تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

كونه موافقا لذلك الحيّ فيه واضح لا إشكال فيه.

وأمّا لو قلّده فيه وكان مخالفا للحيّ بأن يكون بناؤه فيه على أنّه الأخذ مطلقا وبناء الحيّ على أنّه العمل خاصّة ، فإن أخذ ذلك المعنى من الميّت ولم يعمل به فلا إشكال أيضا ، من حيث إنّه يجب عليه البقاء في معمولاته والعدول في مأخوذاته الغير المعمولة الّتي منها مسألة كون معنى التقليد هو الأخذ مطلقا.

غاية الأمر لزوم العدول من تقليد الميّت في هذه المسألة خاصّة إلى الحيّ باختيار كون معناه العمل فقط وعدم كفاية الأخذ مطلقا ، وإن أخذه من الميّت وعمل به أيضا في موضع حاجته فربّما يشكل الحال من حيث لزوم التناقض بين قول الحيّ بوجوب العدول في المأخوذات وقول الميّت بكون التقليد هو الأخذ مطلقا مع فرض عمل المقلّد به في حياته ، فإنّ قول الحيّ يجب البقاء في المعمولات يعمّ مسألة كون التقليد هو الأخذ المطلق لأنّها أيضا من جملة معمولاته ، ووجوب البقاء فيها يستلزم وجوب البقاء في المأخوذات المجرّدة من المسائل الفرعيّة ، وهذا يناقض وجوب العدول فيها إلى الحيّ على ما هو من مقتضي قول الحيّ بأنّ التقليد هو العمل فقط.

ويرد نظير هذا الإشكال في عكس هذه الصورة أيضا ، وهو أن يكون بناء الميّت على أنّ التقليد هو العمل لا غير وبناء الميّت على أنّه الأخذ مطلقا مع فرض عمل المقلّد بفتوى الميّت في موضع حاجته ، فحكم الميّت بوجوب البقاء على تقليد الميّت شامل لكلّ من المعمولات والمأخوذات معا.

ومقتضى البقاء على تقليد الميّت في مسألة كون التقليد هو العمل لا غير وجوب العدول في المأخوذات المجرّدة.

ويمكن الذبّ عن الإشكال الأوّل بأحد الأمرين : إمّا التزام خروج المأخوذات المجرّدة من مقتضى قول الحيّ بوجوب العدول فيها خروجا موضوعيّا من باب التخصّص بمقتضى العمل بفتوى الميّت بكون التقليد هو الأخذ مطلقا المشمول لحكم الحيّ بوجوب البقاء في المعمولات ، فإنّ معناه وجوب البقاء على التقليد المحقّق في الخارج ، وليس في نظره وبحسب اجتهاده إلاّ في المعمولات ، فوجه وجوب العدول في المأخوذات في نظره عدم تحقّق تقليد فيها ومقتضى فتوى الميّت تحقّقه فيها أيضا.

فقول الحيّ يجب البقاء على تقليد الميّت يشمل المأخوذات أيضا ، لفرض تحقّق

٥٤١

التقليد فيها أيضا باعتبار فتوى الميّت في معنى التقليد الّتي أخذ بها المقلّد وعمل بها أيضا في موضع حاجته.

أو التزام (١) خروج عمله بقول الميّت في مسألة كون التقليد هو العمل لا غير من عموم فتوى الحيّ بأنّه يجب البقاء على تقليد الميّت في المعمولات خروجا حكميّا من باب التخصيص ، بدعوى : كون ذلك الحكم مقصورا على المعمولات من المسائل الفرعيّة ، والأصل فيه فهم العرف وبناء العقلاء وحكم القوّة العاقلة بعدم خروج فرد من العامّ في مدلوله يلزم من دخوله فيه بطلانه رأسا حذرا من لزوم التناقض أو تخصيص الأكثر الّذي لا ينبغي التأمّل في استنكاره واستقباحه عرفا.

ألا ترى أنّه لو قال السيّد لعبده : « أطع كلّ عالم » واتّفق من أفراد العالم من نهاه عن إطاعة العلماء بقوله : « لا تطع العلماء » كان المنساق منه في متفاهم العرف وجوب إطاعة كلّ عالم إلاّ هذا الفرد ، وإلاّ لزم من دخوله في عموم العامّ بطلان مدلول العامّ رأسا ، أو لزم التناقض وهو وجوب إطاعة كلّ عالم وحرمة إطاعة كلّ عالم ، أو تخصيص الأكثر بكون وجوب إطاعة كلّ عالم مقصورا على هذا الفرد الناهي عن إطاعة العلماء ، والكلّ كما ترى.

ومن أمثلة هذه القاعدة في الشرعيّات عموم ما دلّ من الأدلّة على حجّية خبر العدل مع أخبار عدل بعدم جواز العمل بخبر الواحد ، فإنّ هذا الخبر لا يدخل في عموم حجّية خبر العدل من باب التخصيص لمخصّص عقلي.

ومنه أيضا عموم ما دلّ على حجّيّة الشهرة عند قائليها مع كون المشهور بين الاصوليّين عدم حجّيّة الشهرة ، فإنّ الشهرة في المسألة الاصوليّة لا تدخل في العامّ الأوّل.

وبالجملة العامّ لا يتناول محلّ التنافي من أفراده.

وبهذا الوجه خاصّة يذبّ عن الإشكال الثاني أيضا ، واللازم من ذلك وجوب البقاء في المعمولات والمأخوذات معا.

وأظهر الوجهين في الذبّ عن الإشكال الأوّل هو الوجه الأوّل ، واللازم منه أيضا وجوب البقاء في المأخوذات مطلقا ، كما أنّ اللازم من الوجه الثاني وجوب العدول في المأخوذات المجرّد فليتدبّر.

الرابع : إذا بقي المقلّد على تقليد الميّت بتقليد حيّ قائل بالبقاء إلى مدّة فأراد بعدها أن

__________________

(١) هذا ثاني الأمرين في الذبّ عن الإشكال.

٥٤٢

يعدل عن الميّت إلى الحيّ فهل يجوز له ذلك أو لا؟

وتحقيق هذا المقام : أنّ المقلّد لابدّ له من استعلام مذهب الحيّ الّذي بقى بتقليده على تقليد الميّت ، من حيث إنّ قوله بالبقاء هل هو على وجه الوجوب فلا يجوز له العدول حينئذ بعد اختيار تقليده في وجوب البقاء ، أو على وجه الجواز الراجع إلى التخيير بين البقاء والعدول ، فيستعلم منه حينئذ أنّ رأيه في هذا التخيير هل هو التخيير البدوي أو الاستمراري؟

فعلى الأوّل لا يجوز له العدول بعد اختياره البقاء.

وعلى الثاني يجوز.

والأظهر من هذين الوجهين إن جوّزنا البقاء على تقليد الميّت أوّلهما ، لأنّ التخيير الاستمراري عند من توهّمه لا مستند له إلاّ استصحاب الحالة السابقة وهو التخيير الثابت قبل اختيار البقاء المشكوك في زواله بالاختيار.

ويدفعه : أنّ هذا التخيير حكم عقلي ولا يصحّ فيه الاستصحاب على ما تقرّر في محلّه ، كيف وإنّا نقطع بأنّ العقل لا حكم له بالتخيير بعد الاختيار لمجرّد احتمال كونه في نظر الشارع ملزما ، وحينئذ لابدّ من الرجوع إلى أصالة الاشتغال الّتي لا مانع من جريانها حينئذ ، لعود الشكّ إلى التعيين والتخيير ، بخلافه قبل الاختيار لدوران الأمر ثمّة بين المحذورين ، فلا مجال معه للأصل المذكور.

الخامس : قد عرفت عند التعرّض لنقل الأقوال في تقليد الميّت أنّ منها القول بالفرق بين الاضطرار فيجوز تقليد الميّت والاختيار فلا يجوز.

ومنه ما حكي عن الأردبيلي من مصيره إلى الجواز مع فقدان الحيّ مطلقا أو في تلك الفتوى.

وفي المحكيّ عن حاشية الشرائع نقل نسبة هذا القول إلى العلاّمة عن ولده فخر الدين ، خلافا لجماعة ـ على ما حكي ـ كالمحقّق الثاني في الحاشية المذكورة وبعض شرّاح الجعفريّة والعلاّمة البهبهاني والسيّد الطباطبائي فلم يجوّزوه مطلقا حتّى مع الضرورة ، وقوّاه السيّد في المفاتيح للأصل وإطلاق ما دلّ على عدم جواز تقليد الميّت من الإجماعات المعتضدة بفتوى المعظم.

أقول : التمسّك بالأصل حسن وبالإطلاق مشكل لشبهة الانصراف إلى غير محلّ البحث كما قيل ، ويؤيّد المنع أو يدلّ عليه ما تقدّم من زوال الظنّ بالموت ، كما أومأ المحقّق المتقدّم

٥٤٣

ذكره في المحكيّ عن الحاشية المذكورة قائلا : « فإنّ قيل فما تقول فيما ينقل عن الشيخ السعيد فخر الدين أنّه نقل عن والده جواز تقليد الموتى في هذه الحالة؟

قلت : هذا بعيد جدّا ، لأنّه قد صرّح في كتبه الاصوليّة والفقهيّة بأنّ الميّت لا قول له ، وإذا كان بحسب الواقع لا قول له لم يتفاوت عدم جواز الرجوع حال الضرورة والاختيار ، ولعلّه أراد الاستعانة بقول المتقدّمين في معرفة صور المسائل والأحكام مع انتفاء المرجع لا أنّه أراد جواز تقليدهم حينئذ ، فحصل من ذلك توهّم غير المراد ».

وعن المحقّق الأردبيلي الاحتجاج لما اختاره : « بأنّه لو لا العمل بقول الميّت عند عدم الحيّ أصلا لزم الحرج والضيق المنفيّان عقلا ونقلا ، والاستصحاب وتحقّق الحكم وحصوله من الدليل ولم يتغيّر ».

وضعف الكلّ واضح ، لمنع الملازمة في الضيق والحرج مع وجود طريق آخر ، وبطلان الاستصحاب مع دعوى عدم تغيّر الحكم كذلك بما بيّنّاه بما لا مزيد عليه ، وتحقّق الحكم وحصوله في أصله من الدليل غير مجد وإلاّ لجاز تقليد الميّت مطلقا.

وبالجملة فكما لا فرق في عدم جواز تقليد الميّت بين الابتداء والاستمرار فكذلك لا فرق فيه بين الضرورة والاختيار ، خصوصا مع ملاحظة كون الحياة كأصل الاجتهاد شرطا ، ومن ذلك لا يجوز تقليد غير المجتهد مطلقا حتّى في حال الضرورة.

فالإنصاف أنّ في هذه الحالة يتعيّن عليه العمل بالاحتياط حيثما أمكن من غير عسر ، ولا ينافيه الإجماع على نفي اعتبار الاحتياط في امتثال أحكام الله تعالى ، إمّا لعدم تناول معقد الإجماع لمثل ما نحن فيه ، أو لأنّ الإجماع إنّما انعقد على نفي تعيّن العمل بالاحتياط ووجوبه لا على نفي جوازه ، فلا ينافي وجوبه إذا ثبت في مورد خاصّ أو صورة خاصّة بطريق آخر كاستقلال العقل من جهة وجوب امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال وانحصار طريقه في العمل بالاحتياط ، مضافا إلى قاعدة الاشتغال بعد ملاحظة الإجماع على عدم سقوط التكليف بتعذّر تقليد الحيّ مع فرض دوران الأمر بين تقليد الميّت والعمل بالاحتياط ، ولو احتاج إلى معرفة موارد الاحتياط أو كيفيّته ولم يتمكّن من الاستقلال به استعان بعدل عارف يعرّفهما له ، ولو تعذّر الاحتياط في مورد لدوران الأمر بين المتبائنين أو تعسّر لكثرة المسائل والوقائع تحرّى لتحصيل الظنّ النوعي مع مراعاة الأقوى فالأقوى بمراجعة أقرب الأمارات إلى الواقع كالشهرة المحقّقة ثمّ الإجماع المنقول ثمّ الشهرة المحكيّة بهذا الترتيب

٥٤٤

لدليل الانسداد المنتج لوجوب الأخذ بالأقرب إلى الواقع ، حتّى أنّه لو اضطرّ إلى قول الميّت أخذ بفتوى أعلم الأموات لا على أنّه تقليد للميّت ، بل على أنّه بالقياس إليه وبالنظر إلى حالته أقرب الأمارات إلى الواقع وأقوى الظنون النوعيّة ، ولو فرض حصول الظنّ الشخصي له في بعض هذه المراتب بخلاف الظنّ النوعي المتيسّر له في تلك المرتبة لم يعوّل عليه.

وبالجملة ما دام متمكّنا من الظنّ النوعي لا يجوز له التخطّي منه إلى غيره من ظنونه الشخصيّة الّتي يتّفق حصولها له في خصوص الواقعة ، ولو لم يتمكّن من معرفة الظنّ النوعي بالاستقلال رجع إلى عدل عارف يثق به ليعرّفه بما يجب عليه الأخذ به من الظنون النوعيّة مع مراعاة الأقوى. بالنظر إلى حالته ولو لم يتمكّن من الظنّ النوعي أصلا تحرّى لتحصيل الظنّ الشخصي من أيّ شيء حصل له.

ـ تعليقة ـ

في بقايا أحكام المقلّد فيه والامور المعتبرة فيه

فنقول : إنّ المقلّد فيه عبارة عن المسألة الّتي يرجع لاستعلام حكمها إلى المجتهد للأخذ بما يفتيه فيها ، وقد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّ المسألة المقلّد فيها هي المسألة المجتهد فيها ، على معنى أنّ كلّ مسألة اجتهاديّة يجوز فيها إعمال الأمارات التعبّديّة أو الظنّية للمجتهد يجوز التقليد فيها للمقلّد ، ومع ذلك يعتبر فيها امور ترجع إلى جواز التقليد :

منها : كون المسألة فرعيّة ، بأن لا تكون من الاصوليّة الاعتقاديّة ، ولا من الاصوليّة العمليّة ، ولا من الموضوعات الخارجيّة ، ولا من الموضوعات الاستنباطيّة.

أمّا عدم كونها من الاصوليّة الاعتقاديّة فلما تقدّم مشروحا من عدم جواز التقليد في اصول الدين.

وأمّا عدم كونها من الاصوليّة العمليّة فلما حقّقناه في غير موضع من عدم حجّية الظنّ فيها إلاّ في مسألة لا يمكن فيها إلاّ الظنّ وحصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بالظنّ في الحكم الشرعي الفرعي ، وحينئذ يجوز العمل به من حيث إنّه عمل بالظنّ في الحكم الفرعي لا من حيث إنّه عمل بالظنّ في المسألة الاصوليّة ، وإذا لم يجز العمل بالظنّ فيها فلئلاّ يجوز التقليد فيها طريق الأولويّة. وأيضا فإنّ المسائل الاصوليّة من مبادئ الاجتهاد والتقليد فيها انقلاب الاجتهاد في المسائل الفرعيّة المبنيّة عليها تقليدا ،

٥٤٥

فيندرج في عموم أدلّة حرمة التقليد على المجتهد.

وأمّا عدم كونها من الموضوعات الخارجيّة الّتي هي الجزئيّات المندرجة تحت المفاهيم الكلّية المعلّق عليها الأحكام الشرعيّة فلعدم جواز التقليد فيها بلا خلاف للأصل ، فيجوز للعامي ومن بحكمه الأخذ بمعتقده وإن خالف معتقد مجتهده الّذي قلّده في كلّي المسألة من دون أن يكون مخالفة لتقليده في أصل الحكم ، لأنّ ما اعتقده المجتهد من جزئيّات موضوع حكم خارج من هذا الحكم في معتقد المقلّد خروجا موضوعيّا ، فعدم إجرائه الحكم الّذي رتّبه عليه المجتهد عليه إنّما هو لاعتقاده بخروجه الموضوعي لا لمخالفته الحكم الّذي أفتى به المجتهد في كلّي المسألة المقلّد فيها كما هو واضح.

وأمّا عدم كونها من الموضوعات الاستنباطيّة ـ وهي مفاهيم الألفاظ الكلّية المعلّق عليها الأحكام الشرعيّة ـ فلعدم جواز التقليد فيها أيضا في الجملة.

وتوضيحه : أنّها إمّا أن تكون ضروريّة « كالكلب » و « الغنم » و « الخمر » و « الماء » فلا إشكال في أنّه لا تقليد في مفهوم اللفظ ولا يجب الفحص والنظر أيضا لمعرفة ذلك المفهوم في نحو هذا القسم ، أو تكون نظريّة محتاجة في معرفة مفهوم اللفظ إلى الفحص مع كون المقلّد من أهل النظر وكون اللفظ بحيث أخذه المجتهد في فتواه ، على أنّه بمفهومه اللغوي أو معناه العرفي مورد للحكم الوارد في خطاب الشرع ، كما لو قال : « يجوز التيمّم على الصعيد » فلا إشكال في أنّه لا تقليد أيضا في نحوه ، بل يجب عليه معرفة المفهوم المعلّق عليه الحكم بمراجعة العرف واللغة ، ولا يرجع إلى المجتهد بل يأخذ بما أدّاه إليه فحصه.

نعم لو لم يكن المقلّد من أهل النظر أو كان ولكن اللفظ ممّا أخذه المجتهد في فتواه تعبيرا عن معنى خاصّ استفاد من الأدلّة كونه موردا للحكم وعبّر عنه بذلك اللفظ باعتقاد أنّه مسمّى اللفظ ـ كما لو قال : « يجوز التيمّم على الصعيد » مريدا منه التراب المستفاد من الأدلّة كونه موضوع الحكم وأراده من « الصعيد » باعتقاد أنّه اسم لهذا المعنى وإن لم يكن كذلك في الواقع ـ ففي هاتين الصورتين يجب على المقلّد أن يرجع إلى المجتهد ويسأله عن مفهوم اللفظ الثابت له بحسب العرف أو اللغة أو أراده منه بحسب اجتهاده فيأخذ به ويتابعه ، وإن خالف معتقده في مفهومه بحسب العرف لما أراده المجتهد كما لو اعتقد في « الصعيد » كونه لمطلق وجه الأرض.

ومنها : أن لا يكون المسألة مسبوقة بتقليد مجتهد آخر جامع للشرائط ، فإنّها حينئذ

٥٤٦

لا تقبل تقليدا آخر ولا يجوز فيها تقليد مجتهد آخر ، ومرجعه إلى عدم جواز العدول عن التقليد في المسألة المقلّد فيها ، وقد تقدّم تحقيق ذلك وتفصيل القول فيه مشروحا.

ومنها : أنّ لا يقطع المقلّد بخطأ مجتهده في خصوص المسألة ، فلو قطع لا يسوغ له تقليده في تلك المسألة لمكان قطعه بمخالفة فتواه الواقع ، وهذا واضح فإنّ فتوى المجتهد ما لم يصر حكما فعليّا للمقلّد لم يجز له الأخذ بها ، وإنّما يصير حكما فعليّا يجب بناء العمل وترتيب آثار الواقع عليه إذا لم ينكشف مخالفته الواقع ، وقطعه بخطأ المجتهد في خصوص المسألة عبارة عن انكشاف مخالفة فتواه الواقع ، وأمّا لو قطع بفساد مدرك المسألة ودليلها والطريق الّذي اعتمد عليه ـ كما إذا عوّل على النوم أو على القياس أو على خبر بظنّ الصدور وقطع المقلّد بفساد الأوّلين وعدم صدور الأخير ـ فهل يجوز له تقليده في هذه المسائل والأخذ بالأحكام المستفادة من هذه الطرق أو لا؟ وجهان : من أنّ مؤدّى الطريق الّذي يقطع المقلّد بفساده حكم ثابت بالاجتهاد الصحيح المحكوم بإجزائه للمجتهد في مرحلة الظاهر فيجوز له الأخذ به ، ومن أنّ قضيّة فساد الطريق عدم كون الحكم المستفاد منه حكما فعليّا للمقلّد فلا يجوز له الأخذ به.

ولكن أوجه الوجهين وأقواهما الوجه الأوّل ، لأنّ العبرة في كون مؤدّيات الطرق أحكاما فعليّة إنّما هو بنظر المجتهد الجامع للشرائط لا بنظر المقلّد ، إذ ليس وظيفة المقلّد النظر في الطريق ليثمره صحّته وفساده ، بل وظيفته الأخذ بما أفتى به المفتي من موجب طرقه الصحيحة في نظره ما لم ينكشف عنده مخالفته الواقع ، والمفروض أنّه لم ينكشف عنده مخالفته الواقع ، إذ القطع بفساد الطريق لا يستلزم القطع بمخالفة مؤدّاه الواقع ، كما لم ينكشف مخالفته الواقع عند المجتهد ، فهو حكم فعليّ في حقّ المجتهد ، وكلّما هو حكم فعليّ في حقّه [ فهو ] حكم فعليّ في حقّ مقلّديه ما لم ينكشف عندهم مخالفته الواقع ، بضابطة أنّ كلّما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّ المقلّد.

هذا ولكنّ الأحوط ترك تقليده في المسائل المبتنية على الطريق الّذي يقطع بفساده.

نعم إذا أدّاه القطع بفساد الطريق إلى القطع بمخالفة مؤدّاه الواقع تعيّن عدم تقليده حينئذ لرجوعه إلى المسألة الاولى.

وهاهنا مسألة اخرى ، وهي : ما لو قطع المقلّد في مسألة بفساد اجتهاده مع صحّة طريقه في موضع يكون معذورا في ذلك الاجتهاد بعدم تقصيره في مقدّماته ، كما لو عوّل على

٥٤٧

طريق صحيح بلا فحص عن المعارض إمّا لنسيانه أو لاعتقاد عدم وجوده من باب الجهل المركّب ، فالوجه جواز تقليده فيه لعين ما تقدّم من كون مؤدّى ذلك الاجتهاد حكما فعليّا في حقّ المجتهد ولم ينكشف للمقلّد مخالفته الواقع ، لأنّ القطع بفساد الاجتهاد لا يستلزم القطع بمخالفة مؤدّاه الواقع.

ومن هنا يعلم أنّ هذا ليس من مسألة القطع بالخطأ في خصوص المسألة ، لأنّ الخطأ لا يلازم فساد الاجتهاد ولا ينافي صحّته كما لا ينافي صحّة الطريق ، بل هو صفة تعرض المجتهد باعتبار انصراف فهمه عن الواقع إلى غيره ، وكما أنّ الخطأ بهذا المعنى لا يلازم فساد الاجتهاد بل يجامع صحّته أيضا فكذلك فساد الاجتهاد لا يلازم الخطأ بهذا المعنى بل يجامع الصواب أيضا ، فلا ملازمة بين المسألتين.

ومنها : كون المسألة المقلّد فيها ممّا أفتى به المجتهد فعلا فلا يكفي شأنيّة الإفتاء ، كما لو علم المقلّد من مذاق المجتهد وطريقته ومذهبه في الاصول أنّه لو أراد الإفتاء في المسألة لأفتى بالحكم الفلاني ، فإنّه لا يكفي حينئذ صحّة التقليد والأخذ بذلك الحكم التقديري ، بل لا بدّ من إحراز كونه قد أفتى فيها فعلا بالحكم الفلاني.

ومنها : إحراز عدم رجوع المجتهد فيها عمّا أفتى به أوّلا إلى غيره بطريق علمي أو شرعي ظاهري ويكفي فيه الاستصحاب ، فلو شكّ في مسألة من المسائل في رجوع المجتهد عن فتواه وعدمه فالظاهر أنّه يجوز له البناء على عدم الرجوع ، تعويلا على أصالة العدم واستصحاب الحالة السابقة الّذي هو من الاستصحاب في الموضوع الخارجي الّذي يكون المجتهد والمقلّد في جواز العمل به على شرع سواء ، ولا يجب عليه الفحص والسؤال في العمل به على ما هو المحقّق في الاصول الجارية في الموضوعات الخارجيّة من عدم اشتراط العمل بها بالفحص إجماعا ، كما هو الحال في استصحاب حياة المجتهد وعدالته واجتهاده ونحوه الّذي هو من وظيفة المجتهد.

وعلى هذا فلو اعتمد المقلّد في بقائه على التقليد على استصحاب عدم رجوع المجتهد واتّفق الرجوع للمجتهد في الواقع ففي وجوب الإعلام عليه للمقلّد برجوعه ، وكذلك لو حصل له التردّد وجهان بل قولان :

من وجوب الإرشاد وتعليم الأحكام الثابت بعمومات الكتاب والسنّة ، فمن الكتاب قوله عزّ من قائل : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) وقوله أيضا : ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا

٥٤٨

رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) ، ومن السنّة قوله عليه‌السلام : « ما أخذ الله على العوام أن يتعلّموا إلاّ وقد أخذ على العلماء أن يعلّموا ».

ومن أنّ الأصل والاستصحاب الّذي اعتمد عليه المقلّد طريق شرعي مفاده حكم ظاهري للمقلّد وقد أخذ به ، فهو ليس بجاهل ولا غافل من حيث اعتماده في عمله على طريق شرعي ، والعمومات المشار إليها إنّما تنصرف إلى الجاهل الصرف والغافل المحض الّذي لم يعتمد في عمله على طريق شرعي.

وكيف كان فلو قطع المقلّد برجوع المجتهد عن فتواه فلا إشكال ولا خلاف في أنّه لا يجوز له البقاء على تقليده في هذه الفتوى ، بل يجب عليه العدول عن هذا المجتهد إلى مجتهد آخر ، أو عن هذه الفتوى إلى فتواه الثانية المتجدّدة بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة والأعمال المستقبلة ، من غير فرق بين العبادات والإنشاءات من العقود والإيقاعات أو الأحكام ، وهي عبارة عن موضوعات مخصوصة من الأعيان أو أفعال المكلّفين غير العبادات والإنشاءات أثبت لها الشارع محمولات ، كقولنا : « العصير العنبي بعد الغليان حرام أو نجس » و « العصير الزبيبي أو التمري حلال أو طاهر » و « الميتة حرام أو نجس » و « السمك حلال أو طاهر » و « الغناء أو استماعه حرام » إلى غير ذلك ممّا يذكر في مباحث الأطعمة والأشربة والصيد والذباحة وإحياء الموات والمواريث والقضاء والشهادات والحدود والديات.

وبالجملة وجوب العدول في جميع ذلك بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة والأعمال المستقبلة ممّا لا ينبغي التأمّل فيه بل لا خلاف فيه ، لخروج الفتوى الاولى برجوع المجتهد عنها عن كونها حكما فعليّا فلا يجوز الأخذ بها على ما قدّمناه.

وأمّا الوقائع السابقة فلكونها من الامور الغير القارّة بالذات وانعدمت بمجرّد وجودها وانقضاء زمان وقوعها فلا ينبغي التكلّم في وجوب العدول بالنسبة إليها الّذي يعبّر عنه بالنقض وعدمه ، بل الّذي ينبغي أن يتكلّم في وجوب نقضه وعدمه إنّما هو الآثار المترتّبة عليها ، وحيث إنّها قد تكون من العبادات وقد تكون من الإنشاءات وغيرها ، فالكلام في نقض آثارها وعدمه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في الآثار المترتّبة على العبادات.

فنقول : لا إشكال ولا ينبغي التأمّل في مضيّ الآثار السابقة المرتّبة على الوقائع السابقة من العبادات إن كان لها آثار سابقة ، كفضيلة أوّل الوقت وفضيلة المسارعة والتعجيل إلى

٥٤٩

فعل المأمور به وفضيلة الوقت ونحو ذلك فيمن صلّى بلا سورة تقليدا عمّن لا يوجبها في الصلاة في أوّل الوقت ، أو سارع إلى فعلها أو في الوقت طلبا لإدراك فضائل هذه الكيفيّات ومصالحها ثمّ عدل المجتهد إلى القول بوجوب السورة فوجب الالتزام بترتّب هذه الآثار وحصول هذه المنافع والمصالح وعدم انتقاضها بالعدول ، وإن قلنا بعدم كون الصلوات المأتيّ بها على طبق الفتوى الاولى من الصلاة المأمور بها في الواقع لئلاّ يلزم فوات هذه المنافع عن المكلّف بلا تدارك حذرا عن نقض الغرض ومنافاة العدل والحكمة ، كما يظهر وجهه بالتأمّل فيما قرّرناه في بحث الإجزاء وغيره.

وأمّا الآثار المستقبلة المترتّبة على الوقائع السابقة من العبادات فإن كانت بحيث تترتّب على الصحّة الشرعيّة ولو ظاهريّة ـ أي العمل الصحيح المحكوم بصحّته في ظاهر الشرع ـ فينبغي القطع بترتّبها أيضا وعدم انتقاضها بالعدول ، وذلك كاستحقاق الاجرة المقتضي لجواز تناول الأجير للأموال الموجودة بعد العمل والتصرّف فيها في استيجار العبادات من الصلاة والصوم والحجّ وغيرها الواقعة على طبق التقليد في الفتوى السابقة ، فإنّ عقد الإجارة فيها يقتضي وجوب العمل على حسب التكليف المحكوم بصحّته شرعا باعتبار موافقته التكليف ، ولذا لا يقدح فيه النسيان والسهو فيما لا يبطله السهو ، كما يقتضي استحقاق الاجرة على العمل المفروض على هذا الوجه من دون نظر إلى الواقع ، وجواز التصرّف في الأموال الموجودة منها بعد العمل الواقع على هذا الوجه بل وحصول الامتثال المسقط المتدارك حتّى بعد رجوع المجتهد عن الفتوى والعدول عن تقليده في تلك الفتوى.

وبالجملة هذه الآثار مترتّبة على الصحّة الشرعيّة المنوطة بالتكليف الظاهري وقد حصلت حين وقوع العمل.

وإن كانت بحيث تترتّب على الصحّة الواقعيّة كسقوط الإعادة والقضاء ، ففي انتقاضها المقتضي لوجوب الإعادة بعد الرجوع لو كان في الوقت ولو في الجزء الأخير منه والقضاء لو كان في خارج الوقت وعدمه قولان ، أقواهما وأوفقهما بالقواعد أوّلهما وفاقا لبعض مشايخنا قدس‌سره.

ويظهر من فحوى المحكيّ عن العلاّمة والعميدي والحاجبي والعضدي والآمدي في التهذيب والمنية والمختصر وشرحه والإحكام من القول ببطلان المعاملة من عقد أو إيقاع رأسا وانتقاض آثارها مطلقا عند تغيّر الاجتهاد وتجدّد الرأي.

٥٥٠

ودليلنا عليه بالبيان الإجمالي : أنّ سقوط الإعادة والقضاء يتبع الامتثال الواقعي كما هو مقتضى أدلّة الواقع ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بإتيان المأمور به الواقعي أو بإتيان بدله الّذي جعله الشارع بدلا له ، والمفروض بعد الرجوع والعدول انتفاء الأمرين بالقياس إلى الوقائع السابقة.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض أنّ الصلاة بلا سورة مثلا المأتيّ بها على طبق الفتوى الاولى انكشف بالرجوع إلى وجوب السورة عدم كونها المأمور به الواقعي.

وأمّا الثاني : فلأنّ بدليّة الصلاة بلا سورة مبنيّة على موضوعيّة جعل الأمارات وهو باطل ، فالمأمور به الواقعي باق على ذمّة المكلّف فيجب الإتيان به إعادة أو قضاء.

أمّا الأوّل : فلأنّ بقاء الوقت ولو جزء أخيرا منه بمقتضى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) يقتضي وجوب الخروج عن عهدة الأداء.

وأمّا الثاني : فلأنّ قضيّة الجمع بين أدلّة الأداء وأدلّة القضاء وجوب أحد الأمرين من الفعل في الوقت والفعل في خارجه مع ترتّب الثاني على فوات الأوّل.

وتوهّم أنّ سقوط الإعادة والقضاء من الآثار السابقة المترتّبة على الوقائع السابقة الّتي تقدّم عدم الإشكال في وجوب المضيّ فيها.

يدفعه : وضوح الفرق بين الحكم بالسقوط ونفس السقوط في الواقع ، والأوّل لا يلازم الثاني ، والمترتّب على الوقائع السابقة قبل الرجوع إنّما هو الأوّل والرجوع إلى خلافها بموجب الأمارة المعمول بها في الاجتهاد الثاني كشف عن عدم السقوط بحسب الواقع.

لا يقال : الّذي يستلزمه الرجوع عن الفتوى إنّما هو حجّية الاجتهاد الثاني بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة لا الوقائع السابقة ، والإعادة لتعلّقها بها بل القضاء أيضا منها فلا يحكم بوجوبهما بمقتضى الاجتهاد الثاني المفروض عدم حجّيته بالنسبة إليهما.

لأنّ الإعادة والقضاء على تقدير وجوبهما إنّما يجبان على أنّهما من الوقائع اللاحقة ، ضرورة أنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي في الوقت على تقدير بقائه أو في خارجه على تقدير فواته في الوقت واقعة حصل الابتلاء بها بعد الرجوع عن الفتوى.

ولو قيل : إنّ العمل قد وقع قبل الرجوع.

قلنا : انكشف عدم كون ما وقع هو المأمور به الواقعي ، والمفروض عدم كونه بدلا له

٥٥١

لبطلان الجعل الموضوعي في الأمارات.

والسرّ فيه ـ مع وضوحه واتّضاحه في غير موضع ـ أنّ المستفاد من أدلّة الطرق سواء كانت معمولة في الأحكام أو في الموضوعات وجوب الأخذ بمؤدّاها وتطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه على أنّه هو الواقع ، ولا يستفاد منها كون مؤدّاها شيئا آخر غير الواقع في عرض الواقع ، ومعنى تغيّر الاجتهاد والرجوع عن الفتوى الاولى انكشاف عدم كون مؤدّى الأمارة الاولى المعمول بها في الاجتهاد الأوّل هو الواقع.

ثمّ من المعلوم أنّ الواقع إذا كان مجهولا فالمكلّف الجاهل به مادام جاهلا ولو من باب الجهل المركّب ليس له سوى المعذوريّة من حيث العقوبة والمؤاخذة ، وكما أنّ المعذوريّة إنّما كانت ما دام الجهل فكذلك وجوب العمل بمؤدّى الطريق ـ على معنى ترتيب آثار الواقع عليه ـ إنّما هو ما دام الجهل ، فإذا زال الجهل بانكشاف خلاف مؤدّى الطريق تعيّن الأخذ بالواقع وترتيب الآثار عليه وهو مؤدّى الطريق المرجوع إليه.

ومن جملة الآثار وجوب الإعادة أو القضاء ، لعدم سقوط الأمر أو فواته في الوقت من جهة عدم حصول الإتيان بالمأمور به الواقعي ولا ببدله ، لعدم كون المأتيّ به أوّلا بدلا له لأنّ الإتيان به إنّما حصل على أنّه المأمور به الواقعي وقد انكشف خلافه.

هذا كلّه مضافا إلى ما قرّرناه بما لا مزيد عليه في بحث الإجزاء فإنّا قد أشبعنا الكلام في هذا المقام ثمّة.

المقام الثاني : في الآثار المترتّبة على المعاملات من العقود والإيقاعات ، كما لو اشترى دارا أو عقارا أو كسوة أو نحوها بالمعاطاة لبنائه على صحّتها ، وعقد على امرأة بالفارسي لبنائه على عدم اشتراط العربيّة في العقد ، أو على الباكرة البالغة من دون إذن أبيها لبنائه على عدم ولاية له عليها ، أو على المرضعة أو المرتضعة بعشر رضعات لبنائه على عدم نشر الحرمة بها ، ثمّ تغيّر رأيه ورجع عمّا بنى عليه أوّلا لما دلّه على فساد المعاطاة واشتراط العربيّة في صحّة العقد وولاية الأب على الباكرة الرشيدة ونشر الحرمة بعشر رضعات ، فله بالقياس إلى لزوم الحكم بفساد ما وقع على طبق الفتوى الاولى ووجوب نقض الآثار المترتّبة على الوقائع المذكورة من العقود المنطبقة على الاجتهاد الأوّل وعدمه صور :

الاولى : ما لو كان رجوعه على سبيل القطع ، بأن صادف اجتهاده الثاني قاطعا أفاده القطع بخطائه في الفتوى الاولى المستلزم للقطع بفساد العقود المذكورة وغيرها ، ففي مفاتيح

٥٥٢

السيّد : « الظاهر أنّه يلزمه الحكم بفساد ما فعل بالاجتهاد الأوّل ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب ».

أقول : وهو كذلك ، بل الحكم بالفساد الّذي هو عبارة عن نقض الآثار الشرعيّة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، ضرورة أنّ الآثار إنّما تترتّب على العقد أو الإيقاع الصحيحين لا على ما انكشف فساده ومخالفته الواقع.

والسرّ فيه : أنّ الصحّة بمعنى ترتّب الأثر في عقد أو إيقاع إنّما هو من مقتضى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وغير ذلك من عمومات أدلّة العقود والإيقاعات ، وهو إنّما يعقل في عقد أو إيقاع علم اندراجه في عموم تلك الأدلّة ، والرجوع عن الفتوى معناه انكشاف عدم اندراج الموارد المنطبقة عليها تحت الأدلّة ، خصوصا لو كان ذلك لخروجه الموضوعي كما في المعاطاة مثلا لو رجع عن القول بصحّتها بيعا إلى الفساد وعدم البيعيّة ، ومعه كيف يعقل ترتيب الآثار الشرعيّة بعد الرجوع؟

الثانية : ما لم يكن الرجوع على سبيل القطع ، لوصوله في الاجتهاد الثاني إلى أمارة ظنّية ولكن اتّصل بالوقائع السابقة المنطبقة عليها حكم من حاكم شرعي ، كما لو ترافع المتعاقدان أو غيرهما لوقوع الاختلاف في الصحّة وعدمها في الأمثلة المتقدّمة إليه فحكم بالصحّة لموافقته في الرأي لذلك المجتهد الّذي اتّفق له الرجوع.

وحينئذ فعن النهاية والتهذيب والمنية والمختصر وشرحه للعضدي وشرح المبادئ التصريح بالاستمرار على ما فعل وترتيب الآثار عليه وعدم جواز نقضه.

وعن النهاية التصريح بعدم الفرق فيما لو كان صاحب الواقعة هو المقلّد بين ما لو كان الحاكم هو المجتهد المتغيّر رأيه أو غيره.

وعن النهاية والتهذيب والمنية وغيرها التعليل بأنّ حكم الحاكم لمّا اتّصل بالنكاح فيما لو نكح امرأة خالعها ثلاثا لبنائه أوّلا على أنّ الخلع فسخ لاطلاق ، ثمّ تغيّر اجتهاده فبنى على أنّه طلاق بعد لحوق حكم الحاكم بصحّة النكاح تأكّد ذلك النكاح فلا يفسد بتغيّر الاجتهاد.

وعن النهاية أنّه زاد عليه محافظة على حكم الحاكم مصلحته ، وتنظّر في المنية في الأوّل بقوله : « وفي هذا نظر ، لأنّ حكم الحاكم لا يغيّر الشيء عمّا هو عليه ، فإن كان الحلّ ثابتا في نفسه لم يؤثّر فيه حكم القاضي ، وإن كان منتفيا لم يثبت بحكم الحاكم ».

٥٥٣

هذا فيما لو كان صاحب الواقعة هو المجتهد المتغيّر رأيه ، وأمّا لو كان غيره ممّن قلّده فجزم فيه بعدم النقض قائلا : « بخلاف قضاء القاضي فإنّه متى اتّصل بحكم المجتهد فيه استقرّ ولا يجوز نقضه ما لم يكن منافيا لمقتضى دليل قطعي كالنصّ أو إجماع أو قياس جليّ ـ وهو ما نصّ الشارع فيه على الحكم وعلى علّته نصّا قاطعا وتثبت تلك العلّة في الفرع قطعا ـ فإنّه حينئذ ينقض لظهور خطائه قطعا ، أمّا لو تغيّر الاجتهاد المتأيّد بالحكم والقضاء بالاجتهاد الطارئ عليه فإنّه لا يؤثّر ولا ينقض به الحكم ، إذ لو جاز للحاكم نقض حكم نفسه أو حكم غيره بمجرّد تغيّر اجتهاده المفيد للظنّ لجاز نقض النقض عند تغيّر الاجتهاد مرّة اخرى وهكذا إلى غير النهاية ، وهذا يفضي إلى عدم الوثوق بحكم الحاكم وعدم استقراره ، وهو خلاف المصلحة الّتي ينصب الحاكم لأجلها » انتهى.

وحيث إنّ نقض الفتوى في الصورة المفروضة يندرج في صور نقض الحكم كما يظهر من التعليلات المذكورة فالمنع منه لو كان إنّما هو لجهة راجعة إلى نقض الحكم ، فتحقيق الحال فيه يعلم من ملاحظة حكم نقض الحكم وصوره ، ولعلّنا نتكلّم فيه فيما بعد.

الثالثة : ما لو لم يتّصل بالواقعة حكم حاكم ، فالمصرّح به في كلام جماعة وجوب النقض وعدم جواز الاستمرار على ما فعل ، ولعلّه المشهور بل لم يظهر خلاف فيه بالنسبة إلى المجتهد نفسه ، بل في المنية كما عن النهاية دعوى الاتّفاق عليه.

نعم في محكيّ النهاية نقل الاختلاف في المقلّد وإن اختار هو فيه وفي التهذيب ـ كما في المنية وعن المختصر وشرحه والإحكام ـ وجوب النقض وعدم جواز الاستمرار ، وتنظر فيه السيّد في المفاتيح (١) لمخالفته استصحاب الصحّة واستلزامه الحرج العظيم والمشقّة الشديدة غالبا.

ثمّ قال ـ بعد ما أمر بالتأمّل ـ : « فالقول بصحّة الاستمرار على ما فعل بتقليد الاجتهاد الأوّل في المعاملات في غاية القوّة » (٢).

أقول : الأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه في حقّ كلّ من المجتهد والمقلّد هو وجوب النقض وعدم جواز الاستمرار لوجوه :

منها : الأصل ، إذ بعد تغيّر الاجتهاد والرجوع عن الفتوى الاولى يشكّ في ترتّب الآثار الشرعيّة على ما وقع من عقد أو إيقاع من حين وقوعه وعدمه ، والأصل ـ بمعنى استصحاب

__________________

(١ و ٢) مفاتيح الاصول : ٥٨٢.

٥٥٤

الحالة السابقة العدميّة الأزليّة ـ يقتضي عدمه.

وبالتأمّل في تقرير الأصل المذكور يندفع الاستصحاب المتوهّم هاهنا المتمسّك به للقول بعدم جواز النقض كما تقدّم الإشارة إليه في عبارة المفاتيح لسريان شكّه المانع من جريانه رأسا ، فالأصل المذكور سليم عمّا يرد عليه من الاصول.

ومنها : الإجماع المنقول المتقدّم عن المنية والنهاية المعتضد بالشهرة ولو في حقّ المجتهد نفسه ، فإنّه ممّا يورث الظنّ الاطمئناني بالفساد وعدم ترتّب الآثار ، بل عدم جواز ترتيبها أيضا بعد الرجوع.

ومنها : ما تقدّم في المقام الأوّل من أنّ المستفاد من أدلّة الطرق وجوب الأخذ بمؤدّاها وترتيب الآثار عليه على أنّه الواقع ، ومعنى الرجوع عن الفتوى انكشاف عدم كون مؤدّى الأمارة الاولى المعمول بها في الاجتهاد الأوّل هو الواقع ، ومعه كيف يعقل ترتيب آثار الواقع عليه؟

وتوهّم أنّ الآثار قد ترتّبت قبل الرجوع ، يندفع : بوضوح الفرق بين الحكم بترتّبها وبين ترتّبها في الواقع ، والمسلّم قبل الرجوع هو الأوّل والّذي يجدي في منع ما تقدّم هو الثاني وهو غير مسلّم.

ومنها : ما تقدّم الإشارة إليه من أنّ ترتّب الآثار على ما وقع في الخارج من عقد أو إيقاع إنّما هو من مقتضى أدلّة مشروعيّة العقود والإيقاعات من مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ونحوه فيما علم اندراجه في عمومها ، حتّى أنّ ترتيبها على العقود الشخصيّة المنطبقة على الفتوى السابقة قبل الرجوع عنها إنّما هو لاعتقاد اندراجها في عموم تلك الأدلّة ، وقضيّة تغيّر الاجتهاد أخذا بمؤدّى أمارة قائمة بخلاف الفتوى السابقة انكشاف عدم اندراجها فيه ، ومعه كيف يصحّ الالتزام بترتّب الآثار من الملكيّة والنقل والانتقال والزوجيّة ووجوب الوفاء عليها مع ملاحظة أنّ الأصل الأوّلي في كلّ عقد أو إيقاع هو الفساد وعدم الصحّة ، ولا نعني منهما إلاّ كون المورد بحيث لا يترتّب عليه الآثار الشرعيّة.

وبالجملة الأصل الأوّلي في المعاملات على ما حقّق في محلّه هو الفساد ، وقد انقلب ذلك الأصل في الأسباب الشرعيّة من العقود والإيقاعات إلى أصل ثانوي مستنبط من عمومات أدلّة الصحّة وإطلاقاتها كتابا وسنّة وغيرهما.

ولا ريب أنّ الأصل الثانوي لا يتناول إلاّ ما ظهر للمجتهد اندراجه في عموم تلك

٥٥٥

الأدلّة وإطلاقها ، وأمّا ما ظهر له عدم اندراجه أو شكّ في اندراجه فيهما فهو باق تحت الأصل الأوّلي ، ومرجعه إلى عدم انقلاب الأصل الأوّلي بالنسبة إليه ، والأمارة المعمول بها في الاجتهاد الثاني الباعثة على

الرجوع الدالّة على اشتراط الصيغة في البيع والعربيّة في العقد والولاية للأب على الباكرة الرشيدة ونشر الحرمة بعشر رضعات قاضية بخروج العقود الخالية عن تلك الشروط من الأصل الثانوي ، وموجبة للعلم الشرعي بعدم اندراجها في أدلّة ذلك الأصل.

وإن شئت فقس المقام على ما لو اطّلع المجتهد على نحو الأمارة المذكورة في ابتداء اجتهاده ، فكما أنّه لانكشاف عدم اندراج العقود الخالية عن الشروط المستفادة من الأمارة المذكورة في أدلّة الصحّة وخروجها منها من باب التخصيص أو التخصّص يبني على فسادها ولا يرتّب عليها شيئا من الآثار الشرعيّة بل ولا يجوز له ترتيبها ، فكذلك فيما لو اطّلع عليها في الاجتهاد الثاني على وجه أوجبت رجوعه عن مؤدّى الاجتهاد الأوّل ، وما سبقه من اعتقاد الاندراج لا يغيّر الموضوع الواقعي عمّا هو عليه من عدم اندراجه في نفس الأمر في أدلّة الصحّة بحيث يجعله مندرجا فيها في نفس الأمر.

ومع ذلك كلّه كيف يقال في الوقائع السابقة بأنّه يجب الوفاء بها؟ ومقتضاه بقاء الآثار المترتّبة عليها على حالها.

هذا كلّه في المجتهد واضح ، وأمّا المقلّد على تقدير اختياره العدول من تقليد ذلك المجتهد في فتواه إلى تقليده في فتواه الثانية ففي حقّه وإن كان يمكن القول بعدم النقض ، نظرا إلى أنّ دليله على ترتيب الآثار ليس نحو ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) وغيره من أدلّة الصحّة الّتي ينظر فيها المجتهد ، بل دليله إنّما هو فتوى مجتهده والمفروض أنّه أخذ بموجبها في الوقائع السابقة ، ولا يقدح فيه طروّ الرجوع للمجتهد ، لأنّه إنّما يثمر بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة وأمّا الوقائع السابقة فلا دليل على حجّية الفتوى اللاحقة فيها.

ولكن يدفعه : أنّ الفتوى ليست بنفسها دليلا للمقلّد بأن يكون اعتبارها في حقّه على وجه الموضوعيّة ، بل باعتبار كونها إخبارا عن حكم الله الفعلي على حسب تأدية الاجتهاد إليه ، فدليل المقلّد في الحقيقة على الحكم الفعلي إنّما هو دليل المجتهد بعينه ، فالمجتهد ومقلّده في وجوب الأخذ بمؤدّى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) وغيره من أدلّة الصحّة في تصحيح

__________________

(١ و ٢) المائدة : ١.

٥٥٦

العقود والإيقاعات على شرع سواء من غير فرق بينهما ، غير أنّ المقلّد لعجزه عن فهم الدليل وإدراك حقيقة المراد منه واستنباط الحكم الّذي من شأنه أن يستنبط منه ينوب عنه المجتهد ، فهو مخاطب بالأخذ بمؤدّى الأدلّة على حسب فهمه وبقدر طاقته أصالة عن نفسه ونيابة عن مقلّديه ، ثمّ يبلّغه إليهم بصورة الإفتاء فيجب عليهم الأخذ بهذا الفهم الّذي هو اعتقاد المجتهد وتطبيق العمل عليه ، وحينئذ فيجري في حقّهم بالنسبة إلى نقض الآثار ما يجري في حقّ المجتهد.

ومحصّله : أنّ المجتهد إذا رجع عن مؤدّى اجتهاده السابق لا يبقى للمقلّد أيضا ما يقتضي وجوب الوفاء بما صدر منه من العقود والإيقاعات.

وأمّا القول بعدم النقض مطلقا أو في حقّ المقلّد وحده فليس له إلاّ الاستصحاب ولزوم الحرج العظيم والمشقّة الشديدة ، وجريان السيرة وارتفاع الوثوق ولزوم الهرج والمرج ، ولقد عرفت الجواب عن الاستصحاب هنا وذكرنا الجواب عن الكلّ في مسألة الإجزاء بما لا مزيد عليه ، وملخّصه : أنّ الاستصحاب لسريان شكّه غير صحيح ، ونفي الحرج لكونه شخصيّا يقتصر فيه على مورده مع ندوره ، والسيرة لندرة اتّفاق تغيّر الاجتهاد في محلّ المسألة غير معلومة ، والأخيران لكونهما من الوجوه الاعتباريّة لا ينهضان دليلين على تأسيس الحكم الشرعي المخالف للأصل والقاعدة المستفادة من الأدلّة المتقدّمة ، فليتدبّر.

ومن الفضلاء من يظهر منه بالنسبة إلى المقامين معا تفصيل ، مرجعه إلى الفرق بين العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات فلا ينقض الفتوى في الوقائع السابقة على الرجوع وبين الأحكام فتنقض ، حيث قال : « إذا رجع المجتهد عن الفتوى انتقضت في حقّه بالنسبة إلى مواردها المتأخّرة عن زمن الرجوع قطعا وهو موضع وفاق » ـ إلى أن قال ـ :

وأمّا بالنسبة إلى مواردها الخاصّة الّتي بنى فيها قبل رجوعه عليها فإن قطع ببطلانها واقعا فالظاهر وجوب التعويل على مقتضى قطعه فيها بعد الرجوع عملا بإطلاق ما دلّ على ثبوت الحكم المقطوع به ، فإنّ الأحكام لاحقه لمواردها الواقعيّة لا الاعتقاديّة فيترتّب عليه آثاره الوضعيّة ما لم تكن مشروطة بالعلم » إلى أن قال :

« وكذا لو قطع ببطلان دليله واقعا وإن لم يقطع ببطلان نفس الحكم ، كما لو زعم حجّية القياس فأفتى بمقتضاه ثمّ قطع ببطلانه ، لقطعه بأنّ حكمه الواقعي حال الإفتاء لم يكن ذلك » إلى أن قال :

٥٥٧

« وإن لم يقطع ببطلانها ولا ببطلانه فإن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق فيترتّب عليها لوازمها بعد الرجوع ، إذ الواقعة الواحدة لا يحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين لعدم دليل عليه ، ولئلاّ يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيّين في الشريعة السمحة ، لعدم وقوف المجتهد على رأي واحد غالبا » إلى أن قال :

« ولئلاّ يرتفع الوثوق في العمل ، من حيث إنّ الرجوع في حقّه محتمل وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد » إلى أن قال :

« ولأصالة بقاء آثار الواقعة ، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد ، ولا قطع بارتفاعها بعده إذ لا دليل على تأثير الاجتهاد المتأخّر فيها ، فإنّ القدر الثابت من أدلّته جواز الاعتماد عليه بالنسبة إلى غير ذلك فيستصحب » إلى أن قال :

« وبالجملة فحكم رجوع المجتهد في الفتوى فيما مرّ حكم النسخ في ارتفاع الحكم المنسوخ عن موارده المتأخّرة عنه وبقاء آثار موارده المتقدّمة إن كان لها آثار.

وعلى ما قرّرنا فلو بنى على عدم جزئيّة شيء للعبادة أو عدم شرطيّته فأتى بها على الوجه الّذي بنى عليه ثمّ رجع بنى على صحّة ما أتى به ، حتّى أنّها لو كانت صلاة وبنى فيها على عدم وجوب السورة ثمّ رجع بعد تجاوز المحلّ بنى على صحّتها من جهة ذلك ، أو بنى على صحّتها في شعر الأرانب والثعالب ثمّ رجع ولو في الأثناء إذا نزعها قبل الرجوع ، وكذا لو بنى على طهارة شيء ثمّ صلّى في ملاقيها ورجع ولو في الأثناء ، وكذا لو تطهّر بما يراه طاهرا أو طهورا ثمّ رجع ولو في الأثناء ، فلا يلزمه الاستئناف ، وكذلك القول في بقيّة مباحث العبادات وسائر مسائل العقود والإيقاعات ، فلو عقد أو أوقع بصيغة يرى صحّتها ثمّ رجع بنى على صحّتها واستصحب أحكامها من بقاء الملكيّة والزوجيّة والبينونة والحرّيّة وغير ذلك » إلى أن قال :

« ولو كانت الواقعة ممّا لا يتعيّن أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد ، كما لو بنى على حلّية حيوان فذكّاه ثمّ رجع بنى على تحريم المذكّى منه وغيره ، أو على طهارة شيء كعرق الجنب من الحرام فلاقاه ثمّ رجع بنى على نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده ، أو على عدم تحريم الرضعات العشرة فتزوّج من أرضعته ذلك ثمّ رجع بنى على تحريمها ، لأنّ ذلك كلّه رجوع عن حكم الموضوع وهو لا يثبت بالاجتهاد

٥٥٨

على الإطلاق ، بل ما دام باقيا على اجتهاده فإذا رجع ارتفع كما يظهر من تنظير ذلك بالنسخ.

وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد السابق فهي في الحقيقة إمّا من مشخّصات عنوان الموضوع كالملاقاة أو من المتفرّعات على حكم الموضوع كالتذكية والعقد فلا أثر لها في بقاء حكم الموضوع » إلى أن قال : « وممّا قرّرنا يظهر حكم التقليد بالمقايسة ، فإنّ المقلّد إذا رجع مجتهده عن الفتوى أو عدل إلى من يخالفه حيث يسوغ له العدول أو بلغ درجة الاجتهاد وأدّى نظره إلى الخلاف ، فإنّه يتصوّر في حقّه الصور المذكورة ويجري فيه الكلام المذكور » انتهى ملخّصا (١).

ومحصّله : الفرق في موضوع الحكم الشرعي بين الامور المخترعة الشرعيّة الّتي أخذ الشارع فيها أجزاء وشرائط ولا تعرف إلاّ ببيانه الّذي لا بدّ لاستعلامه من مراجعة الأدلّة الظنّية والأمارات الشرعيّة المتداولة بين المجتهدين ، فلا بدّ لإحراز المشروع منها في الخارج وفي مقام العمل من تطبيق الواقعة المأتيّ بها على فتوى المجتهد المتكفّلة لبيان أجزائها وشرائطه المستنبطة من الأدلّة الاجتهاديّة ـ وهذا هو المراد من كون الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى ـ وبين الامور الواقعيّة الّتي لا مدخل للشارع ولا لاجتهاد المجتهد فيها باعتبار كونها من الموضوعات العرفيّة أو اللغويّة الّتي يرجع لمعرفتها إلى العرف واللغة ، وقضيّة ذلك أن لا يرجع لإحراز الواقعة منها في الخارج إلى فتوى المجتهد لعدم كونها متكفلّة لبيان الموضوع ، وهذا هو المراد من كون الواقعة ممّا لا يتعيّن في وقوعها أخذها بمقتضى الفتوى.

وبهذا البيان ظهر أنّ تغيّر الاجتهاد في مثل ذلك لا يوجب تغيّر الموضوع ، بل إنّما يوجب تغيّر حكم الموضوع من الحلّ أو الحرمة أو الطهارة أو النجاسة أو غيرها ، والمفروض أنّه المثبت بالاجتهاد الأوّل على الإطلاق بل ما دام الاجتهاد باقيا ، ولذا ينتقض مؤدّى الاجتهاد الأوّل من غير فرق فيه بين الوقائع السابقة والوقائع اللاحقة ، بخلاف ما كان من قبيل الامور المخترعة الّتي يرجع لإحرازها بأجزائها وشروطها من العبادات وسائر العقود والإيقاعات إلى الفتوى المتكفّلة لبيان الأجزاء والشرائط ، فإنّ تغيّر الاجتهاد في مثل ذلك يوجب تغيّر الموضوع ، وهو لا يوجب انتقاض الأحكام والآثار المترتّبة على الموضوع الأوّل المنطبق في وقوعه الخارجي على الفتوى الاولى بدلالة الوجوه الأربعة المتقدّمة.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٠٩.

٥٥٩

وفيه : بطلان أصل الدعوى مع فساد أدلّته.

أمّا الأوّل : فلأنّ الواقعة إذا كانت من قبيل الامور المخترعة من العبادات وسائر العقود والإيقاعات وإن كان يجب لإحراز وقوعها في الخارج تطبيقها على الفتوى ، لكن لا على أنّ مؤدّاها أمر مستقلّ واقع في طرف العرض من الواقع هو المأمور به في العبادات ، والسبب المشروع في العقود والإيقاعات وإن غاير الواقع لبطلان الجعل الموضوعي في الأمارات على ما بيّنّاه مرارا ، بل على أنّه الواقع بمعنى المأمور به الواقعي والسبب الواقعي ، فمعنى وجوب الأخذ به وجوب ترتيب آثار الواقع عليه على أنّه الواقع لا ما يغايره ، ولا يعقل ذلك إلاّ ما لم يتحقّق الرجوع ، إذ الرجوع معناه انكشاف أنّ المأتيّ به غير المأمور به الواقعي والمأمور به الواقعي غير مأتيّ به ، وإنّ ما وقع من الصيغة الّتي يرى المجتهد صحّتها أوّلا غير السبب الواقعي المشروع الّذي يترتّب عليه الملكيّة أو الزوجيّة أو البينونة أو الحرّيّة أو غيرها ، والسبب الواقعي المشروع غير واقع ، ومع ذلك فكيف يعقل ترتيب آثار الواقع على الوقائع السابقة على الرجوع؟

وبالجملة فإن أراد الفاضل المتقدّم ذكره من كون الواقعة ممّا تعيّن أخذه بمقتضى الفتوى أنّ ما أخذه المجتهد أو مقلّده من الواقعة بمقتضى الفتوى كان حكمه الواقعيّ الأوّلي فلا ينتقض بعد الرجوع الآثار اللاحقة بها قبله ، فلا يجب في العبادة كالصلاة بلا سورة أو مستصحبة لشعر الأرانب والثعالب ونحو ذلك إعادة لو كان الرجوع في الوقت ولا قضاء لو كان في خارج الوقت.

ففيه : أنّه تصويب باطل.

وإن أراد أنّ مؤدّى الاجتهاد السابق الّذي وقعت الواقعة على طبقه وإن لم يكن هو المأمور به الواقعي الأوّلي إلاّ أنّه كان بدلا عن الواقعي الأوّلي ما دام الاجتهاد المذكور باقيا تنزيلا له منزلة الأعذار الموجبة للبدليّة.

ففيه ـ مع أنّه نوع من التصويب أيضا ـ : أنّ هذا المعنى ممّا لا يستفاد من أدلّة الطرق الّتي وقع فيها الاجتهاد ونشأ منها الفتوى ، بل قصارى ما استفيد منها وجوب الأخذ بمؤدّى الطرق على أنّه الواقع ، لا على أنّه شيء في عرضه أو أنّه بدل منه.

وإن أراد غير هذين المعنيين فمقتضى الدليل والقاعدة وجوب الإعادة مع بقاء الوقت والقضاء مع خروجه إن لم يكن إجماع على خلافه ، كما هو قضيّة عدم سقوط الأمر في

٥٦٠