واعتقد أنّ هذه المكيدة القاصمة لم تكن وليدة المصادفة أو المفاجأة ، فقد حيكت اصولها قبل هذا الوقت ، فقد كان ابن العاص الماكر الخبيث وزير معاوية على اتّصال دائم ببعض القادة في الجيش العراقي ، كان من بينهم الخبيث العميل الأشعث بن قيس مع جماعة من قادة الجيش العراقي ، وجرت بينهم وبين ابن العاص اتّصالات سرّية احيطت بكثير من الكتمان بتدبير مؤامرة انقلابية في جيش الإمام ، وذهب إلى هذا الرأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قائلا :
« فما استبعد أن يكون الأشعث بن قيس وهو ماكر أهل العراق وداهيتهم قد اتّصل بعمرو بن العاص ماكر أهل الشام وداهيتهم ودبّرا هذا الأمر بينهم تدبيرا ، ودبّرا أن يقاتلوا القوم فإن ظهر أهل الشام فذاك ، وإن خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فأوقعوا الفرقة بين أصحاب عليّ ، وجعلوا بأسهم بينهم شديدا » (١).
وعلى أي حال فقد بدت الهزيمة المنكرة في جيش معاوية ، وانهارت جميع قواه العسكرية ، ففزع إلى ابن العاص ، وقال له بذعر وخوف :
إنّما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفصيل ، فما ترى؟
وأشار عليه ابن العاص قائلا :
إنّ رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله ، هو يقاتلك على أمر ، وأنت تقاتله على أمر آخر ، أنت تريد البقاء ، وهو يريد الفناء ، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون عليّا إن ظفر بهم ، ولكن ألق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردّوه اختلفوا ، ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فأنت بالغ به حاجتك في القوم ، فإنّي لم أزل أؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه.
واستطاب معاوية رأي ابن العاص ، وعرف صدق نصيحته ، فمعاوية يقاتل
__________________
(١) الفتنة الكبرى ٢ : ٨٩.