وقوله (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ ورحمته بعباده.
ولفظ (يُغْشِي) من التغشية بمعنى التغطية والستر.
والمعنى : أن من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ أنه يجعل الليل غاشيا للنهار مغطيا له فيذهب بنوره وضيائه. فيصير الكون مظلما بعد أن كان مضيئا. ويجعل النهار غاشيا لليل ، فيصير الكون مضيئا بعد أن كان مظلما ، وفي ذلك من منافع الناس ما فيه ، إذ بذلك يجمع الناس بين العمل والراحة ، وبين السعى والسكون.
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
أى : إن في ذلك الذي فعله الله ـ تعالى ـ من بسط الأرض طولا وعرضا ومن تثبيتها بالرواسى ، ومن شقها بالأنهار ... لآيات باهرة ، ودلائل ظاهرة على قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده ، لقوم يحسنون التفكر ، ويطيلون التأمل في ملكوت السموات والأرض.
ثم ساق ـ سبحانه ـ مظاهر أخرى لقدرته فقال ـ تعالى ـ : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ).
والقطع : جمع قطعة ـ بكسر القاف ـ وهي الجزء من الشيء ، تشبيها لها ، بما يقتطع من الشيء.
ومتجاورات. أى : متلاقيات ومتقاربات.
وليس هذا الوصف مقصودا لذاته ، بل المقصود أنها مع تجاورها وتقاربها مختلفة في أوصافها مما يشهد بقدرة الله ـ تعالى ـ العظيمة.
ولذا قال ابن كثير ما ملخصه : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أى : أراض يجاور بعضها بعضا ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا ، وهذه تربتها حمراء ، وتلك تربتها سوداء ... وهذه محجرة وتلك سهلة ... والكل متجاورات ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار ، لا إله إلا هو ولا رب سواه (١).
وقال ـ سبحانه ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بإعادة اسم الأرض الظاهر ، ولم يقل وفيها قطع متجاورات كما قال : (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) في الآية السابقة ، وذلك ليكون كلاما مستقلا ، وليتجدد الأسلوب فيزداد حلاوة وبلاغة. وقوله (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٥٣ طبعة دار الشعب.