شريعتنا كما تأباه شريعتكم ، فاتركوا الجدال في هذا الأمر الذي لا ينفع معه الجدال ، لأننا لا نريد أن نكون ظالمين.
وبهذا الرد الحاسم قطع يوسف حبال آمال إخوته في العفو عن بنيامين أو في أخذ أحدهم مكانه ، فانسحبوا من أمامه تعلوهم الكآبة ، وطفقوا يفكرون في مصيرهم وفي موقفهم من أبيهم عند العودة إليه ...
وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ...).
وقوله «استيأسوا» يئسوا يأسا تاما فالسين والتاء للمبالغة.
و «خلصوا» من الخلوص بمعنى الانفراد.
و «نجيا» حال من فاعل خلصوا. وهو مصدر أطلق على المتناجين في السر على سبيل المبالغة.
والفاء في قوله (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ...) معطوفة على محذوف يفهم من الكلام.
والتقدير : لقد بذل إخوة يوسف أقصى جهودهم معه ليطلق لهم سراح أخيهم بنيامين ، فلما يئسوا يأسا تاما من الوصول إلى مطلوبهم ، انفردوا عن الناس ليتشاوروا فيما يفعلونه ، وفيما يقولونه لأبيهم عند ما يعودون إليه ولا يجد معهم «بنيامين» ..
هذه الجملة الكريمة وهي قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) من أبلغ الجمل التي اشتمل عليها القرآن الكريم ، ومن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك الإمام الثعالبي في كتاب «الإيجاز والإعجاز» فقد قال : من أراد أن يعرف جوامع الكلم ، ويتنبه لفضل الاختصار ويحيط ببلاغة الإيجاز ، ويفطن لكفاية الإيجاز ، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام.
ثم قال : فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ في إخوة يوسف (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس ، وتقليبهم الآراء ظهرا لبطن ، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه ، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة ، معاني القصة الطويلة» (١).
__________________
(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٥٧٨.