ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر نعمه على عباده فقال : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). والتسخير : التذليل والخضوع.
أى : أن من مظاهر فضله أنه ـ سبحانه ـ سخر ذلك وأخضع لقدرته الشمس والقمر ، بأن جعلهما طائعين لما أراده منهما من السير في منازل معينة ، ولأجل معين محدد لا يتجاوزانه ولا يتعديانه. بل يقفان عند نهاية المدة التي حددها ـ سبحانه ـ لوقوفهما وأفولهما.
قال ـ تعالى ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١).
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). وتدبير الأمر : تصريفه على أحسن الوجوه وأحكمها وأكملها.
والآيات : جمع آية. والمراد بها هنا : ما يشمل الآيات القرآنية ، والبراهين الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته ـ سبحانه ـ.
أى : أنه ـ سبحانه ـ يقضى ويقدر ويتصرف في أمر خلقه على أكمل الوجوه وأنه ـ سبحانه ـ ينزل آياته القرآنية واضحة مفصلة ، ويسوق الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته بطرق متعددة ، وبوجوه متنوعة.
وقد فعل ـ سبحانه ـ ما فعل ـ من رفعه السماء بلا عمد ، ومن تسخيره للشمس والقمر ، ومن تدبيره لأمور خلقه ، ومن تفصيله للآيات لعلكم عن طريق التأمل والتفكير فيما خلق ، توقنون بلقائه ، وتعتقدون أن من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة ، لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة بعد موتكم ، لكي يحاسبكم على أعمالكم.
وقال ـ سبحانه ـ (يُدَبِّرُ) و (يُفَصِّلُ) بصيغة المضارع. وقال قبل ذلك (رَفَعَ السَّماواتِ) و (سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بصيغة الماضي. لأن التدبير للأمور ، والتفصيل للآيات ، يتجددان بتجدد تعلق قدرته ـ سبحانه ـ بالمقدورات.
وأما رفع السماوات ، وتسخير الشمس والقمر ، فهي أمور قد تمت واستقرت دفعة واحدة.
وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ بعض مظاهر قدرته في عالم السماوات ، أتبعه بذكر بعض هذه المظاهر في عالم الأرض فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) والمد : البسسط والسعة. ومنه ظل مديد أى متسع.
__________________
(١) سورة يس الآية ٤٠.