الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

إذ يقول لهم : (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الزخرف : ٦٢).

ولخطورة الشيطان على أولياء الله ـ تعالى ـ وحزبه ؛ أمر المولى ـ عزوجل ـ : بالحيطة الشديدة منه ، والتنبه الدائم له ، واتخاذه عدوا ، واليقظة الكاملة لمكر هذا العدو ودهائه ، والاستعداد لمواجهة هذا العدو والانتصار عليه. إذ يقول لهم : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (فاطر : ٦)

ولخطورة حزب الشيطان ـ كذلك ـ على أولياء الله تعالى وحزبه ؛ أمر المولى ـ عزوجل ـ بقتالهم ، بشتى أسلحة القتال. إذ يقول :

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (النساء : ٧٦)

ومع ذلك فالشيطان لا ينى ، ولا يتخاذل ، ولا يهدأ. فعن جابر : أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يبعث الشيطان سراياه ، فيفتنون الناس ؛ فأعظمهم عنده منزلة ، أعظمهم فتنة». (مسلم : ك صفات المؤمنين ، باب تحريش الشيطان)

وأعوانه كذلك لا يتخاذلون ، ولا يهدءون.

وفوق ذلك : فهو : «يجرى من ابن آدم مجرى الدم». (١٩) فتنة ، وغواية ، وإضلالا.

ولوعورة هذه الحرب ، بين الطائفتين ـ الشيطان وحزبه من جانب ـ وأولياء الله من الجانب الآخر : فقد علّمنا ـ سبحانه وتعالى ـ الاستعانة به ، واللجوء إليه ، فى هذه الحرب الدائمة ، القديمة ، الحديثة ، حينما قال :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت : ٣٦).

وحينما قال : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (المؤمنون : ٩٧ ، ٩٨).

وفوق هذا فقد تكفل بالوقوف فى صف أوليائه ونصرتهم فى هذه الحرب الدائمة ، القديمة ، الحديثة ، حينما قال للشيطان : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (الحجر : ٤٢)

ولكل هذا : يجب على أولياء الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اليقظة الكاملة ، والاستعداد الدءوب لهذا العدو ، الذى حذر منه ، وأمر بمعاداته.

وعلى ورثة الأنبياء ـ وهم أولى الناس بهذه اليقظة وأحق الناس لهذا الاستعداد ، وأعلمهم وأقواهم على هذا العداء والانتصار فيه ، تبصير الناس بسهام هذا العدو ، وتحذيرهم ـ دائما ـ منها.

٨٠١

* الوسوسة :

بيد أنه : لا يعدو الشيطان فى حياة الإنسان سوى أن يكون مخلوقا باستطاعته أن يوسوس فى صدر الإنسان بالشر ، ويزين له ارتكاب الخطيئة فقط ، ثم إن الإنسان هو الذى يرتكب الخطيئة بإرادته ، ويعتبر مسئولا عنها مسئولية تامة.

ففي المفاهيم الإسلامية عدة حقائق عن الشيطان تبين موقعه فى حياة الإنسان ، وأثره على إرادته ، والحكمة الربانية من وجوده :

الحقيقة الأولى : تتلخص فى أن الشيطان ليس له سلطان على إرادة الإنسان ، إلا من سلّم قيادة نفسه له وتبعه مختارا لنفسه طريق الغواية.

ونجد الدليل على هذه الحقيقة فى عدة نصوص قرآنية :

منها : قول الله تعالى يخاطب إبليس رأس الشياطين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (الحجر :

٤٢).

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (الإسراء : ٦٥).

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل : ٩٨ ـ ١٠٠).

فمن الظاهر فى هذه النصوص أن الله تبارك وتعالى لم يجعل للشيطان سلطانا على الإنسان ، وأن سلطانه لا يكون إلا على الذين يتولونه ، ويجعلونه قائدا لهم ، ويتبعونه مختارين لأنفسهم طريق الغواية.

ومن أجل ذلك فإن الشيطان سيعلن هذه الحقيقة يوم القيامة للذين استجابوا لوساوسه فى الدنيا ، يدل على ذلك قول الله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم : ٢٢).

ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي : أى ما أنا بقادر على إغاثتكم وما أنتم بقادرين على إغاثتى ، حينما يصرخ كل منا طالبا من صاحبه أن يغيثه فيرفع عنه عذاب الله.

الحقيقة الثانية : تتلخص فى أن وظيفة الشيطان فى حياة الإنسان إنما هى الوسوسة فى صدره وليس له قدرة على أكثر من ذلك ،

٨٠٢

ويشعر الإنسان بهذه الوسوسة فى صورة خواطر تزين له الإثم والمعصية ، وتزين له الانحراف عن سواء السبيل ، وقد تصوغ له ذلك بحجج مغرية. قال الله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)) (الناس).

وقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (محمد : ٢٥). أى :

غرهم بالأمانى والآمال فى وساوسه وتسويفاته ، وهذا ما فعله مع آدم وحواء ، إذ كانا فى الجنة فوسوس لهما فأخرجهما من الجنة.

فكيد الشيطان فى الإضلال كيد ضعيف ، وبذلك وصفه الله بقوله (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (النساء : ٧٦).

الحقيقة الثالثة : تتلخص فى أن الله ـ تبارك وتعالى ـ جعل الشيطان فى حياة الإنسان لإقامة التوازن بين دوافع الخير ودوافع الشر والمحرضات عليهما ، وليطرح الإنسان عليه قسما من مسئولية الخطيئة التى يقع بها ، فيجد لنفسه عذرا بأن فعل الشر ليس من فطرته ، وإنما كان بتأثير وساوس قرينه الشيطان الملازم له.

وبهذا لا تظل صورة الخطيئة القبيحة ماثلة فى نفس الإنسان ، إذ يشعر بأن القبح فى العمل ليس من شأنه.

وهذا الشعور الذى يشعر به المخطئ ، قد يساعده على تقويم نفسه ، مستعيذا بالله من الشيطان ، ساعيا فى التخلص مما علق به من أدناس المعاصى ، كما يساعده على نسيان خطيئته إذا هو استغفر الله وتاب إليه ؛ إذ من وسائل الإصلاح التربوى فتح باب العذر لمن نربيه إذا ارتكب الخطيئة ، ولو عاقبناه عليها نظرا إلى مسئوليته ، ذلك لنبقى له مجالا يحتفظ فيه بصورة الكمال التى يجب أن يتصورها الناس فيه ، ولنبقى له مجالا للارتقاء فى مراتب الكمال الإنسانى.

العلاج الدينى للتخلص من وساوس الشيطان :

وللتخلص من وساوس الشيطان وتسويفاته علاج دينى أرشدنا القرآن إليه ، وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، قال الله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف : ٢٠٠ : ٢٠١).

٨٠٣

فمتى استعاذ الإنسان بالله من الشيطان ونزغته ، قويت بالله إرادته ، وخنس الشيطان وخاب وخسئ ، وحينما يقع الإنسان فى الخطيئة ثم يستغفر الله فيغفر له ، فإن الشيطان يصاب بالخزى والخيبة ، وضياع الجهد فى الإغواء (٢٠).

نهاية الإنسان

* تمهيد :

نهاية الإنسان فى الدنيا : هى الموت.

والموت : موضوع كريه ، مزعج ، لا يشجع على التفكير ، أو الحديث فيه.

وقد وصف القرآن حدوثه «بالمصيبة» ، فى قوله تعالى : (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة : ١٠٦).

وهو كريه مزعج ، لأن الإنسان بطبيعته يخشى الموت ، ويحب الحياة.

وفى الحديث الشريف : «قلب الشيخ شاب على حب اثنتين : طول الحياة ، وحب المال» (٢١).

وفى أحاديث الفتن : «.. ينزع الله المهابة من قلوب عدوكم ، ويجعل فى قلوبكم الوهن ، قالوا : وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت» (٢٢).

ولذلك ينفر الإنسان من سماع هذا الاسم ، وينفر كذلك من دراسة هذا الموضوع.

ودليل بسيط على ذلك : أنك تجد من الناس من يشكو مرّ الشكوى مما فى هذه الحياة الدنيا من : ألم ، ومعاناة ، وبؤس ، وشقاء .. إلخ ، لكنه رغم ذلك كله يتشبث بها بقوة ، حتى إنه يستعيذ بالله إذا طرقت أذنه كلمة الموت ، بل إن المحتضر نفسه وهو على فراش الموت يكره أن يسمع كلمة الموت.

وهذا الكلام لا يصدق على الإنسان العادى فحسب ، بل إنه يصدق ـ كذلك ـ على المفكرين والفلاسفة (٢٣).

* مواقف الناس من هذه النهاية :

اعلم أن المنهمك فى الدنيا المكب على غرورها المحب لشهواتها يغفل قلبه ـ لا محالة ـ عن ذكر الموت فلا يذكره. وإذ ذكّر به كرهه ونفر منه ، أولئك هم الذين قال الله فيهم : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة : ٨).

ثم الناس : إما منهمك ، وإما تائب مبتدئ ، أو عارف منته.

أما المنهمك : فلا يذكر الموت ، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ويشتغل بمذمته ، وهذا يزيده ذكر الموت من الله بعدا.

وأما التائب : فإنه يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية فيفى

٨٠٤

بتمام التوبة ، وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد ، وهو معذور فى كراهة الموت ، ولا يدخل هذا تحت قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كره لقاء الله كره الله لقاءه» (٢٤). فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله ، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره ، وهو كالذى يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه ، فلا يعد كارها للقائه ، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له ، لا شغل له سواه وإلا التحق بالمنهمك فى الدنيا.

وأما العارف : فإنه يذكر الموت دائما لأنه موعد لقائه لحبيبه ، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب ، وهذا فى غالب الأمر يستبطئ مجىء الموت ، ويحب مجيئه ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين.

كما روى عن حذيفة : أنه لما حضرته الوفاة قال : حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم ؛ اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلىّ من الغنى والسقم أحب إلىّ من الصحة ، والموت أحب إلىّ من العيش فسهل علىّ الموت حتى ألقاك.

فإذن : التائب معذور فى كراهة الموت.

وهذا معذور فى حب الموت وتمنيه.

وأعلى منهما رتبة : من فوّض أمره إلى الله تعالى فصار لا يختار لنفسه موتا ولا حياة ، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه ، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضا وهو الغاية والمنتهى (٢٥).

* حقيقة النهاية :

وقد ظن الملاحدة : أن الموت انتهاء مسار رحلة الإنسان ، والخاتمة الأبدية له ، حيث لا رحلة بعده ، ولا حياة ولا بعثا ولا نشورا (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (الأنعام : ٢٩).

وأما الحقيقة التى غابت عنهم وغابوا عنها ، والتى عرفها المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهذه النهاية :

أنها انتقال من عالم من عوالم الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى عالم آخر من عوالمه ـ عزوجل.

انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ ، تمهيدا للوصول إلى الدار الآخرة.

انتقال من دار الزرع إلى دار الحصاد ، من دار الفناء إلى دار البقاء.

انتقال من دار التكليف والعمل الدنيوى ، إلى دار الثواب والعقاب الأخروى (٢٦).

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة : ٧ ، ٨).

٨٠٥

يقول ابن القيم : جعل الله الدور ثلاثا : دار الدنيا ، دار البرزخ ، دار القرار. وجعل لكلّ أحكاما تختص بها (٢٧).

ومن هنا : فنهاية الإنسان الحقيقية ليست العدم المحض ، بل انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ ، كما أخبر الحق ، فى قوله تعالى :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠).

يقول ابن جرير الطبرى : أى مهلة يمكثون بها ، حتى ينتقلون إلى الدار الآخرة (٢٨).

وهذه المهلة التى يمكث بها الإنسان ـ بعد نهاية رحلته فى الحياة الدنيا ، حتى يوم البعث ـ هى الحياة البرزخية.

ومن بعدها : يكون البعث والانتقال إلى الحياة الأبدية.

والناس فيها : إما شقى ، أو سعيد (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود ١٠٧ ، ١٠٨).

أ. د. عبد الحى الفرماوى

٨٠٦

الهوامش والمصادر :

__________________

(١) الراغب الأصفهانى : مفردات القرآن (مادة : إنس).

(٢) ابن منظور : لسان العرب (مادة : أنس).

(٣) محمد فؤاد عبد الباقى : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

(٤) الحسين بن محمد الدامغانى : قاموس القرآن ، نشر دار العلم للملايين ـ بيروت.

(٥) الفخر الرازى : التفسير الكبير (سورة البقرة ، تفسير الآية ٣٠).

(٦) انظر : (سورة البقرة ، تفسير الآية ٣٠).

(٧) عبد الرحمن حسن حبنكة الميدانى : الأخلاق الإسلامية وأسسها ١ / ٣٤٢ بتصرف.

(٨) د. عبد الحى الفرماوى : صحوة فى عالم المرأة ص ١٠١.

(٩) د. أحمد إبراهيم مهنا : مقومات الإنسانية فى القرآن الكريم ص ٩ بتصرف ، نشر : مجمع البحوث الإسلامية.

(١٠) د. أحمد إبراهيم مهنا : مرجع سابق ص ١٩ ، الإنسان فى القرآن الكريم ص ٩٧.

(١١) عبد الرحمن حبنكة : مرجع سابق ١ / ٣٣٦. بتصرف يسير.

(١٢) أخرجه البخارى : كتاب «بدء الخلق» ، مسلم : كتاب «القدر».

(١٣) محمد بسام رشدى الزين : المعجم المفهرس لمعانى القرآن العظيم.

(١٤) د. أحمد إبراهيم مهنا : مقومات الإنسانية ص ١٠.

(١٥) أخرجه البخارى : ك التفسير ، باب سورة الروم ، مسلم : ك القدر ، باب معنى كل مولود .. إلخ.

(١٦) انظر : عبد الرحمن حبنكة : مرجع سابق ، محمد فؤاد عبد الباقى : مرجع سابق ، محمد بسام رشدى : مرجع سابق.

(١٧) عبد الرحمن حبنكة : مرجع سابق ١ / ١٨٦ وما بعدها باختصار.

(١٨) د. يوسف القرضاوى : الإخوان المسلمون «سبعون عاما فى الدعوة والجهاد والتربية» ص ١٨٧ وما بعدها باختصار .. نشر مكتبة وهبة ـ القاهرة.

(١٩) أخرجه البخارى : كتاب «بدء الخلق» ، باب «صفة إبليس».

(٢٠) د. عبد الحى الفرماوى : المسلمون بين الأزمة والنهضة ص ٣٦ وما بعدها ، نشر دار التوزيع والنشر الإسلامية.

(٢١) عبد الرحمن حبنكة : مرجع سابق ١ / ١٧٣ وما بعدها.

(٢٢) أخرجه مسلم : كتاب الزكاة ، باب كراهية الحرص على الدنيا.

(٢٣) د. عبد الحى الفرماوى : الموت فى الفكر الإسلامى ص ١٩ ، نشر : دار الاعتصام ـ القاهرة.

(٢٤) أخرجه البخارى : كتاب الرقاق باب ٤١ ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء ، والترمذى : كتاب الزهد باب ٤٠ وابن ماجة : كتاب الزهد ، باب ذكر الموت.

(٢٥) الإمام الغزالى : الموت وأحوال القيامة ص ٢٢ ، ٢٣ (تحقيق د. عبد الحى الفرماوى نشر : دار الاعتصام ـ القاهرة).

(٢٦) د. عبد الحى الفرماوى : زاد الدعاة ٢ / ٢٨٥.

(٢٧) ابن القيم : الروح ص ٨٨.

(٢٨) محمد بن جرير الطبرى : جامع البيان عن تأويل آى القرآن (سورة المؤمنون ، تفسير الآية ١٠٠).

٨٠٧

حجية السنن الإلهية

(١)

فى رحاب القرآن الكريم

القرآن كلام الله سبحانه وتعالى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (١) ومنه تستمد الأحكام فى نطاق العقيدة والشريعة ، وفى أعطافه تنظيم أحوال الخلق فى دنياهم وأخراهم ، لأنه سبيل الهداية ومنهج الرشد ، وقد جعله الله تعالى آية على صدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الرسالة الخاتمة التى حمّلها الله إياه فى كمال صدقها وإعجاز وسطيتها ، وتمام إبلاغها عن رسالات الله إلى من سبقه من الأنبياء والمرسلين ، وكتبهم التى أنزلها الله عليهم ، وأخبارهم مع من آمنوا معهم ومن كفروا برسالة خالقهم (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (٢)

والقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى عليها بنيت رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهى الرسالة الخالدة الخاتمة طبقا لنص الآية الكريمة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٣)

هذا المعنى يردده عدد من العلماء الذين عنوا بالدراسات القرآنية ـ ونعنى به المعجزة الكبرى أو الوحيدة ـ ويضيفون القول : بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أيّد بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت فى أوقات وأحوال ومناسبات خاصة ، ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا (هكذا) ، ثم يضيف هذا الفريق قائلا : وأما القرآن فهو معجزة عامة ، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة. (٤)

وهذا القول فيما يتصل بمعجزة القرآن الكريم صواب لا يحتمل الجدل أو النقاش ، ولكن ثمة خشية فيما يتصل بالمعجزات الأخرى الكثيرة ، أن يؤدى ذلك إلى التقليل من شأنها أو التهوين من قيمتها مثل معجزات النصر ، ومعجزة الإسراء والمعراج خصها المولى بسورتين كاملتين هما سورة الإسراء وسورة النجم ، على النحو الذى سوف نعرض له فى الفصول القادمة من هذه الدراسة بإذن الله.

إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ والقرآن وحيه وكلامه ـ يزكى كتابه العزيز فى كثير من الآيات ، ويرفع من قدره مع التسليم بتلك

٨٠٨

الحقيقة من رفعة القدر فى آيات أخرى كثيرة ، ويجعل منه قسما ـ بفتح السين ـ على صدقه فى مواقع عدة ، ثم يتحدى الذين لم يؤمنوا به بآيات تخذلهم وتسفه كفرهم به ، الأمر الذى يفحمهم ويؤدى إلى إيمان فريق كبير منهم بصدقه وقدسيته ، وأنه كلام منزل من رب العالمين.

وإن كل من يمسك المصحف بيديه يقع بصره أول ما يقع على قول الله جل وعز :

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). (٥)

فى هذه الآيات الأربع القصيرة شحنة نفسية من تكريم رب العالمين وتعزيزه وتقديسه لكتاب رب العالمين ، فلا يمسه إلا المطهرون ، الأمر الذى نزه الله به كتابه العزيز من أن يمسه بيديه إنسان على غير طهارة لأنه تنزيل منه نفيس كريم.

ولما كان القرآن الكريم كتابا ربانيا يهدى من الضلال إلى الإيمان ومن الشك إلى اليقين ، فإن هذه القيم تجىء واضحة جلية فى قول الحق سبحانه : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً). (٦)

وفى السورة نفسها تتكرر النفحات الإلهية فى تعزيز القرآن الكريم ووصفه بأعز وصف وأكرم توصيف فى قوله جلّ وعزّ :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٧)

ويتولى التعزيز الإلهى فى بلاغة إعجازية ؛ لتثبيت النفحات الربانية التى تضمنها الكتاب العزيز حاملة الإنذار لسكان مكة ومن حولها ، لأن القرآن الكريم نزل أول ما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غار حراء فى جبل النور فى الطرف الشمالى لمكة ، فيقول الحكيم الخبير سبحانه :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ). (٨)

إن أهل مكة ومن حولها عرب خلّص ذوو بلاغة ، وأصحاب فصاحة وأرباب بيان ، يتذوقون حسن القول ، ويتعشقون بديع الكلام ، فقد شاءت إرادة الخالق منزل الكتاب أن يغلق على أهل مكة كل باب ينكرون من خلاله صدق القرآن ، وأن يسقط كل حجة يتذرعون بها للشك فى جلالة هذا الوحى ، الذى يسمعونه من محمد الذى أجمعوا على وصفه بالأمين ، فجاءت الآية الكريمة ملبّية لملكاتهم البليغة فيما لو صدقوا النية ، ولسجيتهم الفصيحة متى أخلصوا العزم قال عزوجل :

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

٨٠٩

(٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه الآيات الثلاث مسبوقة بتوكيد إلهى بأن هذا الكلام منزل من عند الله ، وذلك فى قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). (٩)

ولتمكين هذه الحقائق فى أسماع كفار قريش ، المعروفة بالفصاحة وذلك بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال له أبو بكر الصديق متسائلا : ما رأينا الذى هو أفصح منك يا رسول الله!! فكانت إجابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تساؤل أبى بكر : «لأنى ولدت فى قريش وربيت فى بنى سعد» والمعنى النبوى : أن كلا من قريش وبنى سعد أفصح القبائل وكانت نشأة رسول الله فيهما طفلا وصبيا فى الأولى وشابا ويافعا ثم كهلا فى الثانية ، ومن هنا كان وصف القرآن فى الآية الكريمة (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حجة على قريش وتحديا غير مباشر لفصحائهم بخاصة ، ولجمهرتهم بعامة.

ويتكرر فى الكتاب العزيز التوصيف الإلهى للقرآن الكريم بأنه منزل بالعربية فى قول الله جل وعز : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٠) وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١١) وقد استهلت سورة الزخرف التى وردت فيها هذه الآية بقسم عظيم هو قوله تعالى : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ثم كانت الآية التالية : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) والآيتان الأخيرتان : آية يوسف وآية الزخرف متشابهتان شكلا وصوغا ، متباينتان هدفا وغرضا ، فآية يوسف (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فيها تحدّ غير مباشر لكفار قريش ، وأما آية الزخرف فهى (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ولفظ جعلناه يحمل تحديا مباشرا لمنكرى أن الكتاب العزيز منزل من عند الله رغم القسم الإلهى ب (الْكِتابِ الْمُبِينِ).

أما وقد استبد المخاطبون من العرب بفساد الرأى وقبح الإنكار فقد تحداهم منزل الكتاب ـ سبحانه ـ أن يعارضوه بما يماثله بلاغة أو يعدله حكمة وبيانا ، فنزل قوله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). (١٢)

فلم يستجيبوا بطبيعة الحال ، ليس عنادا وعصبية هذه المرة ، ولكن عجزا وقصورا وخذلانا ، فيعطيهم منزل الكتاب العلىّ الكبير مزيدا من التيسير بعد أن يعطيهم مزيدا من التأكيد على أن الكتاب كتابه ، وأن الكلام

٨١٠

كلامه فيوحى إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى :

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (١٣)

ثم يتبع المولى هذه الحجة البالغة بحجة أخرى تخرس الكفار فيما يخرصون وتلجم ألسنتهم عما يكذبون فينزل قوله تعالى :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). ثم تتم الآية التالية كمال صيغة التحدى بقوله عزوجل :

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (١٤).

ويجتهد القاضى عياض ـ إمام المغرب ـ فى تعليل إنكار المنكرين بقوله : «فلم يزل يقرعهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم فى كل هذا ناكصون عن معارضته محجومون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء والافتراء وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) و (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) و (إِفْكٌ افْتَراهُ) و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقد قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فما فعلوا وما قدروا. ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم ، ولما سمع الوليد بن المغيرة ـ وهو من فصحائهم ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) النحل : ٩٠ قال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، وما هو بكلام بشر. وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) الحجر : ٩٤ فسجد ، وقال : سجدت لفصاحة هذا الكلام ، وكان موضع التأثير فى هذه الجملة هو كلمة «اصدع» فى إبانتها عن الدعوة والجهد بها والشجاعة فيها ، وكلمة «بما تؤمر» فى إيجازها وجمعها. وسمع آخر رجلا يقرأ :

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (١٥). قال :

«أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام» (١٦).

وفى مقام إعجاز القرآن وحقيقة كونه لا يماثله كلام بشر ، وأنه كلام رب العالمين الذى لا يجاريه كلام مخلوق ، الحديث الذى تمثل به الشيخ ابن عاشور فى المقدمة العاشرة :

ما رواه مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة ـ أى سورة الفاتحة ـ بينى وبين عبدى نصفين ، ولعبدى ما سأل ، فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال الله تعالى : حمدنى عبدى. وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال الله تعالى : أثنى علىّ عبدى ، وإذا قال :

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال : مجّدنى عبدى

٨١١

(وقال مرّة : فوّض إلىّ عبدى) فإذا قال :

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال : هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل ، فإذا قال :

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، قال : هذا لعبدى ولعبدى ما سأل» (١٧).

وفى تلك الدراسة القيمة التى أعدها الشيخ الطاهر بن عاشور عن إعجاز القرآن وعن كونه كلام الله وليس كلام بشر ، يضرب أمثلة عديدة لشهادة بعض عتاة الكفر قبل أن يسلموا مثل الوليد بن المغيرة ـ وقد أوردنا له فيما سلف وصفا للقرآن ـ ومثل عتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وغيرهم. وكان الوليد بن المغيرة يذهب متخفيا بليل إلى بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتسمع تلاوة الرسول للقرآن الكريم ـ وكذلك يفعل أقرانه دون أن يخبر أحدهم زميله للغرض نفسه ـ فلما استمع الوليد إلى قراءة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والله ما هو بكاهن ، وما هو بزمزمته ولا سجعه ، وقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه ، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه ، ما هو بشاعر».

وكذلك فعل أنيس بن جنادة الغفارى أخو أبى ذر حين اتجه إلى مكة ليسمع من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبر أخاه أبا ذرّ بما سمع ، وكان أبو ذر مشوقا إلى سماع خبر عن القرآن من مصدر يثق به ، وعن محمد الذى يتنزل عليه هذا القرآن ، فعاد أنيس إلى أخيه ليخبره بما سمع فقال : «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعته على أقراء الشعر ـ أى طرقه ـ فلم يلتئم ، وما يلتئم على لسان واحد بعدى أنه شعر». فأسلم أنيس وأبو ذر (١٨) ، وكان من شأن أبى ذر ما كان من اقترابه من رسول الله ، ومن حب رسول الله له ما قد امتلأت به كتب السيرة والصحاح من كتب الحديث.

لقد برع العرب حين نزول القرآن فى فنون الأدب التى كان الشعر أهمها شأنا وأخطرها أثرا ، كانت لهم الفصاحة فى الخطب والأمثال والمحاورات ، فجاء القرآن بأسلوب جديد صوغا ومحتوى صالحا لأغراض الحياة كلها تضمن الجديد من أغراض فنون القول جميعا : الخطابة والحوار والجدل والقصص والرواية والأخبار عن الأولين وضرب الأمثال وتربية المجتمع الإسلامى تربية رفيعة تصلح شأنه فى الدنيا وتسعد مصيره فى الآخرة.

لقد آمن العرب جميعا بإعجاز القرآن لأنه كلام الله ، كما اعترفوا بعجزهم من محاكاته أو الإتيان بآية واحدة من مثله على النحو الذى فصلناه فيما سلف من قول ؛ ولكن فريقا ممن دخلوا فى الإسلام ، أكثرهم من غير العرب ـ وإن كان الإسلام لا يفرق بين عربى وأعجمى ـ أطلقوا على أنفسهم «أهل العدل» وعرفوا بالمعتزلة ، اخترعوا فرية حول إعجاز القرآن الكريم أطلقوا عليها «الصّرفة» ومعناها أن القرآن ليس معجزا بذاته ولكن سبب إعجازه أن الله صرف العرب عن أن ينشئوا مثله ، وهو رأى فاسد ، ومذهب قبيح ،

٨١٢

فيه تطاول على القرآن الكريم ومنزل القرآن الكريم ـ سبحانه وتعالى ـ وذهبت هذه الفرقة من القرآن مذاهب شتى ، وابتدعوا فتنة عذّب بسببها عدد كبير من كبار علماء المسلمين ومات بعضهم فى السجن ، وهذه الفتنة عرفت بفتنة «خلق القرآن» وتبناها ثلاثة من خلفاء بنى العباس وبعض من شايعهم ، ولكن الله لطف بكتابه وبالمؤمنين من عباده ، والمتقين من علماء دينه ، فلم تستمر بفتنة طويلا ، بل إن المذهب نفسه أصابه الانحلال وانفضّ المؤمنون عن المنادين به ، ولم يبق منه إلا القليل فى فكر عدد محدود من علماء المسلمين المعاصرين. فالقرآن إذن هو كلام الله الذى جعله آية على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حمل الرسالة الخاتمة التى حمّلها المولى إياه والقيام بتبليغها إلى الخلق كافة.

إن القرآن معجز للبشر كافة إعجازا مستمرا موصولا على مر العصور وكرّ الدهور ؛ ومن جملة ما شمله قول أئمة الدين :

أن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين ، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية. (١٩)

ولقد تحقق ذلك فى زماننا هذا بقدر ملحوظ ، ذلك أن عددا غير قليل ممن قرءوا ترجمات معانى القرآن إلى لغاتهم قد آمنوا بقدسيته وأعلنوا إسلامهم وعملوا فى بلدانهم فى مجال التبشير بالإسلام ، ويشاركوننا فى مؤتمراتنا وندواتنا الإسلامية مشاركة فاعلة ولهم الأجر من الله على دعوة قومهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

وما أطيب أن نختم هذا الفصل من الحديث عن بعض معالم القرآن الكريم بقول الله ـ منزل القرآن ـ عزوجل : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). (٢٠)

أ. د. مصطفى الشكعة

الهوامش :

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٤٢.

(٢) البقرة الآية ١٤٣.

(٣) سورة الحجر الآية ٩.

(٤) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، المقدمة العاشرة صفحة ١٠٢.

(٥) سورة الواقعة الآيات ٧٧ ـ ٨٠.

(٦) سورة الإسراء الآية ٩.

(٧) الإسراء الآية ٨٢.

(٨) سورة الأنعام الآية ٩٢.

(٩) فصلت الآيات ٢ ـ ٤.

(١٠) يوسف الآية ٢.

(١١) الزخرف الآية ٣.

(١٢) سورة هود الآيتان ١٣ ، ١٤.

(١٣) سورة يونس الآيتان ٣٧ ، ٣٨.

(١٤) سورة البقرة الآيتان ٢٣ ، ٢٤.

(١٥) الضمير فى استيأسوا يعود على أخوة يوسف.

(١٦) كتاب الشفا للقاضى عياض صفحة ٥٦.

(١٧) تفسير التحرير والتنوير : المقدمة العاشرة صفحة ١٠٨.

(١٨) المصدر السابق صفحة ١١٤.

(١٩) تفسير الشيخ الطاهر بن عاشور المقدمة العاشرة صفحة ١٠٥.

(٢٠) المائدة الآية ٤٨.

٨١٣

(٢)

مفهوم السنن الإلهية لغة ومصطلحا

إن مادة «سنن» وردت فى القواميس والمعاجم متعددة المعانى وافرة المدلولات ، متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا أخرى كثيرة ، وإن استعراضها على النحو المفصل الذى ورد فى المعاجم ليس من الفائدة فى شىء فى هذا المقام ، أو بالأحرى فى هذه الدراسة التى ينحصر البحث فيها فى السنن الإلهية.

يقول الفيروزآبادى : السنة ـ بضم السين ـ السيرة والطبيعة ، ومن الله حكمه وأمره ونهيه ، ويجيء صاحب المعجم بشاهد من الآية ٥٥ من سورة الكهف فى قوله تعالى :

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الكهف : ٥٥ أى معاينة العذاب. وسنن الطريق ـ مثلثة وبضمتين ـ نهجه ووجهته (١).

ويقول الراغب الأصفهانى : السنن جمع سنة ، وسنة الوجه طريقته ، وسنة الله تعالى قد تقال لطريق حكمته نحو : (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (الآية ٤٣ من سورة فاطر) وهو تنبيه أن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها ، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل ـ وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره. (٢)

ويعرض معجم ألفاظ القرآن الكريم المادة على النحو الآتى :

سنة الأولين : طريقهم وسيرتهم ويردف قوله بالشاهد من القرآن الكريم فى قوله تعالى فى الآية ٣٨ من سورة الأنفال : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ).

وسنة الله نظامه يجريه فى خلقه كما يريد :

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٣) (الأحزاب : ٣٨).

وسنة من قد أرسلنا : طريق الله فيمن أرسلهم (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً). (٤)

٨١٤

سنن : جمع سنة : سير وطرق : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران :١٣٧) (٥) (٦)

هذا عرض موجز لمعنى السنن الإلهية طبقا لما أوردته أهم المعاجم التى عنيت بالمصطلحات القرآنية ومن بينها بطبيعة الحال السنن الإلهية.

وبرغم وصفنا لما عرضناه ـ مستمدا من المعاجم بإيجاز ـ فإن ما أوردته المعاجم نفسها فى هذه القضية كان بدوره شديد الإيجاز ، وقد كان من المأمول أن يكون تناول المعاجم لمثل هذه المصطلحات القرآنية الهامة أكثر تفصيلا وأوفر تمثيلا ، ذلك أن بعض المعاجم بل أكثرها كان يكتفى بذكر جزء مقتطع من الآية القرآنية الخاص بالمصطلح.

من ذلك على سبيل المثال : ما أورده معجم ألفاظ القرآن حين تمثل بالآية رقم ١٣٧ من سورة آل عمران ، ظنا من مؤلفيه أن مجرد ذكر الآية كافيا للوفاء ببيان المصطلح ، مع أن التناول الذى يفى بالغرض هو التمثيل بالآية وما

تلاها من آيات أخر ، وذلك فى قول الله جل ثناؤه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ثم يكمل : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). (٧)

إن الآيات الأربع تشمل عدة سنن إلهية وليس سنة واحدة ، ومثلما أن الآيات اللاحقة تحقق استكمالا لنوعية السنن الإلهية وأغراضها فكذلك الحال ـ لمن يريد استيفاء هدفه فى هذا الشأن ـ أن يهتم بالآيات السابقة على آية «السنة» فى مثل قوله تعالى :

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٨) فالآية مسبوقة بآيات ثلاث طوال فى النكاح ومواطن تحريمه وهى الآيات رقم ٢٣ ـ ٢٥ وفيها يقول المولى سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ

٨١٥

النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

بهذا المنهج يتحقق بيان السنة أو السنن التى ذكرت فى الآية ٢٦ السالف ذكرها.

وفى مجال دراسة لبعض السنن وإيضاح بعض ما يثار حولها من حوار أو نقاش (٩) فقد حسمها المرحوم سيد قطب بقوله : «قد تأخذنا فى بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الإلهية حتى نرى أن اتّباع القوانين الطبيعية يؤدى إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية ، هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه فى أول الطريق ، ولكنها تظهر حتما فى نهايته ؛ وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامى نفسه ، لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية فى حياته مع القيم الإيمانية ، وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقها ، وظل يهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا». (١٠) ويضيف المصنف قائلا : «إن الوجود ليس موجودا لقوانين إلهية صماء عمياء فهناك دائما ـ وراء السنن ـ الإرادة المدبرة والمشيئة المطلقة».

ومجمل القول عندنا : أن السنن الإلهية إجبارية تجرى على المخلوقات جميعا من أفراد وكائنات ، وأن منهجنا فى هذا البحث محدد بمفهوم «السنن الإلهية» طبقا لتعريفها الذى أوردناه فيما سلف من سطور.

أ. د / مصطفى الشكعة

الهوامش :

__________________

(١) القاموس المحيط مادة سنن الجزء الثالث طبعة مصطفى البابى الحلبى.

(٢) المفردات فى غريب القرآن من مادة السين مع النون طبعة الأنجلو المصرية.

(٣) سورة الأحزاب الآية ٣٨.

(٤) سورة الإسراء الآية ٧٧.

(٥) سورة آل عمران آية ١٣٧.

(٦) معجم ألفاظ القرآن الكريم ، مجمع اللغة العربية ط ، مادة س ن ن صفحة ٦٠١.

(٧) آل عمران الآيات ٣٧ ـ ٤٠.

(٨) النساء الآية ٢٦.

(٩) يراجع فصل هل للتاريخ البشرى سنن فى مفهوم القرآن فى كتاب «المدرسة القرآنية» للسيد محمد باقر الصدر صفحة ٤٣ وما بعدها طبعة بيروت سنة ١٤٠٠ ه‍.

(١٠) فى ظلال القرآن الكريم ١ / ١٧.

٨١٦

(٣)

سنن الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه سبحانه

إن الإيمان بالله ـ سبحانه ـ ربا واحدا لا شريك له ، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو روح الوجود وسنام العقيدة التى على مكوناتها تستقيم شئون الكون كله ، والبشرية جزء منه.

وقد تكفّل كتاب الله ببيان ذلك فى كثير من السور ما كان مكيا فيها وما كان مدنيا ، وتكتمل الوحدانية والتنزيه فى قوله ـ عزوجل ـ فى سورة الإخلاص : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

وكذلك يتجلى التوحيد والتنزيه فى الآية الكريمة من سورة البقرة الآية ٢٥٥ التى اصطلح على تسميتها بآية الكرسى وهو قوله عزوجل : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

وفى الساحة الإيمانية التنزيهية الموحدة يأتى قول الله ـ جل وعز ـ فى سورة الحشر الآية ٢٤ : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فالآية تجمع بين التوحيد وعلم الغيب والشهادة ، والتنزيه بذكر خمسة عشر اسما من الأسماء الحسنى التسعة والتسعين ، ويستطيع المتأمل الراشد أن يتبين كم من صيغ التوحيد والتنزيه مفردة ومجتمعة حفلت بها الآية الكريمة من كتاب الله.

ثم يعظّم من شأن الألوهية وحتمية وجودها : شهادة الخالق ـ جل جلاله ـ مقرونة بشهادة ملائكته وعلماء بنى الإنسان الذين كرّمهم بذكر شهادتهم تالية لشهادته تباركت أسماؤه ، مؤكدة وحدانيته ، وأن الدين عند الله هو الإسلام. يقول الحق تبارك وتعالى فى

٨١٧

هذا الشأن : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١).

ثمت بيان آخر فى الآية حول أهل الكتاب وإصرارهم على كفرهم بعد ما جاءهم من صريح العلم بأن الدين عند الله هو الإسلام وهذا الإصرار مصدره الإصرار على مقام السيادة والرئاسة على قومهم وحسدهم بعضهم بعضا.

وتجىء هذه السنة الإلهية فى صيغة إيمانية فيها مزيد من الشمول وكثير من التفصيل فى قول الله تعالى : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢).

ومن الآيات القرآنية التى تحمل سنن الله فى كمال الإيمان غير المشوب بما يعكر صفوه وينزهه عن الشوائب «آية البر» التى تتجمع فى أعطافها جواهر الإيمان وعناصره الأصيلة التى تجعل ممن يعمل بها مؤمنا بمفرداتها ممارسا لسائرها ، قول الله جل ثناؤه : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣).

إن لهذه الآية طبيعة خاصة فى أنها تنبه إلى فعل الخير وأنه ليس مقصورا على إقامة الصلوات ، وأداء الفرائض وحسب ، وبذلك يظهر المؤمن أنه قد أدى واجبه نحو ربه وأنه أدى ما عليه من دين ، ولكن الأمر أوسع من ذلك بكثير ، إن الأمر يتمثل فى تلك التوجيهات الربانية والتوجيهات الإيمانية التى قدمها القرآن الكريم واضحة المعالم والقسمات ظاهرة المعانى والتفصيلات فى نص تلك الآية الكريمة من سورة البقرة.

أ. د / مصطفى الشكعة

الهوامش :

__________________

(١) سورة آل عمران الآيتان ١٨ ، ١٩.

(٢) سورة آل عمران الآيتان ٨٤ ، ٨٥.

(٣) سورة البقرة ١٧٧.

٨١٨

(٤)

جزاء الإيمان بالله وثوابه

إن الإيمان بالله نعمة كبرى ونفخة مباركة عظمى فإن للمؤمنين حسن الجزاء من الله ، وهو جزاء جميل فى الدنيا وجليل فى الآخرة ، فهو فى الدنيا شعور بحلاوة الإيمان التى تقود إلى العيش فى حياة راضية ونفس مطمئنة ، وسعادة أخرى برضى الناس عنهم والثقة فيهم والتقرب إليهم ، هذا فضلا عن ذلك السياج الصالح الذى تعيش فى إطاره أسرهم من أزواج وأبناء وحفدة وكونهم عنوانا للخير ومثالا للصلاح ، وأما جزاؤهم فى الآخرة فجنات عرضها السموات والأرض أعدها الله لهم ولأمثالهم من المتقين.

ويضرب الله الأمثال لهؤلاء المؤمنين المتقين فى الكثير من آيات كتابه العزيز كما فى قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (١).

إن هذه الآيات المباركات بسلاسة أسلوبها ، وعبق نفحاتها ، وصدق كلماتها ، وإعجاز بيانها ونفاسة محتواها ، وقداسة وعودها ، وجلاء لفظها ، ونضرة وقعها فى الأسماع والقلوب ، كيف لم تطرق أسماع من تليت عليهم طرق المستجيب ووقع المستنير؟ ولكنهم بسبب عمق كفرهم وشراسة إعراضهم (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢).

وفى سورة أخرى من سور سنن مكافأة المؤمنين وحسن جزائهم يقول جل وعز :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)

٨١٩

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٣).

إن مجموعات الآيات التى تحمل سنن الله فى حسن الجزاء يمكن أن نعدها آيات مبشرة معلّمة ؛ لأنها دائما تبشر بعمل الخير ، وتدعو إلى كمال الإيمان والتقوى وصالح الأعمال ، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون صياغتها وألفاظها ذات إلف وإيقاع وحسن تقبل فى الأسماع والقلوب.

ويضم القرآن الكريم عشرات من الآيات المفردة المبشرة بحسن الجزاء بحيث لا تكاد تخلو سورة من آية أو أكثر من هذه الآيات المباركات ، والله ـ سبحانه ـ فضلا منه وكرما ـ يضفى على صياغتها الإلهية ما يجعل لها القبول نفسه الذى تحظى به مجموعات الآيات المتتالية التى نزلت فى هذا الغرض والتى منها على سبيل المثال قوله جل وعز :

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٤).

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (٦).

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٧).

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٩).

أ. د / مصطفى الشكعة

الهوامش :

__________________

(١) سورة فصلت الآيات ٣٠ ـ ٣٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٧.

(٣) سورة الرعد الآيات ١٩ ـ ٢٢.

(٤) سورة التوبة الآية ٧٢.

(٥) البقرة الآية ٢٥.

(٦) سورة النساء ١٢٢.

(٧) سورة إبراهيم الآية ٢٣.

(٨) سورة الحديد الآية ١١.

(٩) سورة القمر الآيتان ٥٤ ، ٥٥.

٨٢٠