تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

حسبما أفتى به غير الأعلم على تقدير الرجوع إليه يستلزم دوام اختيار الفعل ودوام اختيار الترك أو الاجتناب وهو لا ينافي الاستحباب وعدم الوجوب والإباحة والكراهة والطهارة حسبما أفتى به الأعلم عملا ، لأنّ دوام اختيار الفعل أو الترك أو الاجتناب لا ينافي عدم وجوب غير الواجب وإباحة المباح وكراهة المكروه وطهارة الطاهر كما هو واضح.

ثمّ بعد البناء على التخيير في هاتين الصورتين فله أن يأخذ بفتاوى الأعلم على وجه الاستناد إليه ، وأن يأخذ بفتاوى غير الأعلم على وجه الاستناد إليه ، وأن يأخذ بالحكم المفتى به من دون استناد إلى الأعلم ولا إلى غير الأعلم ، لأنّ الاستناد إلى المفتي بعد الأخذ بفتواه لا مدخليّة له في صحّة التقليد وجودا وعدما إجماعا ، ويدلّ عليه أيضا فحوى ما دلّ على صحّة أعمال الجاهل عند مطابقتها فتوى المجتهد الّذي يجب عليه الرجوع إليه حين الالتفات والتفطّن ، هذا.

المقام الثاني : فيما لو شكّ في التفاضل إمّا باعتبار الشكّ في الحادث بعد العلم الإجمالي بحدوث الأعلميّة الّتي هي مزيّة في أحد المجتهدين مع الجهل بمحلّها ، أو باعتبار الشكّ في الحدوث ، فهاهنا أيضا مرحلتان :

المرحلة الاولى : فيما علم كون أحد المجتهدين أعلم ولم يعلم أيّهما هو؟ ولا إشكال بل الظاهر أنّه لا خلاف عند القائلين بالمختار في وجوب الفحص لتشخيص الأعلم مقدّمة للرجوع إليه ، وإذا فحص ففحصه إمّا أن لا يؤدّيه إلى العلم ولا الظنّ به ، أو يؤدّيه إلى العلم به ، أو الظنّ به بالعثور على أمارة ظنّية لم يقم دليل على اعتبارها بالخصوص.

ففي الصورة الاولى تخيّر في الرجوع إليهما ، لاستقلال العقل بالحكم بالتخيير هنا كما في صورة التساوي ، حذرا عن التكليف بما لا يطاق والترجيح من غير مرجّح ، ولا يمنعه من الحكم به احتمال مرجعيّة الاحتياط ، لسقوط احتمال وجوب العمل به ابتداء بتعذّره أو تعسّره أو قيام الإجماع عليه ، كيف ولو لا سدّ باب الاحتياط ـ على ما علم من تقرير دليل الانسداد ـ لم ينفتح باب مشروعيّة التقليد للعامي ، كما أنّه لو لا سدّ بابه لم ينفتح باب العمل بالظنّ الاجتهادي للمجتهد ، فبعد سقوط اعتبار الاحتياط لا يبقى عند العقل في محلّ البحث إلاّ احتمالا التعيين أو التخيير ، والأوّل باطل بما عرفت فتعيّن الثاني.

وفي الصورة الثانية يتعيّن الرجوع إلى معلوم الأعلميّة ، ووجهه واضح.

وأمّا الصورة الثالثة فالوجه فيها تعيّن الرجوع إلى مظنون الأعلميّة لعين ما دلّ على

٤٨١

وجوب تقليد الأعلم أعني أصالة الاشتغال ، ضرورة أنّ الأخذ بفتواه يوجب يقين الخروج من عهدة الحكم الظاهري وهو وجوب الرجوع إلى المجتهد في امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال ، ومرجعه إلى كونه مبرئ يقينا للذمّة بخلاف الأخذ بفتوى موهوم الأعلميّة.

لا يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ فيما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير وهو هنا محلّ منع ، بل الواجب على التعيين ـ وهو تقليد الأعلم الواقعي ـ مشتبه ومردّد بين مظنون الأعلميّة وموهومها ولا مجرى معه لقاعدة الاشتغال.

لأنّا نقول أوّلا : قد ذكرنا سابقا أنّ الأمارتين المتعارضتين إذا اشتمل إحداهما على ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع فلا يحكم العقل فيه بالتخيير بل بالتعيين من جهة قاعدة الاشتغال.

وثانيا : أنّ الأمر هاهنا أيضا دائر بين التعيين والتخيير ، بتقريب : أنّه لا يدرى أنّ المظنون هل هو كالمشكوك؟ بناء على أنّ الظنّ المفروض فيه كالشكّ في عدم الاعتبار عند الشارع فيلحقه حكمه من التخيير ، أو أنّه كالمعلوم بناء على أنّ الظنّ هنا كالعلم فيلحقه حكمه من التعيين؟ وهذا هو معنى دوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير.

المرحلة الثانية : فيما شكّ في أصل الأعلميّة من دون علم إجمالي ، وحيث إنّها أمر وجودي يشكّ في حدوثه والأصل ينفيه فالمتّجه هاهنا جواز تقليد كلّ من المجتهدين بعد إعمال أصالة عدم الأعلميّة ، لأنّه إذا نفى احتمال الأعلميّة عن كلّ من المجتهدين يترتّب عليه حكم التساوي وهو التخيير ، ولا يزاحمه أصالة الاشتغال هاهنا لورود الأصل الموضوعي عليها ، ولا يعارض بأصالة عدم التساوي إذ ليس الشكّ في أنّ أحدهما بعد ما علم نقصه بالقياس إلى الآخر هل بلغ صاحبه في الكمال أو لا؟ ليحكم بعدمه بأصالة عدم التساوي ، بل الكلام في حصول مزيّة لأحد المجتهدين بعد حصول أصل الاجتهاد الّذي هو جهة مشتركة بينهما.

ولا ريب أنّ الأصل في نحوه يقتضي العدم ، لا بمعنى أنّه يثبت به التساوي ليخدشه بطلان الاصول المثبتة ، بل بمعنى أنّه يترتّب عليه آثار عدم الأعلميّة وأحكامه الّتي منها التخيير ، هذا.

ولكن قد يستشكل الأمر بملاحظة أنّ قضيّة ما دلّ على وجوب تقليد الأعلم وجوب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع والأصل لا يفيد الأقربيّة الواقعيّة ، ونظيره أنّهم لا يجيزون

٤٨٢

العمل بخبر مجهول الحال تمسّكا بأصالة عدم الفسق ، لمكان التعليل الوارد في آية النبأ المقتضي لاشتراط العمل بخبر الواحد بانتفاء الفسق في نفس الأمر والأصل لا يفيده فلابدّ من العلم بالعدالة ، وهاهنا أيضا لابدّ من العلم بالأقربيّة الواقعيّة إلى الواقع الّذي لا يكفي فيه الأصل ، فلابدّ من الفحص إحرازا للأعلميّة.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الدليل إنّما دلّ على وجوب تقليد الأعلم لأنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع ، كما أنّ دليل مشروعيّة التقليد للعامي دلّ على وجوبه لأنّ فتوى المجتهد أقرب إلى الواقع في حقّ العامي ، وهذه أقربيّة نوعيّة يتساوى فيها جميع أفراد النوع ، والاولى أقربيّة في أحد أفراد النوع زائدة على الأقربيّة المشتركة بينه وبين سائر الأفراد وهي منوطة بالأعلميّة ، فإذا نفى احتمال الأعلميّة بالأصل انتفت الأقربيّة الشخصيّة وبقيت الأقربيّة النوعيّة على اقتضائها لجواز الأخذ بفتوى كلّ على وجه التخيير.

وأمّا توهّم المناقشة في الاعتماد على الأصل المذكور بأنّه إنّما يقصد به إثبات التخيير ابتداء من غير فحص ، وهذا كيف يجامع ما هم عليه من عدم جواز العمل بالأصل قبل الفحص؟

فيدفعه : اختصاص ذلك بالأحكام والأعلميّة من الموضوعات وعدم وجوب الفحص بالأصل فيها إجماعي.

ولا يشكل الحال أيضا في العمل به من جهة أنّ التخيير حكم عقلي والمستصحب إذا كان من الموضوعات لا يترتّب عليه الأحكام العقليّة والعاديّة بل يترتّب عليه الأحكام الشرعيّة الّتي ليس منها التخيير المذكور ، لأنّ الأعلميّة ـ على ما بيّنّاه مرارا ـ مانعة من حكم العقل بالتخيير ، ويكفي في حكمه به عدم المانع وإن احرز بالأصل ، والمقصود من التمسّك بالأصل إحراز عدم المانع ليحكم فيه العقل بالتخيير لا لانسحاب حكمه السابق.

والسرّ فيه أنّ عدم المانع في موضوع حكم العقل قد يكون شرعيّا كما فيما نحن فيه.

الأمر الثاني

أنّ المراد بالأعلم في كلمات الأصحاب وموضوع المسألة هل هو الأقوى ملكة لاستنباط المسائل من المبادئ ، أو الأكثر استنباطا لها ، أو الأكثر علما وحفظا لها على معنى كون معلوماته ومحفوظاته أكثر؟ احتمالات ، منشأها كون الأعلم وصفا يلحق تارة بالمجتهد باعتبار الفعل وهو المستنبط للأحكام ، أو باعتبار الملكة وهو صاحب ملكة الاستنباط ،

٤٨٣

واخرى بالفقيه حالا وهو العالم بالأحكام عن أدلّتها أو ملكة وهو صاحب ملكة العلم بها.

قال السيّد قدس‌سره في المفاتيح : « هل المراد بالأعلم الأكثر حفظا في المسائل ، أو الأشدّ قوّة لاستخراجها ، أو الأكثر ترجيحا لها ، فيه إشكال ولم أجد مصرّحا بشيء ممّا ذكر.

والتحقيق يقتضي الرجوع هنا إلى العرف فكلّ من يطلق عليه عرفا أنّه أعلم يجب الرجوع إليه إن قلنا بوجوب تقليد الأعلم » انتهى ، وفيه ما فيه.

وتحقيق المقام : أنّ المعنيين الأخيرين ممّا لا ينبغي بل لا يصحّ تنزيل موضوع المسألة على أحدهما ، لأنّ مناط وجوب تقليده ـ على ما بيّنّاه ـ إنّما هو الأقربيّة إلى الواقع ، على معنى كون فتوى الأعلم نوعا أقرب إلى الواقع ، فلابدّ وأن يحمل الأعلم على ما يلازم الأقربيّة وليس إلاّ المعنى الأوّل ، إذ لا مدخليّة لكثرة الاستنباطات وقلّتها ولا لكثرة المحفوظات وقلّتها في الأقربيّة وعدمها ، بأن يكون فتوى كلّ من كثر استنباطه أو محفوظاته أقرب إلى الواقع وفتوى كلّ من قلّ استنباطه أو محفوظاته أبعد عن الواقع ، بل قد ينعكس الأمر.

نعم كثرة الاستنباط قد تصير سببا لازدياد الملكة شيئا فشيئا ، غير أنّها قد تصير أيضا سببا لانتقاصه من حيث إنّها لا تفارق غالبا مسارعة النظر وقلّة التأمّل وهما ممّا يفضي إلى أن يتناقص الملكة شيئا فشيئا إلى حيث ترتفع بالكلّية.

وإنّما الملازم للأقربيّة هو أقوائيّة الملكة الّتي من الكيفيّات النفسانيّة القابلة للتفاضل بالشدّة والضعف ، وعلامتها صحّة وصف صاحبها في الفارسية بـ « استادتر » في صنعة الاستنباط واستخراج الأحكام من مداركها وفهم الأدلّة بأنواع الدلالات ، كما يقال في وصف البنّاء أو النجّار أو الصائغ أو غيره من أرباب الصناعات بالأعلميّة إنّ « فلان كس استادتر است » يريدون به كونه أقوى ملكة في صنعة البناء والنجارة والصناعة ، هذا مضافا إلى أنّه الّذي يساعد عليه أو يناسبه بناء صيغة التفضيل باعتبار وضعها المادّي والهيئي ، فإنّها بالوضع تفيد التفضيل وهو زيادة اتّصاف الذات بالمبدأ حسبما يراد منه عند الإطلاق فيما كان قابلا للتفاضل ، وهو تفاوت مّا بين فردي المبدأ الحاصل في المفضّل والمفضّل عليه بالشدّة والضعف أو الكثرة والقلّة ، بأن يكون حصوله في أحدهما أشدّ أو أكثر منه في الآخر.

ولا ريب أنّ هذا الضابط يأبى كون المراد به أكثر استنباطا ، لعدم كون الاستنباط ممّا يراد من العلم الّذي هو مبدأ الأعلم عند الإطلاق ، بخلاف ملكة الاستنباط أو ملكة العلم بالأحكام عن أدلّتها ، فإنّ إطلاق « العلم » عليها و « العالم » على صاحبها في العرف عموما

٤٨٤

وخصوصا شائع غاية الشيوع حتّى قيل ببلوغه حدّ الحقيقة.

وأمّا « العلم » بمعنى الإدراك الفعلي وإن كان بناء « أفعل » منه بإرادة أكثريّة حصول المبدأ في المفضّل لا يأباه الضابط المذكور ، غير أنّ الأنسب بملاحظة العرف والانفهام العرفي في الوصف بالأعلم أو الأفضل في سائر الصناعات بالقياس إلى ما يعبّر عنه بـ « استادتر » هو اعتبار بنائه من العلم بمعنى الملكة لا غير ، فيراد من الأعلم في موضوع المسألة الأقوى ملكة للاستنباط أو العلم بالأحكام لا غير.

ويشهد له أيضا ظاهر الإطلاق فيه أو في مرادفه الوارد في الأخبار ، ومنه إطلاق « الأفقه » في مقبولة عمر بن حنظة ، وفي قوله عليه‌السلام : « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا » وقوله عليه‌السلام : « ربّ حامل فقه إلى آخر هو أفقه منه » لظهوره في إرادة من أجاد في فهم الأخبار والانتقال إلى مقاصدهم من كلامهم واستخراج الأحكام من مداركها بواسطة كمال المعرفة بوجوه الدلالات من الواضحة والخفيّة والمطابقة والالتزام ، والتفرقة بين جميع أنواع الالتزامات واللوازم عرفيّة وعقليّة وشرعيّة وغيرها ، مع أنّ المراد بالأعلميّة ما هو كذلك في خصوص الفقه وهو عبارة عن ملكة العلم للأحكام على ما قرّرناه في تعريفه ، فالأفقه والأعلم في الفقه بمعنى.

وأمّا احتمال كونه تفضيلا ـ بمعنى زيادة الاتّصاف من الشدّة في مقابلة الضعف بالنظر إلى الإدراك الفعلي الملحوظ تارة مع الحكم واخرى بدونه ، مع بلوغه في الأوّل حدّ الجزم وبدونه ، مع بلوغه في الأوّل أيضا مرتبة اليقين وبدونه ، ليكون صاحب الإدراك مع الحكم أو هو مع بلوغه إلى حدّ الجزم أو هو مع بلوغه إلى مرتبة اليقين أعلم ، وصاحب الادراك بدون الحكم أو مع عدم بلوغه إلى حدّ الجزم أو عدم بلوغه إلى مرتبة اليقين غير أعلم ـ فممّا ينبغي القطع بفساده ، لأنّ ذلك ليس من التفاضل بمعنى التفاوت في الشدّة والضعف ، بل هو من الاختلاف الحاصل بتلاحق الفصول المنوّعة على جنس الإدراك ، مع أنّه لا مدخليّة لتأكّد الاعتقاد بالجزم أو الثبات في أقربيّته إلى الواقع في نظر غير المعتقد كالمقلّد ونحوه.

الأمر الثالث

بعدما عرفت أنّ الأعلميّة في عنوان وجوب تقليد الأعلم عبارة عن أقوائيّة ملكة الاستنباط ، فاعلم أنّ لتحقّق قوّة ملكة الاستنباط وازديادها إلى أن تبلغ حدّ الأقوائيّة

٤٨٥

أسبابا عمدتها المهارة والأعلميّة في العلوم الّتي هي من مبادئ الفقه ومباني الاجتهاد ، كعلم اصول الفقه والعلوم العربيّة من اللغة والنحو والصرف وعلمي الرجال والميزان ، فكلّما يتكامل الإنسان في هذه العلوم ولا سيّما اصول الفقه الّذي عليه مدار استنباط كلّيات الأحكام وجزئيّاتها يتزايد غالبا قوّة الاستنباط.

فالأعلميّة في هذه العلوم لها مدخليّة غالبا في الأعلميّة في الفقه بخلاف العلوم الّتي ليست من مبادئ الفقه وشرائط الاجتهاد كالطبّ والنجوم والهيئة والهندسة ، فإنّ الأعلميّة فيها لا مدخليّة لها في ازدياد قوّة الاستنباط والأعلميّة.

نعم هاهنا امور اخر قد يكون لها دخل في الأعلميّة في الفقه ـ كما نبّه عليه بعض الفضلاء ـ كقوّة الحفظ وكثرة الضبط وجودة الذهن وشدّة الذكاوة والفطانة وكثرة التأمّل والتدبّر وكثرة الاطّلاع والممارسة وسعة الباع في الفكر والتصرّف واعتدال السليقة واستقامة الذوق والمبالغة في التدقيق والتحقيق والتعميق وأقدميّة الاشتغال ومزيد الاستيناس.

ثمّ إنّ أحد المجتهدين إن كان أعلم في الفقه وفي جميع مبادئه أو في بعضها مع التساوي في الباقي فلا إشكال ، بل هذا أخصّ أفراد الأعلم الّذي يجب تقليده بعينه وأكملها ، كما أنّه لو كان أعلم في الفقه خاصّة مع التساوي في المبادئ كلّها لا إشكال أيضا في وجوب تقليده ، وإن كان أعلم في العلوم الاخر غير المبادئ مع التساوي في الفقه ومبادئه فلا إشكال في التخيير وعدم تأثير لهذه الأعلميّة في منع الرجوع إلى غير الأعلم.

والسرّ فيه عدم تأثير لهذه الأعلميّة في أقربيّة فتواه إلى الواقع الّتي هي مناط وجوب تقليد الأعلم.

وأمّا إذا كان أعلم في المبادئ جميعها أو بعضها مع التساوي في الفقه فهذا وإن بعد تحقّقه إلاّ أنّا نتكلّم في حكمه على فرض التحقّق ، فهل يجب تقليد الأعلم هنا كما لو كان أعلم في الفقه ، أو يتخيّر بينهما كما في الأعلم في غير المبادئ مع التساوي في الفقه؟

احتمالان بل قولان ، أو أقوال ، أقواها الثاني لانتفاء ما هو مناط وجوب تقليد الأعلم بالفرض وهو أقربيّة الفتوى إلى الواقع ، فيحكم العقل فيه بالتخيير لفرض انتفاء ما يمنعه من ذلك الحكم ، خلافا لكاشف اللثام وصاحب الإشارات لمصيرهما ـ على ما حكي ـ إلى وجوب الأخذ بقول الأعلم ، ووجهه غير واضح ، بل هو مع فرض المساواة في ملكة الاستنباط ممّا لا وجه له.

٤٨٦

وقد يفصّل كما في المفاتيح بما ملخّصه : « أنّ مستند وجوب تقليد الأعلم إن كان لزوم الأخذ بأقوى الظنّين فالقول بلزوم الأخذ بقول الأعلم هنا لا يخلو عن قوّة ، لإمكان أن يقال : إنّ الظنّ الحاصل من قول الأعلم هنا أقوى من الظنّ الحاصل من غيره ، وإن كان قاعدة الاحتياط ولزوم تحصيل البراءة اليقينيّة فالقول المذكور أيضا لا يخلو عن قوّة ، وإن كان الإجماع المنقول والشهرة العظيمة فالمصير إلى القول المذكور مشكل بل المصير إلى التخيير لا يخلو عن قوّة ، لعموم أدلّة مشروعيّة التقليد المقتضي للتخيير في صورة تعدّد المجتهدين.

غاية الأمر أنّه خرج من هذا العموم صورة وجود الأعلم بالإجماع المنقول والشهرة العظيمة وهما لا يتناولان الأعلم في غير الفقه لانصراف معقدهما إلى الأعلم في الفقه خاصّة ».

وفيه ما لا يخفى ، لمنع إناطة التقليد بحصول الظنّ للمقلّد من قول المجتهد ليلاحظ فيه الأقوى وغير الأقوى ، ولو سلّم فنمنع كون الظنّ من الأعلم في غير الفقه أقوى مع ملاحظة المساواة في الفقه وملكة الاستنباط ، وقاعدة الاحتياط مع فرض المساواة الباعثة للعقل على الحكم بالتخيير غير جارية ، لعدم دوران الأمر حينئذ بين التعيين والتخيير.

ثمّ إذا وقع المعارضة بين الأعلميّة في بعض مبادئ الفقه مع فرض تأثيرها في قوّة الاستنباط وازديادها والأعلميّة في الآخر فالأعلميّة في الاصول (١) مقدّمة على الأعلميّة فيما عداه ، كما أنّ الأعلميّة في الرجال مقدّمة على الأعلميّة في العربيّة والميزان ، والأعلميّة في العربيّة مقدّمة على الأعلميّة في الميزان ، والضابط تقديم ما هو أكثر دخلا في قوّة الاستنباط على أقلّة ، فليتدبّر.

الأمر الرابع

إذا كان أحد المجتهدين أورع فله صور :

الاولى : أن يكون مع كونه أورع أعلم ، وهذا ممّا لا كلام فيه من حيث وجوب الرجوع إليه بل بطريق أولى ، لأنّ زيادة العلم المقتضية لتعيّن تقليده تتأكّد بزيادة الورع.

الثانية : أن يكون الأورع مساويا للآخر في العلم والفضل ، فعن المحقّق في المعارج والعلاّمة في النهاية والتهذيب والشهيدين في الذكرى والدروس والمقاصد العليّة والمسالك والتمهيد والمحقّق الثاني في الجعفريّة والشارح العميدي والمازندراني في المنية وشرح الزبدة تعيّن الرجوع إلى الأورع.

__________________

(١) أي : علم اصول الفقه.

٤٨٧

وربّما احتمل التخيير كما عن النهاية وشرح الزبدة ، لأنّ مناط التقليد وهو العلم والورع موجود فيهما ولا ترجيح لأحدهما فيما يتعلّق بالاجتهاد الّذي هو العلم.

احتجّوا بوجوه منها : أنّ البراءة اليقينيّة من التكليف بالتقليد الثابت يقينا إنّما تحصل بالرجوع إلى الأورع دون غيره.

ومنها : أنّ قوّة الظنّ في جانب الأورع دون غيره ، والعمل بأقوى الظنّين واجب.

ومنها : حصول الرجحان المقتضي لقبح ترجيح المرجوح عليه ، لوضوح أنّ زيادة الورع مزيّة فيه موجبة لرجحانه.

ومنها : ما في مقبولة عمر بن حنظلة ورواية داود بن حصين من الأمر بالرجوع إلى أورعهما ، وما في خبر موسى بن اكيل من الأمر بتقديم أعدلهما ، بناء على أنّ الأعدل والأورع هنا بمعنى.

ولا خفاء في ضعف ما عدا الأوّل من الوجوه المذكورة.

وتحقيق المقام بحسب بادئ النظر : أنّ زيادة الورع إذا لم يكن لها تأثير في الملكة وقوّة الاستنباط الّتي عليها مدار التقليد بعد حصول أصل العدالة ولم توجب الأعلميّة بمعنى أقوائيّة ملكة الاستنباط فلم يعقل

تأثيره في الحكم المتعلّق بالتقليد ، وكونها مزيّة في الأورع لا يقضي برجحانه من حيث مقام الإفتاء وإن كان راجحا في حدّ ذاته ، وذلك كما لو كان المجتهد هاشميّا.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ زيادة الورع تدعو صاحبها إلى مزيد الاهتمام في استفراغ الوسع والنظر والتأمّل أزيد من القدر المتعارف المكتفى به عند أهل الاجتهاد ، ويلزم منه كون فتواه أقرب إلى الواقع بالنظر إلى فتوى غيره وإن لم توجب أقوائيّة الملكة وازدياد القوّة.

غاية الأمر أنّ التقريب إلى الواقع له أسباب منها زيادة الورع الباعثة على مزيد الاهتمام في استفراغ الوسع ، هذا مضافا إلى أنّها في الأورع مزيّة يحتمل كونها مرجّحة في نظر الشارع ، وقد أشرنا سابقا إلى أنّ الأمارتين المتعارضتين إذا اشتمل إحداهما على ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع لا يحكم العقل فيهما بالتخيير ، فيدور الأمر حينئذ بين التعيين والتخيير فيرجع إلى أصالة الاشتغال المقتضية للتعيين ، فالقول بوجوب الرجوع إلى الأورع لا يخلو عن قوّة بل متعيّن.

الثالثة : أن يتعارض الأورعيّة والأعلميّة ففي تعيّن الرجوع إلى الأعلم ـ كما عن

٤٨٨

المعارج والنهاية والتهذيب والذكرى والدروس وشرح الزبدة للمازندراني وربّما عزى إلى جمهور المحقّقين ـ أو تعيّن الرجوع إلى الأورع لقوّة الظنّ بصدقه في اجتهاده كما عن قوم ، أو التخيير بينهما كما عن طائفة ، أو التوقّف كما عن ظاهر المنية أقوال.

احتجّ أصحاب القول الأوّل : بأنّ القدر الّذي في الأعلم من العدالة والورع يحجزه عن الاقتحام والتهجّم على القبيح ، أعني الإفتاء من غير علم أو التقصير في الاجتهاد ، فيبقى زيادة العلم سالمة عن المعارض.

ونوقش فيه : بأنّ زيادة الورع إن لم يكن لها مدخليّة في تأكّد الظنّ وتقريب الفتوى إلى الواقع وجب الحكم بالتخيير فيما لو تساويا في العلم ، فلم أوجبوا فيه تقليد الأورع ، وإن كان لها مدخليّة في التأكّد والتقريب فلا تكون زيادة العلم سالمة عن المعارض.

أقول : ولا يبعد ترجيح الأعلميّة لأنّها أدخل في التقريب.

وربّما استدلّ أيضا بما في مقبولة عمر بن حنظلة ورواية داود بن الحصين من تأخّر الأورع من الأفقه في الذكر ، بتقريب : ظهور الترتيب الذكري في التقدّم الشرعي وتأخّره ، وفيه نظر من وجوه ، والأوجه ما ذكرناه.

هذا في الأعلم المقطوع أو المظنون بالظنّ الخاصّ ، وأمّا المظنون بالظنّ المطلق ففي تعيّن الرجوع إليه أيضا أو الرجوع إلى الأوّل المقطوع وجهان ، أقربهما الثاني ترجيحا للأقرب الأقوى المقطوع به على الأقرب الأقوى المظنون ، ويقتضيه إطلاقهم بوجوب الرجوع إلى الأورع في صورة عدم معارضة الأعلميّة.

الأمر الخامس

هل الترافع كالاستفتاء فلا يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل ويتعيّن الرجوع إلى الأفضل مطلقا أو يتخيّر في الترافع إليهما فيجوز الرجوع إلى المفضول أيضا مطلقا ، أو يفصّل بين ما لو كانت الواقعة من الشبهات الحكميّة فيجب الترافع إلى الأفضل أو من الشبهات الموضوعيّة فيجوز إلى المفضول أيضا ، أو بين أزمنة الغيبة فالأوّل وزمان الحضور فالثاني؟

وجوه ربّما يسبق إلى الوهم كون مقتضى الأصل الأوّلي هو تعيّن الترافع إلى الأفضل مطلقا ، لأنّ الأصل عدم نفوذ حكم إنسان على غيره إلاّ ما علم خروجه بالدليل ، والقدر المعلوم خروجه مع تعدّد المجتهدين وتفاوتهم في الفضل والمعرفة هو حكم الأفضل وبقي الباقي ومنه حكم المفضول ، مضافا إلى اصول اخر كأصالة عدم سقوط الدعوى بحكم المفضول ،

٤٨٩

وأصالة عدم جواز التصرّف في ظاهر الشرع فيما يؤخذ بحكم المفضول ، وأصالة البراءة عن وجوب متابعة حكمه ، وأصالة البراءة عن حرمة نقضه وغير ذلك ممّا يتصوّر في المقام.

ويزيّفه : أنّ هذا إنّما يصحّ لو كان الشبهة في جواز الترافع إلى المفضول من جهة الشكّ في المقتضي وليس كذلك ، بل الشبهة إنّما هي من جهة المانع ، لرجوع الشكّ إلى كون الأفضليّة مانعة من الرجوع إلى المفضول وعدمه ، لوجود مقتضي الرجوع وهو الحجّية الذاتيّة لقول الفقيه الجامع للشرائط في الفتوى والحكم معا لعموم الأدلّة الدالّة عليه من جهة الإطلاق ، ولذا لو فقد الأفضل جاز الرجوع إلى المفضول قولا واحدا لنفس هذا العموم من غير حاجة إلى دليل آخر لارتفاع المانع بالفرض.

وإن كان الأصل ولابدّ من التمسّك به في المسألة فهو ممّا يقتضي التخيير ، لأصالة عدم مانعيّة الأفضليّة على معنى عدم تعرّض الشارع لجعلها مانعة من الرجوع إلى المفضول ، فالمنكر لتعيّن الرجوع إلى الأفضل مستظهر وعلى المدّعي الإثبات ، وأنّى له بذلك؟

وتوهّم الاستدلال هنا بدليل وجوب الاستفتاء من الأفضل حسبما اعتمدنا عليه من قاعدتي الاشتغال والأقربيّة.

يدفعه : منع جريان القاعدتين في مقام الترافع ، أمّا قاعدة الاشتغال فلأنّ جريانها فرع على الاشتغال اليقيني ولا يعقل هنا تكليف إلزامي موجب لاشتغال الذمّة إلاّ وجوب متابعة الحكم وحرمة نقضه ، وهما مشروطان بصدور الحكم فما لم يصدر الحكم لا وجوب ولا حرمة ، والكلام إنّما هو في ابتداء الأمر من الخصومة المفضية إلى الترافع لاستعلام جواز الرجوع إلى المفضول وعدمه لا في نفوذ حكمه بعد صدوره ، وعلى تقدير صدوره منه بعد الترافع إليه يشكّ في وجوب متابعته وحرمة نقضه والأصل براءة الذمّة عنهما ، ولا دافع لهذا الأصل إلاّ أصالة عدم مانعيّة الأفضليّة من العلم به ، فلا مجرى لقاعدة الاشتغال على كلّ تقدير.

وأمّا قاعدة الأقربيّة فلأنّ حكم الحاكم إنّما يؤخذ به تعبّدا ومن باب الموضوعيّة من دون نظر فيه إلى الواقع ليلاحظ معه الأقرب إليه والأبعد عنه.

وكيف كان فالّذي يترجّح في النظر القاصر هو جواز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل وإمكان الرجوع إليه من غير مشقّة بقول مطلق ، وفاقا لجماعة منهم بعض مشايخنا في الجواهر والفاضل النراقي في المستند ، وقبلهم المحقّق الأردبيلي وقبله المحقّق على ما عزى إليه ، ويظهر اختياره من العلاّمة في التحرير حيث قال : « إذا اتّفق في بلد فقيهان في

٤٩٠

حال غيبة الإمام عليه‌السلام وكلّ منهما له أهليّة الفتوى والحكم كان الخيار للمدّعي في رفعه إلى من شاء منهما ، وكذا لو تعدّدوا ».

ثمّ قال : « ولو رضيا بالفقيهين واختلف الفقيهان نفذ حكم الأعلم الأزهد ، لما رواه داود ابن الحصين عن الصادق عليه‌السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف فرضيا بالعدلين ، واختلف العدلان بينهما عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر. »

وعن داود بن حنظلة عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت في رجلين اختار كلّ واحد منهما رجلا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » إلى آخر الحديث انتهى.

لنا على ما اخترناه ـ مضافا إلى الأصل المتقدّم إليه الإشارة ـ عموم أدلّة نفوذ حكم الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء ، ولا سيّما الأخبار المتناولة بإطلاقها للمفضول والأفضل معا ، كقول أبي عبد الله عليه‌السلام في خبر أبي خديجة : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى حكّام الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه » فإنّ قوله عليه‌السلام : « رجل منكم » مع غلبة تفاوت الفقهاء والمحدّثين في مرتبة الفضل والمعرفة مطلق في الأفضل والمفضول متناول بإطلاقه ـ مع ورود الخطاب في مقام بيان المرجع ـ لهما معا ، وإلاّ لوجب أن يعبّر بـ « أفقه رجل منكم » وقوله عليه‌السلام أيضا في مقبولة عمر بن حنظلة : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » إلى آخره فإنّ الموصول أيضا مطلق في الأفضل والمفضول ، وإلاّ لوجب أن يقول : « انظروا إلى أفقه من كان منكم ».

ولا ريب أنّ الإطلاق المنساق من الخبرين يفيد التخيير ، ولا ينافيه تعيّن الأخذ بحكم الأفقه المستفاد من قوله عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » وكذلك ما في خبر داود بن الحصين من قوله : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما » وكذا قوله في خبر موسى بن اكيل النميري : « ينظر إلى أعدلهما وأفقههما » لتعدّد موضوعي الحكمين الرافع للتنافي بينهما ، لوضوح أنّ التخيير حين إرادة الترافع بين الرجوع إلى الأفضل أو المفضول لا ينافي تعيّن

٤٩١

الأخذ بالحكم الصادر من أفقه الحاكمين بعد الترافع إليهما وصدور الحكم منهما.

والسرّ في هذا التعيين بالقياس إلى ذلك الموضوع المغاير لموضوع التخيير تعارض الحكمين وعدم إمكان التخيير بينهما ، باعتبار أنّ الحكمة المقتضية لشرع الحكم ونصب الحكّام إنّما هو قطع الخصومة ودفع مفسدة التجاذب عمّا بين المتخاصمين ، والتخيير في الصورة المفروضة لا يفيده بل يؤكّد الخصومة ، لمبادرة كلّ واحد من المتخاصمين إلى اختيار ما يوافق مدّعاه من الحكمين ، فلا بدّ من الترجيح بمزيّة مع أحدهما وهي في صورة اختلاف الحاكمين في الفضل أفضليّة الأفضل ، فتعيّن الأخذ بحكمه ليس لأجل مانعيّة الأفضليّة لذاتها من الترافع إلى المفضول ، بل لترجيح حكم الأفضل على حكم المفضول بمزيّة الأفضليّة دفعا للتعارض ، فليتدبّر.

ويمكن استفادة الدلالة على المطلب من المقبولة من جهة اخرى ، وهي : أنّ الراوي فرض أوّلا تحاكم المتخاصمين إلى رجلين من أصحابهما متفاضلين بعد اختيار أحدهما الأفضل ، وثانيا تحاكمهما إلى رجلين متساويين في الفضل والعدالة فأمر الإمام عليه بالرجوع إلى المرجّحات الاخر.

وهذا يدلّ على كونه معتقدا بجواز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل وعدم تعيّن الترافع إليه ابتداء ، وأمر الإمام عليه‌السلام بالأخذ بحكم الأفقه تقرير له على معتقده ، وإلاّ لناسب ردعه بالنهي عن اختيار المفضول مع وجود الأفضل.

ثمّ لا فرق في التخيير المقتضي لجواز الترافع إلى المفضول بين كون الواقعة المتخاصم فيها من الشبهات الحكميّة الّتي مدرك الحكم فيها فتوى الحاكم في كلّي المسألة ـ كما لو كانت من منجّزات المريض المختلف في إخراجها من الأصل أو من الثلث مثلا مع اتّفاقهما في الرأي ، أو اختلافهما فيه كما لو كان رأي الأفضل كون المنجّزات من الأصل ورأي المفضول كونها من الثلث أو بالعكس ـ أو من الشبهات الموضوعيّة الّتي ميزان الحكم فيها الإقرار أو البيّنة أو اليمين مع عدم الخلاف في شيء من جهات الميزان ، أو معه كالخلاف في ثبوت النكاح مثلا بشاهد ويمين وعدمه ، أو في لزوم اليمين الاستظهاري في الدعوى على الميّت مطلقا أو في العين خاصّة سواء اتّفقا في الرأي أيضا أو اختلفا ، ولا ينافيه ظهور المورد فيما هو من قبيل الشبهات الحكميّة مع الاختلاف في الرأي إمّا للفحوى أو لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد خصوصا مع التعليل المفيد للعموم.

٤٩٢

لكن هذا كلّه على تقدير عدم كون القول بوجوب الترافع إلى الأفضل إجماعا كما يوهمه ما في المفاتيح من دعوى ظهور عدم الخلاف فيه ونفي الخلاف المحكيّ عن بعضهم في المستند ، بل عن السيّد في ظاهر الذريعة والمحقّق الثاني في حاشية الشرائع في الجهاد الإجماع عليه ، غير أنّه يوهنه ما عرفت من مصير جماعة إلى الخلاف.

وما عن الأردبيلي من منع الإجماع بعد ما حكى نقله ثمّ قال : « ويشعر بعدم الإجماع كلام الفاضل في نهاية الاصول ».

وما عن المسالك والمفاتيح في عنوان المسألة من أنّ فيه قولين مبنيّين على وجوب تقليد الأعلم وعدمه ، وعن ظاهر المسالك التردّد.

نعم لا نضائق كونه أشهر كما حكى التصريح به عن المسالك أيضا ، ولكنّ الأشهريّة ولا سيّما المحكيّة لا تزاحم إطلاق النصّ بل عمومه.

هذا كلّه بالنسبة إلى أزمنة الغيبة ، وأمّا زمان الحضور ففي المفاتيح : « أنّ ظاهر المعظم أنّه كذلك » أي لا يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل.

ويظهر من العلاّمة تبعا للشرائع أنّه يجوز الترافع إلى المفضول في زمن الحضور لأنّ خلله ينجبر بنظر الإمام عليه‌السلام.

وفيه : أنّ التعليل عليل ، لأنّ الانجبار بنظر الإمام إن تمّ فإنّما يتمّ في القريب لا النائي والبعيد عن الإمام ، مع أنّ أصل التكلّم في هذا الفرع ممّا لا يكاد يجدي نفعا بالنسبة إلينا ، إذ ليس علينا استعلام حال زمان الحضور والأمر موكول إلى نظر الإمام عليه‌السلام.

الأمر السادس

في أنّه هل يثبت للمفضول سائر الولايات العامّة الثابتة للفقيه الجامع لشرائط الإفتاء والقضاء ، كالولاية على أموال الصغار والمجانين والسفهاء والغيّب ، وعلى الممتنع من أداء حقّ واجب ، وعلى المال المجهول المالك ، وعلى مال الإمام من الخمس بل مطلق الأخماس والزكوات على رأي ، وعلى الأوقاف العامّة مع فقد المتولّي الخاصّ ، وعلى الوصايا والأثلاث مع فقد الوصيّ الخاصّ ، وغير ذلك ممّا ذكره الأصحاب في تضاعيف أبواب الفقه ، أو لا؟ بل هي مختصّة بالأفضل على معنى كون أفضليّة الأفضل مانعة من ثبوت هذه الولايات للمفضول.

قال السيّد في المفاتيح : « لم أجد نصّا في هذا الباب لأحد من الأصحاب ، لكن ظاهر

٤٩٣

إطلاق كلامهم في بعض المقامات عدم اشتراط ذلك. »

أقول : إطلاق كلامهم في بعض المقامات بل كثير منها كما ذكره إن لم يخدشه كون إطلاق كلامهم في المقامات المذكورة واردا لبيان مرجعيّة الحاكم وهو من له ولاية الحكومة في الامور الّتي لا ولاية لغير الحاكم فيها ، وأمّا كون المراد من الحاكم بالمعنى المذكور مطلق الفقيه فالإطلاق ساكت عنه ، ويمكن التعدّي من ثبوت ولاية القضاء إلى سائر الولايات على المختار بطريق الفحوى.

وربّما علّل الثبوت بأنّ الحكمة الباعثة على جعل هذه الولايات إنّما هي صيانة الأموال والأنفس عن الضياع والتلف والهلاك ، وإيصال الحقوق إلى أربابها ودفع الخلل والفساد عن النظام ، ويكفي في مباشرتها الديانة والأمانة ، وأمّا زيادة العلم أو أقوائيّة ملكة الاستنباط فممّا لا عبرة بها ولا مدخليّة لها في حصول هذا الغرض ، بل لولا الإجماع على عدم جواز مباشرة ذلك مع وجود الفقيه مع إمكان الوصول إليه لأمكن المناقشة في اعتبار أصل العلم ، فيجوز لكلّ مؤمن عدل مباشرة هذه الامور تحصيلا للحكمة المذكورة ، كما يوهمه إطلاق بعض النصوص كصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع الآتية في قصّة عبد الحميد.

وكيف كان فتحقيق المقام : أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ الأصل الأوّلي عدم ولاية أحد على أحد في نفس ولا مال ، لكون الولاية بمعنى السلطنة على مال الغير ونفسه حكما مخالفا للأصل ، إلاّ أنّه خرج من ذلك الأصل النبيّ والوصيّ بعده بالإجماع بل الضرورة وغيرها من الأدلّة الدالّة على عموم ولايتهما على الأموال والأنفس كتابا وسنّة ، قال الله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) و ( ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) و ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الغدير : « ألست بأولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » وفي رواية أيّوب بن عطيّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه » إلى غير ذلك ممّا لا حاجة إلى الإطناب بذكره.

ثمّ الأصل بعد خروج النبيّ والوصيّ أيضا عدم ولاية أحد غيرهما على غيره مالا ونفسا ، إلاّ أنّه خرج منه الفقيه الجامع للشرائط بالقياس إلى موارد مخصوصة لثبوت ولايته

٤٩٤

العامّة فيها بالإجماع والضرورة والنصّ من الأخبار المأثورة عن أهل العصمة ، ففي النبوي : « العلماء ورثة الأنبياء » وفيه أيضا : « اللهمّ ارحم خلفائي قيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الّذين يأتون بعدي ويرون حديثي وسنّتي » وقوله عليه‌السلام : « العلماء امناء الرسل » وقوله عليه‌السلام : « مجاري الامور بيد العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه » وقوله عليه‌السلام : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل » وقوله عليه‌السلام في خبر أبي خديجة : « إنّي قد جعلته عليكم قاضيا » وفي مقبولة عمر بن حنظلة : « إنّي قد جعلته عليكم حاكما » وقول الحجّة عجّل الله فرجه : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وهذه الأخبار على تقدير إفادتها الولاية العامّة للفقيه عامّة للأفضل والمفضول ولا مخصّص لها ، فتفيد أنّ كلّ ولاية ثابتة للأفضل فهي ثابتة للمفضول نحو ثبوتها للأفضل ، لكنّ الكلام في دلالتها على الولاية.

ويمكن توجيه الدليل : بأنّ توريث الأنبياء لا يراد به توريث المال من درهم أو دينار أو غير هما قطعا ، فليحمل على إرادة توريث ما كان لهم من الولايات العامّة ، والظاهر المتبادر من إطلاق « خليفة الرجل » في متفاهم العرف كونه قائما مقامه نائبا منابه في الامور الّتي يرجع إليه ، ومن إطلاق « أمين الرجل » كونه مؤتمنا من قبله فيما له ولاية التصرّف فيه ، ومن (١) كون مجاري الامور بيد العلماء كون جريان الامور الّتي لا بدّ فيها من وليّ عامّ من قبل الشارع ومضيّها بيد العلماء ، وهذا نصّ في عموم الولاية ، ومن نصب القاضي أو الحاكم وجوب الرجوع إلى المنصوب في جميع الامور الّتي يجب الرجوع فيها إلى الإمام ، فإنّ قول السلطان : « إنّي جعلت فلانا حاكما عليكم ، ينساق منه أنّه يجب عليكم الرجوع إليه في الامور الّتي من شأنها أن ترجعوا إليّ ، ومن « الحوادث الواقعة » (٢) جميع الوقائع الّتي يجب الرجوع فيها إلى الإمام لكونه حجّة منصوبة من الله تعالى ، وتعليله بكون رواة الحديث حجّة منصوبة من الإمام يفيد كون الحجّية حاصلة لهم من قبل الإمام ، وهو نصّ في كون الولاية في عموم الوقائع مجعولة منه عليه‌السلام.

فدلالة الروايات المذكورة على عموم الولاية واضحة لا ينبغي المناقشة فيها ، إلاّ دلالة الرواية الاولى لإمكان رميها بالإجمال بعد صرفها عن توريث المال ، لقوّة احتمال أن يراد

__________________

(١) عطف على قوله : « والظاهر المتبادر » الخ.

(٢) عطف على قوله : « والظاهر المتبادر » الخ.

٤٩٥

توريث العلم لا توريث الولاية ، كما ربّما يرشد إليه رواية أبي البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا ، فانظر علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. »

ولو سلّم إرادة توريث الولاية فليس فيه ما يوجب عموم الولاية ، والقدر المتيقّن فيها الولاية على الإفتاء أو ما يعمّه والقضاء ، وعلى كلّ تقدير ففي الأخبار الاخر كفاية في ثبوت عموم الولاية.

ويؤيّده أو يدلّ عليه في الجملة صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع في رجل مات من أصحابنا بغير وصيّة فرفع أمره إلى قاضي الكوفة ، فصيّر عبد الحميد القيّم بماله ، وكان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع ، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ ، ـ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّة وكان قيامه فيها بأمر القاضي ـ لأنّهنّ فروج ، فما ترى في ذلك؟ قال : « إذا كان القيّم مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس » الخبر بناء على كون المراد بالمماثلة المماثلة في الفقاهة الّتي هي أردأ الاحتمالات ، أو في العدالة الّتي هي أخصّ الاحتمالات ، لا في مجرّد التشيّع الّذي هو أعمّ الاحتمالات ، ولا في الوثاقة وملاحظة مصلحة الصغير الّذي هو متوسّط بين سابقيه ، وجه أردئيّة الأوّل قضاؤه بالمفهوم بانتفاء الولاية على مال الصغير عند انتفاء الفقاهة ، وهذا خلاف مقتضى أدلّة ولاية عدول المؤمنين مع فقد الفقيه على ما حقّق في محلّه.

وكيف كان فليس الغرض الأصلي إثبات عموم الولاية بالقياس إلى مواردها ، فإنّ لتحقيق ذلك محلاّ آخر بل إثبات عمومها بالقياس إلى الأفضل والمفضول من الفقهاء.

ولا ريب في ثبوته بالأخبار المذكورة ، لاشتمالها على جملة من صيغ العموم وما بمعناها ، فليتدبّر.

الأمر السابع

في أنّه على القول المختار من وجوب تقليد الأعلم يجوز تقليد غير الأعلم بتقليد الأعلم إذا رجع المقلّد إلى الأعلم فأفتاه بجواز تقليد غير الأعلم بلا إشكال ، خلافا لبعض من توهّم أنّه لا له يجوز الإفتاء بذلك ولا للمقلّد الأخذ بذلك ، لكونه مناقضا لما دعاه من

٤٩٦

الأدلّة إلى الرجوع إلى الأعلم ، فإنّه إنّما دعاه إليه لكون قول الأعلم أقرب إلى الواقع والإفتاء المذكور تجويز للأخذ بالأبعد وهذا ينافي وجوب الأخذ بالأقرب.

وفيه : أنّ غرض العامي في رجوعه إلى الأعلم ابتداءا إن كان لأن يقلّده في المسألة الاصوليّة فداعيه إلى الرجوع إليه ليس هو ما دلّ على وجوب الأخذ بالأقرب ، لقصور نظره عن البلوغ إليه بالاجتهاد وإلاّ لم يحتج إلى التقليد في المسألة الاصوليّة ، لأنّ الواقعة المجتهد فيها بطريق القطع لا تقبل التقليد ، بل إنّما دعاه إليه الاستحالة العقليّة من جهة لزوم الدور أو التسلسل لو رجع إلى غير الأعلم ، أو لكونه القدر المقطوع من الطريق المبرئ للذمّة المخرج عن العهدة. وأيّا ما كان فتجويز الأعلم للرجوع إلى غير الأعلم لا ينافيه.

وإن كان لأن يقلّده في الفروع فداعيه وإن كان يمكن أن يكون هو قاعدة الأقربيّة ، غير أنّه لا يستفتي الأعلم إلاّ في الفروع ولا حاجة له إلى تقليده في المسألة الاصوليّة ليفتيه بجواز تقليد غير الأعلم ، فلا وقع للتوهّم المذكور على التقديرين.

ثمّ إذا رجع المقلّد في الصورة الاولى بتقليد الأعلم إلى غير الأعلم فإن كانا متوافقين في جواز تقليد غير الأعلم فلا إشكال في جواز تقليده حينئذ ، بل هو عند التحقيق تقليد للأعلم ، لأنّ حقيقة التقليد هو الالتزام بالحكم الظاهري الفعلي استنادا إلى قول المجتهد ، ومستنده في ذلك الالتزام هو المجتهد الأعلم حيث قلّده في مسألة جواز تقليد غير الأعلم.

وإن كانا مختلفين بأن يكون رأي غير الأعلم عدم جواز تقليد غير الأعلم مع التمكّن من تقليد الأعلم فقد يستشكل في جواز تقليده ، وإن استند فيه إلى قول الأعلم لأدائه إلى عدم جواز تقليده ، على معنى أنّه يلزم من تقليد غير الأعلم عدم صحّة تقليده ، لأنّ من فتاويه عدم جواز تقليد غير الأعلم ، فتقليده في فتاويه يتضمّن تقليده في عدم جواز تقليد غير الأعلم ، ويلزم منه عدم جواز تقليده رأسا ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وفيه من المغالطة ما لا يخفى ، لأنّ تجويز الأعلم لتقليد غير الأعلم لا يتناول محلّ التنافي وهو المسألة الاصوليّة المختلف فيها بين الأعلم وغير الأعلم ، بل ينصرف إلى غيره من مسائل الفروع ، فالمقلّد الراجع إلى غير الأعلم بتقليد الأعلم لا يقلّده إلاّ في الفروع لا في جميع المسائل حتّى في المسألة الاصوليّة.

والسرّ في ذلك : أنّ الواقعة الواحدة لا تقبل تقليدين ، والمفروض أنّ المقلّد فرغ من التقليد في المسألة الاصوليّة حيث قلّد الأعلم في جواز تقليد غير الأعلم ، فلم يبق محلّ

٤٩٧

في تلك المسألة لتقليد آخر يناقض التقليد الأوّل فلا محذور.

ثمّ إنّ ذلك المفضول إذا رجع إليه المقلّد فإن سأله عن حكم تقليد غير الأعلم مع التمكّن من الأعلم ، فإن كان رأيه وجوب تقليد الأعلم يأمره به لكن لا بعنوان الإفتاء ، بل بعنوان الأمر بالمعروف والهداية والإرشاد المعبّر عنه بالدعاء إلى الخير في قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ).

وإن كان رأيه جواز تقليد غير الأعلم فقد يفصّل في حكمه بأنّه إن كان ممّن يرى صحّة عبادات الجاهل جاز له الإفتاء بمؤدّى نظره في هذه المسألة من جواز تقليد غير الأعلم ، وإن كان ممّن لا يرى ذلك حرم عليه الإفتاء بما ذكر ، وذلك لأنّه في رجوعه إلى غير الأعلم لم يستند إلى طريق مشروع من اجتهاد أو تقليد. أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ مشروعيّة طريق التقليد منوطة بجوازه ، وهو مقصور في المسألة الاصوليّة على تقليد الأعلم وقد فرضنا رجوعه إلى غير الأعلم. وإذا كان رأيه بطلان عبادات الجاهل فإفتاؤه بجواز تقليد غير الأعلم إضلال له وهو قبيح عقلا ومحرّم شرعا.

وعندي هذا التفصيل غير جيّد بل غير صحيح ، لمنع اندراج المقلّد المعتمد في تقليده لغير الأعلم على فتوى غير الأعلم في موضوع الجاهل في العبادات في نظر ذلك المجتهد ، لأنّه عبارة عمّن لا يستند في أعماله إلى طريق مشروع ولذا يعبّر عنه بتارك الطريقين.

وفتوى غير الأعلم طريق مشروع في نظر ذلك المجتهد ، وعدم اعتقاد المقلّد بمشروعيّته لا ينافي مشروعيّته في اعتقاد المجتهد ، فلا يكون إفتاؤه بجواز تقليد غير الأعلم إضلالا له ، فلا جهة هنالك تقتضي منعه من ذلك الإفتاء وتوجب حرمته عليه.

وإن سأله عن حكم مسألة اخرى من الفروع ، فإن احتمل في حقّه استناده إلى أعلم جوّز له تقليد غير الأعلم ، أو عدم تمكّنه من تقليد الأعلم أو تعسّر الرجوع إليه جاز له الإفتاء بحكم المسألة ، وإلاّ فإن قطع بعدم كون غرضه من السؤال تقليده في المسألة بل إنّما يسأله لغرض آخر جاز له ذلك أيضا ، وإلاّ فإن علم أنّ غرضه التقليد لا غير حرم الإفتاء لكونه إضلالا ، وإن احتمل ذلك فالجواز لا يخلو عن وجه إلاّ أنّ الأحوط ترك الإفتاء.

الأمر الثامن

في أنّ العامي لو قلّد المفضول باعتقاد التساوي أو باعتقاد الأفضليّة فظهر فساد اعتقاده بظهور كون المجتهد الّذي لم يقلّده أفضل ، فهل يجب العدول إلى ذلك الأفضل أو لا؟

٤٩٨

ولو قلّد المفضول لعدم تمكّنه من تقليد الأفضل أو تعسّره ثمّ زال العذر أو العسر فهل يجب العدول إلى الأفضل أو لا؟

ولو قلّد أحد المجتهدين المتساويين ثمّ صار المجتهد الآخر أفضل إمّا لأنّه ترقّى لكثرة جدّه في الاشتغال بالشواغل العلميّة أو لتنزّل المجتهد الأوّل بخوضه في الشواغل الدنيويّة وتركه المشاغل العلميّة ، ونحوه ما لو قلّد أفضل المجتهدين فانعكس الأمر بصيرورة المفضول أفضل والأفضل مفضولا إمّا لترقّي الأوّل أو لتنزّل الثاني ، فهل يجب العدول إلى الأفضل أو لا؟ فهاهنا مسائل :

أمّا المسألة الاولى : فلا ينبغي التأمّل في تعيّن العدول إلى من ظهر كونه أفضل بالنسبة إلى الوقائع والأعمال الآتية ، بل هذا ابتداء تقليد في حقّه ، وتقليده الأوّل لخطائه في اعتقاد التساوي أو الأعلميّة لم يصادف محلّه ، لأنّ حقيقة التقليد ـ على ما بيّنّاه مرارا ـ هو الالتزام بالحكم الفعلي الّذي يجب بناء العمل عليه ، وظهور فساد الاعتقاد معناه انكشاف كون حكمه الفعلي من بدو الأمر ما هو بحسب فتوى المجتهد الثاني ، وعدم كون ما هو بحسب فتوى المجتهد الأوّل حكما فعليّا له في الواقع وإن اعتقد كونه كذلك ، لأنّ الاعتقاد لا تأثير له في الحكم الشرعي وجودا وعدما ، فهو في تقليده للأوّل إلى زمان كشف الخلاف كمن لم يقلّد رأسا.

ومن هذا البيان ظهر حكم الأعمال الماضية الواقعة على طبق فتوى المجتهد الأوّل من حيث إنّها محكومة بالبطلان المقتضي لوجوب الإعادة والقضاء ، إذ لا مقتضي لصحّتها المسقطة لهما إلاّ كون الأمر الظاهري مفيدا للإجزاء. ويدفعه أنّ الأمر الظاهري العقلي ـ على ما حقّقناه في محلّه ـ لا يفيد الإجزاء.

فإن قلت : غاية ما هنالك اندراج هذه الأعمال في عبادات الجاهل لعدم استنادها إلى طريق مشروع في حقّه ، وقضيّة ذلك إجراء التفصيل المتقدّم في عبادات الجاهل بين مطابقة الواقع وعدم مطابقته فيها لا الحكم ببطلانها بقول مطلق.

قلت : قد ذكرنا في بحث عبادات الجاهل أنّ المراد بالواقع الّذي يعتبر مطابقته وعدم مطابقته مؤدّى الطريق المشروع في حقّ المكلّف حال التفطّن والالتفات لا غير ، والطريق المشروع في حقّ ذلك المقلّد حين ظهور فساد اعتقاده إنّما هو فتوى المجتهد الثاني

٤٩٩

والمفروض أنّها مخالفة لفتوى المجتهد الأوّل لأنّ الكلام إنّما هو على تقدير اختلافهما في الرأي.

فالأعمال الماضية غير مطابقة للواقع بالمعنى المذكور ، فوجب بطلانها على قاعدة عبادات الجاهل.

وأمّا المسألة الثانية : فينبغي القطع فيها بصحّة الأعمال الماضية الواقعة على طبق فتوى المفضول لاستنادها إلى الطريق المشروع له حال العذر أو العسر ، وأمّا الأعمال الآتية والوقائع المستقبلة ففي وجوب العدول فيها بعد زوال العذر والعسر إلى الأفضل وعدمه بل عدم جوازه وجهان : من أنّ فتوى المفضول ما دام العذر أو العسر بدل اضطراري من فتوى الأفضل كالطهارة الترابيّة بدلا عن الطهارة المائيّة. ومن حكم البدل الاضطراري أنّه إذا زال العذر والعسر سقط اعتبار البدل وتعيّن الأخذ بالمبدل.

ومن أنّ الأفضليّة ـ حيثما وجب الرجوع إلى الأفضل ـ إنّما تعتبر لكونها مرجّحة لمدرك الحكم عند التحيّر لا لأنّها مؤسّسة لأصل الحكم ، وهي إنّما تؤثّر في الترجيح في ابتداء التقليد حيث لم يكن هناك مانع من الرجوع إلى الأفضل ، وأمّا في مثل ما نحن فيه فلا ، لكونها معارضة بمزيّة اخرى في جانب المفضول وهو سبق تقليده على الوجه المشروع ، فإنّه أيضا مزيّة فيه يحتمل كونها مرجّحة للبقاء على تقليده في نظر الشارع ، فكانا كالأمارتين المتعادلتين مع عدم جريان شيء من قاعدتي الاشتغال والأقربيّة اللّتين هما دليل وجوب الرجوع إلى الأفضل هنا.

أمّا الاولى : فلأنّها إنّما تجري مع وجود القدر المتيقّن ، ولا يكون إلاّ فيما دار الأمر بين التعيين والتخيير كما في ابتداء التقليد ، والأمر فيما نحن فيه دائر بين التعيينين ، بل بين المحذورين : وجوب العدول وحرمته.

وأمّا الثانية : فلأنّ وجوب الأخذ بالأقرب ليس حكما شرعيّا ثابتا بالنصّ ليتمسّك هنا بإطلاق النصّ أو عمومه ، بل هو حكم عقليّ والعقل إنّما يحكم به في ابتداء التقليد.

وأمّا ما نحن فيه فبعد ملاحظة سبق تقليد المفضول واحتمال كونه مزيّة مرجّحة في نظر الشارع فلا يحكم بشيء بل لا يزال متردّدا.

ويمكن ترجيح ثاني الوجهين بالأصل المنحلّ إلى استصحابين وجودي وعدمي ، لفرض

٥٠٠