الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

الاستعارة التّمثيلية

الاستعارة التمثيلية هى القسم الثالث من الاستعارة التصريحية ، بعد الاستعارة الأصلية ، والاستعارة التبعية.

ويسميها الخطيب القزوينى : المجاز المركب ، وقال فى تعريفها :

«وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فى ما شبّه بمعناه الأصلى تشبيه التمثيل للمبالغة فى التشبيه : أى تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى. ثم تدخل المشبه فى المشبه به مبالغة فى التشبيه» (١).

يعنى يكون الوصف الجامع أو المشترك بين كل من المشبه (المستعار له) والمشبه به (المستعار منه) هيئة أو صورة مؤلفة من عنصرين أو أكثر من عنصرين.

والاستعارة التمثيلية تختلف عن غيرها من الاستعارات فالوصف المشترك بين الطرفين فى غيرها مفرد وفيها هيئة أو صورة مركبة فاستعارة «النور» ل «الإيمان» استعارة مفردة ، لأن الوصف الجامع بينهما مفرد ، وهو الهداية أما الاستعارة التمثيلية فالوصف الجامع فيها هيئة أو صورة كما سيأتى.

أما جلال الدين السيوطى فقد أوجز فى تعريف الاستعارة التمثيلية حيث قال :

«هى أن يكون وجه الشبه فيها ـ أى الوصف المشترك بين الطرفين ـ منتزعا من متعدد» (٢).

وإلى هذا ذهب المدنى كذلك (٣).

وسماها قدامة بن جعفر «التمثيل» (٤).

وعلى هذا المنهج سار شراح التلخيص (٥).

والإمام عبد القاهر الجرجانى ساق لها عدة أمثلة تحت عنوان «التمثيل» (٦).

ومن أمثلتها فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٧).

قال الإمام جار الله الزمخشرى فى توجيه هذه الآية بلاغيا :

«هذا تمثيل لمنع الشحيح ، وإعطاء المسرف ، وأمر بالاقتصاد الذى هو بين الإسراف والتقتير» (٨).

وقوله «تمثيل» يعنى : استعارة تمثيلية.

وفى توضيح هذا الإجمال يقول الشهاب :

«يعنى أنهما استعارتان تمثيليتان ، شبه فى

٥٤١

الأولى يعنى : «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ـ فعل الشحيح فى منعه بمن يده مغلولة لعنقه ، بحيث لا يقدر على مدها ، وفى الثانية شبه السرف ببسط اليد ، بحيث لا تحفظ شيئا» (٩).

يعنى أن غل اليد إلى العنق صورة حسية شبه بها صورة البخيل الحريص على المنع والاحتفاظ بماله.

وأن صورة بسط اليد وهى حسية كذلك شبه بها صورة المسرف الشديد الإسراف فى بذل ماله ، بحيث جعله مباحا لكل من أراد أخذه بلا أية ضوابط. فالتشبيه فيهما وقع بين صورتين مركبتين ، لا بين مفرد ومفرد.

والجامع بين الطرفين هيئة أو صورة مركبة من عنصرين فأكثر.

ومن الاستعارة التمثيلية فى القرآن الكريم قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (١٠).

ففي الآية استعارتان تمثيليتان ، لأن المعنى أن مثل الأرض يوم القيامة لتصرف الله الكامل فيها ومثل السموات بهيمنة الله على كل ما فيها ، مثل الشيء يكون فى يد الآخذ به المتصرف فيه (١١).

والاستعارة التمثيلية ، لا توصف بأنها أصلية أو تبعية لاعتبارين :

الأول : أن ألفاظها المركبة منها كثيرا ما تجمع بين الأسماء الجامدة والأفعال والصفات ، كما فى (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ).

ففيها أسماء أجناس مثل : يد ـ عنق.

وفيها أفعال وصفات مشتقة وحروف ، مثل تجعل ، تبسط ، إلى ،. وقد تقدم أن الاستعارة التصريحية الأصلية هى ما جرت فى أسماء الأجناس الجامدة ، وأسماء المعانى.

وأن التصريحية التبعية هى ما جرت فى الأفعال والصفات المشتقة والحروف.

لذلك فإن الاستعارة التمثيلية لا يقال إنها أصلية أو تبعية. ولكن تصريحية تمثيلية فقط.

الاعتبار الثانى : أن الاستعارة التمثيلية كل الألفاظ التى ركبت منها تظل على معانيها الحقيقية لا يدخلها مجاز. وإنما المجاز يقتصر فيها على مجموع كلماتها ، حيث تنقل صورتها من الحقيقة إلى المجاز.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) الإيضاح (٥ / ١٠٨).

(٢) معترك الأقران (١ / ٢٨٣).

(٣) أنوار الربيع (١ / ٢٥١).

(٤) نقد الشعر (١٨١).

(٥) شروح التلخيص (٤ / ١٤٧).

(٦) دلائل الإعجاز (٤٣٠).

(٧) الإسراء (٢٩).

(٨) الكشاف (٢ / ٤٤٧).

(٩) حاشية الشهاب على البيضاوى (٦ / ٢٧).

(١٠) الزمر (٦٧).

(١١) معجم المصطلحات البلاغية.

٥٤٢

الاستعارة المرشّحة

الترشيح لغة : هو التقوية (١) ، وأما اصطلاحا فإن كل الأقوال فيه تجمع على شىء واحد ، هو أن يذكر فى الكلام ما يناسب المشبه به ، وهو المستعار فى أسلوب الاستعارة.

والترشيح وصف عارض للاستعارة ، ولا يدخل فى عناصرها الأولية المكونة لها ، وهو ليس بلازم فيها وكان ممن وضع لها تعريفا فخر الدين الرازى حيث قال «هى التى قرنت بما يلائم المستعار منه ، وهى أن يراعى جانب المستعار ، ويولى ما يستدعيه ، ويضم إليه ما يقتضيه» (٢).

وكذلك قال الحلبى فى تعريفها (٣).

وجمهور البلاغيين يسمون الاستعارة التى قرنت بما يناسب المشبه به (اللفظ المستعار) :

الاستعارة المرشحة ، أو الاستعارة الترشيحية (٤).

وهى أقوى أنواع الاستعارة ، وأكثرها مبالغة لأن الاستعارة تقوم على تناسى التشبيه ، وذكر ما يلائم المشبه به (اللفظ المستعار) يساعد على تناسى التشبيه ؛ لذلك قالوا فى بيان قيمة الاستعارة المرشحة :

«وأجل الاستعارات الاستعارة المرشحة» (٥).

ومن أمثلتها فى القرآن الكريم ، قوله تعالى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٦).

استعار الاشتراء للاختيار والاستبدال أى استبدلوا الضلالة بالهدى ، لأنه لا بيع ولا شراء على الحقيقة ، وهى استعارة تصريحية لذكر المشبه به «الاشتراء» تبعية لجريانها فى الفعل وقد ذكر فى هذه الاستعارة ما يلائم المشبه به ، وهو نفى الربح فى قوله تعالى :

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) لأن الربح والتجارة يلائمان المشبه به وهو الاشتراء.

وفى بيان هذا يقول الإمام الزمخشرى :

حيث إن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا فى معنى الاستبدال. فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن ثمة مبايعة على الحقيقة؟

قلت هذا من الصنعة البديعة ، التى تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ثم تقفّى بأشكال لها وأخوات ، إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماء ورونقا وهو المجاز المرشح.

٥٤٣

وذلك نحو قول العرب فى البليد : كأن فى أذنى قلبه خطلا ، وإن جعلوه كالحمار. ثم رشحوا ذلك دوما لتحقيق البلادة ، فادعوا لقلبه أذنين وادعوا لهما الخطل ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار (٧).

يعنى أن هذا الترشيح يبعد المشبه به عن جنسه وينسى السامع أصله ، وفى هذا مبالغة فى إثبات المعنى المجازى المراد.

ومن الاستعارة المرشحة فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (٨).

فالنقض : هو الفسخ وفك التركيب ، وإيقاعه على العهد من أجل تشبيه العهد بالحبل المبرم ، وقوله تعالى :

(مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أى من بعد إحكام برمه وتوثيقه ، ترشيح للاستعارة ؛ لأنه من ملائمات المشبه به ، وهو الحبل. ففي هذا الترشيح زيادة تناس للنسبية ، حتى لكأن العهد صار حبلا فعلا.

وقد استعير النقض ـ كذلك ـ لعدم الوفاء بموجب العهد ، إخراجا للمعنوى المعقول فى صورة المادى المحسوس ، اعتناء به ، وتنويها ببشاعته ، وهى استعارة تصريحية تبعية.

ومثلها الاستعارتان فى قوله تعالى :

(وَيَقْطَعُونَ) و (يُوصَلَ) وكل هذه الاستعارات يرشح بعضها بعضا.

لأنه لا نقض ، ولا حبل ، ولا قطع ، ولا وصل على الحقيقة فى الأمور المعنوية.

والاستعارات المرشحة ، لها ورود ملحوظ فى آيات الذكر الحكيم ، وهى ـ كما تقدم ـ من أبلغ الاستعارات ومن أعلاها شأنا ، للمبالغة فى إثبات المعنى المجازى المراد ، عن طريق تناسى التشبيه ، وصيرورة المشبه من جنس المشبه به.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ، مادة : رشح.

(٢) نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز (٩٢).

(٣) حسن التوسل (١٣٤).

(٤) مفتاح العلوم (١٧٦).

* المصباح (٢٦٦).

* شروح التلخيص (٤ / ١٣٠).

* المطول للسعد (٣٧٨).

* الأطول لعصام الدين (٢ / ١٤٢).

* البرهان فى علوم القرآن (٣ / ٤٢٨).

* خزانة الأدب للحموى (٤٩).

* معترك الأقران فى إعجاز القرآن (١ / ٢٨١).

(٥) تحرير التحبير لابن أبى الأصبع (٩٩).

(٦) البقرة (١٦).

(٧) الكشاف (١ / ١٩٢ ـ ١٩٣).

(٨) البقرة (٢٧).

٥٤٤

الاستعارة المجرّدة

من معانى التجريد فى اللغة التعرية والتخلية ، يقال جرّد فلان من ماله ، أى أخذ منه ، وخلت منه يده (١) والتجريد فى الاستعارة ضد الترشيح ، وهو عند علماء البيان يدور معناه حول ذكر ما يلائم المشبه دون المشبه به.

فيرى الفخر الرازى أن الاستعارة تكون تجريدية إذا عقبت بصفات ملائمة للمستعار له ـ يعنى المشبه ـ أو تفريع كلام ملائم له (٢).

أما بدر الدين ابن بن مالك فيقول :

«تجريد الاستعارة هو أن تقرن بما يلائم المستعار له» (٣).

وكذلك قال الخطيب القزوينى (٤).

أما العلوى فقد أطال فى تعريفها مع التمثيل لها فقال :

«فأما الاستعارة المجردة فإنما لقّبت بهذا اللقب لأنك إذا قلت :

رأيت أسدا يجندل الأبطال بنصله ، ويشك الفرسان برمحه ، فقد جردت قولك «أسدا» من لوازم الآساد وخصائها ، إذ ليس من شأنها تجريد الأبطال ، ولا شك الفرسان بالرماح والنصال (٥) وإلى هذا ذهب السبكى (٦) ، والتفتازانى (٧) ، والزركشى (٨) ، والسيوطى (٩).

وقد وردت الاستعارة المجردة فى كتاب الله العزيز فى عدة مواضع ، منها قوله تعالى :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٠).

استعيرت الإذاقة لشدة الإحساس بالآلام واستعير اللباس لما أحاط بهم من عقاب الله تعالى.

وقوله عزوجل :

«فأذاقها» تجريد ، روعى فيه جانب المشبه ، الذى هو «الإصابة» بآلام الجوع والخوف ، والمشبه به فى الاستعارة الثانية (لباس) فكان يلائمه أن يقال : فألبسها ولكنه قال :

«فأذاقها» وهو لا يلائم «اللباس» وإنما يلائم «اللباس» أن يقال : فكساها الله لباس الجوع والخوف (١١).

٥٤٥

وذكر ما يلائم المشبه ـ هنا ـ أبلغ من ذكر ما يلائم المشبه به ؛ لأن المقام يقتضى التجريد دون الترشيح ؛ لأن فى الإذاقة إشارة إلى شدة الإحساس بالألم لأنه شعور به من داخل الإنسان.

أما إحاطة اللباس فلا تعدو أن تكون مجرد إحساس من الخارج الملاصق لأجسامهم من خارجها. فالترشيح فى مقامه أبلغ من التجريد. والتجريد فى مقامه أبلغ من الترشيح فى البيان القرآنى المعجز ووجه أبلغية التجريد على الترشيح فى هذه الآية أن «لباس» أضيف إلى (الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) ـ وهما آفتان تصيبان المبتلى بهما من الداخل.

فالإحساس بهما يشعر به المبتلى بهما من داخله لا من خارجه والإذاقة هى وسيلة القذف والازدراد إلى جوف الذائق.

فلا يفهم من قول البلاغيين «الترشيح أبلغ من التجريد» لما فيه من شدة تناسى التشبيه ، أن فى القرآن تفاوتا بين أساليبه بحيث يكون بعضها أبلغ من بعض ؛ لأن أساليب القرآن تأتى دائما وافية بما يقتضيه المقام فالقرآن كله على درجة واحدة من البلاغة والبيان.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ، ترتيب القاموس ، مادة : جرد.

(٢) نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز (٩٢).

(٣) المصباح (٦٦).

(٤) الإيضاح (٥ / ١٤١) وما بعدها.

(٥) الطراز (١ / ٢٣٦).

(٦) عروس الأفراح ضمن شروح التلخيص (٤ / ١٢٨).

(٧) الطول (٣٧٧).

(٨) البرهان فى علوم القرآن (٣ / ٤٢٨).

(٩) معترك الأقران (١ / ٢٨١).

(١٠) النحل (١١٢).

(١١) حاشية الشهاب على البيضاوى (٦ / ٣٧١).

٥٤٦

الاستعارة المطلقة

الإطلاق فى اللغة ترك التقييد (١).

والإطلاق فى اصطلاح البيانيين هو خلو الاستعارة مما يلائم المشبه به ، فلا تكون مرشحة. وخلوها مما يلائم المشبه فلا تكون مجردة.

قال الخطيب : هى التى لم تقترن بصفة ولا تفريع كلام (٢).

ومن الإطلاق نوع آخر له شواهد فى الشعر العربى وهو ما كانت الاستعارة فيه مشتملة على ما يلائم المشبه به والمشبه معا ، ومع هذا لا يسميها البلاغيون لا مرشحة ولا مجردة ، ولا مرشحة مجردة ، بل هى عندهم استعارة مطلقة ، على اعتبار أن الترشيح والتجريد لما تقابلا فيها تساقطا واعتبرا كأنهما لا وجود لهما فى الكلام.

ومن أمثلتها عندهم قول زهير بن أبى سلمى :

لدى أسد شاكى السلاح مقذف

له لبد ، أظفاره لم تقلّم

استعار «أسد» للرجل الشجاع ، وشاكى السلاح يلائم المشبه ـ الرجل الشجاع ـ فهو تجريد ، أما «له لبد ـ أظفاره لم تقلم» فهما ترشيح لأنهما يلائمان المشبه به (الأسد).

فهذه استعارة مطلقة لا مرشحة ولا مجردة.

ولا مرشحة مجردة فى اعتبار واحد (٣).

وقد تابع البلاغيون ما قاله الخطيب ، فكان ذلك عندهم إجماعا (٤).

فالاستعارة المطلقة عندهم نوعان :

الأول ، وهو الأصل ، الاستعارات التى لم يذكر فيها ما يلائم المشبه (المستعار له) ولا ما يلائم المشبه به (المستعار منه).

والثانى : الاستعارات التى ذكر فيها ما يلائم كلا من المستعار له ، والمستعار منه.

والإطلاق فى النوع الأول حقيقى واقعى ، أما فى النوع الثانى فهو تقديرى اعتبارى والاستعارة المطلقة ، باعتبار النوع الأول الحقيقى الواقعى كثيرة الورود فى القرآن الكريم. ومن أمثلتها قوله تعالى :

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (٥).

استعار الصدع ، وهو الشق فى نحو حائط وغيره للتبليغ ، استعارة محسوس لمعقول ، والجامع هو قوة التأثير فى كل منهما ، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية المطلقة.

٥٤٧

حيث لم تقترن الاستعارة فى الآية بما يلائم أى طرف من طرفى الاستعارة.

وقرينة الاستعارة هنا هى (بِما تُؤْمَرُ) لأن المعنى بلّغ ما أمرناك به تبليغا واضحا قويا يكون له تأثير فى القلوب كتأثير الصدع فى الأجسام ومنها كلمة ، (تَنَفَّسَ) فى قوله تعالى :

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ).

لأن فى (تَنَفَّسَ) استعارة تصريحية تبعية مطلقة والأصل : إذا ظهر وانتشر.

فاستعير التنفس للظهور وسرعة الانتشار ، استعارة محسوس لمحسوس ، والقرينة هى إسناد التنفس إلى ضمير الصبح ، لأن التنفس من خصائص الكائنات الحية ذوات الأرواح.

وقد خلت هذه الاستعارة من ذكر ما يلائم كلا من المستعار له (المشبه) والمستعار منه (المشبه به).

ومنها قوله تعالى :

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) لأن فى قوله تعالى : (بِحَبْلِ اللهِ) استعارة تصريحية أصلية مطلقة استعير الحبل لدين الله ، استعارة محسوس لمعقول لأن الحبل اسم جنس جامد غير مشتق. والقرينة هى إضافة الحبل إلى الله عزوجل (٦).

وفى استعارة المحسوس للمعقول إخراج المعنوى المدرك بالعقول ، مخرج الحسى المدرك بالحواس الظاهرة اعتناء به ، ومبالغة فى إظهاره.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ، ترتيب القاموس ، مادة : طلق.

(٢) الإيضاح (٥ / ٦٩).

(٣) الإيضاح (٥ / ١٠٢).

(٤) معجم المصطلحات البلاغية (١ / ١٧١).

(٥) الحجر (٩٤).

(٦) النكت فى إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل ... (٨٧).

٥٤٨

الاستعارة المكنيّة

مادة كنى يكنى تدور لغة حول الخفاء والغموض. والاستعارة المكنية ـ وتسمى الاستعارة بالكناية ، والاستعارة المكنى عنها ـ هى قسمية الاستعارة التصريحية ، التى يصرح فيها بذكر المشبه به ، مع حذف المشبه ؛ لأن الاستعارة ـ عموما ـ تشبيه حذف منه ثلاثة أركان.

وجه الشبه ، ويسمى فى الاستعارة «الجامع» وأداة التشبيه ، وهذان الحذفان لازمان فى كل استعارة ثم بعد حذفهما إما أن يحذف المشبه ، ويذكر الشبه به فتكون الاستعارة تصريحية. وإما أن يحذف المشبه به ، ويذكر المشبه فتكون الاستعارة مكنية.

ويشترط فيها أن يكون فى الكلام ما يدل دلالة قوية على المشبه به المحذوف ؛ لأنه عمدة فى كل استعارة.

وكان الإمام عبد القاهر أول من لفت الأذهان إلى تقسيم الاستعارة باعتبار طرفيها إلى :

استعارة تصريحية.

استعارة مكنية.

ولكنه لم يسمهما بل اكتفى بإيراد الفروق بينهما مع التمثيل الوافى ببيان المراد من كل منهما (١).

وبهذا مهّد الإمام الطريق لمن جاء بعده فى تأصيل القول فى كل من الاستعارة التصريحية ، والاستعارة المكنية فجاء من بعده السكاكى وقال فى تعريفها :

هى أن تذكر المشبه وتريد به المشبه به دالا على ذلك بنصب قرينة .. وهى أن تنسب إليه شيئا من لوازم المشبه به (٢).

وتابعه بدر الدين بن ابن مالك فقال :

«هى أن تذكر المشبه وتريد به المشبه به ؛ وتدل بشيء من لوازمه ـ أى لوازم المشبه به ـ على المشبه» (٣).

يعنى تنسب إلى المشبه بعض خواص المشبه به ، لتكون دليلا على المشبه به المحذوف.

ثم جاء الخطيب القزوينى ، واستفاد من أقوال الذين سبقوه ، ووضع تعريفا للاستعارة المكنية دار البلاغيون فى فلكه حتى الآن ، قال رحمه‌الله :

٥٤٩

«قد يضمر التشبيه فى النفس ، فلا يصرح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه ، ويدل عليه ـ أى على المشبه به ـ بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به ، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسا أو عقلا أجرى عليه اسم ذلك الأمر فيسمى التشبيه استعارة بالكناية ، أو مكنيا عنها وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية» (٤).

فالاستعارة المكنية إنما هى تشبيه حذف منه ثلاثة أركان : وجه الشبه ، وأداة التشبيه ، والمشبه به ، مع إبقاء ما يدل عليه فى الكلام.

حيث يثبت للمشبه بعض لوازم المشبه به الخاصة به.

أما قرينة الاستعارة المكنية فهى لفظية دائما لأنها تكمن فى إثبات أحد خواص المشبه به للمشبه ، وهذا ما سماه الخطيب والبلاغيون بالاستعارة التخييلية. وللاستعارة المكنية ورود كثير فى الشعر العربى القديم والوسيط والحديث ، وكذلك فى القرآن الكريم ، وهو الذى نقصر عليه حديثنا فى هذه المباحث.

ومنها فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ـ وفى توجيهه بلاغيا يقول الإمام الزمخشرى :

«أن تجعل للذل جناحا خفيضا كما جعل لبيد للشمال يدا وللقرة زماما» (٥).

وهذا معناه أن فى التركيب استعارة مكنية كما فى بيت لبيد

وغداة ريح قد كشفت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

فقد أجمع البيانيون أن فى بيت لبيد هذا استعارتين مكنيتين ، إحداهما فى يد الشمال.

والثانية فى زمام القرة وهى الريح الباردة (٦).

وفى الآية شبه الذل بطائر ، تم حذف المشبه به وهو الطائر ، وأثبت للمشبه (الذل) الجناح ، وهو من لوازم المشبه به (الطائر) لا المشبه (الذل) وهذا الإثبات يؤدى مهمتين.

الأولى : الدلالة على المشبه به المحذوف.

الثانية : منع أن يكون المراد هو المعنى الحقيقى الوضعى لأن هذا الإثبات ـ كما تقدم ـ هو قرينة الاستعارة المكنية.

وبلاغة هذه الاستعارة هى إخراج المعنوى ، وهو البر بالوالدين ، فى صورة الحسى. اعتناء بشأنه ، وإظهارا له ومنها قوله تعالى :

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)

شبه الغضب بذى عقل وإرادة وثورة ، ثم حذف المشبه به (ذا الإرادة العاقل الثائر) ورمز إليه بشيء من لوازمه الخاصة به ، وهو

٥٥٠

السكوت. الذى نسب إلى «الغضب» على أنه فاعل له.

وهذا ما يسميه البلاغيون بالاستعارة التخييلية وهى قرينة المكنية.

وبلاغة هذه الاستعارة المبالغة فى تصوير حدة الغضب التى اعترت موسى عليه‌السلام ، لما رجع من ميقات ربه ، فوجد قومه (بنى إسرائيل) يعبدون العجل إلها من دون الله.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) أسرار البلاغة (٤٤ / ٤٨).

(٢) مفتاح العلوم (١٧٩).

(٣) المصباح (٦٤).

(٤) الإيضاح (٥ / ١٢٣) وما بعدها.

(٥) الكشاف (٢ / ٤٤٥).

٥٥١

الكناية

تدور مادة كنى فى اللغة حول معانى الخفاء والستر والتغطية وعدم التصريح (١).

أما فى اصطلاح البلاغيين فهى :

«لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه الأصلى» (٢).

وهذا كلام الخطيب فى الإيضاح مع تصرف يسير بالزيادة أضفناه بقصد التوضيح.

وقبل الخطيب تباينت عبارة أهل العلم فى تعريف الكناية تباينا واسعا.

والكناية من الأساليب البديلة ، مثل المجاز ، يعدل إليها عن اللفظ الأصلى لنكتة بلاغية ، تجعل التعبير بها أولى أو أوجب من التعبير باللفظ الذى وضع فى أصل اللغة للدلالة عن المعنى.

والبلاغيون قسموا الكناية بحسب المعنى الذى تدل عليه ثلاثة أقسام :

* كناية عن موصوف لم يصرح به فى الكلام.

* كناية عن صفة لم يصرح بها فى الكلام.

* كناية عن نسبة بين أمرين غير مصرح بها فى الكلام. ومعنى قولهم فى تعريف الكناية :

«لفظ أطلق وأريد به لازم معناه ، مع جواز إرادة المعنى الأصلى ، يتضح من تحليل العبارة الآتية : فلان كثير الرماد».

كان العرب يخبرون بهذه العبارة عن الشخص الذى يريدون وصفه بكثرة الكرم والبذل والعطاء والعلاقة بين كثرة الكرم وكثرة الرماد ، هى الانتقال من كثرة الرماد إلى كثرة إيقاد النار ، ثم الانتقال من كثرة إيقاد النار إلى كثرة طهو الطعام وإنضاج اللحم ، ومن هذا ينتقل إلى كثرة الآكلين (الضيوف) ومن كثرة الضيوف إلى كثرة الكرم ، وهو المطلوب.

ولا يمتنع إرادة كثرة الرماد مع إرادة المعنى الكنائى ، الذى هو المراد من الكناية أساسا ، وإرادته ليست بلازمة فى الدلالة على الكرم ، لأن الإنسان قد يكون كريما من غير كثرة الرماد كأن يجود بأشياء أخرى كالنقود وغيرها.

وسمى هذا التعبير كناية ؛ لأنه لم يصرح فيه بلفظ الكرم بل أخفى هذا الوصف.

٥٥٢

وسميت الكناية لازم معنى اللفظ المستعمل فيها لأنه يلزم من كثرة الطهو كثرة الكرم.

فلفظ الكناية أيا كان ملزوم ، ومعناها لازم لا ينفك عنها.

والكناية تجمع ـ على الأرجح ـ بين الحقيقة والمجاز ؛ لأن لفظ الكناية لم يرد منه معناه الموضوع له مباشرة فيكون حقيقة ، ولم تمتنع إرادته مع إرادة المعنى الكنائى فيكون مجازا.

لذلك يقال : إن الكناية لها جانبان : حقيقة ومجاز وأن قرينة الكناية غير مانعة من إرادة المعنى الأصلى ، وقرينة المجاز مانعة.

فالكناية على هذا ليست حقيقة خالصة ، وليست مجازا خالصا. وهذا هو الحق ، الذى لا يجوز أن يحاد عنه والكناية من الأساليب الكثيرة الشيوع فى الكلام البليغ ، وبخاصة فى القرآن الكريم ؛ فلا تكاد تخلو منها سورة ؛ لأن لها مقامات تؤثر هى فيها عن غيرها.

وفى القرآن الكريم نجد حقلا من حقول التعبير آثر القرآن الكريم التعبير الكنائى فيه دون غيره.

فمثلا العلاقات الجنسية ، سواء كانت بين الأزواج ، أو غير الأزواج نجد القرآن يعدل عدولا تاما عن التصريح بها وإيثار الكناية فى كل حديث عنها ؛ لأن من دواعى العدول إلى الكناية فى البلاغة بوجه عام مقامات محددة منها ما يستقبح أو يستهجن ذكره صراحة ، فيعدل إلى التعبير الكنائى عنه ترفعا وأدبا.

فخذ إليك مثلا قوله تعالى :

(وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) (٣).

هذا توجيه من الله لراغبى الزواج من النساء المتوفى عنهن أزواجهن والمطلقات. بألا يخطبوهن فى عدتهن حتى تنقضى مدة العدة.

وهنا يؤثر القرآن الكريم التعبير الكنائى عما يكون بين الأزواج فيسميه (سِرًّا) ولا يفصح عنه. وإنما سمّى ما يستهجن ذكره سرا ، لأنه لا يقع إلا فى السر ، والكناية هنا عن صفة وهى مباضعة النساء.

* وكذلك آثر التعبير الكنائى عنه فى قوله تعالى :

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٤).

فكنى عنه ب «الإتيان» وهو يطلق على عدة

٥٥٣

معان أخرى غير ما يكون بين الزوج وزوجته.

والكناية هنا عن موصوف هو مباضعة النساء ، أو النكاح وقد جاء التعبير عنه ب «النكاح» عشرات المرات فى القرآن الكريم ، والنكاح معناه أعم من مباضعة النساء فى أصل اللغة ؛ لأن معناه العام هو : الضم وهو معنى عفيف لا ابتذال فيه ولا استقباح.

وقد يستعمل «النكاح» كناية عن مجرد «عقد الزواج» وإن لم يصاحبه دخول بالمعقود عليها. ومن ذلك قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) (٥).

وإطلاق النكاح على مجرد العقد نادر وروده فى القرآن الكريم.

أما وروده بمعنى مباضعة النساء فكثير كثير ، ومنه قوله تعالى :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٦).

المراد من النكاح فى الآية هو «الوطء الفعلى» وليس مجرد العقد عليها ، وهذا موضع إجماع بين الفقهاء إلا من لا يعتد بقوله.

كما كنى القرآن عن مباضعة النساء بالمس والملامسة وهما لفظان لا ابتذال فيهما ولا فحش ولا إثارة ومثال «المس» آية الأحزاب المذكورة آنفا ، وهى :

(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ)

أما الملامسة فمثالها قوله تعالى :

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) (٧)

كما كنى عن المباضعة بالتغشية فى قوله تعالى :

(فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ..) (٨)

والتغشى لفظ عفيف مهذب ، وقد أدى معناه الكنائى هنا دون أن يخدش حياء ، أو يثير غريزة ومما شاع استعماله فى كنايات القرآن عن العلاقات الزوجية لفظ «المباشرة» مكنيا به عن اتصال الزوج بزوجته. قال عزوجل :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ

٥٥٤

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) (٩).

والواقع أن الآية الكريمة تضمنت عدة كنايات عن علاقات الأزواج بزوجاتهم.

وأول ما يفجؤنا فيها كناية «اللباس» (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) وهى كناية لطيفة تشع منها معان آسرة.

فمن معانى اللباس الستر والتجمل ، والزوجة تعف زوجها وتغنيه عن الحرام ، وهو يعفها ويغنيها عن التطلع إلى الحرام ، وكل منهما يجمّل الآخر ويصونه ثم التعبير الكنائى بالمباشرة ، ومن معانيها الملامسة والمماسة ، والضم والمكاشفة والملاصقة. وكلها معان لا إسفاف فيها ولا ابتذال.

أما «الرفث» فهو كناية عن مقدمات الوطء ، ومنها الكلام أيا كان ابتذاله ومجونه ، لكن التعبير الكنائى عنه بالرفث فيه ستر وإخفاء لحقيقة ما يقال فى مخادع الأزواج.

إنه لفظ كنائى مهذب ، يصور الواقع من وراء ستار ، مخفيا قبحه وعوره.

ويكنى عنها كذلك ب «قضاء الوطر» وشاهد هذا قوله عزوجل :

(لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) (١٠)

عبارة مهذبة شريفة ، لا يحس السامع منها أى انفعال غريزى مخرج له عن مشاعره الهادئة الرزينة. ومن كنايات القرآن الكريم عن المعانى الشديدة الحساسية بالعلاقات الغرزية بين الذكور والإناث التعبير عنها بالإفضاء فى قوله تعالى :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١١).

إن لفظ «الإفضاء» تعبير مهذب راق عن العلاقات السرية وغير السرية ، التى تكون فى حياة الأزواج.

ومن ذلك الكناية عنها بالقرب ، كما جاء ذلك فى قوله تعالى :

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (١٢) وفى هذه الكناية اتساع فى المعانى المرادة ، يشمل حتى مقدمات الجماع فى أثناء حيض الزوجة ، حتى لا تقود تلك المقدمات إلى الوقوع فى المحظور ، لأن قرب الحائض يكون سببا قويا فى الإصابة بالأمراض ، وخاصة الجلدية لذلك كان النهى عن «القربان» لأن فيه تحوطا شديدا عن الوقوع فى المحظور.

٥٥٥

والكنايات التى تقدم الحديث عنها ، كلها كنايات عما يقع فى دائرة الحلال بين الأزواج والزوجات ، ومنها كنايات عن صفة ، إلا الرفث فإنه كناية عن موصوف ، هو الكلام الفاحش.

وأما ما يقع فى دائرة الحرام ، فقد كنى عنه القرآن الكريم بالزنى ، وإتيان الفاحشة ، تنفيرا عنه ، وتزهيدا فيه بعيدا عن الإسفاف والتبذل فى الألفاظ المكشوفة الفاضحة.

ومما يلفت النظر التعبير عن الزنى ب «السفاح» ومن شواهده قوله تعالى :

(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) (١٣)

وأصل السفح هو تدفق الدم المملوء بالسموم ، الذى يندفع من الشاه بعد ذبحها.

وفى تكنية القرآن الكريم عن «الزنى» بالسفاح كناية لطيفة أخرى متولدة عن الكناية الأولى ، شبه فيها ماء الرجل الذى يصب فى رحم الزانية بالدم المسفوح المملوء بالسموم القاتلة. لأن الدم المسفوح يضر بصحة البدن وحده ، لذلك حرّمه الله على الآكلين. أما ماء الزناة فهو قاتل لشرف النسل وأخلاق الفضل والعفة والطهارة فتأمل هذه المعانى السامية ، التى تشع من كنايات كتاب الله العزيز ، لتدرك لما ذا يعدل القرآن عن التصريح إلى الكناية التى هى الصفة الشائعة فى القرآن الكريم. ومنها فى غير العلاقات الزوجية ، قوله تعالى فى الحديث عن عيسى عليه‌السلام وأمه رضى الله عنها :

(كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ)

إنها كناية مهذبة طاهرة ، عدل القرآن الكريم إليها عن : كانا يتغوطان ويتبولان. حيث كنى بأكل الطعام ، وهو طاهر نظيف طيب ، عن التغوط والتبول ، وهما يثيران التقزز والاشمئزاز فى النفوس ، فضلا عن خبثهما ونجاستهما.

ولو جاء التعبير بالتغوط والتبول لكان فى ذلك إيحاء بكشف عوراتهما أمام عيون الخيال البشرى ، والقرآن يستر العورات فى الواقع ، وفى التعبير.

وقد يقول قائل : إن التعبير بالتغوط جاء صريحا فى القرآن فى مواضع أخرى ، مثل :

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) (١٤) فلما ذا عدل الله عنه فى الحديث عن عيسى عليه‌السلام ، وأمه رضى الله عنها؟ ونقول : ما ورد فى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) لا حرج فيه ، لأنه لم يأت وصفا لإنسان معين ، بل هو حديث عام يشمل جميع المكلفين.

أما فى الحديث عن عيسى وأمه ، فهو حديث خاص عنهما فى المقام الأول. من أجل ذلك روعى معهما تحشمهما ووقارهما.

٥٥٦

إضافة إلى أن الغائط نفسه كناية فى نفسه ، لأنه عبارة عن المكان الذى تقضى فيه الحاجة ، ولكنه إذا ما قيس بهذه الكناية (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) كان كالتصريح بالنسبة لها. ومن الكناية عن الموصوف فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٥)

كناية عن سفينة نوح عليه‌السلام ، وهى أبلغ مما لو قيل : حملنا على سفينة. لأن المقام مقام تمجيد لقدرة الله ، وامتنان على نوح عليه‌السلام وفى ذكر عناصر تركيب السفينة وهما الخشب والمسامير ، تذكير بعظمة وقدرة الله ، وجلال النعمة على نوح ومن آمن معه.

هذا ، والكناية ـ عموما ـ أبلغ من التصريح ، لأنها تقرن الدعوى بدليلها المصدق لها. فقوله تعالى فى عيسى وأمه «كانا يأكلان الطعام» أبلغ مما لو قيل : كانا مخلوقين .. لأن هذا القول يخلو من الدليل المادى المصاحب للدعوى أما «كانا يأكلان الطعام» فهو دليل صدق الدعوى.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) اللسان والمعاجم اللغوية ، مادة : كنى.

(٢) بغية الإيضاح (٢ / ١٥٠) وما بعدها.

(٣) البقرة (٢٣٥).

(٤) البقرة (٢٢٣).

(٥) الأحزاب (٤٩).

(٦) البقرة (٢٣٠).

(٧) المائدة (٦).

(٨) الأعراف (١٨٩).

(٩) البقرة (١٨٧).

(١٠) الأحزاب (٣٧).

(١١) النساء (٢٠ ـ ٢١).

(١٢) البقرة (٢٢٢).

(١٣) النساء (٢٤).

(١٤) المائدة (٦).

(١٥) القمر (١٣).

٥٥٧

البديع

البديع فى اللغة ، هو الجديد والطريف والمخترع (١) أما فى اصطلاح البلاغيين.

فهو : علم يعرف به وجوه تحسين الكلام (٢).

وهو العلم الثالث من علوم البلاغة : المعانى والبيان ثم البديع. ومنزلته بين علوم البلاغة أن علمى المعانى والبيان علمان أساسيان فى بلاغة الكلام. ويأتى البديع يزيد الكلام البليغ حسنا راجعا إلى المعانى أولا ، ثم إلى الألفاظ ثانيا. أو حسنا راجعا إلى الألفاظ أولا ثم إلى المعانى ثانيا.

وعلى هذا الاعتبار قسموا البديع قسمين :

أحدهما البديع المعنوى كالطباق والمقابلة ومراعاة النظير ، والثانى : لفظى كالجناس والسجع (٣).

وقد وضعوا لقبوله فى الكلام شروطا منها :

* عدم الإكثار منه ، وترك الإسراف فيه.

* ألا يكون متكلفا بل يقبل منه ما جرى على الطبع وعلى أساس هذا نقدوا كثيرا من الشعراء لإسرافهم فى الألوان البديعية ، وتكلفهم بعض صوره فى شعرهم وقالوا إن المسرف فيه يكون عرضة للذم وكثرة الخطأ.

أما بديع القرآن فسوف نتناول أطرافا منه من خلال بعض آيات القرآن الكريم لنثبت بالأدلة القاطعة إنه كثير جدا فى القرآن الكريم ، ومع هذه الكثرة لا نقول إنه سلم من كل عيب فحسب ، بل هو سمة من سمات الإعجاز فى كتاب الله العزيز. وهذا هو الفرق بين كلام الله وكلام البشر.

نعرض فى هذا المبحث نصوصا من القرآن الكريم ، محاولين توضيح ما فيها مما أطلقوا عليه «بديعا» سواء دخل عندهم فى المعنوى ، أو اللفظى ، ولنبدأ بقوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٤).

٥٥٨

جاءت فى هاتين الآيتين ضروب عدة من البديع نذكرها فيما يلى :

(أ) المشاكلة : وذلك فى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) وهى مشاكلة من النوع الثانى الذى ذكروه فى قولهم : «المشاكلة هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تحقيقا أو تقديرا» (٥).

فهى مشاكلة تقديرية. وذلك بناء على ما ذكره المفسرون. فالزمخشرى يقول «ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة. فقالوا : أما يستحى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب ـ إشارة إلى قوله تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) (٦) فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ـ وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام :

من مبلغ أبناء يعرب كلها

أنى بنيت الجار قبل المنزل

ويلاحظ أن اللفظ «المشاكل» هنا مجازى المعنى حقيقته الترك. فمعنى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أى لا يترك الضرب بالبعوضة ترك من يستحى أن يمثل بها لحقارتها ...

لأن الحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوف ما يعاب به أو يذم (٧) وهو بهذا المعنى مستحيل فى جانب الله.

إذن فقد اجتمع هنا لونان بديعيان :

المشاكلة .. وقد تقدم شرحها.

(ب) والمماثلة أو التمثيل .. وقد سبق أنهم يعتبرونه لونا بديعا. وسبق كذلك أنه عندهم يطلق على عدة أمور : الاستعارة المفردة ، الاستعارة التمثيلية ، المثل السائر.

(ج) الإبهام : وذلك بناء على ما ذكره المفسرون ـ كذلك ـ من أن «ما» فى قوله تعالى : (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أن «ما» الأولى إبهامية ، وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وعموما (٨) وكون «ما» إبهامية مشروط بنصب «بعوضة» ـ كما هى القراءة المشهورة ـ وإن رفعت «بعوضة» فإن «ما» تصبح موصولة.

(د) التوجيه : وذلك فى قوله تعالى : (فَما فَوْقَها) فإن الفوقية هنا لها معنيان ، أحدهما : فما تجاوزها فى المعنى الذى ضربت فيه وهو القلة والحقارة.

وثانيهما : فما زاد عليها فى الحجم.

ولما كان أحد هذين المعنيين لم تنصب قرينة على إرادته بعينه ، وبقى الفهم والاعتقاد شركة بينهما حصل النوع البديعى الذى يسمونه «التوجيه» ؛ وهو أن يكون للفظ معنيان لم تقم قرينة على إرادة أحدهما. والمتأمل يرى أن كلا المعنيين هنا صالح للفهم والاعتقاد.

٥٥٩

(ه) حسن التقسيم : حيث قسم الناس بالنسبة لضرب الأمثال بالبعوضة وما زاد عليها فى الحقارة أو ما زاد فى الحجم إلى فريقين : فريق مؤمن مصدق ، وآخر كافر مكذب.

(و) المقابلة : حيث طابق بين «آمنوا» و «كفروا» و «يضل» و «يهدى» ، وقد جمعت المقابلة هنا التكافؤ حسبما يرى ابن أبى الأصبع لأن «يهدى» و «يضل» مجازيان.

(ز) التعطف : وذلك فى ثلاثة مواضع «مثلا» و «مثلا» ، «يضل» و «يضل» ، «كثيرا» و «كثيرا».

(ح) البيان بعد الإبهام : وذلك أنه سبحانه قال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فبين أن فريقا يضل به وآخر يهدى ، ولم يبين من المهدى ومن المضل ، ثم عاد فقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ليعلم من هو الفريق المضل وفى هذا البيان معنى الاحتراس.

(ط) صحة التفسير : حيث فسر «الفاسقين» فى قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(ى) النزاهة : وذلك لأنه سبحانه حين أراد ذمهم لم يستعمل فيه هجين اللفظ ، ولا قبيح المعانى ، بل سجل عليهم نقضهم ميثاق الله ، وترك ما أمر الله بفعله وفسادهم فى الأرض ، وأخبر عنهم بأنهم هم الخاسرون لا غيرهم.

(ك) التكافؤ : وهو ـ كما عرفه ابن أبى الأصبع ـ أن يكون ركنا الطباق مجازين لا حقيقيين ، وأن تكون أركان المقابلة مجازية كذلك. والتكافؤ بهذا المعنى وارد فى الآية الثانية : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ، حيث قابل بين النقض والتوثقة ، والقطع والوصل ، وهذه كلها أركان مجازية ، فالنقض لا يكون إلا فى المركبات الحسية ، وكذلك التوثقة ، والقطع لا يكون إلا فى المتماسك الحسى ، وقد استعمل هنا مرادا به الترك ، والوصل صنو القطع ، واستعمل هنا فى أمر معنوى هو : الإتيان والفعل.

(ل) الترشيح : وذلك أنه قال : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) هو الذى رشح لإيقاع النقض على العهد ، وهو لا يكون إلا فى المركب الحسى و «العهد» معنى من المعانى ، فالذى رشح له أنهم يسمون العهد «حبلا» على سبيل الاستعارة. قال الزمخشرى : «فإن قلت من أين ساغ استعمال النقض فى إبطال العهد؟

قلت : من حيث تسميتهم العهد بالحبل على

٥٦٠