و (أَمْ) هنا منقطعة بمعنى بل التي للإضراب وهو انتقال المتكلم من غرض إلى آخر والافتراء : الكذب المتعمد الذي لا توجد أدنى شبهة لقائله.
والمعنى : إن هؤلاء المشركين لم يكتفوا بما طلبوه منك يا محمد ، بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أشد جرما ، وهو قولهم إنك افتريت القرآن الكريم ، واخترعته من عند نفسك.
وقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويكبت نفوسهم.
أى : قل لهم يا محمد على سبيل التحدي : إن كان الأمر كما تزعمون من أنى قد افتريت هذا القرآن ، فأنا واحد منكم وبشر مثلكم فهاتوا أنتم عشر سور مختلقات من عند أنفسكم ، تشبه ما جئت به في حسن النظم ، وبراعة الأسلوب ، وحكمة المعنى ، وادعوا لمعاونتكم في بلوغ هذا الأمر كل من تتوسمون فيه المعاونة غير الله ـ تعالى ـ لأنه هو ـ سبحانه ـ القادر على أن يأتى بمثله.
وجواب الشرط في قوله ـ سبحانه ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محذوف دل عليه ما تقدم. أى : إن كنتم صادقين في زعمكم أنى افتريت هذا القرآن ، فهاتوا أنتم عشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم.
والمتأمل لآيات القرآن الكريم ، يرى أن الله ـ تعالى ـ قد تحدى المشركين تارة بأن يأتوا بمثله كما في سورتي الإسراء والطور. ففي سورة الإسراء يقول ـ سبحانه ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) وفي سورة الطور يقول ـ سبحانه ـ (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٢).
وتارة تحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله كما في هذه السورة ، وتارة تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله كما في سورتي البقرة ويونس ، ففي سورة البقرة (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ...) (٣) وفي سورة يونس يقول ـ سبحانه ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤). وقد عجزوا عن الإتيان بمثل أقصر سورة ، وهم من هم في فصاحتهم ، فثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.
وقوله ـ سبحانه ـ (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
__________________
(١) الآية ٨٨.
(٢) الآية ٣٤.
(٣) الآية ٢٣.
(٤) الآية ٣٨.