ومن مظاهر هذا التحريض : مدحهم لعزيز مصر الذي رد لهم أثمان مشترياتهم ، وحاجتهم الملحة إلى استجلاب طعام جديد ، وتعهدهم بحفظ أخيهم وازدياد الأطعمة بسبب وجوده معهم.
ولكن يعقوب ـ عليهالسلام ـ مع كل هذا التحريض والإلحاح ، لم يستجب لهم إلا على كره منه ، واشترط لهذه الاستجابة ما حكاه القرآن في قوله :
(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ).
والموثق : العهد الموثق باليمين ، وجمعه مواثيق.
أى : قال يعقوب ـ عليهالسلام ـ لهم : والله لن أرسل معكم «بنيامين» إلى مصر ، حتى تحلفوا لي بالله ، بأن تقولوا : والله لنأتينك به عند عودتنا ، ولن نتخلى عن ذلك ، «إلا أن يحاط بنا» أى : إلا أن نهلك جميعا ، أو أن نغلب عليه بما هو فوق طاقتنا.
يقولون : أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك ، وأصله من إحاطة العدو بالشخص ، واستعمل في الهلاك ، لأن من أحاط به العدو يهلك غالبا.
وسمى الحلف بالله ـ تعالى ـ موثقا ، لأنه مما تؤكد به العهود وتقوى وقد أذن الله ـ تعالى ـ بذلك عند وجود ما يقتضى الحلف به ـ سبحانه ـ.
وقوله : «لتأتننى به» جواب لقسم محذوف والاستثناء في قوله «إلا أن يحاط بكم» مفرغ من أعم الأحوال ، والتقدير : لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله وتقولوا : والله لنأتينك به معنا عند عودتنا ، في جميع الأحوال والظروف إلا في حال هلاككم أو في حال عجزكم التام عن مدافعة أمر حال بينكم وبين الإتيان به معكم.
وقوله (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أى : فلما أعطى الأبناء أباهم العهد الموثق باليمين بأن أقسموا له بأن يأتوا بأخيهم معهم عند عودتهم من مصر.
«قال» لهم على سبيل التأكيد والحض على وجوب الوفاء : الله ـ تعالى ـ على ما نقول أنا وأنتم وكيل ، أى : مطلع ورقيب ، وسيجازى الأوفياء خيرا ، وسيجازى الناقضين لعهودهم بما يستحقون من عقاب.
قال ابن كثير : «وإنما فعل ذلك ، لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها فبعثه معهم».
ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما وصى به يعقوب أبناءه عند سفرهم فقال (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ...).