر الواحد ، فالاعتراض عليهم بأنّها لا تتناول الرواية لظهورها في الفتوى غير صحيح.

وأمّا قصور آية الكتمان : فلأنّ وجوب إظهار الحقّ وإن استلزم وجوب القبول صونا لكلام الحكيم عن منافاة الحكمة ، نظرا إلى أنّه لو لا القبول فائدة مقصودة من إظهار الحقّ لكان إيجابه أمرا بالفعل اللغو الخالي عن الفائدة وهو قبيح مناف لحكمة الحكيم ، غير أنّه لكونه قضيّة معنويّة استفيدت من القضيّة الملفوظة بواسطة الملازمة المذكورة لا عموم فيها وضعا ولا إطلاقا بحيث يشمل صورتي حصول العلم وعدمه ، فوجوب القبول إنّما يثبت على طريقة القضيّة المهملة ، فيجوز اختصاصه بصورة العلم الحاصل عقيب إظهار الحقّ ممّن انكشف عنده الحقّ ولو بمعونة القرائن أو تعاضد بعض ببعض كما في التواتر ، ويكفي ذلك في رفع محذور اللغويّة ومنافاة الحكمة.

مع إمكان أن يقال : إنّ الفائدة في الإظهار إنّما هي المدخليّة في حصول العلم ليترتّب عليه القبول.

ولا ريب أنّ الإظهار من كلّ واحد له مدخليّة في ذلك ولو فرضنا العلم حاصلا مع المجموع كما في التواتر ، فإنّ كلّ واحد على هذا التقدير جزء للسبب المفيد للعلم فيجب الإظهار على كلّ ، لأنّ له مدخليّة إمّا لكونه سببا تامّا أو جزء للسبب ، فلا ينتفي الفائدة لا من المجموع ولا من كلّ واحد ، وعلى هذا فيجوز اختصاص مورد الآية باصول الدين ، ويكون المراد من البيّنات علامات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشواهد نبوّته الّتي بيّنها الله تعالى لليهود والنصارى في التوراة والإنجيل.

وأمّا آية السؤال : فلأنّها ـ بعد الإغماض عن منع كون المراد من أهل الذكر مطلق أهل

٣٧٣

العلم لاستفاضة الأخبار المفسّرة له بالأئمّة عليهم‌السلام ـ بموجب تعليق إيجاب السؤال على عدم العلم المتناول الصورة الظنّ والشكّ والوهم تدلّ على وجوب السؤال طلبا للعلم بالقضيّة المجهولة ليعمل فيها بالعلم ، لا التعبّد بها تعويلا على قول الغير.

وقضيّة ذلك بحسب متفاهم العرف بقاء وجوب السؤال إلى أن يحصل العلم ولو لضابطة تكرّر الأمر المعلّق على علّة بتكرّر العلّة ، فيكون الخطاب حينئذ متوجّها إلى المتمكّنين من طلب العلم ولو في الفروع ، فلا يندرج فيه نحو موضوع المسألة.

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ الاستدلال بالوجوه المذكورة حتّى الآيات ـ على تقدير تماميّة دلالتها ـ إنّما يستقيم أن لو كان الناظر فيها من العلماء والمجتهدين ، فإنّهم إذا حاولوا استعلام حكم العامي صحّ لهم النظر في هذه الوجوه المنتجة للحكم المذكور المانعة من رجوع المقلّد إلى غير المجتهد ، وأمّا المقلّد نفسه إذا حاول معرفة حكمه فلا سبيل له إلى الاستدلال بها ، فإنّه لمكان كونه عاميّا لا يعرف كتابا ولا سنّة ولا إجماعا ، بل لا سبيل له إلى الاستدلال بالدليل العقلي لإثبات عموم هذا المطلب ، لكون أكثر مقدّماته نظريّة لا يتأتّى إحرازها إلاّ من المجتهد ، بل قد يقال : إنّه ـ بناء على تقريره بالوجه الثاني ـ ليس بحيث يوصله دائما إلى أنّه لابدّ وأن يرجع إلى المجتهد لأنّه من أهل الخبرة ، بل ربّما يوصله إلى العمل بظنّ نفسه إذا اتّفق حصوله له في واقعة مخصوصة ، أو إلى العمل بقول امّه أو أبيه أو معلّمه لاعتقاده بكون هذا القول أقرب إلى الواقع وأنّ هؤلاء أكمل بالقياس إليه ، بل ربّما يأخذ بقول غير الأكمل مع وجود الأكمل ومعرفته له لمجرّد اعتقاده بأنّ حكم الله واحد لا يختلف باختلاف القائل.

وبالجملة فالمكلّف الّذي وظيفته التقليد إمّا أن يلتفت إلى أكمل أهل زمانه من المجتهدين أو لا.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون مقصّرا في تحصيل معرفة الأكمل أو قاصرا ، والدليل العقلي إنّما يفضيه إلى الأكمل على الأوّل.

وأمّا على الأخيرين فربّما يفضيه إلى ظنّه أو غيره ممّن يعتقد كونه أكمل ولو امّه ، فهو على ذلك لا ينتج له الأخذ بقول المجتهد الّذي هو حكمه الواقعي.

لكنّ الإنصاف : أنّ قصور نظر العامي عن الاستدلال بالآيات والروايات والإجماع بقسميه ممّا لا خفاء فيه ولا شبهة تعتريه ، وكذلك إمكان الاستدلال بالدليل العقلي وإنتاجه لأصل المطلب للعامي الملتفت إلى موضوع المسألة وهو رجوع العامي الغير البالغ حدّ

٣٧٤

الاجتهاد إلى العالم الفقيه المجتهد ، وكذلك إمكانه وإنتاجه لغير الملتفت إليه بالخصوص مع التفاته إلى عنوان رجوع الجاهل إلى العالم وأخذ الناقص من الكامل ، فإنّ حسن رجوع الجاهل الناقص إلى العالم الكامل من ضروريّات قاطبة العوامّ والقضايا المركوزة في أذهانهم حتّى النسوان والصبيان ، لكون بقاء التكليف وقبح التكليف بما لا يطاق اللازم من إيجاب تحصيل العلم أو إيجاب الاجتهاد بالنظر في الأدلّة النظريّة في تحصيل الأحكام علما أو ظنّا وانحصار طريق الامتثال في الرجوع إلى العالم الكامل من ضروريّاتهم ، بناء على أنّ دفع احتمالي الرجوع إلى أصل البراءة والاحتياط وإن كان من النظريّات الّتي لا تتأتّى إلاّ من العلماء والمجتهدين ، إلاّ أنّ الالتفات إلى هذين الاحتمالين عند النظر في الدليل العقلي أيضا ممّا يختصّ بالعلماء والمجتهدين لأنّهم يلتفتون إليها وربّما يذكرونهما في المناقشة في الدليل العقلي دون العوامّ والأذهان الصافية والخالية عن الاحتمالات الغير الواردة والشبهات المندفعة بحسب الواقع.

ولا ريب أنّ اختلاف الأنظار في الالتفات إلى بعض الاحتمالات المندفعة لا يوجب قدحا في الدليل وإنتاجه ، ولو تطرّق إلى بعضهم احتمال الاحتياط أيضا فهو ليس بحيث يحتاج في دفعه إلى النظر في القضايا النظريّة كقاعدة نفي العسر والحرج المستفادة من الكتاب والسنّة ، لأنّ عدم كون الاحتياط طريقا يجب الرجوع إليه على التعيين في الشريعة لامتثال أحكام الله تعالى من ضروريّات الدين.

ولا ريب أنّ الاستدلال بالدليل العقلي الّذي يحرز مقدّماته بطريق الضرورة والبداهة ممّا يتأتّى ويتيسّر للعوامّ بعد التفاتهم إلى التكليف وعنوان رجوع الجاهل إلى العالم ، كيف ولو لا ذلك لانسدّ باب إثبات مشروعيّة التقليد لهم ، لتعذّر إثباته بطريق النظر والاستدلال والتقليد فيه أيضا غير ممكن لإفضائه إلى الدور.

غاية الأمر أنّه ينتج لبعضهم الرجوع إلى عالم فقيه ، ولبعضهم إلى عالم غير فقيه ، ولثالث إلى غير عالم من امّه أو أبيه أو معلّمه أو غيرهم ممّن لا أهليّة له لأن يقلّد لمجرّد اعتقاده بكونه العالم الكامل.

ولا ريب أنّه في الأوّل منتج لأصل المطلب بخلاف البواقي ، فيكون الرجوع فيها إلى الغير من التقليد الفاسد الغير المشروع بحسب الواقع ، وهذا لا يوجب قصورا في أصل الدليل العقلي ولا وهنا فيه ، لأنّه دليل مفاده حكم كبروي ولا قصور فيه من هذه الجهة ،

٣٧٥

واختلاف النتيجة إنّما ينشأ من التباس موضوعي واشتباه صغروي ومثله غير عزيز في استدلالات العلماء فضلا عن العوامّ.

نعم ربّما يتكلّم في حكم التقليد اللازم في غير الصورة الاولى من حيث إنّه يجزي لصاحبه أو لا يجزي؟ وهذا كلام آخر يأتي تحقيقه في مسألة الجاهل في العبادات.

وبما قرّرناه ظهر أنّ المسألة في جواز تقليد العامي الغير البالغ حدّ الاجتهاد في المسائل اجتهاديّة ومدركها العقل القاطع ، ولا سبيل للتقليد فيها ولا يكفي فيها الدليل الظنّي لئلاّ يلزم الدور ، ولو فرض عاميّ عجز عن النظر والاجتهاد في تلك المسألة بحيث لم يتمكّن عن تتميم الدليل العقلي على الوجه الّذي قرّرناه أيضا فلا بدّ وأن يجتهد في جواز التقليد في تلك المسألة وحدها الّتي هي مسألة اصوليّة أو كلاميّة كما هو الأظهر ، وطريقه أن يقال : إنّ جواز التقليد في الفروع للعامي أو وجوب الاجتهاد عليه فيها أيضا مسألة ، ولابدّ للعامي إمّا من الاجتهاد فيها بإقامة دليل واقعي على أحد الطرفين أو من تقليد الغير ، ولا سبيل له إلى الأوّل لتعذّره عليه فيقبح التكليف به بحكم العقل المستقلّ ، فتعيّن الثاني وحينئذ يرجع إلى مجتهد يجوّز التقليد في الفروع ويقلّده فيه لا إلى من يوجب الاجتهاد فيه ، وإلاّ رجع تقليده له إلى الالتزام بوجوب أمر غير مقدور وهو قبيح.

وبالجملة مسألة جواز التقليد في الفروع للعامي لابدّ وأن تكون اجتهاديّة ـ بأن يستند في تقليده فيها إلى اجتهاد نفسه في جواز ذلك التقليد ـ أو منتهية إلى الاجتهاد بأن يستند في تقليده في الفروع إلى تقليده في مسألة جواز التقليد في الفروع وفيه إلى اجتهاد نفسه القاضي بحكم العقل المستقلّ بتعيّن هذا التقليد.

ولو فرض أنّ عاميّا لقصور نظره وضعف فطنته عجز عن الاجتهاد في المقامين ، فإن لم يكن ملتفتا إلى مسألة جواز التقليد أصلا ومع ذلك قلّد من له أهليّة التقليد في الفروع صحّ تقليده لمصادفته الواقع ، وإن كان ملتفتا شاكّا في جواز التقليد وقلّد مع ذلك من له أهليّة التقليد فإن لم يكن شكّه هنا مخلاّ بقصد التقرّب في عباداته صحّ تقليده أيضا لمصادفته الواقع ، وإن أخلّ به كان في تقليده كمن لم يقلّد أصلا لشكّه في جوازه ، فهو إن تيسّر له الاحتياط والتفت إليه أيضا كان حكمه الواقعي هو الاحتياط ، وإن لم يتيسّر له ذلك أو كان غافلا عنه بالمرّة فمقتضى قواعد العدليّة كونه كمن لا تكليف عليه أصلا ، لقبح خطابه بكلّ من الطرق الثلاث المعمولة في الفروع من الاجتهاد والتقليد والاحتياط

٣٧٦

فيقبح خطابه في الفروع أيضا.

وينبغي التنبيه على امور :

أحدها : أنّه لا فرق في جواز التقليد لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد في المسائل الفرعيّة بين أن يكون المسألة اجتهاديّة مبتنية على الأمارات الظنّية أو لا ، بأن يكون عليها دلالة قاطعة كما عن المعارج والمبادئ والتهذيب وشرح المبادي لفخر الإسلام ، وهو ظاهر الأصحاب في إطلاق تجويزهم التقليد له.

وفي المفاتيح دعوى الشهرة العظيمة وظهور عدم الخلاف بين أصحابنا القائلين بجواز التقليد.

وعن أبي عليّ الجبائي القول بالفرق ، فجوّز التقليد في المسائل الاجتهاديّة دون ما عليه دلالة قاطعة ، محتجّا بأنّ الحقّ فيما ليس من مسائل الاجتهاد واحد فتجويز التقليد فيه يستلزم عدم الأمن من التقليد في خلاف الحقّ ، بخلاف مسائل الاجتهاد لتصويب كلّ مجتهد فيها.

ويدفعه : إطلاق الأدلّة ولا سيّما الإجماعات المنقولة ، بل تحقّق الإجماع العملي على التقليد فيهما معا ، ويكفي في ضعفه أنّ تشخيص موارد وجود الدلالة القاطعة عن غيرها لا يتأتّى إلاّ من المجتهد ، لابتنائه على اجتهاد تامّ يستغرق برهة من وقت العمر ، وهو متعذّر لكثير من العوامّ ومتعسّر للباقين ، مع قصور أكثر العوامّ عن إعمال النظر في الأدلّة القطعيّة وإحراز ما له دخل في قطعيّتها من المقدّمات بعد تشخيص موارد وجودها ، إلاّ أن يراد من الدلالة القاطعة ما ليس من القطعيّات النظريّة كالضرورة ونحوها.

ويرد عليه حينئذ : أنّ مثل هذه الدلالة القاطعة خارجة عن مورد التقليد خروجا موضوعيّا ، ولا يعقل فيه الإخراج الحكمي ليكون قولا بالفرق في المسألة ، هذا مع وضوح فساد مستنده.

أمّا أوّلا : فلبطلان التصويب في مسائل الاجتهاد ، وعلى التخطئة ـ كما هو الصواب ـ فعدم الأمن من التقليد في خلاف الحقّ مشترك اللزوم.

وأمّا ثانيا : فلقيام احتمال الإفتاء بخلاف الحقّ في مسائل الاجتهاد أيضا ، لجواز ترك الاجتهاد فيها رأسا أو التقصير فيه أو الإفتاء بغير ما أدّى إليه اجتهاده لكذب أو سهو أو نسيان أو نحو ذلك ممّا يوجب عدم الأمن من التقليد في خلاف الحقّ في مسائل الاجتهاد أيضا حتّى على التصويب ، إلاّ أن يدفع ذلك بعدالة المفتي وغيرها من الاصول النافية لنحو الاحتمالات المذكورة.

٣٧٧

وأمّا ثالثا : فلأنّ الدلالة إن اريد بها ما يلازم الواقع لذاته بدوام مصادفته له فالإفتاء من جهته إفتاء بالحقّ لا محالة فيكون الأخذ به تقليدا في الحقّ لا غير ، وإن اريد بها ما لا يلازم الواقع لقبوله الخطأ واختلاف النظر بحيث احتمل في حقّ العامي الناظر فيه أيضا عدم إصابة الحقّ ، فالأخذ بمؤدّاه حينئذ يستلزم عدم الأمن من الوقوع في خلاف الحقّ بالاجتهاد ، وهذا ليس بأولى من التقليد في خلاف الحقّ.

ولو قيل : بأنّه إذا كان مجتهدا فهو معذور في خطائه ، قلنا : كلّما كان المجتهد معذورا في خطائه كان مقلّده في هذا الخطأ معذورا بالإجماع ، بل ربّما لا يكون المجتهد معذورا كما لو كان مقصّرا في اجتهاده وكان مقلّده معذورا.

وقضيّة ذلك أن يكون التقليد في خلاف الحقّ أهون من الوقوع في خلاف الحقّ بالاجتهاد.

ولو قيل : بأنّه إذا حصل له القطع بما فرض في المسألة من وجود الدلالة القاطعة فهو لا يجوّز في حقّ نفسه الوقوع في خلاف الحقّ حتّى لا يأمن في عمله من الوقوع في خلاف الحقّ بخلاف ما لو قلّد في ذلك.

قلنا : نفرض مورد النقض قبل الدخول في المسألة وإعمال النظر في الدلالة القاطعة الموجودة فيها بالفرض ، فهو حينئذ كما يجوّز في تقليده على تقدير البناء عليه كونه تقليدا في خلاف الحقّ إلتفاتا منه إلى احتمال خطأ المفتي ، فكذلك يجوّز في حقّه الوقوع في خلاف الحقّ التفاتا منه قبل العثور على الدلالة القاطعة احتمال عدم إصابة الواقع ، فهو حينئذ في اختيار كلّ من الأمرين لا يأمن من الوقوع في خلاف الحقّ ، فإن كان ذلك مانعا من اختيار التقليد وجب كونه مانعا من اختيار النظر أيضا وإلاّ فلا ، والفرق بين المقامين تحكّم واضح.

وأمّا رابعا : فلأنّ خوف الوقوع في خلاف الحقّ إنّما يصلح وجها للمنع من التقليد لو اعتبرنا فتوى المفتي في حقّ المقلّد من باب الطريقيّة الكاشفة عن الواقع بعنوان القطع لا من باب الموضوعيّة بالمعنى الّذي نقرّره ـ كما هو الحقّ ـ أو الطريقيّة الظنّية كما قيل.

وثانيها : أنّ قول المفتي وفتوى المجتهد بالنسبة إلى عمل المقلّد هل هو من الأمارات التعبّديّة الغير المنوط اعتبارها بحصول الظنّ بالواقع كالبيّنة واليد حتّى أنّه لو ظنّ المقلّد بخطأ المجتهد في الحكم أو دليله جاز له تقليده ، أو هي من قبيل الأمارات الاجتهاديّة

٣٧٨

المنوطة بإفادتها الظنّ بالواقع؟ قولان ، أقواهما الأوّل وفاقا لجمع ، وهو ظاهر إطلاق الأكثر بجواز التقليد للعامي أو وجوب رجوع من لم يبلغ رتبة الاجتهاد إلى المجتهد ، بل ظاهر إطلاق معاقد الإجماعات المنقولة.

لنا على ذلك : أنّ معنى التقليد ـ على ما بيّنّاه في توجيه تعريفه ـ أن لا يعتبر فيه حصول الظنّ للمقلّد من فتوى المجتهد ، ولو اتّفق حصوله في بعض الأحيان كان في خلوّه عن الفائدة كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، وذلك أنّ الأخذ بقول الغير من دون دليل على خصوص ذلك القول معناه أن يكون مستند الآخذ في أخذه نفس ذلك القول.

وهذا يقتضي أن لا يكون لظنّ الآخذ مدخليّة فيه ، وإلاّ كان مستنده هو ظنّه الحاصل بالقول لانفس القول الّذي يعبّر عنه في المقام بالفتوى ، وهو بهذا المعنى مورد للأدلّة المتقدّمة المقامة على مشروعيّته ووجوب رجوع العامي إلى المجتهد ، ومنها قوله عليه‌السلام : « فللعوام أن يقلّدوه » وقوله عليه‌السلام أيضا : « فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا » وهو معقد الإجماعات المنقولة.

وقضيّة ذلك أن لا يحتاج المقلّد لعمله في المسائل إلى أزيد من إحراز فتوى مجتهده بطريق العلم أو ما يقوم مقامه ، كما يشهد به القياس المعروف المنتظم من القطعيّتين المقام على جواز عمله في كلّ مسألة ترد عليه ويقلّد فيها ، المقرّر : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي » حيث اكتفى في حدّ الوسط بفتوى المفتي ولم يؤخذ معها ظنّ المستفتي.

ولو سلّم عدم مساعدة معنى التقليد على نفي اعتبار ما عدا الفتوى كفانا لإثبات نفي اعتبار الظنّ إطلاق الأدلّة ومعاقد الإجماعات المنقولة حسبما أشرنا إليه ، مضافا إلى صريح معقد الإجماع العملي وهو سيرة المسلمين ، فإنّ الفتوى في غالب مواردها وإن كانت تصادف حصول الظنّ والاطمئنان للمستفتي بالمفتي لكثرة وثوقه به واعتماده عليه ، غير أنّه ليس من الظنّ بالواقع في كلّ مسألة ، ولو سلّم فحصوله ليس على وجه الالتزام والتقييد بحيث يكون مدار عمل المستفتين بفتاوى المفتين على مراعاة الظنّ الفعلي بالحكم.

نعم ربّما يسبق إلى الوهم أنّ التمسّك بالدليل العقلي الّذي مرجعه إلى دليل الانسداد المنتج للظنّ المطلق يقضي بابتناء التقليد أيضا على الظنّ المطلق.

ولكن يزيّفه : ما بيّنّاه في مباحث الاجتهاد من أنّ العقل بعد ملاحظة تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي لفرض انسداد باب العلم وسقوط اعتبار الامتثال العلمي الإجمالي ـ المبنيّ على

٣٧٩

العمل بالاحتياط عقلا لتعذّره ، أو شرعا لأدائه إلى العسر والحرج العظيم الّذي لا يتحمّل مثله عادة ، أو للإجماع بل الضرورة على أنّه ليس مبنى امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال في الشريعة على طريقة الاحتياط على التعيين ـ لا يحكم بتعيّن الظنّ أو غيره أوّلا وبالذات ، بل إنّما يحكم بتعيّن العمل بما هو أقرب إلى الامتثال العلمي تفصيلا أو إجمالا ممّا لا يستتبع محذوريهما ولا محذور آخر ، وإنّما صار نتيجته للمجتهد العمل بالظنّ لأنّ الأقرب إلى الامتثال العلمي في حقّ المجتهد هو الامتثال الاجتهادي المبنيّ على الأخذ بالظنون الاجتهاديّة ، ومرجعه إلى الأخذ بالمظنونات على أنّها أحكام فعليّة يجب بناء العمل وترتيب آثار الواقع عليها.

ولا ريب أنّ الأقرب إلى الامتثال العلمي بكلا قسميه بعد تعذّره وتعذّر الامتثال الاجتهادي في حقّ المقلّد هو الامتثال التقليدي المبنيّ على العمل بفتاوى المجتهد ، ومرجعه إلى الأخذ بالأحكام المفتى بها في امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال على أنّها أحكام فعليّة يجب بناء العمل وترتيب آثار الواقع عليها.

وهذا كما ترى ممّا لا مدخل لظنّ المقلّد فيه أصلا ولا نظر للعقل في حكمه بتعيّنه إلى اعتبار حصول ظنّ له.

بل نقول : إنّ الأحكام المفتى بها بالنسبة إلى المقلّد هي بعينها المظنونات بالظنون الاجتهاديّة بالنسبة إلى المجتهد ، وكما أنّ المجتهد لا يعتبر في عمله أزيد من علمه بمظنوناته الحاصل له باجتهاده ، فكذلك المقلّد لا يعتبر في عمله أزيد من علمه بمظنونات مجتهده الحاصل له بالإفتاء.

وقضيّة ذلك أن يكون وجه اعتبار الأحكام المفتى بها لعمل المقلّد هو وجه اعتبار تلك الأحكام في عمل المجتهد بعينه ، وهو كونها مظنوناته ومؤدّيات اجتهاده الّتي دلّ القاطع من العقل والشرع على كونها أحكاما فعليّة يجب عليهما بناء العمل عليها وترتيب آثار الواقع عليها ، كما يشير إليه القياس المنتظم لعمل المجتهد بظنّه في كلّ مسألة ، المقرّر في كلامهم من غير خلاف : « بأنّ هذا ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّ ما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي » حيث أخذ المجتهد والمقلّد معا في جانب الأكبر ، ومرجعه إلى كونهما معا موضوعين لحكم الله الفعلي.

وبالجملة كون مظنونات المجتهد ومؤدّيات اجتهاده أحكام الله الفعليّة نسبته واحدة

٣٨٠