الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

مصادر ومراجع للاستزادة والبحث فى :

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن ، للسيوطى.

(٢) البحر المحيط ، لأبى حيان ، ط ١ دار الفكر ، بيروت.

(٣) البرهان فى علوم القرآن ، للزركشى.

(٤) التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان ، للشيخ ظاهر الجزائرى ، تحقيق الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو غدة ، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.

(٥) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير.

(٦) جامع الترمذى.

(٧) الجامع الصحيح للبخارى.

(٨) حاشية السيالكوتي على المطول ، ج ١ ، استنبول.

(٩) الرسالة ، للإمام الشافعى ، تحقيق وشرح الأستاذ أحمد شاكر.

(١٠) روح المعانى ، للآلوسى.

(١١) الصاحبى فى فقه اللغة ، لابن فارس.

(١٢) صحيح مسلم.

(١٣) مختصر السعد التفتازانى ضمن شروح التلخيص ط / عيسى الحلبى.

(١٤) المطول فى شرح تلخيص المفتاح له ، ج ١ بهمن بقم ـ نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشى النجف بقم ـ إيران.

(١٥) معالم التنزيل للبغوى بهامش تفسير الخازن المسمى لباب التأويل فى معانى التنزيل ج ١ مصطفى الحلبى.

(١٦) المفردات فى غريب القرآن ، للراغب الأصبهانى ط ١ مصطفى الحلبى.

الهوامش :

__________________

(١) ص ١٨ وقوله مثل : شرنبثا واشمخر واقمطر قال عبد الحكيم السيالكوتي فى حاشيته على المطول : أى غليظ الكفين والرجلين ، ويراد به الأسد ، والنون فيه زائدة بدليل شرابث واشمخر ارتفع واقمطر تفرق واشتد أو وفر واجتمع. ص ٣٠.

(٢) هو كالفريد وزنا ومعنى وهو المتنحى عن الناس ، قال أبو حنيفة ابن النعمان اللغوى : الجحيش : الفريد الذى لا يزحمه فى داره مزاحم يقال : نزل جحيشا ، كما يقال : نزل حريدا فريدا. انظر : اللسان فى هذه المادة.

(٣) تكأكأتم أى اجتمعتم (وافرنقعوا) أى تفرقوا أو انصرفوا كما فى شرح السعد نفسه.

(٤) الجرشى ـ هى بكسر الجيم والراء وفتح الشين مع تشديدها بعدها ألف (النفس) كما أفاده السعد نفسه انظر المطول ص ١٩ : وانظر : القاموس واللسان فى هذه المادة.

(٥) انظر : المصدر نفسه.

(٦) انظر : شروح التلخيص (ص ٨٢) من أعلى.

(٧) سورة الفرقان آية (٦٠).

(٨) البحر المحيط (ج ٦ ص ٥٠٩).

(٩) سورة الصافات آيات (٦٢ ـ ٦٨).

(١٠) تفسير البغوى المسمى بمعالم التنزيل ، بهامش تفسير الخازن المسمى ب (لباب التأويل فى معانى التنزيل) (ج ٦ ص ٢٣) وما بعدها.

(١١) أخرجه مسلم (كتاب الآداب ـ باب النهى عن التكنى بأبى القاسم ...) ، والترمذى (كتاب التفسير ـ باب من سورة مريم) وقال : (حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس).

(١٢) صحيح البخارى (كتاب التفسير ـ سورة البقرة باب (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) .. إلخ).

(١٣) انظر نفس المصدر السابق ، وصحيح مسلم كتاب الصيام باب بيان أن الدخول فى الصوم يحصل بطلوع الفجر ... إلخ).

(١٤) نفس الموضع من الجامع الصحيح.

(١٥) نفس الموضع.

(١٦) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٢١.

(١٧) سورة الانشقاق آية (٧ ـ ٩).

(١٨) رواه البخارى (١ / ١٧٦) فى كتاب العلم ـ باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ...) ، ومسلم فى (الرقاق ـ باب من نوقش الحساب عذب) (رقم ٢٨٧٦) ، وأبو داود (رقم ٣٠٩٣) فى الجنائز (باب عيادة النساء) ، والترمذى (رقم ٢٤٢٨) ، فى (صفة القيامة ـ باب من نوقش الحساب عذب) انظر جامع الأصول (ج ١٠ ص ٤٣٢) وما بعدها.

(١٩) الحديث أخرجه البخارى ومسلم وأصحاب السنن.

(٢٠) مقدمة المفردات : (ص. د ، ه).

(٢١) الإتقان فى علوم القرآن : (ج ٢ ص ٣).

١٤١

منطوق القرآن ومفهومه

المنطوق لغة : اسم مفعول من النطق ، فهو كالملفوظ وزنا ومعنى ، ففي «القاموس» :

النطق : التكلم بصوت مرتفع وحروف تعرف بها المعانى.

والمفهوم لغة : المعنى المستفاد من اللفظ المنطوق ، فهو اسم مفعول من الفهم بمعنى العلم ، فالمنطوق : اللفظ ، والمفهوم : معناه.

ولأهل أصول الفقه اصطلاحان مشهوران فيهما :

أحدهما لابن الحاجب يخالف فيه الآمدى والجمهور ، فيعرف المنطوق بأنه : دلالة اللفظ على معنى فى محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما للمذكور. ويعرف المفهوم بأنه :

دلالته (أى اللفظ) على معنى لا محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور.

فالمنطوق والمفهوم عنده قسمان للدلالة اللفظية.

وثانيهما للآمدى والجمهور فيعرفون المنطوق بأنه : ما (أى معنى) دل عليه اللفظ فى محل النطق. والمفهوم بأنه : ما دل عليه اللفظ لا فى محل النطق.

وبهذا هم يجعلونهما من أقسام المدلول لا للدلالة. والفرق بين الدلالة والمدلول : أن الدلالة كون اللفظ. بحيث يفهم منه المعنى ، أما المدلول فهو نفس معنى اللفظ. ولا شك أن الجمهور لا يقصر المنطوق على الحكم بل يعديه ليشمل الذوات. وكذلك يشمل عندهم :

(النص) :

وهو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل.

و (الظاهر) : ما يحتمل وجهين وأريد الراجح منهما لتبادره للفهم بنفسه.

و (المؤول) : وهو ما احتمل وجهين وحمل على المرجوح منهما لدليل استوجب صرفه عن الراجح إليه. وبهذا يتضح أن المنطوق عندهم يكون حقيقة كما فى النص والظاهر يكون مجازا كما فى المؤول.

ولقد حرر هذه المسألة تحريرا بديعا العلامة الشربينى فى تقريره على «حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع» عند تعريف ابن السبكى للمنطوق بأنه ما دل عليه اللفظ فى محل النطق.

١٤٢

فقال : «اعلم أن ابن الحاجب جعل المنطوق والمفهوم أقساما للدلالة قال : المنطوق : دلالة اللفظ على معنى فى محل النطق ، بأن يكون ذلك المعنى حكما للمذكور. والمفهوم : ودلالته على معنى لا فى محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور.

ثم قسم المنطوق ـ وهو تلك الدلالة ـ إلى صريح ، وغير صريح ، فالصريح : دلالة اللفظ بالمطابقة أو التضمن.

وغير الصريح دلالته على ما لم يوضع له بل يدل عليه بالالتزام وهو دلالة الاقتضاء والإيماء والإشارة. فدلالة (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) على تحريم التأفيف منطوق صريح ، وعلى تحريم الضرب مفهوم ودلالة ، «تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلى». على أن أكثر الحيض وأقل الطهر خمسة عشر يوما منطوقا غير صريح ، وعلى هذا فالمنطوق خاص بالحكم دون الذوات.

وقال الآمدى بعد ذكر الاقتضاء وغيره من هذه الأنواع التى جعلها ابن الحاجب أقساما لغير الصريح قبل ذكر المنطوق والمفهوم : أما المنطوق ، فقد قال بعضهم : هو ما فهم من اللفظ فى محل النطق وليس بصحيح ، فإن الأحكام المضمرة فى دلالة الاقتضاء ـ كما ذكرناه ـ مفهومه من اللفظ فى محل النطق ، ولا يقال لشىء من ذلك منطوق اللفظ ، فالواجب أن يقال : المنطوق : ما فهم من دلالة اللفظ نطقا فى محل النطق. انتهى.

قال العلامة التفتازانى : «جعل المنطوق والمفهوم من أقسام الدلالة يحوج إلى تكلف عظيم فى تصحيح عبارات القوم ، لكونها صريحة فى كونها من أقسام المدلول ـ كما فى كلام الآمدى ـ فالمصنف ـ رحمه‌الله ـ تابع القوم فى ذلك لعدم التكلف مع قصور عبارة ابن الحاجب عن تناول مدلول نحو : زيد ، مما هو ذات لا حكم مع تصريح إمام الحرمين وغيره بأن النص والظاهر من أقسام المنطوق ، ولا خفاء فى أن نحو : زيد والأسد ، من جملة النص والظاهر (١) ، إلا أنه أبدل ما فهم من اللفظ بما يدل عليه إشارة للرد على ابن الحاجب بأن المنطوق مدلول لا دلالة ، وإشارة إلى اندفاع اعتراض الآمدى ، فإن ما دل عليه اللفظ فى محل النطق معناه أن الدلالة على ذلك المدلول ثابتة فى اللفظ الذى هو محل النطق أى : المنطوق به ، بمعنى أنها ناشئة من وضعه لا من خارج ، بخلاف دلالة الاقتضاء والإشارة فإنها ليست ناشئة من وضع اللفظ بل من توقف صحة المنطوق على المقتضى (٢) ، أو لزوم المعنى للمدلول (٣).

وهذا المعنى لا يفيده قولهم : ما فهم من اللفظ فى محل النطق. فإن الفهم منه قد

١٤٣

يكون بواسطة اللزوم العقلى أو الشرعى ، ثم إن هذا المنطوق بالمعنى الذى أراده المصنف لا يكون إلا صريحا ، وأما المدلول اقتضاء أو إشارة فليس من المنطوق عند أحد ، أما ابن الحاجب فإن المنطوق عنده : الدلالة لا المدلول. وأما المصنف والقوم فليس من المنطوق عندهم. لأن الدلالة عليه ليست فى محل النطق ، وإنما هو عند المصنف من توابع المنطوق ، فالمدلولات عنده ثلاثة : منطوق ، وتوابعه ، ومفهوم. وقد صرح بتثليث الأقسام الآمدى وبعض شروح المنهاج ، فإن قلت : ما الفرق بين المفهوم وتوابع المنطوق؟ قلت :

المفهوم يقصد التنبيه بالمنطوق عليه إما تنبيها بالأعلى على الأدنى وبالعكس ، أو التنبيه بالشىء على ما يساويه ، وكل ذلك للمناسبة بينهما ، بخلاف توابع المنطوق كما يعرفه الذكى المحقق ، ثم إن المصنف ترك من توابع المنطوق دلالة الإيماء ، وسيأتى بيان وجهه إن شاء الله تعالى إلى المقصود منه» (٤). أه.

ثم وفى هذا العلامة ـ رحمه‌الله ـ بما وعد به من حديث دلالة الإيماء فقال : «واعلم أن المصنف ـ رحمه‌الله ـ ترك دلالة الإيماء وهى : أن يقترن المنطوق بحكم أى وصف لو لم يكن ذلك الوصف لتعليل ذلك المنطوق لكان اقترانه به بعيدا ؛ فيفهم منه التعليل ويدل عليه ، وإن لم يصرح به ، ويسمى تنبيها وإيماء مثل اقتران الأمر بالإعتاق وبالوقاع الذى لو لم يكن هو علة لوجوب الإعتاق لكان بعيدا.

لأن هذا إنما يفهم من سياق الكلام لا من اللفظ. وأيضا سيأتى مفصلا فى باب القياس (٥)». أه.

ومن يطالع النص السابق وما قبله يظهر له أن المنطوق قد يكون فى المفردات كما فى النص والظاهر والمؤول أيضا ، وكذلك يكون فى المركبات إذا كان المدلول حكما ؛ لأن الحكم لا يتصور إلا فى المركبات.

وهناك تقسيم آخر ذكر للمنطوق وهو : أن اللفظ إما أن يدل على تمام المعنى الذى وضع له ، وتسمى هذه الدلالة دلالة مطابقة ، وإما أن يدل على جزء معناه الذى وضع له ، وتسمى هذه الدلالة دلالة تضمن ، وإما يدل على لازم معناه الذى وضع له ، وتسمى هذه الدلالة دلالة التزام.

أما المفهوم ـ كما سبق ـ له اصطلاحان :

فهو عند ابن الحاجب من قبيل الدلالة ، وعند الجمهور من قبيل المدلول ، ولكن هناك أمور مهمة ننبه عليها :

أولا : المفهوم يطلق على الحكم تارة ، وعلى محل الحكم أخرى ، وعلى الحكم ومحله معا ثالثة ، مثل (تحريم الضرب) ، فالتحريم الحكم ، والضرب محله ، والمفهوم جمع بينهما

١٤٤

فصار (تحريم الضرب) ، ولكن المنطوق يطلق على الحكم أو محله فقط.

ثانيا : المفهوم ينقسم إلى قسمين : مفهوم موافقة ، ومفهوم مخالفة. فالأول : ما وافق حكمه حكم المنطوق ، والثانى : ما خالف حكمه حكم المنطوق. والحكم فى الموافقة قد يكون أولى من حكم المنطوق وهذا يسمى فحوى الخطاب ؛ لأنه كالريح تجده بمجرد سماع الخطاب ، وقد يكون مساويا لحكم المنطوق ويسمى لحن الخطاب ، فتحريم ضرب الوالدين أولى من تحريم التأفيف لما يشتمل عليه من شدة الإيذاء ، وحرق مال اليتيم مساو لأكل ماله ؛ لأنهما يتساويان فى إضاعة ماله وإتلافه. وهناك من قسم المفهوم إلى ثلاثة أقسام : الموافقة وقصرها على الأولى ، والمساوى ، والمخالفة. ولكننا نرد هذا التقسيم لأمرين :

(أ) أنه سلب اسم الموافقة : عن المساوى ، وهذا لا يصح ؛ لأن المساوى موافق.

(ب) أن من أخرج المساوى من الموافقة احتج كما يحتج بالموافقة فلا معنى لإخراجه ـ ومن ثم فمفهوم الموافقة يشتمل على الأولى والمساوى ـ وليس فى هذا المفهوم الأدون.

والحكم الثابت بالمفهوم كالثابت بالمنطوق ، فإذا كان حكم المنطوق قطعيا لاستناده لنظم اللغة فكذلك المفهوم ، فالحكم الثابت بالمفهوم فوق الثابت بالقياس ؛ لأن الثابت بالقياس يدرك بالرأى والاجتهاد ، والمفهوم يدرك باللغة الموضوعة لإفادة المعنى. كذا فى «التوضيح والتلويح». ومن ذهب إلى أن دلالة المنطوق قد تكون قطعية ودلالة المفهوم ظنية إنما أخطئوا فى ضرب الأمثلة ؛ لأنها أمثلة كلها لأحكام تدرك بالقياس.

ثالثا : اتفق الكل على حجية مفهوم الموافقة ، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك فى مواطن منها : طريق الدلالة هل القياس الجلى أم الدلالة اللفظية؟ ، وإذا كانت الدلالة اللفظية فهل بالمنطوق والمفهوم فى الحقيقة أم بالمفهوم؟ وفى «تحرير الجلال المحلى» لتلك المواطن ينقل عن الشافعى وإمام الحرمين والرازى. إن دلالة الموافقة قياسية سواء كان الأولى أو المساوى الجلى ، وتكون العلة فى تحريم الضرب الإيذاء ، وفى حرق مال اليتيم الإتلاف ، وإن كان الشافعى وإمام الحرمين لم يجعلا المساوى من الموافقة ، والرازى لم يصرح ، ويرى الغزالى والآمدى أنها دلالة لفظية تفهم بالسياق والقرائن لا مجرد اللفظ ، ففي تحريم الضرب فهم تعظيمها واحترامها فحرم الضرب والتأفيف ، وكذلك حرق مال اليتيم فالمراد حفظه ؛ ولذا منع الحرق والأكل ، وعليه تكون دلالة مجازية

١٤٥

لإطلاق الأخص على الأعم ، كإطلاق منع التأفيف على منع الإيذاء ، وقيل : بل نقل اللفظ لهما عرفا فصار حرق مال اليتيم عرفا يطلق على إضاعته ، وعلى القولين هما من المنطوق. وكثير من العلماء ـ منهم الحنفية ـ على أن الموافقة مفهوم لا منطوق ولا قياسي ، ومنهم من تردد فيجعله تارة مفهوما وأخرى قياسيا كالبيضاوى ، ورأى الصفى الهندى عدم التناقض فكلاهما مسكوت عنه. ورأى ابن السبكى أنهما مختلفان فالمفهوم مدلول اللفظ ، والمقيس غير مدلول له.

وبعد نقل تحرير الجلال المحلى أرى أن الصواب : أنها دلالة لفظية بطريق المفهوم ؛ لأن من يقول : إنها دلالة قياسية يجعل هناك مفهوما أدون ، وسبق ذكر منع ذلك ، وكذلك لو كانت دلالة قياسية لمنعها من يمنع الاحتجاج بالقياس ، ولكنهم احتجوا بها ؛ ولأن من قال بأنها دلالة لفظية بطريق المنطوق فإن هذا يحوجه إلى ارتكاب المجاز أو النقل ، والأصل عدمهما إلا بموجب ولا موجب لهما.

رابعا : شرط مفهوم المخالفة : شرط العمل بمفهوم المخالفة أن يكون القيد فى اللفظ متعينا للاحتراز عما يناقضه ، أى : جاء لإخراج ما عداه ، ولا تكون فائدة غير هذا ، فلو كانت له فائدة غيره قدمناها ؛ لأن هذه الفائدة ستكون ظاهرة ومفهوم المخالفة خفية.

فمن ذلك لو كان القيد لبيان الغالب كما فى قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) فقوله تعالى : (فِي حُجُورِكُمْ) لا يعنى أن الربيبة التى ليست فى الحجر جائز نكاحها ، الغالب أن الربيبة تكون فى الحجر. وكذلك قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) فالبغاء حرام سواء مع الإكراه أو مع عدمه ، وسواء مع إرادتهن أو مع عدمها ، فإنما جاء قيد الإكراه ليصف الواقع الذى كانوا عليه فحسب ، وهذا يعنى أن البغاء مع عدم الإكراه أيضا حرام ؛ لأن القيد ليس للإخراج. وكذلك قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فقوله تعالى : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ليس معناه أن موالاة الكافرين مع المؤمنين جائزة ، بل موالاة الكافرين على كل حال حرام.

فكل هذه القيود قصد بها فوائد أخرى غير إخراج ما سوى المنطوق ؛ ولذا فهى لا مفهوم لها أى : ليست لها مفهوم مخالفة ، لفقد شرط الاحتجاج به وهو تعين القيد فى إخراج سوى المنطوق ، ومن ثم فالاسم المجرد من القيد والمسمى (اللقب) لا مفهوم له ؛ لأنه لا قيد له ، وهذا هو الصحيح عند العلماء.

خامسا : الصحيح أن طريق الدلالة فى

١٤٦

مفاهيم المخالفة هى اللغة ، قال المحلى : (يقول كثير من أئمة اللغة بها منهم أبو عبيدة وعبيد تلميذه قالا فى حديث «الصحيحين» مثلا :

«مطل الغنى ظلم» أنه يدل على أن مطل غير الغنى ليس بظلم ، وهم إنما يقولون فى مثل ذلك ما يعرفونه من لسان العرب) أه. وأنه لذلك حجة لدى الجمهور ، وخالف فى ذلك الحنفية وهم محجوجون بما سبق من حتمية أن تكون للقيد فائدة.

وبعد ـ فقبل أن ننفض أيدينا من هذا البحث ، نرى أن نطلع القارئ الكريم على ما كتبه فيه أهل علوم القرآن ، مجتزئين فى ذلك بقول السيوطى ، ففيه ـ فوق التلخيص لمعظم ما سبق مما نقلناه من كلام أهل الأصول ـ فوائد أخرى تضاف إليه ، قال رحمه‌الله :

المنطوق : ما دل عليه اللفظ فى محل النطق ، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص ، نحو :

(فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٦) ، وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جدا فى الكتاب والسنة. وقد بالغ إمام الحرمين (٧) وغيره فى الرد عليهم ، قال : لأن الغرض من النص

الاستقلال بإفادة المعنى على قطع ، مع انحسام جهات التأويل والاحتمال ؛ وهذا وإن عز حصوله بوضع الصيغ رد إلى اللغة ، فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية ؛ انتهى. أو مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا ، فالظاهر نحو : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (٨) ، فإن الباغى يطلق على الجاهل وعلى الظالم ، وهو فيه أظهر وأغلب ، ونحو : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (٩) ، فإنه يقال للانقطاع : طهر ، وللوضوء والغسل ، وهو فى الثانى أظهر ، فإن حمل على المرجوح لدليل فهو تأويل ، ويسمى المرجوح المحمول عليه مؤولا ، كقوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (١٠) ؛ فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات ، فتعين صرفه عن ذلك وحمله على القدرة والعلم ، أو على الحفظ والرعاية ، وكقوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (١١) فإنه يستحيل حمله على الظاهر ، لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة ، فيحمل على الخضوع وحسن الخلق. وقد يكون مشتركا بين حقيقتين ، أو حقيقة ومجاز ، ويصلح حمله عليهما جميعا ، سواء قلنا بجواز استعمال اللفظ فى معنييه أو لا. ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين : مرة أريد هذا ، ومرة أريد هذا. ومن أمثلته : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (١٢) ؛ فإنه يحتمل : لا يضار الكاتب والشهيد صاحب الحق بجور فى الكتابة والشهادة «ولا يضارّ» بالفتح ، أى : لا يضرهما صاحب الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما ، وإجبارهما على الكتابة والشهادة.

١٤٧

ثم إن توقفت صحة دلالة اللفظ على إضمار سميت دلالة اقتضاء ، نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١٣) ، أى : أهلها ، وإن لم تتوقف ودل اللفظ على ما لم يقصد به سميت دلالة إشارة كدلالة قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (١٤) على صحة صوم من أصبح جنبا ، إذ إباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم كونه جنبا فى جزء من النهار. وقد حكى هذا الاستنباط عن محمد ابن كعب القرظى.

والمفهوم : ما دل عليه اللفظ ، لا فى محل النطق وهو قسمان : مفهوم موافقة ، ومفهوم مخالفة :

فالأول : ما يوافق حكمه المنطوق ؛ فإن كان أولى سمى فحوى الخطاب كدلالة : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (١٥) على تحريم الضرب ؛ لأنه أشد وإن كان مساويا سمى لحن الخطاب ، أى معناه ، كدلالة : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) (١٦) على تحريم الإحراق ؛ لأنه مساو للأكل فى الإتلاف. واختلف : هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية مجازية أو حقيقية؟

على أقوال بيناها فى كتبنا الأصولية.

والثانى : ما يخالف حكمه المنطوق ، وهو أنواع : مفهوم صفة ، نعتا كان أو حالا أو ظرفا أو عددا ، نحو : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١٧) ، مفهومه أن غير الفاسق لا يجب التبين فى خبره ؛ فيجب قبول خبر الواحد العدل. وحال نحو : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) (١٨) ، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (١٩) أى فلا يصح الإحرام به فى غيرها : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) (٢٠) أى فالذكر عند غيره ليس محصلا للمطلوب ، (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (٢١) أى : لا أقل ولا أكثر. وشرط نحو :

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) (٢٢) أى فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن. وغاية نحو : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢٣) أى : فإذا نكحته تحل للأول بشرطه. وحصر نحو : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٢٤). (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) (٢٥) ؛ أى : فغيره ليس بإله ، (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) (٢٦) ، أى : فغيره ليس بولى ، (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٢٧) ، أى : لا إلى غيره ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (٢٨) أى : لا غيرك.

واختلف فى الاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة ، والأصح فى الجملة أنها كلها حجة بشروط :

منها : ألا يكون المذكور (خرج للغالب) ومن ثم لم يعتبر الأكثرون مفهوم قوله : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) (٢٩) ؛ فإن الغالب كون

١٤٨

الربائب فى حجور الأزواج فلا مفهوم له ؛ لأنه إنما خص بالذكر لغلبة حضوره فى الذهن.

وألا يكون موافقا للواقع ، ومن ثم لا مفهوم لقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (٣٠) وقوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣١) وقوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (٣٢).

والاطلاع على ذلك من فوائد معرفة أسباب النزول.

(فائدة). قال بعضهم : الألفاظ إما أن تدل بمنطوقها أو بفحواها ومفهومها أو باقتضائها وضرورتها ، أو بمعقولها المستنبط منها. حكاه ابن الحصار ، وقال : هذا الكلام حسن. قلت :

فالأول دلالة المنطوق ، والثانى دلالة المفهوم ، والثالث دلالة الاقتضاء ، والرابع دلالة الإشارة. (٣٣) أ. ه. والله أعلم.

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

الهوامش :

__________________

(١) (زيد) نص لأنه علم شخص لا يحتمل غير مسماه ، و (أسد) ، ظاهر لأنه يحتمل وجهين : الحيوان المفترس المعروف ، والرجل الشجاع ، وأول الوجهين راجح يجب الحمل عليه عند التجرد من القرينة لتبادره بنفسه ـ وثانيهما مرجوح لا يصح الحمل عليه إلا عند القرينة الصارفة عن الراجح إلى المرجوح وبحيث يصير فيه لفظ الأسد مؤولا.

(٢) هذه هى دلالة الاقتضاء قال الجلال المحلى فى شرحها من «جمع الجوامع» (ثم المنطوق إن توقف الصدق فيه أو الصحة له عقلا أو شرعا على إضمار أى تقدير فيما دل عليه (فدلالة اقتضاء) أى : فدلالة اللفظ الدال على المنطوق على ذلك المضمر المقصود تسمى دلالة اقتضاء. والأول كما فى مسند أخى عاصم الآتى فى مبحث المجمل «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان» أى : المؤاخذة بهما لتوقف صدقه على ذلك لوقوعهما. والثانى كما فى قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أى : أهلها ، إذ القرية وهى الأبنية المجتمعة لا يصح سؤالها عقلا ، والثالث كما فى قولك لمالك عبد : أعتق عبدك عنى. ففعل فإنه يصح عنك أى ملكه لى فأعتقه عنى لتوقف صحة العتق شرعا على المالك). أه. وقوله كما فى مسند أخى عاصم يريد به الحافظ أبا القاسم التميمى كما فى حاشية البنانى عليه. انظر ج ١ ص ٢٣٩.

(٣) وهذه هى دلالة الإشارة قال المحلى فى شرحها (وإن لم يتوقف) أى الصدق فى المنطوق ولا الصحة على إضمار (ودل) اللفظ المفيد له (على ما لم يقصد) به (فدلالة إشارة) أى فدلالة اللفظ على ذلك المعنى الذى لم يقصد به تسمى دلالة إشارة كدلالة قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) على صحة صوم من أصبح جنبا للزومه للمقصود به من جواز جماعهن فى الليل الصادق بآخر جزء منه). أ ، ه. المصدر نفسه ص ٢٣٩ فما بعدها من أعلى.

(٤) المصدر نفسه ص ٢٣٧ بالهامش.

(٥) المصدر نفسه (ص ٢٤٠).

(٦) البقرة : ١٩٦.

(٧) هو أبو المعالى عبد الله بن أبى عبد الله بن يوسف الجوينى ، شيخ الغزالى ، وأعلم المتأخرين من أصحاب الشافعى. توفى سنة ٤٧٨ ه‍. ابن خلكان ١ / ٢٨٧.

(٨) البقرة : ١٧٣.

(٩) البقرة : ٢٢٢.

(١٠) الحديد : ٤.

(١١) الإسراء : ٢٤.

(١٢) البقرة : ٢٨٢.

(١٣) يوسف : ٨٢.

(١٤) البقرة : ١٨٧.

(١٥) الإسراء : ٢٣.

(١٦) النساء : ١٠.

(١٧) الحجرات : ٦.

(١٨) البقرة : ١٨٧.

(١٩) البقرة : ١٩٨.

(٢٠) البقرة : ١٩٧.

(٢١) النور : ٤.

(٢٢) الطلاق : ٦.

(٢٣) البقرة : ٢٣٠.

(٢٤) الصافات : ٣٥.

(٢٥) طه : ٩٨.

(٢٦) الشورى : ٩.

(٢٧) آل عمران : ١٥٨.

(٢٨) الفاتحة : ٥.

(٢٩) النساء : ٢٣.

(٣٠) المؤمنون : ١١٧.

(٣١) آل عمران : ٢٨.

(٣٢) النور : ٢٣.

(٣٣) ج ٣ من ص ١٠٤ إلى ص ١٠٨.

١٤٩

عام القرآن وخاصه

العامّ والخاصّ : اسم فاعل من العموم والخصوص ولا خلاف فى كونهما من عوارض الألفاظ ، ولكن الخلاف فى كونهما من عوارض المعنى ، وتحقيق العلامة الشربينى يجعل الخلاف بين الفريقين خلافا لفظيا أو يكاد ، وذلك بأنّ العموم يقصد به التناول تارة ، وبهذا يكون من عوارض الألفاظ فقط ، وتارة يقع بمعنى الشمول ، فيتصف به اللفظ والمعنى. فمن قال : العموم ليس من عوارض المعانى صحّ ، إذا كان العموم بمعنى التناول أى : إفادة اللفظ للشيء ، ومن قال : العموم من عوارضها صحّ ، إذا كان بمعنى الشمول.

وحيث كان الخصوص قسيما للعموم ، فما قيل فى العموم يقال فى الخصوص ، بمعنى أن الخصوص يكون من عوارض الألفاظ فقط عند ما يكون معنى الخصوص التناول ، ويكون من عوارض المعانى أيضا الجزئية مقابل الكلية. ولمّا كان هناك اتفاق بين العلماء على أن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ اتجهوا فى تعريفاتهم للعام والخاص إلى هذا الاتجاه ، فعرّف ابن السبكى العام بأنه : (لفظ يستغرق الصالح له بغير حصر) فقولهم (لفظ) أخرج الألفاظ المتعددة الدالة على معان متعددة بتعددها. وقولهم :

(يستغرق) أى يتناول جميع أفراده دفعة واحدة ، فهو قيد أول أخرج ما لا يستغرق كالنكرة فى سياق الإثبات واسم العدد ؛ لأنه يتناول أفراده بالبدلية لا الاستغراق. وقولهم :

(الصالح له) قيد لبيان الماهية ؛ لأنه ليس هناك لفظ يستغرق غير الصالح له ليحترز عنه. وقولهم (من غير حصر) قيد ثان يخرج اسم العدد ؛ لأنه يتناول بحصر كعشرة ومائة ، والنكرة المثناة فى الإثبات وكذلك المجموعة.

فكل ما خرج بالقيدين فهو من الخاص بحيث يمكن صياغة تعريف الخاص بأنه : (اللفظ الذى لا يستغرق ما يصلح له أو يستغرقه مع الحصر) ، وبه يفهم معنى قولهم التخصيص هو «قصر العام على بعض أفراده».

وقد تكلم الأصوليون كلاما طويلا فى هذا الباب ؛ ولذا سنهتم بما يناسب بحثنا فى علوم القرآن ، وسنعتمد على ما قدمه السيوطى فى كتابه «الإتقان» مع التعليق على ما يستحق ذلك.

١٥٠

فبدأ الإمام السيوطى بذكر تعريف العام الذى ذكرنا من كلام ابن السبكى ـ دون شرح له ، ثم ثنى ببيان صيغه ، من غير خوض فى خلاف أن للعام صيغا موضوعة أو لا ، وخوض فى العديد من تلك الصيغ أهي للعموم أم للخصوص؟ فذكر منها «كل» مبتدأة نحو (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١) ، أو تابعة ، نحو :

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٢) أ. ه.

وترك ـ رحمه‌الله ـ من استعمالات (كل) :

الظرفية الموصولة ب (ما) الزائدة المستعملة فى الجملة الشرطية كقوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) (٣). كما ترك ما هو بمعنى «كل» كأجمع وجميع وكافة وعامة ، وطرا ، وقاطبة ، وبأسر ، ونحو ذلك. وقد استعمل من ذلك فى القرآن أجمع تابعا «لكل» كما مثل هو «لكل» التابعة. ومنفردا كقوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤) ، وجميع : كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٥) ، وكافة : كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (٦). ثم ذكر من صيغه (الذى والتى وتثنيتهما وجمعهما) أى : ما لم يقم عهد بقرينة ، وإن لم ينبه الشيخ على ذلك ، فإن قامت قرينة على العهد فهى للخصوص.

فمثال العام : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) (٧) فإن المراد به كل من صدر منه هذا القول ، بدليل قوله بعد : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) (٨) ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٩) ، (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) (١٠) الآية ، (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا) (١١) الآية (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما). (١٢) ومثال ما جاء من ذلك خاصا لقيام قرينة العهد ، ولم يعرض له السيوطى هنا قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (١٣) وقوله : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) (١٤) الآية ، وقوله : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) (١٥) الآية ، نزلت فيمن كان من المنافقين مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غزوة بنى المصطلق كما هو معلوم فى محله من كتب التفسير وأسباب النزول.

ثم واصل حديثه فى ذكر الصيغ فذكر منها (أى ، وما ، ومن شرطا واستفهاما وموصولا) نحو : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ

١٥١

الْحُسْنى) (١٦) فهذا مثال الشرط فى أى ، وعليه اقتصر السيوطى فيها ، ومثال الاستفهام قوله تعالى فيما قص عن سليمان عليه‌السلام : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). (١٧) ومثال الموصولة ، قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (١٨) ومثال الشرط فى (ما) قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) (١٩) ومثال الاستفهام فيها قول امرأة العزيز فيما قص الله عنها : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٠) فإن السؤال بها يعم أنواع الجزاء كلها ، بدليل الاستثناء المتصل الذى هو معيار العموم كما يقولون ، ومثال الموصولة ، وعليه اقتصر السيوطى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). (٢١) ومثال الشرطية فى (من) قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٢٢) ـ وعليه اقتصر السيوطى ، ومثال الاستفهامية فيها قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). (٢٣) ومثال الموصولة فيها قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ). (٢٤)

ثم ذكر من الصيغ (الجمع المضاف) نحو (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (٢٥) ، و (المعرف بأل) نحو (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (٢٦) (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٢٧) أى : ومثل الجمع اسمه (أى اسم الجمع) كالقوم ، واسم الجنس الجمعى كالشجر ، واسم الجنس المضاف ، نحو :

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٢٨) أى :

كل أمر الله. و (المعرف بأل) نحو : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢٩) أى كل بيع ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أى كل إنسان بدليل : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا). (٣٠) والنكرة فى سياق النفى والنهى نحو : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) (٣١) ، (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (٣٢) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) (٣٣) ، (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (٣٤) ، (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ). (٣٥) وفى سياق الشرط نحو :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ، (٣٦) وفى الامتنان نحو : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٣٧) وكالفعل فى سياق النفى والنهى كقوله تعالى :

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) (٣٨) وقوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ، (٣٩) واسم الفعل فى سياق النهى كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ). (٤٠)

١٥٢

وترك السيوطى ـ رحمه‌الله ـ من صيغ العام المستعملة فى القرآن.

(أ) (مهما) وهى كلفظة (ما) لغير العاقل ، ولا تستعمل إلا شرطية كقوله تعالى : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (٤١).

(ب) (كيف) لعموم الأحوال استفهاما ، وشرطا ، ولم يأت فى القرآن ، ومتجردة عنهما. فمثالها استفهاما قوله تعالى (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) (٤٢) ، ومثالها متجردة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) (٤٣).

(ج) (أين) لعموم المكان شرطا واستفهاما ومجردة منهما ، فمثالها شرطا قوله تعالى :

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ، (٤٤) ومثالها استفهاما : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) ، (٤٥) ومثالها مجردة منهما : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٤٦).

(د) (أنى) لعموم الأحوال تارة ككيف ، ولعموم الأماكن كمن أين ، وتأتى شرطا ولم يقع فى القرآن. واستفهاما بالمعنيين الآنفين ، ومجردة منها بهذين المعنيين. فمثالها استفهاما بمعنى كيف : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) (٤٧) الآية ، ومثالها استفهاما بمعنى من أين : (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٤٨) ، ومثالها مجردة منهما : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٤٩) ، وهى محتملة للمعنيين.

(ه) (حين) كأين فى عموم المكان ، مجرورة بمن ، أو ظرفا موصولة بما ، أو بدونها ، وقد تكون على ظرفيتها شرطية إن وصلت بما ، ومثالها قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (٥٠).

(و) (متى) لعموم الزمان ماضيا فى الاستفهام ومستقبلا فيه وفى الشرط ، ولم تستعمل فى القرآن إلا مستقبلة فى الاستفهام كقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٥١).

(ز) (أيان) لعموم الزمان المستقبل شرطا واستفهاما ، ولم تستعمل فى القرآن إلا استفهاما كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) (٥٢).

١٥٣

(ح) (كم) لعموم العدد استفهاما ، وفى الكثرة غير المحصورة خبرية ، فمن الأول قوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) (٥٣) ، ومن الثانى قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها). (٥٤) والأمران محتملان فى نحو قوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٥٥).

(ط) (كأين) وهى ككم الخبرية فى نحو قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). (٥٦)

ثم عقد السيوطى ـ رحمه‌الله ـ فصلا فى مخاطبات القرآن بالعام بين عام باق على عمومه ، وعام مراد به الخصوص ، وعام مخصوص ، فقال ـ رحمه‌الله : «العام على ثلاثة أقسام :

الأول : الباقى على عمومه : قال القاضى جلال البلقينى : ومثاله عزيز ، إذ ما من عام إلا ويدخل فيه التخصيص فقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) (٥٧) قد يخص منه غير المكلف ، و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٥٨) خص منها حالة الاضطرار ، وميتة السمك والجراد ، وحرم الربا خص منه العرايا. (٥٩) وذكر الزركشى فى «البرهان» أنه كثير فى القرآن ، وأورد منه : (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، (٦٠) (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) ، (٦١) (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، (٦٢) (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ، (٦٣) (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً). (٦٤) قلت : هذه الآيات كلها فى غير الأحكام الفرعية ، فالظاهر أن مراد البلقينى أنه عزيز فى الأحكام الفرعية ، وقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها ، وهى قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٦٥) الآية ، فإنه لا خصوص فيها».

الثانى : العام المراد به الخصوص.

الثالث : العام المخصوص. وللناس بينهما فروق. أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد ، لا من جهة تناول اللفظ ، ولا من جهة الحكم ، بل هو ذو أفراد استعمل فى فرد منها.

والثانى أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها ، لا من جهة الحكم ، ومنها أن الأول مجاز قطعا لنقل اللفظ عن موضعه الأصلى بخلاف الثانى فإن فيه مذاهب أصحها : أنه حقيقة ، وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة ، ونقله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء. وقال الشيخ أبو حامد : إنه مذهب الشافعى وأصحابه. وصححه السبكى ؛ لأن تناول

١٥٤

اللفظ للبعض الباقى بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص. وذلك التناول حقيقى اتفاقا ، فليكن هذا التناول حقيقيا أيضا.

ومنها أن قرينة الأول عقلية والثانى لفظية.

ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه ، وقرينة الثانى قد تنفك عنه. ومنها أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقا ، وفى الثانى خلاف ، ومن أمثلة المراد به الخصوص قوله تعالى :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). (٦٦)

والقائل واحد (هو) نعيم بن مسعود الأشجعى أو أعرابى من خزاعة ، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبى رافع ؛ لقيامه مقام كثير فى تثبيط المؤمنين عن ملاقاة أبى سفيان قال الفارسى : ومما يقوى أن المراد به واحد قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) (٦٧) ، فوقعت الإشارة بقوله : (ذلكم) إلى واحد بعينه ، ولو كان المعنى جمعا لقال : (إنما أولئكم الشيطان) ، فهذه دلالة ظاهرة فى اللفظ.

ومنها قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) (٦٨) أى : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجمعه ما فى الناس من الخصال الحميدة. ومنها قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (٦٩). أخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس فى قوله :

(مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ). قال : إبراهيم عليه‌السلام. ومن الغريب قراءة سعيد بن جبير : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) قال فى «المحتسب» : يعنى آدم لقوله : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٧٠) ، ومنه قوله تعالى :

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) (٧١). أى : جبريل كما فى قراءة ابن مسعود» أ. ه.

وأقول : ذكر السيوطى ـ كما ترى ـ للعام المراد به الخصوص أربعة أمثلة لا ننازعه منها إلا فى ثالثها ، وإن كان فى بعضها كلام ، وأعنى بهذا الثالث ما عزا فيه إلى الطبرى الرواية عن الضحاك عن ابن عباس : من أن الناس فى ثانية آيتى الإفاضة يراد بهم إبراهيم ، فإن النسخ المطبوعة بطبعات مختلفة من تفسير الطبرى فى تفسير هذه الآية من سورة البقرة ليس فيها الرواية عن الضحاك موصولة إلى ابن عباس ، بل الرواية فيها جميعا هى عن الضحاك موقوفة عليه ، وهكذا رواها عن الطبرى الحافظ ابن كثير (٧٢) ، وكذا رواها الحفاظ من أمثال الحافظ ابن حجر فى «الفتح» عن ابن أبى حاتم وغيره. فهذه واحدة.

وثانية هى أطم من الأولى وأعظم ، وهى أن هذا القول أحد قولين فى الآية حكاهما

١٥٥

الطبرى واختار غيره لما قال من إجماع الحجة عليه ، وأنه لو لا إجماع الحجة على هذا الغير لاختاره. هذا معنى كلامه ، وإنما القول المعتمد فى تفسير الآية أن يراد من الإفاضة فيها عين ما أريد منها فى سابقتها ، ومن قوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) عرفات كما وقع التصريح به فى سابقتها على ما روى البخارى ـ رحمه‌الله ـ عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ : «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الخمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات ، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتى عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها ، فذلك قوله تعالى :

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أ. ه كذا أخرجه البخارى فى الحج وفى التفسير ، واللفظ من التفسير فى تفسير الآية من سورة البقرة. تريد ـ رضى الله عنها : أن المأمور بالإفاضة فى هذه الآية هو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، أمروا أن تكون إفاضتهم من حيث يفيض جمهور العرب أى من عرفة ـ لا من حيث كان يفيض قريش ومن دان دينها من المزدلفة أى أن يكون موقف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى تصدر منه الإفاضة هو عرفة لا المزدلفة على ما كانت تفعل قريش ، وتوجيه (ثم) على هذا القول المعتمد ـ والذى اختاره الطبرى نفسه وحكى الإجماع عليه ـ ما قاله الحافظ ابن حجر فى شرح هذا الحديث من كتاب الحج قال رحمه‌الله (٧٣) : (وأما الإتيان فى الآية بقوله : (ثم) فقيل : هى بمعنى الواو. وهذا اختيار الطحاوى ، وقيل : لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب ، والمعنى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، ثم اجعلوا الإفاضة التى تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون.

قال الزمخشرى : وموقع (ثم) هنا موقعها من قولك : «أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير الكريم» ، فتأتى (ثم) لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال : ثم أفيضوا. لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ.

قال الخطابى : «تضمن قوله تعالى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) الأمر بالوقوف بعرفة لأن الإفاضة إما تكون عند اجتماع قبله ، وكذا قال ابن بطال وزاد : وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه» أه.

نعم قد جاء الآخر رواية عن ابن عباس عند البخارى أيضا فى تفسير الآية من كتاب التفسير والذى حاصله أن الإفاضة فى هذه

١٥٦

الآية غيرها فى سابقتها ، وأنها الإفاضة من «جمع» أى : المزدلفة إلى منى لرمى الجمرات ، ولكن المقصود بالناس

فى هذه الرواية ليس ما فى رواية الضحاك ، وإنما هو العموم الشامل لجماهير الناس جميعا ، أو هم قريش على أقل تقدير. ففي هذا الحديث عند البخارى :

ثم ليدفعوا من عرفات فإذا أفاضوا منها حتى يبلغوا جمعا الذى يتبرر فيه ، ثم ليذكروا الله كثيرا أو أكثروا التكبير والتهليل قبل أن تصبحوا ، ثم أفيضوا فإن الناس كانوا يفيضون. وقال الله تعالى : وتلا الآية ثم قال :

حتى ترموا الجمرة أ. ه.

فلا تشترك هذه الرواية مع ما قال الضحاك إذن ، إلا فى مجرد أن الإفاضة فى الآية يراد بها الإفاضة من المزدلفة ، وأما أن الناس فيها يراد بهم إبراهيم عليه‌السلام فشىء لم يعرف عن ابن عباس ولا عن غيره ، وإنما هو قصر على الضحاك وحده ، وشتان ما بين الأمرين ، ومع هذا فإن هذا القول عن ابن عباس ـ وإن بقيت فيه (ثم) التى صدرت بها الآية على حقيقتها من إفادة الترتيب ، ليس هو القول المعتمد فى تفسير الآية ، والذى وصفنا من قول عائشة ، بل الذى نطقت به رواية أخرى عن ابن عباس فى تفسير الطبرى نفسه ، كما جاءت به الرواية عند الطبرى عن عروة بن الزبير وعطاء وقتادة ومجاهد والسدى والربيع وابن أبى نجيح.

ومن ثم حكى الطبرى إجماع الحجة عليه كما سبق. وإنما كان الذى وصفنا من قول هؤلاء المعتمد ؛ لأنه فوق كونه قول الجمهور نص فى إلغاء صنيع قريش ، وإيجاب أن يكون موقف الجميع ؛ قريش وغير قريش بعرفة ، بخلاف ما فى هذه الرواية عن ابن عباس ، فإنه وإن أفاد إيجاب الإفاضة إلى منى لم يعرض من قليل أو كثير لما هو أهم منه بدرجات ـ أعنى إبطال الباطل ـ ولا سيما أن الإفاضة من المزدلفة إلى منى كان أمرا معروفا ومشتركا متفقا فيه من الكل ؛ قريش ، وغير قريش ، فلم تضف الآية جديدا.

وأيضا فإن أمر منى سيأتى الحديث عنه بعد هذا بقليل فى قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (٧٤) الآية. وفى هذا الرد :

(أ) على ما زعم الطبرى من ترجيح أن تراد الإفاضة إلى منى لو لا إجماع الحجة على الأول.

(ب) وعلى علامة مفسرى العصر الطاهر ابن عاشور فيما زعم من ذلك لو لا الحديث ، كما قال فى تفسيره الجليل «التحرير والتنوير» يريد حديث عائشة المتضمن للقول المعتمد.

١٥٧

(ج) وعلى موقف الحافظ ابن كثير الحائر بين القولين والمتمثل فى قوله بعد إيراده لروايتى عائشة وابن عباس من البخارى (فالله أعلم) أ. ه.

وأما ما حكى فى هذا المثال من قراءة ابن جبير بالياء يريد آدم كما فسره ابن جنى فى «المحتسب» ، فقد كفانا مئونتها بعدّها من الغريب ، فإنها قراءة بالغة الشذوذ خارجة أتم الخروج عن القرآنية ، فلا يبال بها ولا بما تضمنته من هذا المعنى هنا.

ثم شرع السيوطى بعد هذا فى الحديث عن العام المخصوص وبيان المخصص المتصل منه والمنفصل فقال : «وأما المخصوص فأمثلته فى القرآن كثيرة جدا ، وهو أكثر من المنسوخ ، إذ ما من عام إلا وقد خص ، ثم المخصص له :

إما متصل وإما منفصل ، فالمتصل : خمسة وقعت فى القرآن : أحدها : الاستثناء» (يريد المتصل) وذكر له أمثلة خمسة نختار من بينها آخرها وهو قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٧٥).

ثم قال السيوطى : «الثانى : الوصف نحو :

(وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) (٧٦) الثالث : الشرط ، نحو (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) (٧٧) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) (٧٨). الرابع : الغاية وذكر لها أمثلة أربعة آخرها : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) (٧٩) الآية. والخامس :

بدل البعض من الكل نحو : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٨٠). ثم قال : والمنفصل آية أخرى فى محل آخر ، أو حديث ، أو إجماع ، أو قياس. ومن أمثلة ما خص بالقرآن قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٨١) ، خص بقوله : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) (٨٢) وبقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (٨٣). وقوله :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) (٨٤) ، خص من الميتة السمك بقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) (٨٥) ، ومن الدم الجامد بقوله : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (٨٦).

١٥٨

وقوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (٨٧) الآية خص بقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (٨٨). وقوله :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٨٩). خص بقوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) (٩٠).

وقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (٩١) ، خص بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٩٢) الآية. ومن أمثلة ما خص بالحديث قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٩٣) خص منه البيوع الفاسدة ـ وهى كثيرة بالسنة ـ (وَحَرَّمَ الرِّبا) ، خص منه العرايا (٩٤) بالسنة ، وآيات المواريث خص فيها القاتل والمخالف فى الدّين بالسنة. وآية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنة ، وآية (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٩٥) خص منها الأمة بالسنة (٩٦).

وقوله : (ماءً طَهُوراً) (٩٧) خص منه المتغير بالسنة ، وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) (٩٨) ، خص منه من سرق دون ربع دينار بالسنة. ومن أمثلة ما خص بالإجماع :

آية المواريث خص منها الرقيق فلا يرث بالإجماع ، ذكره مكى. ومن أمثلة ما خص بالقياس : آية الزنا (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٩٩) خص منها العبد بالقياس على الأمة المنصوصة فى قوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) (١٠٠) المخصص لعموم الآية ، ذكره مكى أيضا».

ثم قال السيوطى : «فصل من خاص القرآن : ما كان مخصصا لعموم السنة وهو عزيز ، ومن أمثلته قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) (١٠١) خص عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله).

وقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١٠٢) ، خص عموم نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة فى الأوقات المكروهة بإخراج الفرائض ، وقوله : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها) (١٠٣) الآية خص عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ما أبين من حى فهو ميت» ، وقوله :

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (١٠٤).

خص عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوىّ). وقوله : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (١٠٥). خص عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إذا التقى المسلمان بالسيف ، فالقاتل والمقتول فى النار)».

١٥٩

ثم قال السيوطى : فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص : الأول : إذا سيق العام للمدح أو الذم ، فهل هو باق على عمومه؟ فيه مذاهب :

أحدها : (نعم) إذ لا صارف عنه ، ولا تنافى بين العموم وبين المدح أو الذم.

والثانى : لا ؛ لأنه لم يسق للتعميم بل للمدح أو الذم.

والثالث : وهو الأصح : التفصيل ، فهو إن لم يعارضه عام آخر لم يسق لذلك ، ولا يعم إن عارضه ذلك ، جمعا بينهما. مثاله ـ ولا معارض ـ قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٠٦) ومع المعارض قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (١٠٧). فإنه سيق للمدح ، وظاهره يعم الأختين بملك اليمين جمعا ، وعارضه فى ذلك : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) (١٠٨) ؛ فإنه شامل لجمعهما بملك اليمين ، ولم يسق للمدح فحمل الأول على غير ذلك بأنه لم يرد تناوله له. ومثاله فى الذم : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) (١٠٩) الآية فإنه سيق للذم ، وظاهره يعم الحلى المباح. وعارضه فى ذلك حديث جابر : «ليس فى الحلى زكاة». فحمل الأول على غير ذلك.

الثانى : اختلف فى الخطاب الخاص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نحو : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) هل يشمل الأمة؟ فقيل : نعم ؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفا ، والأصح فى الأصول المنع لاختصاص الصيغة به.

الثالث : اختلف فى الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، هل يشمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ على مذاهب : أصحّها ـ وعليه الأكثرون : نعم لعموم الصيغة له ؛ أخرج ابن أبى حاتم عن الزهرى قال : إذا قال الله : «يأيها الذين آمنوا افعلوا» فالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم.

والثانى : لا ؛ لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره ، ولما له من الخصائص.

والثالث : إن اقترن ب «قل» لم يشمله لظهوره فى التبليغ ، وذلك قرينة عدم شموله ؛ وإلا فيشمله.

الرابع : الأصح فى الأصول أن الخطاب ب «أيها الناس» يشمل الكافر والعبد لعموم اللفظ ، وقيل : لا يعم الكافر بناء على عدم تكليفه بالفروع. ولا العبد ؛ لصرف منافعه إلى سيده شرعا.

الخامس : اختلف فى «من» هل تتناول

١٦٠