ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها ، بل نفذوها علىّ في الحال.
فأنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا ـ عليهالسلام ـ كان في نهاية الشجاعة في مخاطبته لقومه ، بعد أن مكث فيهم ما مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده.
فهو ـ أولا ـ يصارحهم بأنه ماض في طريقه الذي أمره الله بالمضي فيه ، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق ، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده.
وهو ـ ثانيا ـ يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه.
وهو ـ ثالثا ـ يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء ، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد ، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا.
وهو ـ رابعا ـ يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار ، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم.
وهكذا نرى نوحا ـ عليهالسلام ـ يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا. حتى إنه ليغريهم بنفسه ، ويفتح لهم الطريق لإيذائه وإهلاكه ـ إن استطاعوا ذلك ـ.
وما لجأ ـ عليهالسلام ـ إلى هذا التحدي الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله ـ تعالى ـ الذي تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوى إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره.
وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة في كل زمان ومكان تلك المواقف المشرفة لرسل الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لكي يقتدوا بهم في شجاعتهم ، وفي اعتمادهم على الله وحده ، وفي ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته ، واشتد جبروته.
ومتى فعلوا ذلك ، كانت العاقبة لهم لأنه ـ سبحانه ـ تعهد أن ينصر من ينصره.
ولنمض مع القصة حتى النهاية لنرى الدليل على ذلك فقد حكى ـ سبحانه ـ ما دار بين نوح وبين قومه بعد هذا التحدي السافر لهم فقال :
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أى : فإن أعرضتم ـ أيها الناس ـ عن قولي ، وعن تذكيري إياكم بآيات الله بعد وقوفكم على أمرى وعلى حقيقة حالي. فما سألتكم من أجر ، أى : فإنى ما سألتكم في مقابل تذكيري لكم ، أو دعوتي إياكم الى الحق ، من أجر تؤدونه لي ـ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) وحده ، فهو الذي يثيبني على قولي وعملي وهو الذي يعطيني من الخير