تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٧

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-753-2
الصفحات: ٧١٥

الوقت ، فإنّ سقوطه مبنيّ على إدراك الواقع أو إدراك بدله ، والمفروض بعد انكشاف فساد الاجتهاد عدم حصول شيء من الأمرين.

وبالجملة لو صحّ الالتزام بالتصويب على أحد المعنيين اتّجه القول بالإجزاء وسقوط الإعادة والقضاء ، وإلاّ فلا محيص من القول بعدم الإجزاء فلا مناص من الإعادة والقضاء ، ولذا ترى أنّ ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد فرّع الإجزاء وعدمه على التخطئة والتصويب ، وحيث إنّ التصويب باطل فمقتضى القاعدة هو وجوب نقض الفتوى بعد رجوع المجتهد بالنسبة إلى الوقائع السابقة أيضا ، كما أنّها تنتقض بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة ، سواء تعلّقت بالعبادات أو المعاملات من العقود والإيقاعات والأحكام.

وأمّا الثاني : فأمّا فساد الوجه الأوّل فلعدم كون مبنى القول بانتقاض الفتوى بالقياس إلى الوقائع السابقة أيضا على إجراء حكمي الاجتهادين وترتيب آثار مؤدّاهما على الواقعة الواحدة بحسب زماني ما قبل الرجوع وما بعده ، بل على إجراء أحكام الاجتهاد الثاني عليها لا غير ، بناء على أنّ معنى انكشاف فساد الاجتهاد تبيّن عدم حكم له حدث بسببه في الواقعة واقع في طرف العرض من الواقع أو في طرف طوله بناء على البدليّة.

وأمّا فساد الوجه الثاني والثالث فقد أشرنا إليه سابقا ، وأمّا فساد الوجه الرابع فلما بيّنّاه أيضا من استحالة الاستصحاب مع سريان شكّه إن قرّر بالقياس إلى نفس الآثار المترتّبة كما هو ظاهر عبارته ، وإن قرّر بالقياس إلى وجوب ترتيبها الثابت قبل الرجوع.

ففيه : أنّه بهذا المعنى أشدّ استحالة ، لوضوح استحالة ترتيب آثار الواقع على ما انكشف انتفاء الواقع فيه وتبيّن مغايرته له ، مع عدم ثبوت بدليّته منه.

والحاصل : أنّ المأتيّ به مع المأمور به الواقعي موضوعان متغايران ولا يمكن إجراء أحكام أحدهما على الآخر مع فرض عدم ثبوت البدليّة فيما بينهما.

وقد يجاب أيضا : بأنّ الآثار لمّا كانت آثار مؤدّى الاجتهاد المتقدّم فكان ذلك الاجتهاد علّة لثبوتها والمفروض زواله.

ولا ريب أنّ زوال العلّة ـ كما هو المفروض ـ يستلزم زوال المعلول ، فتأمّل.

وأيضا فإنّ الاستصحاب المفروض من باب الشكّ في المقتضي لا من باب الشكّ في المانع ، على معنى الشكّ في رافعيّة الطارئ وهو الاجتهاد اللاحق كما تخيّله ، إذ لا يدري مقدار اقتضاء الاجتهاد السابق المقتضي لترتّب الآثار المترتّبة عليه وأنّه هل يقتضي ترتّبها

٥٦١

على الإطلاق أو يقتضيه ما دام باقيا؟ وهو قدس‌سره ممّن لا يرى الاستصحاب حجّة في صورة الشكّ في المقتضي.

وأمّا ما ذكره في أثناء كلامه ـ على ما تقدّم ـ من تنظير رجوع المجتهد عن الفتوى بالنسخ ، وكون حكمه حكمه في ارتفاع الحكم المنسوخ عن موارده المتأخّرة عنه وبقاء آثار موارده المتقدّمة ، فلا خفاء في فساده أيضا ، لأنّ النسخ ارتفاع للحكم الواقعي ، واللازم من ذلك كون آثاره المتقدّمة أيضا امور واقعيّة فلا يعقل ارتفاعها بعد وقوعها ، فكيف يقاس عليه مؤدّى الاجتهاد المتعقّب للرجوع الّذي هو حكم ظاهري فيكون الآثار المترتّبة عليه مترتّبة بحسب الظاهر ، فإذا تحقّق الرجوع انكشف عدم وقوعها موقعها ، فلا مانع من ارتفاعها ، بل إطلاق الارتفاع هنا مسامحة ، لأنّ الرجوع من باب انكشاف عدم وقوع الآثار من أصلها لا من باب ارتفاع ما وقع بعد وقوعه.

نعم يشكل الحال في الوقائع والأعمال الصادرة من المجتهد ومقلّده على طبق الفتوى قبل الرجوع بالنسبة إلى مجتهد آخر مخالف له في الرأي ومقلّد ذلك المجتهد في الآثار الراجعة إليهما المترتّبة على الأعمال المذكورة ، فهل يجوز لهما ترتيب تلك الآثار عليها كما جاز لنفس المجتهد ومقلّده ما لم يحصل له الرجوع ترتيب الآثار المتعلّقة بهما عليها أو لا يجوز لهما ذلك؟ بناء على تأدية اجتهاد ذلك المجتهد إلى مخالفة الأعمال المذكورة للواقع ، فكان كانكشاف مخالفتها لها لنفس المجتهد ومقلّده برجوع المجتهد عن فتواه ، فكما لا يجوز لهما ترتيب الآثار الراجعة إليهما بعد الرجوع لانكشاف مخالفتها الواقع بمقتضى الأمارة الّتي نشأ منها الاجتهاد الثاني فكذلك لا يجوز لغيرهما المخالف لهما في المذهب ترتيب الآثار الراجعة إليه عليهما لانكشاف مخالفتها الواقع له بمقتضى الأمارة الموجودة له الّتي نشأ منها اجتهاده ، ومرجع الكلام إلى أنّه هل يجوز لمجتهد ومقلّده نقض فتوى مجتهد آخر مخالف لهما في الرأي والمذهب أو لا؟

وتحقيق المقام : أنّ مقتضى القاعدة هو وجوب النقض وعدم جواز ترتيب الآثار المتعلّقة بغير المجتهد ومقلّده على فتوى ذلك المجتهد ، كما لا يجوز ذلك لنفس المجتهد ومقلّده بعد الرجوع لتنقيح المناط ووحدة الطريق حسبما أشرنا إليه.

ولكنّ الظاهر أنّ ذلك في كثير من صور المسألة وفروضها خلاف الإجماع ، فلا بدّ في تحقيق المسألة من الرجوع إلى الأدلّة الخاصّة غير أدلّة حجّية الأمارات ، وعليه فالحقّ أنّ

٥٦٢

الحكم يختلف بحسب اختلاف المقامات.

المقام الأوّل :

في جواز النقض وعدمه في العبادات ويظهر أثر هذا البحث في موارد :

منها : عمل الأجير عن الميّت في الصلاة والصوم والحجّ والزيارات وغيرها حسبما يستأجره الوصيّ وغيره ، والأظهر هنا عدم جواز النقض ووجوب ترتيب الآثار على أعمال الأجير وعباداته ولو مع مخالفته بحسب اجتهاده أو تقليد المجتهد في الرأي والمذهب ، بل ومع العلم بالمخالفة الشخصيّة ، وذلك لأنّ الظاهر من أدلّة الوصيّة وجوب الاستنابة على الوصيّ عن الميّت ممّن ظاهره صحّة عمله بحسب نظره ، أي الاستنابة للعمل الصحيح بالصحّة الظاهريّة في نظر النائب على ما هو مقتضى اجتهاده لو كان مجتهدا أو اجتهاد مجتهده لو كان مقلّدا ، والمفروض أنّ عقد الإجارة الواقع فيما بينهما أيضا ينصرف إلى العمل الصحيح صحّة ظاهريّة ، وإذا استناب الوصيّ من ظاهره صحّة أعماله على الوجه المذكور وقد أتى النائب أيضا بالأعمال الصحيحة على الوجه المذكور خرج الوصيّ عن عهدة تكليفه وبرئت ذمّة النائب أيضا واستحقّ الاجرة وهذا واضح ، بل الظاهر أنّه إجماعي على ما يظهر من عمل العلماء وسيرة المسلمين في الأعصار والأمصار.

ومنها : استئجار الوليّ لقضاء فوائت الميّت ففي كون المعتبر في عمل ذلك الأجير هو الصحّة الظاهريّة بالقياس إلى حال الأجير من جهة اجتهاده أو تقليده ـ ولازمه وجوب ترتيب الآثار وعدم جواز نقض الفتوى ـ أو الصحّة الواقعيّة بحسب نظر الوليّ ولازمه عدم جواز ترتيب الآثار ووجوب النقض وجهان :

من أنّ الأجير هاهنا نائب عن الميّت فيكفي منه الصحّة الظاهريّة لعين ما ذكرناه في مسألة استنابة الوصيّ ، أو نائب عن الوليّ (١) بناء على أنّه بموت الميّت يشتغل ذمّة الوليّ بفوائته فوجب عليه إحراز الصحّة الواقعيّة في عمل نائبه ، ولا يكفيه الصحّة الظاهريّة في عمل النائب وإن لم تكن من الصحّة الواقعيّة في نظر الوليّ ، لأنّ النائب موضوع للصحّة الظاهريّة في حقّ نفسه لا في حقّ غيره من مكلّف آخر وهو الوليّ ولا يبعد ترجيح الأوّل ، لأنّ الواجب على الوليّ أحد الأمرين : من الاستنابة عن الميّت أو نيابته عنه ، بناء على أنّ المستفاد من أدلّة الولاية في هذا المقام ـ ولو بضميمة الإجماع ـ أنّه يجب على الوليّ إبراء

__________________

(١) هذا هو الوجه الثاني من الوجهين.

٥٦٣

ذمّة الميّت وتفريغه عمّا اشتغلت به من فوائته ، وهذا يتأتّى بالاستنابة عنه كما يتأتّى بالنيابة عنه ، كما أنّه يتأتّى بتبرّع متبرّع ، فأيّ منهم أقدم على النيابة فيكفيه الصحّة الظاهريّة بالنسبة إلى حاله ، وعليه فيجوز للوليّ استنابة من يخالفه في الرأي والمذهب ولو علم المخالفة الشخصيّة.

ومنها : مسألة الاقتداء ، نظرا إلى اشتراط صحّة صلاة المأموم بصحّة صلاة الإمام ، فهل يجوز له الاقتداء بمن خالفه في المذهب ولو مع العلم بالمخالفة الشخصيّة ـ كما لو كان من رأي الإمام اجتهادا أو تقليدا عدم وجوب السورة في الصلاة ، أو صحّتها في وبر الأرانب والثعالب ، أو بالطهارة الحاصلة بما يراه طاهرا كالقليل الملاقي للنجاسة أو طهورا كالمضاف مثلا ، والمأموم يخالفه في جميع ذلك ـ أو لا يجوز؟ وجهان من أنّ شرط صلاة المأموم هل هو الصحّة الظاهريّة لصلاة الإمام أو الصحّة الواقعيّة؟ والأظهر الثاني.

ولا ينتقض ذلك بصلاة الصفوف المتقدّمة من المأمومين على ذلك ، نظرا إلى اشتراط صحّة صلاة الصفّ المتأخّر بصحّة صلاة الصفوف المتقدّمة أيضا ، مع أنّه يكفي هنا الصحّة الظاهريّة بحسب حال المأمومين ، ولذا لا إشكال عندهم في صحّة اقتداء المتأخّر ولو كان فيمن تقدّم عليه من يخالفه في المذهب أو من لا يحسن القراءة ولو في الأذكار الواجبة إلاّ بقدر طاقته ، لوضوح الفارق بين المقامين فلا يقاس أحدهما على الآخر ، وذلك : أنّ المأموم المتقدّم لا يضمن للمتأخّر شيئا من أفعال صلاته ، بل الغرض من اعتبار وجوده في الصفّ المتقدّم إنّما هو إحراز اتّصال المأموم المتأخّر بواسطته بالإمام ، ويكفي فيه إحراز الصحّة الظاهريّة في الصفوف المتقدّمة ، بخلاف الإمام فإنّه يضمن قراءة المأموم فلا بدّ وأن يعتبر في صحّة صلاته الصحّة الواقعيّة.

والسرّ فيه : أنّ المأموم مخاطب بالقراءة الصحيحة ولا تكون إلاّ الصحيحة الواقعيّة في نظره ، فيجب عليه إحراز القراءة الصحيحة الواقعيّة في صلاته بحسب نظره إمّا بمباشرة نفسه كما لو كان منفردا أو بمباشرة غيره كما لو كان مقتديا ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بإحراز الصحّة الواقعيّة في صلاة الإمام ؛ وقضيّة هذا كلّه أن يكون العلم بالمخالفة الشخصيّة مانعا عن الاقتداء.

وهل العلم بالموافقة شرط أو لا ، بل يكفي فيه مجرّد عدم العلم بالمخالفة؟ احتمالان بل قولان ، أصحّهما الثاني عملا بأصالة الصحّة في فعل المسلم في موضع الشكّ والاحتمال

٥٦٤

ولو مرجوحا ، فإنّ المأموم بعد ما ثبت اشتراط صحّة صلاته بالصحّة الواقعيّة لصلاة الإمام فلا بدّ له وأن يحرز تلك الصحّة في صلاة الإمام ليصحّ له الائتمام إمّا بطريق علمي كما في صورة العلم بالموافقة أو بطريق شرعي أقامه الشارع مقام الطريق العلمي ، ومنه الأصل المذكور الّذي يحرز موضوعه بقيام احتمال الموافقة مطلقا ، فإنّه في نحو هذا الموضوع أصل قرّره الشارع ليترتّب عليه المكلّف أحكامه المعلّقة على الفعل الصحيح الصادر من المسلم في موضع احتمال الصحّة.

وما يقال : ـ من أنّ غاية ما يثبت بذلك الأصل في المسائل الخلافيّة إنّما هو الصحّة عند الفاعل والمطلوب إثباته إنّما هو الصحّة عند الحامل ـ كلام قشري ظاهري لا يلتفت إليه ، إذ ليس الغرض إجراء ذلك الأصل في المسائل الخلافيّة في صورة العلم بالمخالفة الشخصيّة حتّى يكون نتيجته مجرّد الصحّة الفاعليّة ، بل في صورة احتمال الموافقة فمتى ما احتمل في صلاة الإمام وقوعها على وفق مذهب المأموم ولو مرجوحا إمّا لاحتمال رعايته الاحتياط أو لاختياره أفضل الفردين أو توجّه نفسه إلى امتثال الأمر الاستحبابي الوارد بما بنى على عدم وجوبه أو غير ذلك ممّا أمكن كونه منشأ لاحتمال الموافقة لمذهب المأموم ولو كان نحو السهو والنسيان جرى فيه أصالة الصحّة منتجة للصحّة الحامليّة أيضا لا الفاعليّة فقط ، وهذا واضح فيما لو كان الاختلاف بين نظر الفاعل ونظر الحامل بالعموم والخصوص مع كون معتقد الحامل هو الخصوص كما في الأمثلة المتقدّمة.

وأمّا لو كان الاختلاف بينهما بالتباين كالجهر والإخفات ببسم الله في الإخفاتيّة ففرض احتمال الموافقة لمذهب الحامل لا يخلو عن خفاء ، إلاّ أن يكون لضرب من الاتّفاق بسبب غير اختياري كالسهو والنسيان وسبق اللسان.

وكيف كان فهو فرض بعيد بل في غاية البعد ، ولكنّ الخطب فيه سهل بعد ملاحظة قلّة وقوع نحو هذا الاختلاف على وجه دعا إلى تحقّق المخالفة الشخصيّة ، مع ما ذكرنا من أنّ المناط في جواز الائتمام وعدمه هو قيام احتمال الموافقة وعدمه فحيثما لم يقم ذلك الاحتمال بحيث علم المخالفة الشخصيّة لم يجز الائتمام ، فالإشكال صغرويّ لا كبرويّ.

المقام الثاني : في جواز النقض وعدمه في المعاملات من العقود والإيقاعات ، فلو ملك شيئا بالعقد الفارسي أو عقد على امرأة بالفارسي أو تزوّج من أرضعته عشرة رضعات لبنائه على أنّه

٥٦٥

مملّك أو مورث للزوجيّة ، أو تزوّج امرأته الّتي خالعها ثلاثا في المرّة الرابعة من دون محلّل لبنائه على أنّ الخلع فسخ لا طلاق ، أو غير ذلك من الأمثلة ، فهل يجب على مجتهد آخر مخالف أو مقلّده ترتيب آثار الملكيّة أو الزوجيّة من جواز التصرّف فيما ملكه أو التناول منه بإذنه وعدم جوازهما من دون إذنه وإن أذن له المالك الأوّل ، ومن حرمة العقد على المتزوّجة لكونها ذات بعل فيحرم عليه إن عقد عليها أبدا ، ومن جواز النظر إليها وحرمة نكاحها بعد الطلاق أو الوفاة وغيرها من أحكام المصاهرة لو كان المجتهد المخالف أو مقلّده أبا للعاقد أو ابنا له أو لا يجب بل لا يجوز؟

مقتضى القاعدة حسبما بيّنّاه جواز النقض بل وجوبه وعدم جواز ترتيب أحكام الملكيّة أو الزوجيّة أو غيرها ، إلاّ أنّه لا يظنّ أحدا من الأصحاب جوّز ذلك ورضي به ، بل قد يقال : إنّه خلاف ما علم من ضرورة دين الإسلام ، وعليه فالصورة مخرجة من القاعدة بالدليل ، ولعلّه الإجماع والضرورة.

ولعلّ السرّ فيه بالبيان الإجمالي : أنّ الوقائع الشخصيّة من المعاملات الصادرة من المجتهد أو مقلّده في الموارد الخاصّة يجري عند الشارع مجرى حكم المجتهد ، فكما لا يجوز نقضه فكذلك لا يجوز نقض الآثار في الوقائع الشخصيّة الصادرة منهما.

وبالبيان التفصيلي : أنّ مؤدّى طريق صاحب الواقعة من الملكيّة أو الزوجيّة أو غيرهما حكم فعلي في حقّه ، وقد أخذه الشارع ما دام ثابتا لصاحب الواقعة موضوعا لأحكام ظاهريّة مجعولة لغيره ممّن له تعلّق بتلك الواقعة لجهة من الجهات من مجتهد آخر مخالف في الرأي أو مقلّد ذلك المجتهد وخاطبه بالتعبّد بتلك الأحكام الظاهريّة ولو كانت مخالفة للواقع في نظره ، ومرجعه إلى أنّ الشارع قد ألغى ذلك الواقع وأسقط اعتباره في حقّ ذلك الغير ما دام موضوع الأحكام الظاهريّة باقيا وإن اعتبره في حقّه في خصوص الوقائع الصادرة منه من العقود والإيقاعات ، واعتبار حكم ظاهري متضمّن لإلغاء الواقع ولو في حقّ من اعتقد مخالفته له ليس بعزيز الوجود في الشريعة بل له نظائر كثيرة ، ومن ذلك حكم الحاكم بالتنصيف في دار تداعى فيها المتداعيان مع ثبوت يدهما معا أو خروج يدهما معا مع تعارض بيّنتهما أو عجزهما عن إقامة البيّنة ، حيث يجوز للحاكم أو غيره التصرّف في كلّ من النصفين بإذن من حكم له به من المتداعيين ، بل اشتراؤه للنصفين معا مع علمه بأنّ العين بأجمعها في الواقع لأحدهما.

٥٦٦

وبالجملة ما أخذه صاحب الواقعة بحسب اجتهاده أو تقليد مجتهده بالعقد الفارسي مثلا ملك فعليّ له ، والمرأة المعقود عليها بالعقد الفارسي أو من دون إذن الوليّ زوجة فعليّة ، والأحكام المعلّقة على ملك الغير أو زوجته الراجعة إلى غير صاحب الواقعة ممّن يخالفه في الرأي والمذهب أو يوافقه مترتّبة على الملكيّة الفعليّة أو الزوجيّة الفعليّة وإن لم تصادف الواقع ، لأنّ مفاد أدلّة الطرق الاجتهاديّة كون مؤدّياتها أحكاما فعليّة في حقّ المجتهد الآخذ بها ومقلّده ووجوب إمضائها على مجتهد آخر ومقلّديه ، ومن هنا جاز لمجتهد تجويز تقليد من يخالفه في الرأي ، وحينئذ فليس لمجتهد في الوقائع الواقعة المنطبقة على مؤدّى اجتهاد مجتهد آخر إلاّ ترتيب الآثار حسبما يقتضيه اجتهاد ذلك المجتهد الّذي هو صاحب الواقعة لا بمقتضى اجتهاد نفسه ، فإنّ اجتهاد نفسه بالقياس إلى خصوص هذه الوقائع ملغى ، ولكن هذا كلّه إذا كان الاختلاف بينهما في الحكم.

وأمّا لو حصل الاختلاف بينهما في المصاديق والامور الخارجيّة باعتبار خارجها لا باعتبار حكمها كما لو قامت بيّنة لمجتهد في امرأة مزوّجة على موت زوجها فعقد عليها المجتهد لنفسه أو لغيره على أنّها قد مات زوجها ، وهذه البيّنة ليست بعادلة في نظر مجتهد آخر أو قامت عنده بيّنة اخرى على حياة زوجها ، فليس لذلك المجتهد أن يرتّب الآثار على مقتضى البيّنة المذكورة ، بل يرتّب الآثار على معتقد نفسه أو على مقتضى بيّنة نفسه.

ومثله ما لو قامت البيّنة على حياة زوج المرأة وهي ليست بعادلة في نظر مجتهد آخر بل قامت عنده بيّنة على موته ، فكلّ متعبّد بمقتضى أمارته ، لأنّ كلاّ منهما في الامور الخارجيّة في عرض صاحبه لا في طوله ، والمراد بالامور الخارجيّة ما لا تصرّف للشارع فيها ، ومن هنا لو قامت للمكلّفين بصلاة الميّت بيّنة على أنّ فلانا قد صلاّها وهي عادلة عند أحدهما دون الآخر فيبنى الأوّل على سقوط الصلاة عنه عملا ببيّنته المقتضية لحصولها ممّن قام به الكفاية ولا تسقط عن صاحبه لأنّ مقتضى عدم اعتبار البيّنة في نظره عدم حصولها في الخارج فيجب عليه القيام بها.

وبالجملة متى ما حصل الاختلاف بين صاحب الواقعة وغيره ـ مجتهدين كانا أو مقلّدين أو مختلفين ـ في الأحكام الشرعيّة فالاعتبار بمؤدّى طريق صاحب الواقعة ، فعلى غيره أيضا ترتيب الآثار عليه من باب الحكم الظاهري ، ومتى ما حصل الاختلاف بينهما في الموضوعات الخارجيّة فالمتّبع لكلّ معتقده ومؤدّى أمارة نفسه.

٥٦٧

ووجه الفرق : أنّ الشارع تصرّف في الأحكام بجعل مؤدّيات الطرق الاجتهاديّة أحكاما فعليّة يترتّب عليها الآثار ولم يتصرّف في الموضوعات الخارجيّة ، فليتدبّر.

المقام الثالث : في نقض الفتوى وعدمه في الوقائع المرتبطة بالمجتهد أو مقلّده في الطهارة والحلّية وغيرهما من الأحكام ، كما لو باشر المغسول مرّة واحدة أو ملاقى الغسالة أو عرق الجنب من الحرام أو الماء القليل للنجاسة أو العصير العنبي بعد الغليان في المأكول أو المشروب أو الملبوس أو الأواني لبنائه على كفاية المرّة في غسل المتنجّسات وعلى الطهارة في البواقي ، أو هيّأ في أدائه للضيافة وغيرها المطبوخ من لحم حيوان يرى حلّيّته أو المشروب من العصير الزبيبي أو التمري بعد الغليان لبنائه فيهما على الحلّيّة ، فهل يجوز لمجتهد آخر مخالف في الرأي في المذكورات أو مقلّده عند الابتلاء بنحو هذه الوقائع ترتيب آثار الطهارة أو الحلّيّة ، فلا يجب عليهما التجنّب بل يجوز لهما المباشرة والملاقاة برطوبة والتناول أكلا وشربا أو لا نقضا للفتوى في جميع ذلك؟ الظاهر الثاني لما مرّ من القاعدة المقتضية لذلك مع عدم وجود صارف عنها ، بل الظاهر أنّه محلّ وفاق حيث لم نقف على قول بخلافه.

تذنيب

حكم الحاكم إذا قطع ببطلانه أو بطلان طريقه وجب نقضه قولا واحدا وإلاّ لم يجز نقضه للحاكم ولا لغيره من حاكم آخر أو مقلّده قولا واحدا ، وفي كلام بعض الفضلاء : « أنّه موضع وفاق » (١) والإجماعات المنقولة في كلام العامّة والخاصّة كثيرة ، من غير فرق فيما ذكر بين كون الحكم واردا في الموضوعات الصرفة الّتي طريق الحكم فيها الإقرار أو البيّنة أو اليمين ، أو في وقائع من العقود أو الإيقاعات أو المواريث أو غيرها ممّا يتفرّع الحكم فيها على الفتوى ، ولا بين رجوع الحاكم بعد حكمه عن فتواه وعدمه ، ولا بين بقاء حكم الفتوى بعد الرجوع في الواقعة الشخصيّة ـ كما لو تراجع إليه المتعاقدان بالفارسيّة في النكاح فحكم بالزوجيّة أو في البيع فحكم بالنقل والملكيّة ، فإنّ حكم فتواه الّتي فرّع عليها الحكم وهي صحّة ذلك العقد يبقى بعد الرجوع ـ وعدمه كما لو اشترى أحد المتعاقدين لحم حيوان لبناء الحاكم على حلّيته فترافعا إليه فحكم بصحّة العقد وانتقال الثمن إلى البايع

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤١٠.

٥٦٨

إلى المشتري ثمّ رجع إلى القول بالتحريم ، فإنّ الحكم بصحّة العقد وانتقال الثمن والمثمن يبقى بحاله ولا يبقى الحكم بحلّيته في حقّ المشتري بحاله.

والعمدة من دليله الإجماع ، وقد يستدلّ بأنّه لو جاز للحاكم نقض حكمه أو لغيره نقض الحكم عند تغيّر الاجتهاد الظنّي وعدمه لجاز نقض النقض وهكذا إلى غير النهاية ، وذلك يفضي إلى عدم الوثوق بحكم الحاكم وعدم استقراره ، وهذا خلاف المصلحة الباعثة على نصب الحكّام ، وهذا لا يصلح مدركا لتأسيس الحكم الشرعي وإنّما يصلح لتأييد دليله.

والأولى أن يستدلّ عليه بقوله في مقبولة ابن حنظلة : « فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله فبحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرادّ على الله وهو على حدّ الشرك ».

في التعادل والترجيح

وقد يعبّر بـ « التراجيح » جمعا نظرا إلى كثرة وجوه الترجيح ، أو لرعاية التناسب اللفظي بينه وبين « التعادل ».

وقد يتوهّم كون « التعادل » و « الترجيح » قسمين للتعارض وهو سهو ، بل هما حالان في الدليلين المتعارضين باعتبار كونهما متعارضين ، فالتعارض وصف اخذ في معروض التعادل والترجيح ، ولذا لا يصحّ الحمل بينهما مع صحّته بين المقسم وكلّ من أقسامه ، هذا بناء على تفسير « الترجيح » باقتران الأمارة بما تتقوّى به على معارضها كما في كلام جماعة ، قبالا للتعادل الّذي هو عبارة عن تساوي الأمارتين باعتبار خلوّهما عن المزيّة أو اشتمال كلّ منهما على مزيّة.

وأمّا على تفسيره بتقديم إحدى الأمارتين على الاخرى للعمل بها لما معها من المزيّة فهو من فعل المجتهد الناظر في الأمارتين المتعارضتين فلا يعقل كونه قسما من التعارض ، مع أنّه بهذا المعنى ما يؤخذ في محمول القضيّة في المسألة الاصوليّة قبالا للتعارض كالتعادل

٥٦٩

المأخوذين في موضوع تلك القضيّة.

وكيف كان فهما اعتباران يلحقان الدليلين المتعارضين بعد فرض التعارض بينهما ، وعليه فينبغي بيان معنى التعارض لغة وعرفا.

فنقول : إنّه لغة تفاعل من « العرض » وهو بحسب الاستعمال ورد باللام فيقال : « عرض له » وبدونها فيقال : « عرضه » ، لا لأنّه من باب « شكرته وشكرت له » و « حمدته وحمدت له » فإنّ المعنى فيهما واحد ، وهو على التقديرين متعدّ واللام إنّما يلحق للتقوّي لا للتعدية ، بخلاف « العرض » فإنّه ورد مشتركا بين معنيين لازم وهو الظهور ومتعدّ وهو الإظهار ، فعلى الأوّل يلحقه اللام للتعدية ولا يلحقه على الثاني ، ومنه قوله عزّ من قائل : و ( عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ « العرض » على كلّ من التقديرين قد يضمّن فيه معنى المقابلة على معنى عدم اجتماع الشيء مع مقابله في جانب واحد ، فالتعارض أخذ منه بعد رعاية التضمين المذكور ، ولذا لا يلحق إلاّ الأمرين المتقابلين ، يقال : « تعارض الرجلان » أي أظهر كلّ منهما نفسه لصاحبه على وجه لا يجتمع معه في جانب ، وهو بهذا الاعتبار غلّب في عرف الاصوليّين على تعارض الدليلين ، ولذا عرّف : « بتنافي الدليلين » وظاهر أنّ تنافي الدليلين إنّما هو باعتبار دلالتهما ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على تحريمه مثلا ، فإنّ الأوّل كأنّه بدلالته على الوجوب ينفي التحريم والثاني بدلالته على التحريم ينفي الوجوب.

ويجوز أن يكون باعتبار مدلوليهما وعليه يكون لحوقه بالدليلين من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف ، وإليه ينظر تعريفه : « بتنافي مدلولي الدليلين » والأوفق بالذوق هو الاعتبار الأوّل ، وظاهر أنّ التنافي بين الدليلين لا يتأتّى بكلّ من الاعتبارين إلاّ مع وحدة الموضوع اتّحد معه المحمول أيضا لو اختلفا في الكيف ـ كقولنا : « واجب وليس بواجب » أو « حرام وليس بحرام » ـ أو تعدّد المحمول لو اتّحدا في الكيف كقولنا : « واجب وحرام » أو « طاهر ونجس » فالتعارض على قسمين.

وإن شئت عبّر عن الأوّل بالقضيّتين المتناقضتين ، وعن الثاني بالقضيّتين المتضادّتين ، ويشتركان في اعتبار وحدة الموضوع ، فهي معتبرة في التعارض لا محالة.

ومن ذلك علم أنّه لا يعقل التعارض بين الوارد والمورود ، فإنّ الوارد عبارة عمّا كان من الأدلّة الاجتهاديّة رافعا لموضوع دليل آخر يكون من الاصول العمليّة كأصل الإباحة وغيرها ومثلها أصالة الطهارة في الأشياء ، فإنّ مؤدّيات هذه الاصول أحكام ظاهريّة مجعولة

٥٧٠

لما لا يعلم حكمه من حيث الحرمة والنجاسة وغيرهما بالخصوص ، أي الواقعة من حيث جهالة حكمها الواقعي ، فيقال في الغناء أو العصير العنبي بعد الغليان مثلا عند جهالة حكمهما الواقعي من حيث الحرمة والنجاسة وغيرهما : « إنّ هذا ما لا يعلم حكمه بالخصوص ، وكلّما لا يعلم حكمه بالخصوص فهو مباح أو طاهر ، فهذا مباح أو طاهر » فإذا عثر على نصّ دالّ على حرمة الأوّل أو نجاسة الثاني صار الأوّل ما علم حرمته والثاني ما علم نجاسته وارتفع به عنهما عدم العلم بحكم الواقعة بالخصوص المأخوذ في موضوع الأصلين ، فالنصّ المفروض وارد عليهما لرفعه بدلالته عن المورد موضوعهما ، فالإباحة والطهارة اللّتين هما مفاد الأصلين لا تجريان في هذا المورد. لاستحالة جريان الحكم مع ارتفاع الموضوع ، فيبقى الحرمة والنجاسة المستفادة من النصّ سليمة عن المعارض.

هذا فيما لو كان النصّ المفروض قطعيّا واضح ، وأمّا ما كان ظنّيا في دلالته أو سنده أو فيهما معا ـ كالشهرة والإجماع المنقول وخبر الواحد ـ مع فرض حجّية كلّ من باب الظنّ الخاصّ أو المطلق فقد يتوهّم وقوع التعارض بينها وبين الأصل ، لأنّ قصارى ما يحصل منها الظنّ بالحرمة أو النجاسة وهو أيضا من أفراد عدم العلم المأخوذ في موضوع الأصل ، فيقال في الغناء أو العصير : أنّه من حيث إنّه ما ظنّ حرمته أو نجاسته حرام أو نجس ، ومن حيث إنّه ما لم يعلم حرمته أو نجاسته بالخصوص مباح أو ظاهر ، ولا نعني من التعارض إلاّ هذا.

ولكن يزيّفه : أنّ هذا إنّما يتوجّه على تقدير كون المأخوذ في موضوع الأصل عدم العلم الحقيقي بحكم الواقعة بالخصوص وهذا خلف ، بل المراد به ما يعمّ العلم الحقيقي والعلم الشرعي ، والظنّ الثابت حجّيته بدليل علمي من عقلي أو سمعي علم شرعي ، فبورود الأمارة الظنّية في الواقعة يحصل العلم الشرعي بحكم الواقعة بالخصوص ويرتفع به موضوع الأصل وهو عدم العلم بالمعنى الأعمّ.

والسرّ في عموم موضوع الأصل أنّ أدلّة حجّية الأمارة الظنّية القاضية بعدم الاعتناء باحتمال مخالفتها الواقع متعرّضة بهذا المضمون لحال أدلّة اعتبار الاصول ، ببيان : أنّ عدم العلم المأخوذ في موضوعها أعمّ من عدم القطع وعدم الظنّ الحاصل من تلك الأمارة.

ولا ريب أنّ بورود الأمارة ودلالتها الظنّية على الحكم من نجاسة أو حرمة أو وجوب أو على خلاف مقتضى الحالة السابقة في الاستصحاب ونحو ذلك يرتفع ذلك الموضوع ، فالأمارة الظنّية كائنة ما كانت إن اعتبرت مقيسة إلى الأصل كانت واردة ورافعة لموضوعه ،

٥٧١

كما أنّ أدلّة حجّيّتها إن اخذت مقيسة إلى أدلّة الأصل كانت حاكمة عليها بالمعنى الآتي ، فورود الأمارات الظنّية على الاصول العمليّة ليس بنفسها بل بانضمام أدلّة حجّيّتها واعتبار حكومتها على أدلّة الاصول.

لكن هذا في الاصول الّتي مؤدّياتها أحكام شرعيّة مجعولة من الشارع ، كأصلي البراءة والإباحة والاستصحاب بناء على استفادتها من عمومات الكتاب والسنّة ، وأمّا لو كانت أحكاما عقليّة صرفة من دون جعل شرعي فيها ـ كالبراءة الأصليّة ، ووجوب الاحتياط على القول به ، والتخيير في مسألة دوران الأمر بين المحذورين الّتي يحكم بها العقل لعدم البيان في الأوّل واحتمال العقاب في الثاني وعدم الترجيح في الثالث ـ فلا حاجة في اعتبار ورود الأمارة عليها إلى ملاحظة أدلّة حجّيّتها واعتبار حكومتها ، وإن احتاجت الأمارة في حجّيّتها إلى وجود تلك الأدلّة ، بل الأمارة بعد الحجّية بنفسها رافعة لموضوعات هذه الاصول وهي عدم البيان واحتمال العقاب وعدم الترجيح ، لأنّها في الأوّل بيان وفي الثاني تؤمننا عن العقاب وفي الثالث مرجّحة ، فمع ورودها لا يحكم العقل بالبراءة ولا الاحتياط ولا التخيير ، فيبقى الحكم المستفاد منها سليما عن المعارض.

وإنّما جعل المذكورات من الموضوع لحكم العقل مع أنّها مناط له وحيثيّات تعليليّة لا تقييديّة ، إذ ليس المراد بالموضوع في نظائر المقام هو الموضوع المنطقي الّذي يعدّ عندهم من أجزاء القضيّة ، وهو ما وضع وعيّن لأن يحكم عليه بالمحمول ، بل المراد به ما له مدخليّة في الحكم ولو كان بالقياس إليه من قبيل العلّة أو السبب والشرط الاصوليّين ، وإطلاق الموضوع على هذا المعنى في كلامهم شائع ، ومنه ما في مباحث المنطوق والمفهوم من جعل معيار الفرق بينهما كون الموضوع في الأوّل مذكورا في الكلام وفي الثاني غير مذكور فيه ، وعدّهم منه المجيء وعدم المجيء مثلا في مدلولي « إن جاءك زيد فأكرمه » مع كون المجيء سببا اصوليّا لوجوب إكرامه ، بل عدم العلم المأخوذ في موضوع الاصول على تقدير كونها من المجعولات الشرعيّة أيضا عند التحقيق مناط للحكم وحيثيّة تعليليّة في الواقع لا حيثيّة تقييديّة وإن كان يؤخذ وصفا للواقعة ويعبّر عنها بما لم يعلم حكمه بالخصوص ، لوضوح أنّ الإباحة المجعولة وغيرها لا تعرض الواقعة الغير المعلومة الحكم بوصف أنّها كذلك على وجه يكون عدم معلوميّة الحكم جزءا لمعروض الإباحة ، بل إنّما تعرض الواقعة لجهالة حكمها الواقعي ومن حيث عدم العلم بحكمها بالخصوص ، ولا نعني من الحيثيّة التعليليّة إلاّ هذا المعنى.

٥٧٢

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ ورود الأدلّة الاجتهاديّة على الاصول العمليّة وعدم وقوع التعارض بينها ليس لتعدّد موضوعيهما ـ بمعنى الموضوع المنطقي ـ ليكون ذلك من متفرّعات اعتبار وحدة الموضوع في التعارض المنطقي ، ليكون ذلك من متفرّعات اعتبار وحدة الموضوع في التعارض كما يظهر من بعض مشايخنا قدس‌سره وفرّعناه عليه أيضا في صدر الكلام تبعا له قدس‌سره ، بل إنّما هو لعدم جريان حكم الأصل في مورد الدليل الاجتهادي.

وقد عرفت أنّ تعارض الدليلين إنّما هو باعتبار تنافي مدلوليهما ولا يتأتّى ذلك إلاّ بتوارد المدلولين على محلّ واحد ، ومدلول الدليل الاجتهادي مع مدلول الأصل لا يتواردان أبدا على مورد واحد ، فيبقى مدلول الدليل الاجتهادي حيثما وجد سليما عمّا يعارضه من طرف الأصل لعدم جريانه مع وجوده.

ثمّ إنّ ما بيّنّاه سابقا في الأمارة الظنّية مقيسة إلى الأصل العملي على تقدير كون مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة من أنّ عدم وقوع التعارض بينهما لورودها عليه وكونها رافعة لموضوعه ولكن بعد ملاحظة حكومة أدلّة حجّيتها على أدلّة اعتباره مبنيّ على تفسير الحكومة بكون أدلّة حجّية الأمارة بإفادتها عدم الاعتناء باحتمال مخالفة الأمارة للواقع متعرّضة لبيان كون موضوع الأصل أعمّ من العلم الحقيقي والعلم الشرعي الّذي منه الظنّ المستفاد من الأمارة.

وأمّا على تقدير تفسيرها بكونها بإفادتها عدم الاعتناء باحتمال الخلاف متعرّضة لحال أدلّة الاصول بنفي الحكم الكلّي المستفاد منها من الإباحة أو الطهارة أو غيرها عن مورد الأمارة ـ أعني ما ظنّ وجوبه أو حرمته أو نجاسته من جهة الأمارة ـ فلا يكون الوجه في عدم وقوع التعارض بينهما ورود الأمارة عليها ، بل مجرّد حكومة أدلّة حجّيتها على أدلّة اعتبارها الّتي مرجعها إلى نفي حكم الأصل عن مورد الأمارة ، لكون موضوع الأصل حينئذ ما لم يعلم حكمه بالخصوص بالعلم الحقيقي خاصّة لا أعمّ منه ومن العلم الشرعي.

ولا ريب أنّ الواقعة المظنونة الحكم مندرجة بحسب المفهوم في هذا الموضوع.

غاية الأمر أنّ أدلّة حجّية الأمارة المفيدة لذلك الظنّ بمضمونها تعرّضت لنفي حكم ذلك الموضوع عن الواقعة المظنونة الحكم.

فقد ظهر من جميع ما قرّرناه أنّ الأدلّة الاجتهاديّة من حيث إنّها لا تعارضها الاصول العمليّة على أنحاء :

٥٧٣

منها : ما كان بنفسه رافعا لموضوع الأصل باعتبار إفادته العلم بحكم الواقعة بالخصوص كالإجماع والنصّ القطعي بتواتر ونحوه ، سواء كان مؤدّى الأصل حكما عقليّا صرفا أو مجعولا شرعيّا.

ومنها : ما كان بنفسه أيضا رافعا لموضوع الأصل مع كونه ظنّيا إذا كان مؤدّى الأصل حكما عقليّا كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما بعد ثبوت حجّيّتها بدليل علمي.

ومنها : ما كان رافعا لموضوع الأصل مع كونه ظنّيا لكن لا بنفسه بل بمعونة حكومة دليل حجّيته على دليل اعتبار الأصل إذا كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة ، مع تفسير الحكومة بما يكون مفادها تعميم موضوع الأصل بالقياس إلى عدم العلم الشرعي.

ومنها : ما كان باعتبار مجرّد حكومة دليل حجّيته على دليل الأصل على تقدير تفسير الحكومة بما يرجع حاصله إلى التعرّض لنفي حكم الأصل عن المورد.

والكلّ في جهة جامعة واحدة ، وهي أنّ عدم وقوع التعارض بينها وبين الاصول العمليّة إنّما هو لعدم توارد مدلوليهما على محلّ واحد ، لوضوح أنّ كلّ مورد يجري فيه الأصل لا يوجد فيه دليل اجتهادي ، وكلّ مورد يوجد فيه دليل اجتهادي لا يجري فيه الأصل ، فافهم ولا تغفل.

وكما أنّه لا يقع التعارض بين الوارد والمورود كذلك لا يقع بين الحاكم والمحكوم عليه ، والمراد من حكومة أحد الدليلين على الآخر أن يكون أحد الدليلين بمضمونه ومدلوله اللفظي متعرّضا لحال دليل آخر ببيان مقدار موضوعه بإدخال شيء فيه لولاه لم يكن داخلا ، أو بإخراج شيء منه لولاه لم يكن خارجا ، أو ببيان مقدار مدلوله وهو الحكم المستفاد منه بإثباته لشيء لولاه لما شمله ، أو نفيه عن شيء لولاه لشمله ، والأوّل هو الحاكم والثاني هو المحكوم عليه.

وبيان مقدار الموضوع مع بيان مقدار المدلول متلازمان ، لاستلزام بيان كلّ منهما بيان صاحبه ، بتقريب : أنّ الحكم وموضوعه بحسب الخارج متلازمان فيكونان في مقداريهما عموما وخصوصا متطابقان ، لوضوح أنّ حكم القضيّة في لحاظ الحاكم لا يزيد على موضوعها ولا ينقص منه ، كما أنّ موضوعها في لحاظه لا يزيد على حكمها ولا ينقص منه.

وبالجملة فالدليل الحاكم كأنّه بنفس مضمونه يفسّر الدليل المحكوم عليه ، ويبيّن حقيقة المراد منه ومقداره موضوعا وحكما.

وقضيّة ذلك أن يكون الحاكم مرتبطا بالمحكوم عليه ، ودليليّته منوطة بوجوده ، ولذا

٥٧٤

قد يقال في ميزان الحكومة : أن يكون الدليل الحاكم بحيث لولا الدليل المحكوم عليه لكان لغوا خاليا عن المورد.

فالحاكم باعتبار أنّ تعرّضه لحال المحكوم عليه قد يكون بإدخال شيء في موضوعه وإثبات حكمه لذلك الشيء ، وقد يكون بإخراج شيء عن موضوعه ونفي حكمه عن ذلك الشيء قسمان ، إلاّ أنّ أكثر الأمثلة المذكورة في هذا الباب منطبقة على القسم الثاني ، فمن أمثلته ما دلّ على أنّه لا حكم للشكّ مع الكثرة ولا بعد الفراغ ولا في النافلة ولا لشكّ الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر ، فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الشكوك من تأثيره في بطلان العبادة أو البناء [ على الأكثر ] أو تدارك المشكوك فيه أو غير ذلك ، وناطق بنفس مضمون « لا حكم للشكّ في هذه الصور » بأنّ المراد من الشكّ في تلك الأدلّة ما عدا هذه الشكوك ، أو أنّه بنفس هذا المضمون ينفي أحكام الشكّ عن هذه الشكوك.

ومنها (١) : الأدلّة النافية للعسر والحرج بالقياس إلى سائر الأدلّة الخاصّة المثبتة التكاليف الإلزاميّة في أبواب العبادات وغيرها ، فإنّ قوله تعالى : إنّما ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ينفي التكاليف الإلزاميّة المستفادة من تلك الأدلّة عن موارد العسر ، ويدلّ بنفس هذا المضمون على خروج تلك الموارد عن موضوعات هذه الأدلّة.

ومنها : الأدلّة النافية للضرر بالقياس إلى الأدلّة الخاصّة المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعيّة تكليفيّة ووضعيّة ، فإنّ قوله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » بنفس هذا المضمون ينفي الأحكام المستلزمة للضرر ويدلّ على خروج موارد الضرر عن موضوعات تلك الأدلّة ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير البصير. بل لم نقف للقسم الأوّل على مثال واضح خال عن التكلّف ، حتّى أنّ ما قد يذكر في مثال هذا القسم ـ من حكومة الأدلّة الدالّة على أنّ من تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث يبني على الطهارة على مثل قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقوله عليه‌السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » وقوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » إلى غير ذلك من أدلّة وجوب الوضوء واشتراط الطهارة للصلاة الظاهرة في اعتبار الوضوء الميتقّن واعتبار اليقين في إحراز الطهارة ، لقضائها بأنّ شرط الصلاة أعمّ من الطهارة المتيقّنة والطهارة المستصحبة ، أو بأنّ اليقين المعتبر في إحراز الطهارة أعمّ من

__________________

(١) هذا وما بعده من أمثلة القسم الثاني من أقسام الحكومة الّتي أشار إليها آنفا بقوله : « ومن أمثلته ما دلّ على أنّه لا حكم للشكّ مع الكثرة الخ ».

٥٧٥

اليقين العقلي واليقين الشرعي ، أو بأنّه يكفي فيه اليقين بحصول الوضوء وحدوث الطهارة ولا يعتبر فيه اليقين والبقاء إلى أن يحصل اليقين بعدم البقاء ـ فهو أيضا أوفق بكون الحكومة فيه بالنفي والإخراج ، لأنّ قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) إلى آخره يقتضي وجوب الوضوء عند كلّ قيام إلى الصلاة ، وقوله : « إذا دخل الوقت » إلى آخره ، « ولا صلاة » إلى آخره بظاهره يقتضي اعتبار الطهارة الواقعيّة الّتي لا تحرز إلاّ بطريق العلم ، وقوله عليه‌السلام : « إذا استيقنت أنّك قد أحدثت » إلى آخره ، يحكم عليها بنفس مضمونه بأنّ الوضوء إنّما يجب عند قيام إلى الصلاة مصادف ليقين الحدث ، ولا يجب عند القيام المصادف لعدم يقين الحدث ، ولا يجب اليقين بالطهارة في احرازها مع كون الحالة السابقة على الشكّ في الحدث هي الطهارة.

وكيف كان فلأجل أنّ مرجع الحكومة بالتعبير الثاني إلى إخراج ما هو من أفراد موضوع الدليل عن تحت ذلك الدليل ونفي حكمه عمّا هو من أفراد موضوعه ، فقد يشتبه الحكومة والحاكم بالتخصيص والمخصّص المنفصل في نحو « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » بتقريب : أنّ التخصيص إخراج ما لولاه لدخل ، والمخصّص ما يوجب خروج الفرد عن العامّ ويقتضي نفي حكمه عن الفرد ، ولأجل ذا جاز الحكم على المخصّص أيضا بكونه مفسّرا للعامّ ومبيّنا لحقيقة المراد منه.

وفيه : أنّ الحاكم والمخصّص وإن كانا متشاركين في المفسّريّة والبيانيّة إلاّ أنّهما يتفارقان في أنّ الحاكم بنفس مضمونه متعرّض لحال المحكوم عليه بالتفسير والبيان ، ولذا كان دليليّته باعتبار دلالته منوطة بوجوده بحيث لولاه لكان لغوا وخاليا عن المورد ، بخلاف المخصّص الّذي يلحقه وصف المفسّريّة والبيانيّة لعارض بواسطة حكم العقل لئلاّ يلزم التناقض واجتماع المتنافيين ، أو بمعونة فهم العرف كونه قرينة منفصلة ، بل مبنى فهم العرف أيضا على حكم العقل بالتقريب المذكور ، فإنّ أهل العرف عقلاء وفهمهم للقرينيّة إنّما هو لحكم عقولهم بامتناع التناقض واجتماع المتنافيين ، ولذا لولا أحد الأمرين لم يرتبط المخصّص بالعامّ ولم يكن دليليّته باعتبار دلالته منوطة بوجود العامّ ، ولا يلزم من فرض عدم وروده خروج المخصّص لغوا وخاليا عن المورد.

ومن البيان المذكور يظهر السرّ في عدم وقوع التعارض بين الحاكم والمحكوم عليه ، إذ لا يعقل منافاة بين المفسّر والمفسَّر ، بل ليس للحاكم مدلول سوى بيان مقدار موضوع المحكوم عليه وحكمه فكأنّهما معا دليل واحد.

٥٧٦

وقد يجري قاعدة الورود والحكومة فيما بين الاصول اللفظيّة المعمولة في الأدلّة الشرعيّة كأصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق مع ما يوجب الخروج عنها من النصوص القطعيّة والظنّية.

وتفصيل القول في ذلك : أنّ الأصل اللفظي ـ كأصالة العموم مثلا ـ إمّا أن يكون معتبرا من باب الظنّ النوعي على معنى كونه بنوعه وكونه بحيث لو خلّي وطبعه يفيد الظنّ بإرادة الحقيقة والعموم وإن كان في بعض الأحيان لا يفيده لمنع مانع وسنوح بعض السوانح ، أو من جهة أصالة عدم القرينة أو أصالة عدم التخصيص أو غيرها من الاصول العدميّة المعمولة في الألفاظ ، وعلى التقديرين فالنصّ المخالف المخرج عنه إمّا أن يكون مع نصوصيّة دلالته قطعيّ السند بحيث يفيد القطع بخلاف الحقيقة ، أو ظنّي السند على وجه يوجب الظنّ بخلاف الحقيقة ، فالصور أربعة :

فإن اعتبرنا الأصل من باب الظنّ النوعي كان النصّ المخرج منه واردا عليه قطعيّا كان أو ظنّيا ، لأنّ هذا الظنّ النوعي كالظنّ الاستصحابي ـ على القول بكون الاستصحاب من باب الظنّ ـ تعليقي ، على معنى كون اعتباره في اقتضاء ترتيب أحكام الحقيقة عند العرف والشرع معلّقا على عدم العلم ولا الظنّ المعتبر ولو ضعيفا بخلاف الحقيقة فهذا موضوعه ، ولا ريب أنّ النصّ قطعيّا أو ظنّيا يرفع هذا الموضوع.

وإن اعتبرناه من جهة الأصل العدمي فإن كان النصّ قطعيّا كان واردا عليه ، لأنّه بإفادته العلم بخلاف الحقيقة يرفع موضوع الأصل المذكور وهو عدم العلم بإرادة المجاز الملازم لاحتمال إرادة الحقيقة ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ العمل بالنصّ القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي.

وإن كان ظنّيا كان حاكما عليه ، لأنّ دليل حجّية الظنّ الحاصل منه يدلّ على المنع من الاعتناء باحتمال إرادة الحقيقة من العامّ مثلا ، فهو بهذا المدلول متعرّض لحال دليل اعتبار الأصل الدالّ على جواز الاعتناء بالاحتمال المذكور بإجراء أحكام الحقيقة لمجرّده بإخراج الاحتمال القائم في مورد النصّ الظنّي عن موضوع الأصل ونفي حكمه عن هذا الفرد الخاصّ ، فالنصّ حاكم على الأصل حينئذ باعتبار كون دليل اعتباره حاكما على دليل اعتبار الأصل.

وبعبارة اخرى : دليل اعتبار الأصل يفيد وجوب العمل بحكم العامّ وحمله على العموم

٥٧٧

ما لم يعلم بالتخصيص ، ودليل حجّية النصّ الظنّي السند يفيد المنع من ذلك فيما ورد نصّ ظنّي بخلاف العامّ مع كونه ممّا لا يعلم معه بالتخصيص.

ثمّ ليعلم أنّه لا يقع التعارض بين دليلين قطعيّين ، ولا بين قطعيّ وظنّي ، ولا بين ظنّيين.

أمّا الأوّل : فتارة بالوجدان ، فإنّا ندرك بضرورة الوجدان [ لو ] أنّ دليلا قطعيّا أفاد القطع بالواقع وكشف عنه فلا يحصل من غيره القطع بخلافه.

واخرى : بالبرهان ، فإنّ تعارض القطعيّين يقتضي حصول العلم بالمدلولين ، وهو يقتضي وقوع المعلومين وهو محال ، لاستحالة اجتماع النقيضين والضدّين ، فإمّا أن لا يحصل العلم من شيء منهما فيخرجان عن الدليليّة ويسقطان عن الحجّية أو يحصل من أحدهما دون الآخر فهو الحجّة دون صاحبه ، ومن البيّن أنّ غير الحجّة لا يعارض الحجّة.

وأمّا الثاني : فلاستحالة حصول الظنّ بخلاف المقطوع به ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين في الذهن ، لأنّ القطع عبارة عن الترجيح المانع من النقيض ، والمنع وعدم المنع متناقضان.

وأمّا الثالث : فللزوم اجتماع النقيضين في الذهن أيضا ، لأنّ الظنّ عبارة عن الاحتمال الراجح ، ورجحان احتمال أحد طرفي النقيض يستلزم مرجوحيّة احتمال الطرف الآخر ، ففرض حصول الظنّ منهما يوجب اجتماع الرجحان والمرجوحيّة في كلّ من الاحتمالين.

فإمّا أن لا يحصل الظنّ منهما فيخرجان عن الحجّية ، أو عن أحدهما فيخرج ذلك عن الحجّية.

فانحصر مورد التعارض في الأدلّة الظنّية المعتبرة من باب الظنّ النوعي كخبر الواحد والإجماع المنقول وغيرهما ، وهذا هو مراد من أطلق انحصار التعارض في الظنّيين ـ وهو ما كان دليليّته منوطة بجعل الشارع لإفادة نوعه الظنّ وإن كان قد لا يفيده فعلا لسنوح بعض السوانح وعروض بعض الموانع ، لا لإفادته الظنّ الفعلي بحيث لولا حصوله خرج عن الدليليّة والاعتبار ـ ولا سيّما قدماء أصحابنا ومن يحذو حذوهم من المتأخّرين ، حيث لم يعهد عندهم دليل ظنّي إلاّ على هذا الوجه ، ولم يكن باب الظنّ الفعلي الّذي يعبّر عنه بالظنّ المطلق مفتوحا لديهم ، ثمّ جرى مجراهم في التعبير بهذه العبارة المطلقة من فتح باب الظنّ المطلق مريدا بها المقيّد أعني ما كان ظنّيا بالنوع.

وقد يورد على ما ذكروه من منع التعارض في القطعيّين وتجويزه في الظنّيين بما لا وقع له ، ومحصّله : عدم صحّة التفكيك بين النوعين ، إذ لو اريد بالظنّي ما يفيد الظنّ الشخصي

٥٧٨

فهو كالقطعي في عدم وقوع التعارض فيه لاستحالة حصول الظنّ الشخصي بكلا طرفي النقيض ، ولو اريد به النوعي فمثله القطعي في جواز التعارض لو كان نوعيّا ، لأنّ مبنى الظنّ النوعي على تقدير حصول الظنّ وإن لم يحصل فعلا وهذا ممكن في القطعي أيضا.

وفيه : أنّ مبنى الظنّ النوعي على جعل الشارع وهذا غير موجود في الأدلّة القطعيّة كالإجماع والخبر المتواتر ونحوهما ، فإنّ الأوّل دليل بنفسه لكشفه عن قول المعصوم والثاني بنفسه دليل لأنّه بنفسه يفيد العلم بصدقه فدليليّته منوطة بصفة دائرة مدارها وجودا وعدما ، وحينئذ فلا معنى لملاحظة النوع وتقدير القطع فيه ، فإنّ ما لا يتّفق فيه صفة القطع خرج عن الدليليّة ، إذ الدليل هو الصفة لا سببها إلاّ أن يكون السبب مع قطع النظر عن صفة القطع من مجعولات الشارع كالخبر المتواتر ، فإنّه إذا لم يفد القطع قد يندرج في الخبر الظنّي الّذي جعله الشارع بشرائطه دليلا بهذا الاعتبار ، ولكنّه يدخل على هذا التقدير في الأدلّة الغير القطعيّة وكلامنا في الأدلّة القطعيّة من حيث إنّها قطعيّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الدليل القطعي والظنّي الّذي حجّيته من جهة اندراجه في الظنّ المطلق لا يعقل فيهما التعارض ، لا بينهما ولا بين كلّ لمثله ، فما حصل من صفة القطع في القطعي والظنّ في الظنّي فهو الحجّة ، بل الحجّة نفس الصفة لا سببها فما لم يحصل منه القطع ولا الظنّ فليس بدليل.

ثمّ إنّ التعارض بين الدليلين كالخبرين مثلا إمّا أن يكون للشبهة في دلالتيهما ، أو للشبهة في سنديهما بالمعنى الأعمّ ممّا يرجع إلى الصدور وما يرجع إلى جهة الصدور.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون التعارض على وجه التعادل وهو تكافؤ المتعارضين من جهة المرجّحات ـ والمرجّح عبارة عن المزيّة المعتبرة في أحد المتعارضين ، فلا عبرة بالمزيّة الغير المعتبرة كموافقة أحدهما القياس أو الاستحسان أو النوم والرمل والجفر وغير ذلك فلا تكون مناطا للترجيح ولا تنافي التعادل ـ أو يكون على وجه الترجيح على معنى كون علاج التعارض بالترجيح ، وهو عبارة ـ على أحد الاصطلاحين المتقدّمين ـ عن تقديم أحد الدليلين على صاحبه لمزيّة معتبرة فيه غير بالغة حدّ الحجّية بالقياس إليه ، بأن تكون مناطا لحجّيته وموجبة لكونه حجّة مستقلّة ، ولا حدّ التوهين (١) بالقياس إلى معارضه بأن توهن من جهتها ويسقط عن الحجّية ، ولذا لا يسمّى الصحّة في الخبر الصحيح في مقابلة الخبر

__________________

(١) عطف على قوله : « غير بالغة حدّ الحجّية » أي : ولا بالغة حدّ التوهين الخ.

٥٧٩

الضعيف مرجّحة لكونها مناطا لحجّيته ، ولا الشهرة في الخبر المشهور في مقابلة الشاذّ النادر مرجّحه ، لأنّها أو جبت في الطرف المقابل سقوطه عن الحجّية وخروجه عن الدليليّة ، فتأمّل.

والسرّ في هذا الاعتبار أنّ العمل بمقتضى المزيّة الّتي بلغت إلى حدّ الحجّية أو التوهين ليس من باب الترجيح ، لأنّه فرع على التعارض وهو على التقديرين منتف.

فالكلام في جميع باب التعارض يقع في مقامات :

المقام الأوّل

فيما لو كان التعارض من جهة الشبهة في دلالة المتعارضين مع قطع النظر عن سنديهما الّتي طريق رفعها وعلاج التعارض الناشئ منهما الجمع بينهما ، وهو العمل بهما معا إن أمكن ولو بنحو من التأويل ، ونتكلّم هنا في القضيّة المشهورة المتداولة على ألسنة الاصوليّين المعبّر عنها : « بأنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » وهذه القضيّة مع اشتهارها ربّما ادّعي الإجماع عليها كما عن الشيخ ابن أبي جمهور الإحسائي في عوالي اللآلئ فيما حكي عنه من قوله : « أنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أوّلا البحث عن معناهما وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ، فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء ، فإذا لم تتمكّن منه ولم يظهر لك وجه فارجع إلى العمل بهذا الحديث ، وأشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة » انتهى.

وإطلاقها يعطي أولويّة ما أمكن من الجمع من الطرح في كلّ من مسألتي التعادل والترجيح.

وبعبارة اخرى : كون الجمع مع التعادل أولى من التخيير ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح ، ومرجعه إلى أنّه مع إمكان الجمع يتعيّن مراعاته ولا يبنى على التخيير مع تكافؤ الدليلين ، ولا يلاحظ المرجّحات وإن وجدت مع أحدهما.

وكيف كان فهل لها أصل مطلقا ، أو لا مطلقا ، أو يختلف حالها على حسب اختلاف الصور؟

وبيانها : أنّ الجمع بين الدليلين قد يتأتّى بإرجاع التأويل إلى أحدهما بعينه فلا يحتاج إلى شاهد كالعامّ والخاصّ المطلقين كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » و « أعتق رقبة » و « لا تعتق كافرة » ومثلها نحو « اغتسل للجمعة » و « لا بأس بترك غسل الجمعة » وضابطه الكلّي وقوع التعارض بين النصّ والظاهر ، ونعني بالنصّ ما يعمّ الأظهر.

وقد يتأتّى بإرجاع التأويل إلى أحدهما لا بعينه فيحتاج إلى شاهد خارجي ، كما في

٥٨٠