الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

الأنثى؟ فالأصح نعم ، خلافا للحنفية ، لنا قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (١١٠) فالتفسير بهما دال على تناول «من» لهما ، وقوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ) (١١١). واختلف فى جمع المذكر السالم هل يتناولهما؟ فالأصح لا ، وإنما يدخلن فيه بقرينة ، أمّا المكسّر فلا خلاف فى دخولهن فيه.

السادس : اختلف فى الخطاب ب «يا أهل الكتاب» هل يشمل المؤمنين؟ فالأصح لا ؛ لأن اللفظ قاصر على من ذكر. وقيل : إن شاركوهم فى المعنى شملهم وإلّا فلا.

واختلف فى الخطاب ب «يأيها الذين آمنوا» هل يشمل أهل الكتاب؟ فقيل : لا ، بناء على أنهم غير مخاطبين بالفروع ، وقيل : نعم ؛ واختاره ابن السمعانى قال : وقوله : «يا أيها الذين آمنوا» خطاب تشريف لا تخصيص (١١٢) أ. ه.

وقوله فى سادس هذه الفروع بما قال من اختيار ابن السمعانى فى نحو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قد فصل الزركشى ـ رحمه‌الله ـ القول فى هذه القضية وكشف فيه عن شبهة ابن السمعانى وأجاب عنها فقال فى كتابه البحر المحيط : (الخامسة : «يعنى من مسائل اشتمال العموم على بعض ما يشكل تناوله» :

الخطاب ب «يأيها المؤمنون» حكى ابن السمعانى فى «الاصطلام» عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم من الكفار لأنه صريح ، ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور ، وأن المؤمنين إنما خصوا بالذكر من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص بدليل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (١١٣) وقد ثبت تحريم الربا فى حق أهل الذمة.

قلت : وفيه نظر ؛ لأن الكلام فى التناول بالصيغة لا بأمر خارج. وقال بعضهم :

لا يتناولهم لفظا ، وإن قلنا : إنهم مخاطبون إلا بدليل منفصل أو من عدم الفرق بينهم وبين غيرهم وإلا كيف يقال بعموم الشريعة لهم ولغيرهم ، وأما حيث يظهر الفرق أو يمكن معنى غير شامل لهم ، فلا يقال بثبوت ذلك الحكم لهم ؛ لأنه يكون إثبات حكم بغير دليل ، والتعلق قدر زائد على الوجوب فلا يثبت فى حقهم بغير دليل ولا معنى (١١٤) أ. ه والله أعلم.

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

١٦١

الهوامش :

__________________

(١) الرحمن : ٢٦.

(٢) الحجر : ٣٠.

(٣) البقرة : ٢٠.

(٤) الحجر : ٤٣.

(٥) الأعراف : ١٥٨.

(٦) سبأ : ٢٨.

(٧) الأحقاف : ١٧.

(٨) الأحقاف : ١٨.

(٩) البقرة : ٨٢.

(١٠) الطلاق : ٤.

(١١) النساء : ١٥.

(١٢) النساء : ١٦.

(١٣) الحجر : ٦.

(١٤) الأنبياء : ٩١.

(١٥) المنافقون : ٧.

(١٦) الإسراء : ١١٠.

(١٧) النمل : ٣٨.

(١٨) مريم : ٦٩ ـ العتى : الطغيان ومجاوزة الحد فى العدوان.

(١٩) البقرة : ١٩٧.

(٢٠) يوسف : ٢٥.

(٢١) الأنبياء : ٩٨.

(٢٢) النساء : ١٢٣.

(٢٣) البقرة : ٢٥٥.

(٢٤) الأنبياء : ١٩.

(٢٥) النساء : ١١.

(٢٦) المؤمنون : ١.

(٢٧) التوبة : ٥.

(٢٨) النور : ٦٣.

(٢٩) البقرة : ٢٧٥.

(٣٠) العصر : ٢ ، ٣.

(٣١) البقرة : ٢٢.

(٣٢) النساء : ٢٠. وهذا خير من تمثيل السيوطى بقوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) لما سيأتى.

(٣٣) الحجر : ٢١.

(٣٤) البقرة : ٢.

(٣٥) البقرة : ١٩٧.

(٣٦) التوبة : ٦.

(٣٧) الفرقان : ٤٨.

(٣٨) الأعراف : ٥٦.

(٣٩) مريم : ٦٤.

(٤٠) الإسراء : ٢٣.

(٤١) الأعراف : ١٣٢.

(٤٢) آل عمران : ١٠١.

(٤٣) آل عمران : ٦.

(٤٤) النساء : ٧٨.

(٤٥) التكوير : ٢٦.

(٤٦) الحديد : ٤.

(٤٧) البقرة : ٢٤٧.

(٤٨) آل عمران : ٣٧.

(٤٩) البقرة : ٢٢٣.

(٥٠) البقرة : ١٥٠.

(٥١) يونس : ٤٨.

(٥٢) الأعراف : ١٨٧.

(٥٣) الكهف : ١٩.

(٥٤) الأعراف : ٤.

(٥٥) الشعراء : ٧.

(٥٦) آل عمران : ١٤٦.

(٥٧) الحج : ١.

(٥٨) المائدة : ٣.

(٥٩) هى بيع الرطب على النخل بخرصها تمرا على الأرض ممن يتقن الخرص ، والتقدير بحسب الإمكان : أرخص فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعذر كما فى حديث الصحيحين وغيرهما. أنظر بلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلانى وشرحه سبل السلام لمحمد بن إسماعيل الصنعانى ج ٣ من ص ٥٨ إلى ص ٦٠.

(٦٠) المائدة : ٩٧.

(٦١) يونس : ٤٤.

(٦٢) الكهف : ٤٩.

(٦٣) فاطر : ١١.

(٦٤) غافر : ٦٤.

(٦٥) النساء ٢٣.

(٦٦) آل عمران : ١٧٣.

(٦٧) آل عمران : ١٧٥.

(٦٨) النساء : ٥٤.

(٦٩) البقرة : ١٩٩.

(٧٠) طه : ١١٥.

(٧١) آل عمران : ٣٩.

(٧٢) أنظر تفسيره ج ١ ص ٢٤٢.

(٧٣) فتح البارى ج ٣ ص ٥١٧. فما بعدها.

(٧٤) البقرة : ٢٠٣.

(٧٥) القصص : ٨٨. والمراد من الوجه الذات أو العمل الصالح الذى أريد به وجهه تعالى.

(٧٦) النساء : ٢٣.

(٧٧) النور : ٣٣.

(٧٨) البقرة : ١٨٠.

(٧٩) البقرة : ١٨٧.

(٨٠) آل عمران : ٩٧.

(٨١) البقرة : ٢٢٨.

(٨٢) الأحزاب : ٤٩.

(٨٣) الطلاق : ٤.

(٨٤) المائدة : ٣.

(٨٥) المائدة : ٩٦.

(٨٦) الأنعام : ١٤٥.

(٨٧) النساء : ٢٠.

(٨٨) البقرة : ٢٢٩.

(٨٩) النور ٢.

(٩٠) النساء : ٢٥. والمقصود الإماء المتزوجات إن أتين بفاحشة الزنا فعليهن نصف ما على الحرائر الأبكار من العذاب ، أى خمسون جلدة نصف حد الحرة البكر كما هو مقرر فى محله من كتب الفقه والتفسير. وخص أيضا عموم الآية المحصن بالسنة فحده الرجم ، وسيأتى فيه تخصيص آخر بالقياس.

(٩١) النساء : ٣.

(٩٢) النساء : ٢٣.

(٩٣) البقرة : ٢٧٥.

١٦٢

__________________

(٩٤) قال فى اللسان : «فى حديث أنه رخص فى العرية والعرايا ، قال أبو عبيد : العرايا واحدتها عرية ، وهى النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا.

والإعراء أن يجعل له ثمر عامها. والمقصود : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص لهم فى بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض. حرصا وتقديرا حسب الإمكان ، كما فى حديث الصحيحين وغيرهما. وانظر بلوغ المرام للحافظ ابن حجر وشرحه سبل السلام للصنعانى ج ٥٨ إلى ص ٦٠.

(٩٥) البقرة : ٢٢٨.

(٩٦) أى فعدتها قرآن.

(٩٧) الفرقان : ٤٨.

(٩٨) المائدة : ٣٨.

(٩٩) النور : ٢.

(١٠٠) النساء : ٢٥.

(١٠١) التوبة : ٢٩.

(١٠٢) البقرة : ٢٣٨.

(١٠٣) النحل : ٨٠.

(١٠٤) التوبة : ٦٠.

(١٠٥) الحجرات : ٩.

(١٠٦) الانفطار : ١٣ ، ١٤.

(١٠٧) المؤمنون : ٥ ، ٦.

(١٠٨) النساء : ٢٣.

(١٠٩) التوبة : ٣٤.

(١١٠) النساء : ١٢٤.

(١١١) سورة الأحزاب : ٣١.

(١١٢) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى : ج ٣ من ص ٤٨ إلى ص ٥٨.

(١١٣) البقرة : ٢٧٨.

(١١٤) البحر المحيط فى أصول الفقه ، لبدر الدين الزركشى : (ج ٣ ص ١٨٣).

١٦٣

مطلق القرآن ومقيده

أولا : ما هو المطلق :

هو لغة : (التحرر من القيد). واصطلاحا :

(اللفظ الدال على الماهية بلا قيد من وحدة أو غيرها) كذا عرّفه ابن السبكى وغيره.

وبعضهم يقيد الماهية فيقول : (الماهية من حيث هى). ويتساوى فى ذلك جعلنا الماهية المقرونة بالعوارض عين هوية الموجود فى الخارج ، فتصير الإنسانية هى عين هوية المشخص (محمد) ، أو جعلنا الماهية جزءه ـ كاختيار بعض الحكماء ـ ففي الحالتين يكون طلب المطلق من العبد شرعا بأن قال له الشارع : اعتق رقبة ، فإن هذا المطلق يتحقق فى فرد ذى هوية مخصوصة ؛ لأن الماهية المجردة من المشخصات لا يمكن طلبها من العبد ؛ لعدم تمكنه من تحصيلها فى الخارج إلّا بالهوية المخصوصة فى فرد خارجى.

وعليه لم تكن هناك حاجة لعدول الآمدى لتعريفه المطلق بأنه (لنكرة فى الإثبات) ، وعدول تلميذه إلى تعريفه بأنه : (ما دلّ على شائع فى جنسه) ؛ لأن ما قالاه أمر كلى ذهنى لا يحصل فى الخارج مجردا ، ولأن التعريفات وضعت للوصول للحقيقة لا لما فى الخارج.

وقد أحسن صاحب «الكشف» فى تفريقه بين بعض الألفاظ فقال : «الماهية فى ذاتها لا واحدة ولا متكثرة ، واللفظ

الدال عليها من غير تعرض لقيد ما هو المطلق ، ومع التعرض لكثرة معينة هو اسم العدد ، وغير معينة هو العام ، ولوحدة معينة هو المعرفة ، ولوحدة غير معينة هو النكرة».

ثانيا : حكم المطلق مع المقيد :

الأقسام الممكنة فى مسألة حمل المطلق على المقيد أو عدمه تأتى من النظر إلى الحكم والسبب فى المطلق والمقيد ، وهما :

المطلق والمقيد إما أن يتفقا فى الحكم والسبب ، وإما أن يختلفا فيهما ، وإما أن يتفقا فى الحكم ويختلفا فى السبب ، أو العكس ، فالأقسام أربعة ، وكل قسم منها إمّا أن يكون المطلق والمقيد مثبتين وإمّا منفيين وإما أحدهما مثبتا والآخر منفيا. فمجموع

١٦٤

الأقسام : اثنا عشر قسما من ضرب أربعة فى ثلاثة. فما اختلفا فيه فى الحكم والسبب فلا يحمل المطلق على المقيد فيه باتفاق. وبهذا ذهبت أقسام ثلاثة وبقيت تسعة ، يظهر الحكم فيها من كلام ابن السبكى وشارحه «المحلى» ، مع ملاحظة حمل ما لم يذكر من هذا الفصل على ما ذكر. قالا رحمهما‌الله :

«مسألة المطلق والمقيد كالعام والخاص» فما جاز تخصيص العام به يجوز تقييد المطلق به وما لا فلا. فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب وبالسنة ، والسنة بالكتاب والسنة ، وتقييدهما بالقياس والمفهومين وفعل النبى عليه الصلاة والسلام وتقريره ، بخلاف مذهب الراوى ، وذكر بعض جزئيات المطلق على الأصح فى الجميع. (و) يزيد المطلق والمقيد «أنهما إن اتحد حكمهما وموجبهما» بكسر الجيم أى سببهما «وكانا مثبتين» كأن يقال فى كفارة الظهار : أعتق رقبة مؤمنة «وتأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق فهو» أى المقيد «ناسخ» للمطلق بالنسبة إلى صدقه بغير المقيد «وإلا» بأن تأخر عن وقت الخطاب بالمطلق دون العمل أو تأخر المطلق عن المقيد مطلقا أو تقارنا أو جهل تاريخهما «حمل المطلق عليه» أى : على المقيد جمعا بين الدليلين. «وقيل المقيد ناسخ» للمطلق «إن تأخر» عن وقت الخطاب به كما لو تأخر عن وقت العمل به بجامع التأخر ، «وقيل : يحمل المقيد على المطلق» بأن يلغى القيد ؛ لأن ذكر المقيد ذكر الجزئى من المطلق فلا يقيده ، كما أن ذكر فرد من العام لا يخصصه.

قلنا : الفرق بينهما أن مفهوم القيد حجة بخلاف مفهوم اللقب الذى ذكر فرد من العام منه ـ كما تقدم ـ «وإن كانا منفيين» يعنى :

غير مثبتين (منفيين أو منهيين) نحو لا يجزى عتق مكاتب. لا يجزى عتق مكاتب كافر ، لا تعتق مكاتبا ، لا تعتق مكاتبا كافرا «فقائل المفهوم» أى القائل بحجية مفهوم المخالفة وهو الراجح «يقيده به» أى يقيد المطلق بالمقيد فى ذلك «وهى» أى المسألة حينئذ «خاص وعام» لعموم المطلق فى سياق النفى ، ونافى المفهوم يلغى القيد ويجرى المطلق على إطلاقه «وإن كان أحدهما أمرا والآخر نهيا» نحو : أعتق رقبة ، لا تعتق رقبة كافرة ، أعتقا رقبة مؤمنة ، لا تعتق رقبة «فالمطلق مقيد بضد الصفة» فى المقيد ليجتمعا ، فالمطلق فى المثال الأول مقيد بالإيمان ، وفى الثانى مقيد بالكفر «وإن اختلف السبب مع اتحاد الحكم» كما فى قوله تعالى فى كفارة الظهار : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)

١٦٥

وفى كفارة القتل : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

فقال أبو حنيفة : «لا يحمل المطلق على المقيد فى ذلك لاختلاف السبب ، فيبقى المطلق على إطلاقه» ، «وقيل يحمل» عليه «لفظا» أى بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع. وقال الشافعى رضي الله عنه يحمل عليه «قياسا» فلا بد من جامع بينهما ، وهو فى المثال المذكور حرمة سببهما ، أى : الظهار والقتل «وإن اتحد الموجب» فيهما واختلف حكمهما» كما فى قوله تعالى فى التيمم :

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) وفى الوضوء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) والموجب لهما الحدث واختلاف الحكم من مسح المطلق وغسل المقيد بالمرافق واضح «فعلى الخلاف» من أنه لا يحمل المطلق على المقيد ، أو يحمل عليه لفظا أو قياسا وهو الراجح والجامع بينهما فى المثال المذكور اشتراكهما فى سبب حكمهما «والمقيد» فى موضعين «بمتنافيين» وقد أطلق فى موضع كما فى قوله تعالى فى قضاء أيام رمضان : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وفى كفارة الظهار (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) وفى صوم التمتع (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) «يستغنى» فيما أطلق فيه «عنهما إن لم يكن أولى بأحدهما من الآخر قياسا» كما فى المثال المذكور بأن يبقى على إطلاقه لامتناع تقييده بهما لتنافيهما ، وبواحد منهما لانتفاء مرجحه فلا يجب فى قضاء رمضان تتابع ولا تفريق ، أما إذا كان أولى بالتقييد بأحدهما من الآخر من حيث القياس كأن وجد الجامع بينه وبين مقيده دون الآخر قيد به بناء على الراجح من أن الحمل قياس ، فإن قيل : لفظى. فلا.

وقول ابن السبكى ـ رحمه‌الله ـ فى شأن ما اتحد فيه السبب والحكم واختلف المطلق والمقيد نفيا وإثباتا : «فالمطلق مقيد بضد الصفة» علق عليه العلامة الشربينى فقال :

«ظاهره أنه لا نسخ هنا ، وإن تأخر المقيد عن وقت العمل ، والظاهر خلافه ، فلعل معناه : أنه مقيد بضد الصفة ، ثم إن تأخر عن العمل كان نسخا وإلا كان تقييدا» أه.

ثم لا يخفى بعد هذا على فطانة القارئ الكريم أن شأن ما اختلف فيه السبب دون الحكم أو الحكم دون السبب شأن ما اتحدا فيه من حيث تفصيل الإثبات والنفى لكن مع بعض فروق طفيفة تطلب من مراجعة تقريرات العلامة الشربينى فى هذا المقام (١) أه.

١٦٦

بقى أن يقف القارئ الكريم على ثانى التنبيهين اللذين ختم بهما السيوطى حديثه الموجز عن هذا النوع من علوم القرآن. قال رحمه‌الله : «ما تقدم : يعنى من حمل المطلق على المقيد وعدمه ـ محله ، إذا كان الحكمان بمعنى واحد ، وإنما اختلفا فى الإطلاق والتقييد ؛ فأما إذا حكم فى شىء بأمور ، ثم فى آخر ببعضها ، وسكت فيه عن بعضها ، فلا يقتضى الإلحاق ، كالأمر بغسل الأعضاء الأربعة فى الوضوء وذكر فى التيمم عضوين ، فلا يقال بالحمل ، ومسح الرأس والرجلين بالتراب فيه أيضا ، وكذلك ذكر العتق والصوم والإطعام فى كفارة الظهار ، واقتصر فى كفارة القتل على الأولين ، ولم يذكر الإطعام ، فلا يقال بالحمل وإبدال الصيام بالطعام (٢)» أه.

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

الهوامش :

__________________

(١) انظر : المصدر نفسه (ص ٤٨ ـ ص ٥٢).

(٢) الإتقان فى علوم القرآن (ج ٣ ص ١٠٣).

١٦٧

مجمل القرآن ومبينه

أولا : المجمل :

لغة : اسم مفعول من أجمل الشيء (إذا جمعه حتى اختلط بعضه ببعض فلم تتضح تفاصيله). واصطلاحا : (ما لم تتضح دلالته).

فقولهم : (ما) يدخل فيها مع اللفظ الفعل والتقرير ، ويخرج المهمل لعدم دلالته أصلا.

وسنعرض لبعض مسائل الإجمال :

إحداها : أسباب الإجمال :

وقد أجمل السيوطى فى «الإتقان» أسباب الإجمال فى ما ملخصه : أن من أسباب الإجمال : (الاشتراك) كما فى قوله تعالى :

(ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (١). فإن القرء موضوع للطهر والحيض.

ومنها : (الحذف) كما فى قوله تعالى :

(وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) (٢) فيحتمل المحذوف أن يكون (فى) أو (عن).

ومنها : (اختلاف مرجع الضمير) نحو :

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٣) فالضمير فى يرفعه يحتمل عوده على الضمير فى (إليه) العائد عليه ـ سبحانه وتعالى ـ ويحتمل أن يعود للعمل.

ومنها : (احتمال العطف والاستئناف) نحو قوله تعالى : (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) (٤).

ومنها : (غرابة اللفظ) نحو : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) (٥).

ومنها : (عدم كثرة الاستعمال الآن) نحو :

(ثانِيَ عِطْفِهِ) (٦) أى متكبرا.

ومنها : (التقديم والتأخير) نحو :

(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) (٧) أى :

يسألونك عنها كأنك حفىّ.

ومنها : (قلب المنقول) نحو : (وَطُورِ سِينِينَ) (٨) أى : سيناء.

ومنها : (التكرير القاطع لوصل الكلام فى الظاهر) نحو : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (٩) (١٠) أه. ملخصا. واضح مما عرضنا من أسباب الإجمال نسبية هذه

١٦٨

الأسباب حتى إنها قد يتلاشى الإجمال فى بعضها.

ثانيها : هل المجمل واقع فى القرآن؟ :

يتضح من الأمثلة السابقة عند عرض أسباب الإجمال وقوع المجمل فى القرآن خلافا لدواد الظاهرى. ولكن هل يبقى على إجماله؟ خلاف بين العلماء ، والصواب عندى :

أنه لا يكون كذلك ، على ما أثبتناه من أن الحق فى المتشابه علم الراسخين بتأويله ، وقيل : يبقى مطلقا ، وقيل : لا يبقى فى مواطن التكليف. وكل هذا ضعيف سوى الأول.

ثالثها : آيات اختلف فيها هل من قبيل المجمل أم المبين؟

ذكر السيوطى نماذج : منها : آية السرقة قيل : مجملة ؛ لأن اليد تطلق على العضو إلى الكوع وإلى المرفق وإلى المنكب ، ولا ظهور لواحد منها ، وأبان الشارع المراد ، وقيل : لا إجمال فيها ؛ لأن القطع ظاهر فى الإبانة.

ومنها (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) (١١) قيل : إنها مجملة لترددها بين مسح الكل والبعض ، ومسح الشارع على الناصية مبين ، وقيل : لا ، إنما هى لمطلق المسح الصادق بأقل مسح.

ومنها : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (١٢) بنسب الحرمة للعين ، ولا حرمة فيها ، فهى مجملة ؛ لأنه لا بدّ من تقدير لفعل وهو محتمل. وقيل : لا ، لوجود المرجح وهو العرف بتحريم الاستمتاع.

ومنها : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (١٣) قيل : مجملة ؛ لأن ما من بيع إلا وفيه زيادة ، وقيل : لا ؛ لأن البيع منقول شرعا فحمل على إطلاقه وعمومه.

ومنها : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (١٤) و (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (١٥).

والآيات التى فيها الأسماء الشرعية لاحتمال إرادة معانيها اللغوية فافتقرت للبيان ، وقيل : لا ، بل تحمل على الشرعية إلا بدليل.

رابعها : التفرقة بين المجمل والمحتمل لمعنيين :

فرق بينهما ابن الحصار (١٦) ـ بعد أن ذكر أن من الناس من ساوى بينهما ـ بأن المجمل :

اللفظ المبهم الذى لا يفهم المراد منه ، والمحتمل : الواقع بالوضع الأول على معنيين مفهومين فصاعدا. والمجمل يدل على أمور معروفة ، والمحتمل متردد بينها ، والشارع لم يفوض لأحد بيان المجمل بخلاف المحتمل (١٧).

١٦٩

خامسها : حكمة إيراد المجمل :

الحاصل أن لإيراد المجمل الذى هو أحد قسمى المتشابه فوائد عظيمة منها : حكم الابتلاء وحفز العقول على النظر وتحصيل العلوم ونيل شرف العلم ، والتعرض لنيل درجات علمية من الفضل بقدر ما يبذل من جهد فى التوصل إلى الحق ، ومزيد طمأنينة القلوب بالبرهان على أحقية كون القرآن من عند الله. وقد أشار إلى هذه الفوائد الزمخشرى فى «كشافه» (١٨). ولحجة الإسلام الغزالى والرازى فى تفسيره والقاضى عبد الجبار فى «متشابه القرآن» كلام فى هذه المسألة فيراجع فى رسالتنا «المحكم والمتشابه فى القرآن».

ثانيا : المبيّن :

فى بيان حقيقته : يذكر العضد فى شرحه «لمختصر ابن الحاجب» أن البيان يطلق ويراد به فعل المبين ، وهو التبيين من بان : إذا ظهر وانفصل ، ويطلق ويراد ما حصل به التبيين وهو الدليل ، ويطلق ويراد متعلق التبيين ومحله وهو المدلول. فعرفه الصيرفى بالنظر للأول بأنه : الإخراج من حيز الإشكال إلى التجلى والوضوح (١٩). وأورد على هذا التعريف إيرادات واهية ، وسنعرض فيما يلى بالتفصيل لمسألتين من مسائل هذا المبحث :

أولاهما : بم يقع البيان؟

ذكر الإمام السيوطى ما يقع به البيان بالأمثلة ما ملخصه : أن بيان آى القرآن قد يقع بالمتصل كما وقع لقوله تعالى : (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) بقوله : (مِنَ الْفَجْرِ) (٢٠) ، وقد يكون البيان بالمنفصل كما فى قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (٢١) فقد بيّنه قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢٢) ، فإنه بيّن أن المراد بالطلاق فى الآية الأولى : الذى يملك الرجعة بعده ، ولو لا الآية الثانية لكان الطلاق منحصرا فى الطلقتين.

ثم ذكر الإمام السيوطى أمثلة كثيرة من البيان المنفصل. ثم ذكر أن البيان قد يكون أيضا بالسنة مثل قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٢٣) ، وقوله تعالى :

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قد بينت السنة أفعال الصلاة والحج ومقادير الزكاة فى أنواعها (٢٤).

ثانيتهما : تأخير البيان :

ذكر الإمام ابن السبكى أقوالا فى هذه المسألة ملخصها : أن أولها : يرى أصحابه

١٧٠

عدم وقوع تأخير البيان عن وقت الفعل ، وإن جاز عند المجوزين للتكليف بما لا يطلق.

وثانيها : يرى أصحابه أن تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل واقع وجائز سواء كان مبينا أم مجملا ، قول الجمهور.

وثالثها : يمتنع فى المبين بخلاف المجمل.

ورابعها : يمتنع تأخير البيان الإجمالى فيما له ظاهر دون التفصيلى ، ويجوز فى المجمل تأخيرهما.

وخامسها : يمتنع تأخير البيان فى غير النسخ.

وسادسها : لا يجوز تأخير بعض البيان دون بعض ، لعدم إيهام المخاطب بأن المقدم هو البيان فقط.

ثم اختار الجلال المحلى رأى الجمهور بأن تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل واقع وجائز ، واستدل على الوقوع بالغنيمة فى قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) (٢٥) فإنه عام فيما يغنم خصص بحديث الصحيحين : «من قتل قتيلا فله سلبه». وذكر ابن السبكى أن الحديث كان فى غزوة حنين ، وأن الآية كانت فى بدر. وبيّن أن الأقوال السابقة على القول بالجواز ، أما القول بالمنع من التأخير فالمختار جواز تأخير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم التبليغ إلى وقت الحاجة ، وقيل : لا يجوز لقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٢٦) أى على الفور ، وذكر أن كلام الرازى والآمدى يقتضى المنع فى القرآن ، ولم يقع فى كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما علم أنه كان يسأل فيجيب تارة ويقف انتظارا للوحى أخرى. ثم بين أن المختار على المنع أنه يجوز أن لا يعلم المكلف الموجود بالمخصص بذاته أو بوصفه أنه مخصص. وقيل : لا يجوز فى المخصص السمعى لما فيه من تأخير إعلامه بالبيان ، وفى العقلى اتفقوا على الجواز ، وذكر أنه وقع من بعض الصحابة عدم سماع المخصص السمعى إلّا بعد حين ، كعدم سماع عمر رضي الله عنه ما يخصص المجوس حتى سمع عبد الرحمن بن عوف يخبره عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، وأنه أخذ الجزية (٢٧).

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

١٧١

مصادر للبحث والاستزادة

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى.

(٢) البحر المحيط لبدر الدين الزركشى ، ط الكويت.

(٣) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.

(٤) تفسير القرآن العظيم لابن كثير.

(٥) جامع البيان عن تأويل أى القرآن للطبرى.

(٦) الجامع الصحيح لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى.

(٧) حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع لابن السبكى.

(٨) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ، نشر مكتبة الكليات الأزهرية بالصنادقية.

(٩) فتح البارى لابن حجر العسقلانى.

(١٠) الكشاف للزمخشرى.

(١١) معالم التنزيل للبغوى بهامش تفسير الخازن ، ط مصطفى الحلبى.

الهوامش :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٢) سورة النساء : ١٢٧.

(٣) سورة فاطر : ١٠.

(٤) سورة آل عمران : ٧.

(٥) سورة البقرة : ٢٣٢.

(٦) سورة الحج : ٩.

(٧) سورة الأعراف : ١٨٧.

(٨) سورة التين : ٢.

(٩) سورة الأعراف : ٧٥.

(١٠) الإتقان فى علوم القرآن : (ج ٣ ص ٥٩) فما بعدها.

(١١) سورة المائدة : ٦.

(١٢) سورة النساء : ٢٣.

(١٣) سورة البقرة : ٢٧٥.

(١٤) سورة البقرة : ٤٣.

(١٥) سورة آل عمران : ٩٧.

(١٦) هو على بن محمد بن محمد بن إبراهيم الخزرجى الإشبيلي له مؤلفات منها «أصول الفقه» ، و «الناسخ والمنسوخ» ، و «البيان فى تنقيح البرهان». توفى سنة ٦١١ ه‍ (التكملة لابن الأبار ص ٦٨٦).

(١٧) انظر : الإتقان فى علوم القرآن : (ج ٣ ص ٦٢ : ص ٦٥).

(١٨) انظر : الكشاف : (ج ١ ص ٢٥٩).

(١٩) انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب : (ج ٢ ص ١٦٢).

(٢٠) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢١) سورة البقرة : ٢٢٩.

(٢٢) سورة البقرة : ٢٣٠.

(٢٣) سورة البقرة : ٤٣.

(٢٤) انظر : الإتقان فى علوم القرآن : (ج ٣ ص ٦٠ : ٦٢).

(٢٥) سورة الأنفال : ٤١.

(٢٦) سورة المائدة : ٦٧.

(٢٧) انظر : شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع : (ج ٢ ص ٦٩ : ٧٤).

١٧٢

أحكام القرآن

الأحكام : جمع حكم. وهو لغة : بمعنى المنع والقضاء ، يقال : حكمت بكذا. أى : منعت من الخلاف. والحكمة تمنع صاحبها من فعل الرذائل. كما فى «المصباح والقاموس».

واصطلاحا : الذى نقصده هو الحكم الشرعى ، وقد اقتصر بعض الأصوليين كالبيضاوى وابن السبكى على الحكم التكليفى فى تعريف الحكم الشرعى ، ولكنها طريقة ضعيفة عند الأصوليين ، نصّ على ذلك شيخ أشياخنا محمد بخيت المطيعى. وعرفها ابن الحاجب فزاد الحكم الوضعى ، وهو الصواب.

نرى أن أمثل التعاريف هو : الحكم : خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع) ، فقولهم : (خطاب الله) يقصد به توجيه الخطاب أى : الكلام المخاطب به كلام الله النفسى القديم ، وخرج به كل خطاب لغيره ـ سبحانه ـ ومن قال لا يشمل الأحكام الثابتة بالسنة والإجماع والقياس ، قلنا هذه الأدلة معرفات للخطاب وليست مثبتات له. وقولهم : (المتعلق بفعل المكلف) أى : تعلقا معنويا فى الأزل وتنجيزيا بعد البعثة ، ووجود المكلف على شرط التكليف ، وخرج خطاب الله المتعلق بالذوات والصفات والجمادات ، وقولهم : (بالاقتضاء) وهو الطلب فيكون للفعل والترك ، وللفعل قد يكون جازما فهو الإيجاب ، أو غير جازم فهو الندب ، وللترك فيكون جازما وهو التحريم ، أو غير جازم وهو الكراهة. وهو ـ بالاقتضاء ـ قيد أخرج خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الإخبار ، كما فى قوله تعالى :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

وقولهم : (أو التخيير) هو الإباحة فصارت الأحكام التكليفية خمسة ، وهى كذلك عند الجمهور ـ وقولهم (أو الوضع) أى : جعل الشيء سببا كالسرقة سبب فى القطع ، أو شرطا كالطهارة شرط فى الصلاة ، أو مانعا كالسكر والجنابة المانعين من الصلاة ، أو صحيحا فتترتب عليه آثاره ، أو فاسدا فلا تترتب.

فأقسام الحكم الوضعى خمسة أيضا ، وهى المعتمدة عند الجمهور. وكل واحد من أقسام الحكم التكليفى الخمسة ، تتأتى معه أقسام الوضعى الخمسة فيكون حاصل أقسام

١٧٣

الحكم الشرعى خمسة وعشرين قسما من ضرب خمسة التكليفى فى خمسة الوضعى.

أما الفقهاء فيجعلون الحكم الشرعى مدلول ذلك الخطاب أو قل : صفة فعل المكلف ، فالحكم عند الأصوليين الإيجاب الذى هو صفة قائمة بذاته سبحانه ، والوجوب الذى هو صفة فعل المكلف هو الحكم عند الفقهاء.

وقد اعتنى معظم المفسرين ـ ولا سيما أصحاب التفاسير المبسوطة منهم ـ بهذا النوع من مقاصد القرآن كل حسب مشربه ومذهبه ، بل أفرده بالتصنيف جماعة كثيرة فى القديم والحديث. قال الزركشى فى «البرهان» : (أولهم : الشافعى ، ثم تلاه من أصحابنا الكيا الهراس ، ومن الحنيفة أبو بكر الرازى ، ومن المالكية القاضى إسماعيل ، وبكر ابن العلاء القشيرى ، وابن بكر ، ومكى ، وابن العربى ، ومن الحنابلة القاضى أبو يعلى الكبير) (١) ، بل إن من المفسرين من جعل من أعظم غاياته فى تصنيف تفسيره العناية بهذا النوع حتى سمى كتابه «بالجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان» فصدر العنوان عن كتابه كما ترى بالجامع لأحكام القرآن ، وذلكم هو أبو عبد الله القرطبى فى تفسيره الضخم المشهور بين أيدى الناس حتى صار كل من يريد التوسع فى معرفة حكم من أحكام القرآن يرجع إلى هذا التفسير باعتباره أعظم مصدر للوفاء بهذه الطلبة.

منهج القرآن العظيم فى سياق أحكامه

بيّن العلماء منهج القرآن فى سياق أحكامه ويتلخص هذا المنهج فى نظرتين هما :

إحداهما : أن القرآن أتى جامعا للأحكام بطريقة كلية إجمالية دون النظر إلى واحد من أقسام الأحكام الشرعية. هذا ما نصّ عليه الشاطبى فى «الموافقات» ، وذكر أن السنة جاءت مفسرة لأحكامه الكلية ؛ ولذا تضمن القرآن الكليات المعنوية على الكمال ، وهى الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وكذلك أتى بأصول العبادات والمعاملات ، فكل ما استنبط من الأحكام بالسنة أو الإجماع أو القياس فإنما نشأ عن القرآن ، واستدل الشاطبى لذلك ، ثم ذكر أنه لا ينبغى فى الاستنباط الاقتصار على القرآن دون النظر فى شرحه وهو السنة (٢).

ولو لا كلية التناول للأحكام لتضخم القرآن وعسر على الأمة حفظه. ولو لا هذه الكلية ما اتصف القرآن بالمرونة والصلاحية لكل عصر ، وكذلك لولاها ما حصل علماء المسلمين هذه الرتب العلية بالاجتهاد. هذه أولى النظرتين.

١٧٤

أما ثانيتهما : هى أن القرآن أتى بأحكام مفصلة ، وهذا هو القليل فى تناوله للأحكام ، وتتمثل هذه النظرة فى مقولة السيوطى ونقله عن العز بن عبد السلام ، قال : «قال عز الدين ابن عبد السلام فى كتاب «الإمام فى أدلة الأحكام» : (معظم آى القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة ، وأخلاق جميلة ، ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام ، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط ، إما بلا ضم إلى آية أخرى كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٣) ، وصحة صوم الجنب من قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) إلى قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ) (٤) الآية ، وإما به كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ، مع قوله : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (٥)).

قال : (ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر ، وتارة بالإخبار مثل : (أُحِلَّ لَكُمْ) (٦) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٧) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٨) ، وتارة بما رتب عليها فى العاجل أو الآجل من خير أو شر ، أو نفع أو ضر ، وقد

نوّع الشارع ذلك أنواعا كثيرة ، ترغيبا لعباده وترهيبا ، وتقريبا إلى أفهامهم ، فكل فعل عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو أحبه أو أحب فاعله ، أو رضى به أو رضى عن فاعله ، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب ، أو أقسم به أو بفاعله كالإقسام بالشفع والوتر ، وبخيل المجاهدين ، وبالنفس اللوامة ، أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل ، أو لشكره له ، أو لهدايته إياه ، أو لإرضاء فاعله ، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته ، أو لقبوله ، أو لنصرة فاعله ، أو بشارته ، أو وصف فاعله بالطيب ، أو وصف الفعل بكونه معروفا ، أو نفى الحزن والخوف عن فاعله ، أو وعده بالأمن ، أو نصب سببا لولايته ، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله ، أو وصفه بكونه قربة ، أو بصفة مدح كالحياة والنور والشفاء ، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب ، وكل فعل طلب الشارع تركه ، أو ذمه أو ذم فاعله ، أو عتب عليه أو مقت فاعله أو لعنه ، أو نفى محبته أو محبة فاعله ، أو الرضا به أو عن فاعله ، أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين ، أو جعله مانعا من الهدى ، أو من القبول ، أو وصفه بسوء أو كراهية ، أو استعاذة الأنبياء منه أو أبغضوه ، أو جعله سببا لنفى الفلاح ، أو لعذاب عاجل أو آجل ، أو لذم أو لوم أو ضلالة أو معصية ، أو وصف بخبث أو

١٧٥

رجس ، أو لعن أو غضب ، أو زوال نعمة ، أو حلول نقمة ، أو حد من الحدود ، أو قسوة أو خزى أو ارتهان نفس ، أو لعداوة الله ومحاربته ، أو لاستهزائه أو سخريته ، أو جعله الله سببا لنسيانه فاعله ، أو وصفه نفسه بالصبر عليه أو بالحلم ، أو بالصفح عنه ، أو دعاء إلى التوبة منه ، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار ، أو نسبه إلى عمل الشيطان أو تزيينه ، أو تولى الشيطان لفاعله ، أو وصفه بصفة ذم ككونه ظلما أو بغيا أو عدوانا أو إثما أو مرضا ، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله ، أو شكوا إلى الله من فاعله ، أو جاهروا فاعله بالعداوة ، أو نهوا عن الأسى والحزن عليه ، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا ، أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها ، أو وصف فاعله بأنه عدو لله ، أو بأن الله عدوه ، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله ، أو حمّل فاعله إثما ، أو قيل فيه :

لا ينبغى هذا أو لا يكون ، أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه ، أو أمر بفعل مضاده أو بهجر فاعله ، أو تلاعن فاعلوه فى الآخرة أو تبرأ بعضهم من بعض ، أو دعا بعضهم على بعض أو وصف فاعله بالضلالة وأنه ليس من الله فى شىء أو ليس من الرسول وأصحابه ، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح ، أو جعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، أو قيل : هل أنت منته ، أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله ، أو رتب عليه إبعادا أو طردا أو لفظة «قتل من فعله» أو «قاتله الله» ، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليه ولا يزكيه ، ولا يصلح عمله ولا يهدى كيده أو لا يفلح ، أو قيض له الشيطان ، أو جعل سببا لإزاغة قلب فاعله ، أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل. فهو دليل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة. وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ونفى الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة ، ومن الإذن فيه والعفو عنه ، ومن الامتنان بما فى الأعيان من المنافع ومن السكوت عن التحريم ومن الإنكار على من حرم الشيء مع الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا ، والإخبار عن فعل من قبلنا من غير ذم لهم عليه ، فإن اقترن بإخباره مدح دل على مشروعيته وجوبا أو استحبابا). انتهى كلام الشيخ عز الدين (٩).

الأحكام الشرعية بين القطعية والظنية :

إن الأحكام الشرعية منها ما هو قطعى ومنها ما هو ظنى. فالقطعى قسمان : قسم يكفر جاحده وهو المعلوم من الدين بالضرورة ؛ كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة الزنا. وقسم

١٧٦

لا يكفر جاحده ، وتتحقق القطعية فيه بأحد أمرين : بالإجماع ، ويكون لا سند له غيره كإجماعهم على أن الرق من موانع الإرث ، ولم يكفر جاحده للاختلاف الشديد فى مسائل الإجماع (وقوعه ـ وجوازه) ، أو بالتواتر عند قوم وعدمه عند آخرين كالبسملة آية من أول كل سورة.

والظنى : وهو كل حكم دلّ عليه الظنى الثبوت أو الدلالة ، وهو كثير جدا فى الفروع ، وله أثر عظيم فى اجتهاد الأمة ، ومن فوائده العظيمة :

١ ـ تحقيق رحمة الأمة بتوسيع الأمر على أفرادها من خلال الفقهاء ، حتى يأخذ كل فرد ما يلائمه ، ما لم يكن بلغ درجة الاجتهاد.

وقد عنى عدد من العلماء بهذه الفائدة فصنف فيها أبو عبد الله الدمشقى (رحمة الأمة فى اختلاف الأئمة) ، والشيخ عبد الوهاب الشعرانى (الميزان الكبرى).

٢ ـ ما قدمه علماء الأمة من مسائل فقهية فرضية تفيد بشدة فى واقعنا المعاصر سواء بأحكام أم بطرق معالجة الفقهاء فيها لعملية استنباط الأحكام. والله أعلم.

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

مصادر البحث والاستزادة فى الموضوع

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى.

(٢) البرهان فى علوم القرآن للزركشى.

(٣) الجامع الصحيح للبخارى.

(٤) جمع الجوامع لابن السبكى.

(٥) حاشية الشيخ بخيت المطيعى على نهاية السول للأسنوى ، ط السلفية.

(٦) شرح الكوكب المنير لابن النجار تحقيق الدكتور محمد الزحيلى والدكتور نزيه حماد ، مكتبة العبيكان الرياض السعودية.

(٧) مختصر ابن الحاجب.

(٨) منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوى.

(٩) الموافقات لأبى اسحاق الشاطبى ، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ، الطبعة الأولى ، نشر دار ابن عفان ، الخبر ، العقربية ، السعودية.

الهوامش

__________________

(١) البرهان فى علوم القرآن : (ج ٢ ص ٣).

(٢) الموافقات ، للشاطبى : (ج ٤ ص ١٨٠ ـ ١٨٣).

(٣) سورة المسد : ٤.

(٤) سورة البقرة : ١٨٧.

(٥) سورة لقمان : ١٤.

(٦) سورة البقرة : ١٨٧.

(٧) سورة المائدة : ٣.

(٨) سورة البقرة : ١٨٣.

(٩) الإتقان فى علوم القرآن : (ج ٤ ص ٤٠ ـ ٤٣).

١٧٧

قصص القرآن

القصص : مصدر كالقص أو اسم مصدر منه. وقصّ فلان الشيء ـ من باب قتل ـ إذا تتبع أثره ، وفى التنزيل : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (١) ، وخرج فلان فى إثر فلان قصصا ومنه : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٢) ، وقصّ الخبر : حدث به على وجهه ، والقصة ـ بالكسر ـ الشأن والأمر ، ولم يأت فى القرآن لفظ القصة ولكن أتى لفظ (القصص) : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) (٣) ، وسواء كان هذا اللفظ مصدرا أو اسم مصدر فهو بمعنى المفعول أى : الخبر المقصوص المحدّث به على وجهه. وقد أخطأ بعض الباحثين عند ما يطلبون فى القصص القرآنى أن يستكمل أركان القصة بالمعنى المحدث التى هى مستمدة من الخيال ومبنية على قواعد فنون الكتابة (٤) ؛ وذلك لأنهم لم يفرقوا بين القصة بمعنى الحكاية والقصة بمعنى الخبر المحدث به على وجهه ، والثانى هو المراد فى القصص القرآنى ؛ لأن الأشخاص والزمان والمكان ليست بالضرورة أركانا للخبر المحدث به ، فقد يبهم المكان والزمان كما فى قوله تعالى :

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (٥) ، وقد يبهم الزمان كما فى قوله تعالى : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٦) ، وقد يبهم الشخص أو الأشخاص كما فى قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (٧) ، فالذى يجب وجوده فى القصص القرآنى هو الحدث والعبرة ، أما بقية عناصر القصة المحدثة فإنما توجد بحسب الحاجة إليها وأهميتها فى القصة (الخبر) ، فلو كان للشخصية مدخل كبير فى الحدث فإنها تذكر كمريم ـ عليها‌السلام ـ فى قصتها ، والهدهد فى قصة سبأ ، وكثيرا ما تأتى الشخصية بصورة التنكير كما فى قصة النملة ، لأن الحدث مبناه منطق النملة وسماع سليمان عليه‌السلام لها. وقد يهتم بإبراز الزمان كما فى قصة أهل الكهف فى قوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (٨) وكذلك فى قوله تعالى :

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) (٩) فالزمان المذكور إنما يذكر بمقدار ما يحتاجه الحدث.

١٧٨

وكذلك المكان كمصر والأحقاف والكهف ، وهذه تعدّ الميزة الأولى فى القصص القرآنى التى تميزه عن سائر القصص.

أما الميزة الثانية للقصص القرآنى فهى الواقعية الصادقة الحقة ، فليس فيه شىء من نسج الخيال والأساطير ، أو ما يكذبه الواقع أو التاريخ ، وسواء فى هذا الصدق ما جاء لضرب المثل أو لم يكن كذلك ، وإن جوّز بعض علمائنا التقدير فى الأول فى المثل مع احتمال التحقيق ، منهم : العلامة أبو السعود العمادى فى قصة القرية الآمنة فى سورة النحل (١٠) وفى قصة الرجلين (١١) ، ولكن هذا لا يصح ، فإن مجرد القراءة بدون تأمل تكشف زيف احتمال التقدير فى القصتين. ولكنّ العلامة أبا السعود لم يكن يعلم أن خبث الطوية سيدفع بعضهم إلى ادعاء تبنى الإسلام للأساطير متبعين فى ذلك خطوات أعداء الإسلام.

وثالثة هذه الميزات تغيى القرآن فى قصصه أسمى الغايات ، فلا يستهدف كغيره من القصص الترويح ولا الإيناس حتى ولو طلب بعض أصحاب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منه ، فيردهم القرآن عن ذلك بقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (١٢). وكذلك عند ما قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا حدثتنا. فنزل قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (١٣) ورويت روايات أخرى فى سبب نزول الآية ـ مع التسليم بفرض صحتها ـ نجد أن الصحابة إنما سألت ذلك لدفع الملال ، فدلهم ـ سبحانه ـ على أحسن القصص.

وكذلك لا يقصد القصص القرآنى سرد الأحداث التاريخية لمجرد ذكر التاريخ أو المساهمة فى دراسات العمران البشرى ، بل يقصد ما هو أسمى ، وهو وضع المعيار لما يجب أن يكون وكيف تكون عاقبة من يخالفه.

ولقد استوفى صاحب «التحرير والتنوير» المزيد مما ذكرنا من ميزات القصص القرآنى ، فقد ذكر أن القصص القرآنى لا تقف أهدافه عند العبرة والعظة مما يقع لأهل الصلاح وأهل الفساد وعاقبة كل ، بل يتعدى ذلك ليأخذ من كل قصة أشرفها وأسماها ليكون منزها عن التفكه ؛ ولذا تأتى القصص متفرقة على غير سنن كتب التاريخ لمناسبة الفوائد العظيمة في كل موضع ، وهذا يجعل القصة القرآنية تكتسب صفتين هما : صفة البرهان ، وصفة البيان.

وذكر من ميزات القصص القرآنى نسجه على أسلوب الإيجاز يجعله شبيها بالتذكير أقوى ، مثال ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (١٤) فجاء قوله لهم موجزا ليناسب مقام التذكير.

١٧٩

ومن ميزاته أيضا التى ذكرها : طىّ ما يقتضيه الكلام الوارد فى قوله تعالى :

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) (١٥) فقد طوى حضور سيدها وطرقه للباب وإسراعهما إليه لفتحه.

ومن ميزاته أيضا : أنه ـ القصص ـ مثبت بأسلوب بديع إذ ساقها فى مظان الإيقاظ مع المحافظة على الغرض الأصلى من تشريع ، فتوفرت فى ذلك عشر فوائد :

الأولى : كانت غاية علم أهل الكتاب نقل أخبار الأولين ، فلما جاء القرآن بقصصه متحديا ومعجزا لهم ؛ لأن هذه الأخبار كان لا يعلمها إلا الراسخون فى العلم منهم فقال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (١٦) فنفى عن المسلمين صفة الأمية التى ادعتها اليهود ، وصفة الجهل التى ادعتها النصارى.

الثانية : تكليل هامة التشريع الإسلامى بذكر تاريخ المتشرعين وذلك من أدب الشريعة ؛ لأنه لا يتعرض لقصص السابقين إلا لذكر ثبات إيمانهم وصبرهم ، كما ذكر فى قصة أهل الكهف ، ولا يذكر نسبهم ولا حسبهم.

الثالثة : فائدة ظهور المثل العليا فى الفضيلة وزكاء النفوس كفائدة من التاريخ وترتب الأحداث والعلاقة بين التعمير والتخريب والشر والخير.

الرابعة : عظة المشركين بإعلام ما حدث لأسلافهم ليعودوا لربهم (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧).

الخامسة : استخدام القصص القرآنى لأسلوب التوصيف والمحاورة الذى لم يعتده العرب ، فهم يعترفون بأنه أسلوب بديع ، ولكنهم لا يستطيعون الإتيان بمثله.

السادسة : توسيع علم العرب الذين كانوا يتصفون بالجهل والأمية باطلاعهم على أحوال الأمم السابقة ليساعدهم ذلك فى تطهير أخلاقهم وتهذيبها.

السابعة : تعويد المسلمين على سعة العالم وعظمة الأمم ، والاعتراف لكل ذى حق بحقه ؛ فإذا علمت الأمة ذلك جمعت ميزات هذه الأمم وما يلائم حياتها.

الثامنة : إنشاء همة السعى إلى سيادة العالم فى نفوس المسلمين كما سعى إلى ذلك أمم سابقة.

التاسعة : معرفة أن قوة الله فوق كل قوة ، فيساعد ذلك المسلمين على التمسك بوسيلتى البقاء : الاستعداد ، والاعتماد ، وهما وسيلتا السلامة.

١٨٠