الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن : ١٦).

والرابع : من جهة المكان والأمور التى نزلت فيه نحو : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) (البقرة : ١٨٩) وقوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (التوبة : ٣٧).

فإن من لا يعرف عادتهم فى الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية.

والخامس : من جهة الشروط التى بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح.

وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون فى تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال : المتشابه (الم).

وقول قتادة : المحكم هو الناسخ. والمتشابه :

هو المنسوخ.

وقول الأصم : المحكم ما أجمع على تأويله ، والمتشابه ما اختلف فيه.

ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب :

ضرب لا سبيل للوقوف عليه ، كوقت الساعة ، وخروج دابة الأرض ، وكيفية الدابة ، ونحو ذلك.

وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته.

كالألفاظ الغريبة ، والأحكام الغلقة.

وضرب متردد بين الأمرين ، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين فى العلم ، ويخفى على من دونهم ، وهو الضرب المشار إليه بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لابن عباس : «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل».

وإذا عرفت هذه الجملة علم أن الوقف على قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ووصله بقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) جائز ، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم.

وقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (الزمر : ٢٣) فإنه يعنى ما يشبه بعضه بعضا فى الأحكام والحكمة واستقامة النظم. أه.

هذا ما أفاده الراغب فى «مفرداته» (٢) مع إضافات توضيحية على بعض ما قال ، وهو كما ترى قد أنهى إلينا ما كنا نبتغيه فى تفسير المتشابه ، وتمييزه عن المحكم بتعريف جامع لأطرافه ومسائله ، مانع من دخول الغير فيه.

فقد عرفه بالحد والرسم والتقسيم ؛ فأفاد وأجاد وحقق المراد.

(٤) [نسبة المتشابه]

ونسبة المتشابه ، وإن كثرت أقسامه وفروعه ، بالنسبة للمحكم من نصوص

٥٨١

الشريعة قليل ، وذلك لأمور : أحدها : النص الصريح على أن الآيات المحكمات أم الكتاب ، وذلك فى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (آل عمران : ٧).

وأمّ الشيء : معظمه وعامته ، والأم أيضا الأصل والعماد ، كما فى القاموس.

ولذلك قيل لمكة : (أم القرى) لأن الأرض دحيت من تحتها.

فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) إنما يراد بها القليل.

والثانى : أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا ، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى.

وقد نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس ، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى ، ولو لا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به ، وما جاء فيه من ذلك المتشابه الذى لم يتعلق به حكم بالمكلفين من جهته زائد على الإيمان به يجب أن نقرّه على ما جاء ، ولا نخوض فى تأويله.

الثالث : استقراء المجتهد إذا نظر فى أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر ، واتسقت أحكامها ، وانتظمت أطرافها على وجه واحد ، كما قال تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود : ١).

وقال تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (يونس : ١). وقال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (الزمر : ٢٣).

يعنى يشبه بعضه بعضا ، ويصدّق أوله آخره ، وآخره أوله ، أعنى أوله وآخره فى النزول (٣). أه.

(٥) [مواقع التشابه]

والتشابه لا يقع فى القواعد الكلية ، ولكن يقع فى الفروع الجزئية.

وقد عرف ذلك بالاستقراء والتتبع لأصول الشريعة أصلا أصلا ، وإنما كان التشابه فى الفروع والجزئيات دون الكليات ؛ لأن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه.

وقد عرفنا فى المسألة السابقة أن المتشابه بالنسبة إلى المحكم قليل ، وبسط هذه المسألة فى كتب الأصول.

وقد يسأل سائل فيقول : ما الحكمة من وجود المتشابه فى القرآن؟ ، فيكون الجواب أن لله فى كل شأن حكمة قد يطلعنا عليها أو على شىء منها ، وقد يخفيها عنا لحكمة يعلمها.

ونستطيع أن نفهم جانبا من الحكمة فى وجود المتشابه فى القرآن الكريم إذا عرفنا أنه كتاب هداية ومنهج حياة ، أنزله الله وافيا

٥٨٢

بمطالب البشر جميعا على اختلاف بيئاتهم وأزمانهم.

ومطالب الحياة كثيرة ، وحاجات الإنسان لا تحصى ولا تنحصر ، فلا يكفيها تشريع تحتويه ملايين الصفحات.

فكان من حكمة الحكيم الخبير أن ينزل من القرآن نصوصا تحتمل وجوها من البيان ، كل وجه منها يمس جانبا من جوانب الحياة ، ويقضى مطلبا من مطالب الإنسان ، ويفتح له بابا من أبواب التيسير ؛ فيدفع عنه حرجا ، أو يجعل له مخرجا مما يعانى منه أو يحبسه عن تحقيق أهدافه المشروعة ، حتى يبدو وكأن النص الواحد جمع فى طيّاته نصوصا كثيرة ، تأمر وتنهى ، وتوصى وترشد ؛ فأغنى ذلك عن كتاب عظيم لا تستقصى صفحاته ، ولا تنقضى كلماته وتشريعاته.

وقد أدى هذا التشابه إلى خلاف محمود العواقب بين العلماء الأفاضل ، وجد الناس فيه رحمة من الله واسعة ؛ لأنه خلاف لم ينشأ بسبب تناقض فى النصوص القرآنية أو اختلاف بين أحكامها ، كلا ، كلا. (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢).

ولكنه خلاف مبنى على قرائن شرعية وعقلية استنبطوها من الكتاب نفسه ، ومن السنة المطهرة تجعل كل إمام يرجح وجها على آخر.

والاجتهاد واجب على علماء الأمة بشروط مبسوطة فى كتب أصول الفقه ، لم يخرجوا بحمد الله عنها ؛ فكان لمن أصاب منهم أجران ، ولمن أخطأ أجر واحد.

وقد وجد الناس فى هذا الخلاف تيسيرا وتوسعة أرادها لهم ربهم ـ عزوجل. قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة : ١٨٥). هذه حكمة سامية لوجود المتشابه فى القرآن الكريم وفى السنة المطهرة.

وفى وجود المتشابه ـ أيضا ـ تدريب للعقول على التأمل والنظر ، وفى هذا التدريب لذة لا يعرفها إلا أولو الألباب ، فكلما أدرك العالم بعقله وجها من وجوه الترجيح وفق ما لديه من القرائن ـ شعر بنشوة غامرة ، ورغبة ملحة فى مواصلة البحث والاستنباط.

ولا شك أن البحث عن الحقائق من أوجب الواجبات ، وهو يؤدى ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى الوصول إليها من غير تقليد ، فيكون إيمانه بها أتم وأكمل من إيمان المقلد قطعا.

قال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (الزمر : ٩).

٥٨٣

وفى وجود المتشابه ـ كذلك ـ نوع ابتلاء من الله تعالى ؛ ليعلم العبد من نفسه هل هو مؤمن بما أخبره الشارع به من الأمور الغيبية التى لا مجال للعقل فيها ، أم هو لا يزال فى الطريق إلى هذا الإيمان السامى الذى جعله الله أول أوصاف المتقين فى سورة البقرة حيث قال : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

وهذه الحكمة ظاهرة فى المتشابه الذى استأثر الله بعلمه وما ليس للعباد فيه علم كاف بوقته وقدره ونوعه وحقيقته (٤).

(٧) [المتشابه الذى استأثر الله بعلمه]

والمتشابه الذى استأثر الله بعلمه ، كالحروف المقطعة فى فواتح بعض السور ، وكآيات الصفات التى لا ينبغى حملها على ظواهرها ـ اختلف العلماء فى تأويلها على ثلاثة مذاهب.

الأول : مذهب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ وهو أقومها طريقة ، وأهداها سبيلا ؛ فقد قرروا أن الإيمان بالمتشابهات ، وتفويض أمر العلم بها إلى الله ـ تعالى ـ ورسوله واجب ، مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد ؛ لقيام الأدلة القطعية على خلافه.

فما دلت عليه النصوص الشرعية الصريحة عملوا به ، وما تشابه عليهم وفهم المراد منه ـ وكان متعلقا بالعقيدة ـ آمنوا به وأجروه على ظاهره وفوّضوا علم كمّه وكيفه وحقيقته إلى الله ـ تعالى ـ وأثبتوا له ـ جل شأنه ـ ما أثبته لنفسه من غير خوض فى تفصيله ؛ تأدبا مع خالقهم ـ جل وعلا ـ ووقاية لأنفسهم من وعيد من أفتى بغير علم ، وتقوّل على الله ما لم يقله.

فالمتشابهات بوجه عام لا يتعين المراد منها على التحقيق إلا بنص صحيح من الشرع ، وحيث لا يكون هناك نص صحيح صريح بقى المتشابه على حاله ، فتكون دلالته على المراد ظنيّة ، والأمور الاعتقادية لا يكفى فيها الظن ، بل لا بد فيها من اليقين ، ولا سبيل إلى معرفة اليقين فى معرفة المتشابه من الصفات ، وهى من الأمور العقدية ، فوجب التوقف فيها وعدم الخوض فى تأويلها وردها فى جملتها إلى المحكم الذى لا يحتمل إلا وجها واحدا.

وعماد المحكم فى باب الصفات قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

هذا هو خلاصة مذهب السلف الصالح من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتابعين لهم بإحسان.

وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بنصوص من الكتاب والسنة وأقوال علمائهم الأعلام ، ووجدوا فيها السلامة لدينهم والنجاة من عذاب ربهم.

٥٨٤

أما الكتاب فقوله تعالى من سورة (آل عمران : ٧) (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ). فقد أخبر الله ـ عزوجل ـ أنه لا يتبع المتشابه ، ولا يعمد إلى تأويله ابتغاء الفتنة إلا الذين فى قلوبهم زيغ ، وأما الراسخون فى العلم فيقولون : آمنا به كل من عند ربنا ، ولا يخوضون فى تأويل ما لا علم لهم به على التعيين. ويقفون فى قراءة الآية على لفظ الجلالة ، ويبتدئون بقوله :

(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا).

وقد جاءت فى أفضلية الوقف على لفظ الجلالة فى الآية روايات عن القراء من الصحابة ، ذكرها ابن جرير وابن كثير فى تفسيريهما.

وجوز بعض العلماء الوقف على (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) بناء على أنهم يعلمون المتشابه.

ولكن هذا فيما لم يستأثر الله بعلمه ، أما ما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه أحد سواه.

الثانى : مذهب الخلف ، ويسمى مذهب المؤوّلة ـ بتشديد الواو وكسرها ـ وهم فريقان :

فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ، ثابتة له ـ تعالى ـ زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين.

وفريق يؤولها بمعان نعلمها على التعيين ، وذلك بأن يحمل اللفظ الذى استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة ، ويليق بالله عقلا وشرعا.

فقد قالوا فى تأييد مذهبهم هذا : إن المطلوب شرعا هو صرف اللفظ عن مقام الإهمال ؛ إذ لم يخاطب الله المكلفين بشيء لا يفهمون معناه ، ولا يعقلون المراد منه على الجملة. وما دام فى الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم ؛ فالنظر قاض بوجوبه ؛ انتفاعا بما ورد عن الحكيم العليم.

الثالث : مذهب المتوسطين بين السلف والخلف.

وهؤلاء يقولون : إن التأويل نوعان : تأويل قريب ، وتأويل بعيد. فالقريب نقول به ، والبعيد نتوقف عنه.

وقد نسب السيوطى فى «الإتقان» (٥) هذا المذهب إلى ابن دقيق العيد ، ونقل عنه قوله :

إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم

٥٨٥

ينكر ، أو بعيدا توقفنا عنه ، وآمنا بمعناه على الوجه الذى أريد به مع التنزيه ، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب ـ قلنا به من غير توقيف ، كما فى قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) ـ فنحمله على حق الله وما يجب له. أه.

وقد اتفق هؤلاء وأولئك على أمرين :

الأول : صرف هذه الآيات عن ظواهرها المستحيلة فى حق الله ـ تعالى ـ لكونه مغايرا لجميع الخلق ، كما هو معلوم

من قوله تعالى :

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى : ١١).

وحملها على معان تليق بذاته ـ جل وعلا ـ وذلك برد المتشابهات إلى المحكمات ، وهى التى لا تحتمل إلا وجها واحدا من التأويل ، وهو الوجه الذى يريده الشارع الحكيم دون سواه.

الثانى : أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا ـ وجب القول به إجماعا.

وذلك مثل قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ).

فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا ، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد ، وهو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة.

وكقوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦).

فالمراد بجنب الله : حقه وما يجب له ، كما تقتضيه لغة العرب ، ليس له معنى يجب أن يحمل عليه غيره.

(٨) [القرآن الكريم كله محكم]

والقرآن الكريم كله محكم باعتبار أنه متقن فى نظمه وأسلوبه وأحكامه ، مانع من دخول غيره فيه ، ومن طروء الخلل فى ألفاظه والتناقض فى معانيه.

وكله متشابه باعتبار أنه متماثل فى فصاحته وبلاغته وحلاوته وطلاوته.

وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار أن بعضه أحكام نصية ، لا تحتمل إلا وجها واحدا ، ولا يختلط الأمر فى فهمها من هذا الوجه على أحد ، وبعضه أحكام تحتمل أكثر من وجه لحكمة سامية ، ذكرناها من قبل ، وهى التى يقع فيها الاشتباه ويتأتى فى فهمها الاختلاط والالتباس عند النظرة الأولى فى ألفاظه ومعانيه.

ويدل على أن القرآن محكم كله بهذا الاعتبار قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود : ١).

٥٨٦

والدليل على أنه متشابه كله قوله تعالى :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (الزمر : ٢٣).

والدليل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران : ٧).

فلا تعارض ـ كما علمت ـ بين هذه الآيات ؛ لأن كلا منها قد وصف فيها القرآن بالأوصاف التى تخصه على وجه من الوجوه اللغوية السابقة.

فالمحكم من الآيات ـ بهذا الاعتبار ـ يجب العمل به.

والمتشابه ـ بهذا الاعتبار ـ قد جاء للإيمان به والاجتهاد فى معرفة تأويله على النحو الذى يردّ فيه إلى المحكم.

فقوله تعالى ـ مثلا ـ (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (الأنعام : ١٠٣) لا يترتب عليه حكم شرعى يجب العمل به ، بل هو من الأمور الاعتقادية التى يكفى الإيمان بها مع التوقف فى تأويلها أو تأويلها على المعنى الذى لا يتعارض مع قوله ـ جل وعلا : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

ودليل ذلك قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا).

والراسخون فى العلم هم المتثبّتون فى العلم ، لا تزيغ قلوبهم عن الحق ولا تدفعهم أهواؤهم إلى التأويل البعيد ، ولا يطلبون للمتشابه علة بل يؤمنون به ؛ لأنه من عند الله وكفى.

أ. د / محمد بكر إسماعيل

الهوامش :

__________________

(١) لسان العرب ، لابن منظور.

(٢) المفردات فى غريب القرآن ، لأبى القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى ت ٥٠٢ ه‍ مادة (شبه) ص ٢٥٤ ط مصطفى البابى الحلبى وشركائه (١٣٨١ ه‍ / ١٩٦١ م).

(٣) بتصرف من كتاب الموافقات للشاطبى ج ٣ ص ٨٦ وما بعدها ط دار المعرفة بيروت ـ لبنان ١٣٩٥ ه‍ ـ ١٩٧٥ م.

(٤) انظر دراسات فى علوم القرآن للدكتور / محمد بكر إسماعيل ط دار المنار الطبعة الثانية ١٤١٩ ه‍ ـ ١٩٩٩ م ص ١٩٠ وما بعدها.

(٥) الإتقان فى علوم القرآن ، للحافظ جلال الدين السيوطى تحقيق / محمد أبو الفضل إبراهيم ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.(١٣٩٥ ه‍ / ١٩٧٥ م) ج ٣ ص ١٦.

٥٨٧

المكى والمدنى

(١) [معنى المكى والمدنى]

للعلماء فى معنى المكى والمدنى ثلاثة اصطلاحات :

الأول : وهو الأولى والأشهر : أن المكى ما نزل قبل هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وإن كان نزوله بغير مكة ، والمدنى ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بمكة.

وهذا التعريف جامع مانع ، روعى فيه زمان النزول ، وهو أولى من رعاية المكان ؛ لأن معرفة التدرج فى التشريع ومعرفة الناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك من الفوائد ، متوقفة على معرفة المتقدم والمتأخر فى الزمان ، لهذا كان هذا التعريف هو المعتمد عند أكثر أهل العلم.

وعليه تكون آية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) المائدة : ٣ ـ مثلا ـ مدنية ، مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة فى حجة الوداع.

وكذلك آية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) النساء : ٥٨ ـ فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة فى جوف الكعبة عام الفتح الأعظم.

وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره ـ عليه الصلاة والسلام ـ كفاتحة سورة الأنفال ، وقد نزلت ببدر ـ فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور.

الثانى من المصطلحات : أن المكى ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدنى ما نزل بالمدينة ، ويدخل فى مكة ضواحيها ؛ كالمنزّل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى وعرفات والحديبية ، ويدخل فى المدينة ضواحيها أيضا ، كالمنزل عليه فى بدر وأحد ، وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما ترى.

وهذا التعريف لما روعى فيه المكان لم يكن ضابطا صحيحا لاختلاف الأماكن التى نزل فيها القرآن ، بخلاف التعريف الأول ؛ فإنه يحدد المكى بزمان معين ، وهو ما قبل الهجرة ، ويحدد المدنى بزمان معين ، وهو ما كان بعد الهجرة ، ونحن نعلم أن من القرآن ما لم ينزل بمكة ولا بالمدينة بل أنزل بأماكن أخرى متباعدة.

فقوله تعالى ـ مثلا ـ فى سورة التوبة : ٤٢ (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ

٥٨٨

وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) نزلت بتبوك ، كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.

وقوله جل شأنه فى السورة نفسها :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) آية : ٦٥ ـ نزلت فى غزوة تبوك ، كما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن عمر.

إلى غير ذلك من الآيات التى ذكر السيوطى فى «الإتقان» (١) أنها نزلت فى مواطن مختلفة غير مكة والمدينة وضواحيهما.

الثالث : أن المكى ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدنى ما وقع خطابا لأهل المدينة.

وعليه يحمل قول من قال : إن ما صدر فى القرآن بلفظ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو مكى ؛ وما صدّر فيه بلفظ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدنى ؛ لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا بيا أيها الناس ، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. ولأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة ، فخوطبوا بيا أيها الذين آمنوا ، وإن كان غيرهم داخلا فيهم أيضا. وألحق بعضهم صيغة : (يا بَنِي آدَمَ) بصيغة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

أخرج أبو عبيد فى «فضل القرآن» عن ميمون بن مهران قال : ما كان فى القرآن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أو (يا بَنِي آدَمَ) فإنه مكى ، وما كان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإنه مدنى) أه (٢).

وهذا التعريف غير ضابط ؛ لأنه لوحظ فيه المخاطبون ، فإن فى المكى ما صدر بيا أيها الذين آمنوا ، وفى المدنى ما صدّر بيا أيها الناس ، وفيهما ما لم يصدر بأحدهما.

سورة الحج ـ مثلا ـ مكية وفى آخرها :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آية : ٧٧.

وسورة النساء مدنية وأولها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ). ومن ذلك فى المكى والمدنى كثير.

ويمكننا أن نقول : إن هذا التعريف يجرى مجرى الغالب ، إلا أنه من شأن التعريف أن يكون جامعا مانعا ، وجريانه مجرى الغالب لا يجعله كذلك ؛ فالمراد لا يدفع الإيراد ، كما يقولون) أه (٣).

(٢) [المعول عليه فى معرفة المكى والمدنى]

والمعول عليه فى معرفة المكى والمدنى النقل الصحيح عن الصحابة ثم عن التابعين ومن بعدهم.

ولكن هناك ضوابط كلية يعرف بها المكى والمدنى على الجملة ، مبناها على الغالب والكثير يرجع إلى اللفظ وإلى المعنى.

٥٨٩

وإليك بعض هذه الضوابط بإيجاز :

(أ) كل سورة فيها لفظ «كلّا» فهى مكية باتفاق وقد تكرر هذا اللفظ ثلاثا وثلاثين مرة فى النصف الثانى من القرآن ؛ ردعا وزجرا لأهل مكة ، لأن أكثرهم كانوا طغاة جبارين.

(ب) كل سورة فى أولها حرف من حروف المعجم مثل : (المص ـ ق ـ ن) فهى مكية إلا البقرة وآل عمران ، وفى الرعد خلاف ، والأصح أنها مكية.

(ج) كل سورة فيها سجدة فهى مكية.

(د) كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الماضية فهى مكية سوى البقرة وآل عمران.

(ه) كل سورة ذكر فيها الجهاد وما يتعلق به فهى مدنية.

(و) كل سورة فيها ذكر المنافقين فهى مدنية ، ما عدا سورة العنكبوت.

والتحقيق أن سورة العنكبوت مكية ما عدا الآيات الأولى منها ، وهى إحدى عشرة ، فإنها مدنية ، وهى التى ذكر فيها المنافقون.

(ز) كل سورة فيها ذكر الحدود والفرائض فإنها نزلت بالمدينة ، والمراد بالفريضة هنا :

فريضة الميراث لا مطلق الفريضة ، وإلا ففي المكى فرائض كثيرة كالصلاة والعدل ، والتواصى بالحق ، والتواصى بالصبر ، والوفاء بالعهد وغيرها.

وقد اشتهرت أحكام الميراث باسم الفرائض ، حتى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روى الإمام أحمد بإسناد صحيح : «أفرضكم زيد».

(٣) [تميز المكى عن المدنى]

ويتميز المكى عن المدنى بخصائص غلبت عليه وشاعت فى طياته.

ويتميز المدنى عن المكى بخصائص يعرف بها ـ وتسمى هذه الخصائص بالضوابط المعنوية.

وإليك أولا خصائص المكى :

(أ) يتميز المكى بتأصيل العقيدة الصحيحة التى بعث بها جميع الرسل ، ومحاربة العقائد الفاسدة التى توارثها أهل مكة ومن حولهم من القرى ، كعبادة الأصنام والتقرب إليها بالقرابين ، والتضرع إليها كلما اشتد بهم الكرب أو نزل بهم القحط.

(ب) وعنى القرآن المكى ـ أيضا ـ بالقضاء على ما كانوا عليه من أخلاق سيئة وعادات فاسدة ، كسفك الدماء ، ووأد البنات ، وأكل مال اليتيم ، والتطفيف فى الكيل والميزان ، وغير ذلك من الرذائل.

ودعاهم إلى أصول التشريعات العامة ، والآداب السامية ، بوصفها برهانا عمليا على سلامة الفطرة وصحة الاعتقاد.

٥٩٠

(ج) ولتثبيت هذه الأصول والمعتقدات الصحيحة فى قلوب الناس جميعا مؤمنين وكافرين ، عنى القرآن المكى عناية فائقة بأخبار الأنبياء والأمم السابقة ؛ لما فيها من عظات وعبر ، وتبيان لسنة الله ـ تعالى ـ فى هلاك المكذبين ، ونجاة المؤمنين.

ولقد كان إيراد القصص فى القرآن المكى بكثرة من أبلغ الأدلة على أن القرآن كان وحيا من الله تعالى.

فلو تأخر إيراده إلى العهد المدنى ؛ لقال الكفار : تعلمه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب.

ولكان لقولهم هذا مبرر على نحو ما ؛ لأن أهل الكتاب كانوا على علم ما بقصص الأنبياء وأخبار الأمم. ولقد قال المشركون فى مكة : إنما يعلمه بشر ، وادعوا أنه يخلو إلى غلام روميّ ، ويتلقى عنه هذا القرآن ، ولم يكن لقولهم هذا شاهد من العقل ، ولا من الواقع.

قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) النحل : ١٠٣.

فلو قالوا عن القرآن المدنى : تعلمه محمد من اليهود حين جاورهم ، واتصل بهم ، قيل لهم : ومن الذى علمه القرآن الذى نزل عليه بمكة ، متضمنا من أخبار الأولين والآخرين ما لا يعلمه اليهود ولا غيرهم.

(د) ومن خواص هذا القسم قصر معظم آياته وسوره ولا سيما أوائل ما نزل ، ولعل ذلك كان كذلك ليتمكن المؤمنون من حفظه بسهولة ويسر ، فهم فى أول عهدهم به لم تتعود ألسنتهم على النطق به مرتلا كما أمر الله ـ تعالى ـ أن يتلى ، وفيهم الشيخ الكبير ، والمرأة المسنة ، والطفل الصغير ، وأكثرهم أميون ، فكيف يستطيعون قراءة الآيات الطويلة المقاطع ، وهم لم يتعودوا بعد على مثل ذلك ؛ فكان من رحمة الله بهم أن أنزل الله هذه السور القصيرة فى آياتها ومقاطعها ليتمكنوا من حفظها وتلاوتها فى يسر ونشاط.

وأما خصائص المدنى فإننا نوجزها فيما يلى :

(أ) بيان الأحكام العقدية والشرعية بالتفصيل بيانا يكشف دقائقها وأسبابها وشروط صحتها والحكمة من تشريعها.

(ب) ظهرت فى العهد المدنى تشريعات لم تكن فى العهد المكى ، مثل مشروعية الصوم ، ومشروعية القتال ، وفريضة الحج ، وتحريم الخمر ، وتحريم الربا وغير ذلك.

(ج) الكشف عن أحوال المنافقين الذين كانوا أشد الناس خطرا على الإسلام والمسلمين ، وبيان ما انطوت عليه نفوسهم من

٥٩١

خبث ومكر وخداع ، وحرص وطمع ، وإعلام المسلمين بمآلهم بعد إعلامهم بحالهم ، وإيصائهم باتخاذ الحيطة والحذر من كيدهم وألا عيبهم ، ومراقبتهم فى جميع تصرفاتهم المغرضة ، ومجاهدتهم بالحجة والبرهان والإغلاظ عليهم فى القول والمعاملة ، مع بذل النصح لهم بالرجوع إلى الله ـ تعالى ـ والتمسك بدينه الحنيف.

(د) دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ، ومجادلتهم بالحجة والبرهان فى معتقداتهم الباطلة ، وشبههم المزيفة ، وبيان جناياتهم على الكتب السماوية بالتحريف والتبديل ، وردهم عن غيهم إلى الرشد الذى جاءهم به الإسلام.

(٤) [الاقوال فى تعيين السور المكية والمدنية]

وقد نقل السيوطى فى «الإتقان» أقوالا كثيرة فى تعيين السور المكية والمدنية ، من أوفقها ما ذكره أبو الحسن الحصار فى كتابه الناسخ والمنسوخ إذ يقول : (المدنى باتفاق عشرون سورة ، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة ، وما عدا ذلك مكى باتفاق.

ثم نظم فى ذلك أبياتا رقيقة جامعة ، وهو يريد بالسور العشرين المدينة بالاتفاق : سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والنور ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والحجرات ، والحديد ، والمجادلة ، والحشر ، والممتحنة ، والجمعة ، والمنافقون ، والطلاق ، والتحريم ، والنصر.

ويريد بالسور الاثنتى عشرة المختلف فيها :

سورة الفاتحة ، والرعد ، والرحمن ، والصف ، والتغابن ، والمطففين ، والقدر ، ولم يكن ، وإذا زلزلت ، والإخلاص ، والمعوذتين.

ويريد بالسور المكية باتفاق ما عدا ذلك وهى اثنتان وثمانون سورة.

وإلى هذا القسم المكى يشير فى منظومته بقوله :

وما سوى ذاك مكىّ تنزله

فلا تكن من خلاف الناس فى حصر

فليس كلّ خلاف جاء معتبرا

إلا خلاف له حظ من النظر

(إ) ٤

(٥) [فوائد معرفة المكى والمدنى]

بعد أن عرفنا ما هو المكى والمدنى ، وخصائص كل منهما ـ يجدر بنا أن نختم هذا البحث ببيان ما يعود على الباحثين فيه من الفوائد فنقول :

(أ) تمييز الناسخ من المنسوخ ، فيما لو وردت آيتان أو أكثر مختلفة الحكم ، وعلمنا أن إحداهما مكية والأخرى مدنية ، فإننا نحكم حينئذ بأن المدنية ناسخة للمكية لتأخرها عنها.

٥٩٢

(ب) معرفة تاريخ التشريع ، والوقوف على سنة الله فى التدرج بالأمة من الأصول إلى الفروع ، ومن الأخف إلى الأثقل ، وهو أمر يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة فى تربية الفرد والجماعة.

(ج) تفيد هذه الدراسة فى الوقوف على الخصائص البلاغية لكل من المكى والمدنى ، والكشف عن ظواهرها المختلفة ، ومقارنة بعض هذه الظواهر ببعض ، والبحث عن مواضع الجمال فى كل منهما من غير تفضيل ولا موازنة ؛ لأن القرآن كله متساو فى الفصاحة والبلاغة ، والحلاوة والطلاوة والجمال.

لهذا عنى المسلمون عناية فائقة بتتبع ما نزل بمكة ، وما نزل بالمدينة ، بل عنى بعضهم بتتبع جهات النزول فى أماكنها وأوقاتها المختلفة وبذلوا فى ذلك جهودا مضنية.

وفى ذلك دليل على سلامة القرآن من أى تغيير أو تحريف ، فقد تلقاه الجمع الغفير من التابعين عن الجمع الغفير من الصحابة ، وتلقاه الأواخر عن الأوائل بالمشافهة والتلقين مع الوقوف على أماكن نزوله وأوقاته ، وأسبابه ، وغير ذلك مما يتصل بألفاظه ومعانيه ومقاصده.

قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الحجر : ٩

أ. د / محمد بكر إسماعيل

الهوامش :

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ج ١ ص ٧٣ النوع الثانى فى معرفة الحضرى والسفرى.

(٢) انظر مناهل العرفان فى علوم القرآن للأستاذ الشيخ / محمد عبد العظيم الزرقانى ط عيسى البابى الحلبى ج ١ ص ١٨٦.

(٣) دراسات فى علوم القرآن د / محمد بكر إسماعيل ـ ط. دار المنار ١٤١٩ ه‍ ـ ١٩٩٩ م ص ٤٦.

(٤) راجع الإتقان ج ١ ص ٤٤ وما بعدها ، وانظر مناهل العرفان للزرقانى ج ١ ص ١٩١ وما بعدها.

٥٩٣

نزول القرآن الكريم

(١) [حقيقة النزول]

أثبت الله القرآن فى اللوح المحفوظ ثم أنزله إلى بيت العزة فى السماء الدنيا جملة واحدة فى ليلة مباركة من شهر رمضان ـ هى ليلة القدر ، ثم أنزله على نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بواسطة جبريل ـ عليه‌السلام ـ فى نحو ثلاثة وعشرين عاما هدى للناس وتبيانا لكل شىء.

ودليل إثباته فى اللوح المحفوظ قوله تعالى :

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)) البروج : ٢١ ـ ٢٢.

ودليل نزوله إلى بيت العزة جملة قوله ـ جل وعلا : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) البقرة : ١٨٥. وقوله سبحانه :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) القدر : ١.

(٢) والحكمة فى تنزيله مفرقا تتلخص فيما يأتى :

(أ) تثبيت قلب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسليته ومواساته ، ورفع الحرج عنه ، وإزالة ما يعترى صدره من ضيق وحزن ، وإدخال السرور عليه الفينة بعد الفينة ، ومده بالقوة التى تدفعه إلى المضى فى دعوته ، وتبليغ رسالته على خير وجه وأكمله ، وتهون عليه ما يلقاه من قومه من أذى ، وعنت ، وصدود ، وليدفع عنه شبح اليأس كلما حام حوله ، واعترض طريقه لتظل همته دائما فى الذروة العليا.

(ب) ومن أهداف التنجيم أيضا تيسير حفظ هذا القرآن العظيم على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه ، وقد كان أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب ولا عهد لهم بمثل هذا الكتاب المعجز ؛ فهو ليس شعرا يسهل عليهم حفظه ، ولا نثرا يشبه كلامهم يسهل عليهم نقله وتداوله ، وإنما هو قول كريم ثقيل فى معانيه ومراميه ، يحتاج المسلم فى حفظه وتدبره إلى تريث وتؤدة وإمعان نظر.

(ج) ومن أهم الأهداف التى أنزل من أجلها القرآن مفرقا : التدرج بالأمة فى تخليهم عن الرذائل ، وتحليهم بالفضائل ، والترقى بهم فى التشريعات ، فلو أنهم أمروا بكل الواجبات ، ونهوا عن جميع المنكرات دفعة واحدة لشق عليهم ، ولضعفت الهمم الصغيرة عن التجاوب والمسايرة.

٥٩٤

تماما كالطبيب الذى يعطى المريض دواءه على جرعات ولو أعطاه له مرة واحدة لتحقق أحد أمرين ، إما رفض المريض للدواء والصد عنه ، وإما القضاء عليه.

(د) نزل القرآن منجما لمواكبة الحوادث ، وهى متجددة متعددة. فكان كلما جدّ جديد من الأمور المصلحية التى تتعلق بمصالح العباد فى العاجل والآجل ، جاء حكم الله فيها ؛ فيرسخ فى النفوس ، وتتجاوب معه وترتضيه.

وفى القرآن آيات كثيرة نزلت على سبب أو أكثر ، إذا جهل سببها لا يعرف حكمها ؛ فكان ما نزل فيها تقريرا شافيا ، وحكما عادلا ، لا يستطيع أحد رده ، ولا يسع المسلمين إلا قبوله والرضا به.

(ه) الرد على شبه المشركين ، ودحض حجج المبطلين ؛ إحقاقا للحق ، وإبطالا للباطل.

وفى ذلك رد لكيدهم فى نحورهم أولا بأول ، حتى لا يتمادوا فى غيّهم وإضلالهم لضعفاء النفوس منهم ، وحتى لا يتأثر أحد من المسلمين بأقوالهم ، فينعكس ذلك على إيمانه وطاعته لله رب العالمين.

والقلوب تحتاج دائما إلى تطهير من الشبهات والوساوس الشيطانية والهواجس النفسية ، فكان القرآن الكريم كفيلا بذلك كله كما قال ـ جل شأنه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الإسراء : ٨٢

(و) وهناك أمر آخر يغفل عنه كثير من أهل العلم فى حكمة التنجيم ، وهو الدلالة على الإعجاز البيانى والتشريعى للقرآن (١) فإنه ـ وإن كان قد نزل مفرقا فى نحو ثلاثة وعشرين عاما وفى أوقات متباينة ، وأحكام مختلفة ، وحوادث متعددة. قد رتب ترتيبا عجبا لا ترى فيه بترا ولا خللا بين آياته ، ولا تنافرا بين ألفاظه ، ولا تناقضا فى معانيه ، ولا اختلافا فى مقاصده ومراميه (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) هود : ١. وقد بيّن الله هذه الحكم السامية فقال : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) الإسراء : ١٠٦.

وقال ـ جل شأنه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) الفرقان : ٣٢ ـ ٣٣.

٣ ـ وقد التقى أول ما نزل بآخر ما نزل فى إحقاق الحق وإبطال الباطل ؛ فكان الختام توكيدا لأوله وجماعا لفضائله وآثاره وتشريعاته كلها.

وأول ما نزل على الإطلاق : الآيات الخمسة الأول من سورة العلق ، وآخر ما نزل

٥٩٥

على الصحيح : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) البقرة : ٢٨١.

ومن هنا نعلم : أن القرآن الكريم وحدة عضوية وموضوعية ، يرتبط أوله وآخره برباط واحد. فمن نظر فيه من أوله إلى آخره نظرة متعمقة آمن إيمانا لا يخالجه شك أن هذا القرآن آخذ بعضه بحجز بعض فى تناسق تام وانسجام فريد يؤكد أن أعلاه مثمر وأسفله مغدق ، وأنه يعلو ولا يعلى عليه.

شهد بذلك كل منصف له فهم ثاقب بأسرار البلاغة وأساليب البيان. (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ)

(الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٥.

٤ ـ وأول ما نزل من القرآن الكريم بإطلاق ـ عند جمهور المحققين ـ أوائل سورة العلق إلى قوله جل شأنه : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

وذلك لما رواه البخارى ومسلم (واللفظ للبخارى) عن عائشة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ قالت : «أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث ـ يتعبد ـ فيه الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال :

ما أنا بقارئ ، قال : فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، قلت :

ما أنا بقارئ ؛ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ من الجهد ثم أرسلنى فقال : اقرأ ؛ فقلت :

ما أنا بقارئ ؛ فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الحديث» (٢).

(٢) [اول ما نزل من القرآن]

وقيل : إن أول ما نزل من القرآن أوائل سورة المدثر. واستدل أصحاب هذا القول بما رواه البخارى ومسلم عن أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : سألت جابر ابن عبد الله : أى القرآن أنزل قبل؟ فقال :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ؛ فقلت : أو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وفى رواية نبئت أنه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فقال : أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى جاورت بحراء ، فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت الوادى ـ زاد فى رواية : فنوديت فنظرت أمامى وخلفى ، وعن يمينى وعن شمالى ـ ثم نظرت إلى السماء فإذا هو ـ يعنى جبريل ـ زاد فى رواية : جالس على

٥٩٦

عرش بين السماء والأرض ـ فأخذتنى رجفة فأتيت خديجة ، فأمرتهم فدثرونى ؛ فأنزل الله :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ) المدثر : ١ ـ ٢».

لكن هذه الرواية ليست نصا فيما نحن بسبيله من إثبات أول ما نزل من القرآن إطلاقا ، بل تحتمل أن تكون حديثا عما نزل بعد فترة الوحى ، وذلك هو الظاهر من رواية أخرى رواها الشيخان أيضا عن أبى سلمة عن جابر أيضا : فبينما أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء ؛ فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجثثت ـ أى ثقل جسمى عن القيام ـ حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلى ؛ فقلت : زملونى ، فزملونى فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ).

فظاهر هذه الرواية يدل على أن جابرا استند فى كلامه على أن أول ما نزل من القرآن هو المدثر ـ إلى ما سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يحدث عن فترة الوحى ، وكأنه لم يسمع بما حدّث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوحى قبل فترته من نزول الملك على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حراء بصدر سورة اقرأ كما روت عائشة ـ رضى الله عنها ـ فاقتصر فى إخباره على ما سمع ظانا أنه ليس هناك غيره ؛ اجتهادا منه ، غير أنه أخطأ فى اجتهاده بشهادة الأدلة السابقة فى القول الأول ، ومعلوم أن النص يقدم على الاجتهاد ، وأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ؛ فبطل إذا القول الثانى وثبت الأول (٣).

أقول : لعل جابر بن عبد الله أراد أن أوائل المدثر نزل فى أول الرسالة ، وآيات سورة العلق نزلت فى بدء النبوة ، وبذلك يرتفع الإشكال بدليل قوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ).

أو أن آيات المدثر من أوائل ما نزل ، لا أول ما نزل على الإطلاق. والله أعلم.

واختلف العلماء فى آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق اختلافا كثيرا ، لعدم وجود أثر صحيح مسند إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد عليه فى تحقيق ذلك على وجه يقطع الخلاف ويزيل الالتباس ، وقد انتهت أقوال العلماء فى هذا الأمر إلى عشرة أقوال أشهرها أربعة :

الأول : آخر ما نزل قوله ـ تعالى ـ فى سورة البقرة : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) البقرة : الآية : ٢٨١. أخرجه النسائى من طريق عكرمة عن ابن عباس.

وكذلك أخرجه ابن أبى حاتم قال : آخر ما نزل من القرآن كله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). وعاش النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها تسع ليال ، ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول.

٥٩٧

الثانى : أن آخر ما نزل هو قول الله ـ تعالى ـ فى سورة البقرة أيضا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة آية : ٢٧٨. أخرجه البخارى عن ابن عباس ، والبيهقى عن ابن عمر.

الثالث : أن آخر ما نزل آية الدين فى سورة البقرة أيضا ، وهى قوله سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) إلى قوله سبحانه :

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة الآية : ٢٨٢.

وهى أطول آية فى القرآن.

وأخرج ابن جريج عن سعيد بن المسيب :

(أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين).

وأخرج أبو عبيد فى «الفضائل» عن ابن شهاب قال : (آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين).

ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطى رضي الله عنه من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها فى المصحف ؛ لأنها فى قصة واحدة ، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر ، وذلك صحيح.

قال الزرقانى فى «مناهل العرفان» (٤) بعد أن سرد هذه الأقوال : (ولكن النفس تستريح إلى أن آخر هذه الثلاثة نزولا هو قول الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). وذلك لأمرين :

أحدهما : ما تحمله هذه الآية فى طياتها من الإشارة إلى ختام الوحى والدين ، بسبب ما تحث عليه من الاستعداد ليوم المعاد ، وما تنوّه به من الرجوع إلى الله واستيفاء الجزاء العادل من غير غبن ولا ظلم ، وذلك كله أنسب بالختام من آيات الأحكام المذكورة فى سياقها.

ثانيهما : التنصيص فى رواية ابن أبى حاتم السابقة على أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش بعد نزولها تسع ليال فقط ، ولم تظفر الآيات الأخرى بنص مثله) أه.

الرابع : أن آخر ما نزل هو سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) رواه مسلم عن ابن عباس.

ولكنك تستطيع أن تحمل هذا الخبر على أن هذه السورة آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويؤيده ما روى من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين نزلت :

«نعيت إلى نفسى».

وكذلك فهم بعض كبار الصحابة كما ورد أن عمر رضي الله عنه بكى حين سمعها وقال :

«الكمال دليل الزوال».

٥٩٨

ويحتمل أيضا أنها ما نزل من السور فقط ، ويدل عليه رواية ابن عباس : «آخر سورة نزلت من القرآن جميعا : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ).

ويظن بعض أهل العلم أن آخر آية نزلت هى قوله تعالى فى سورة المائدة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). والحق أنها ليست آخر ما نزل بإطلاق.

والبحث فى أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن يعتمد على النقل والتوقيف ، ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها ، شأنه فى ذلك شأن كثير من مباحث علوم القرآن ، كمعرفة المكى والمدنى وأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك.

الخامس : ولهذا البحث فوائد منها :

(أ) تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات على موضوع واحد ، وكان الحكم فى إحدى هذه الآيات يغاير الحكم فى الأخرى.

(ب) معرفة تاريخ التشريع الإسلامى ، ومراقبة سيره التدريجى ، والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته فى أخذه الناس بالهوادة والرفق ، والبعد بهم عن غوائل الطفرة والعنف ؛ سواء فى ذلك هدم ما مردوا عليه من باطل ، وبناء ما لم يحيطوا بعلمه من حق.

(ج) إظهار مدى العناية التى أحيط بها القرآن الكريم حتى عرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل ، كما عرف مكيه ومدنيه ، وسفريه وحضريه إلى غير ذلك.

ولا ريب أن هذا مظهر من مظاهر الثقة به ، ودليل على سلامته من التغيير والتبديل.

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(د) ويضاف إلى هذه الفوائد فائدة أخرى ، وهى معرفة الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم ، عن طريق ربط أول ما نزل منه بآخره ، فإن من ينظر فى أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل يعرف الصلة الوثيقة بين آياته كلها فى ألفاظها ومعانيها ومراميها ، ويتبين له بوضوح أن أول ما نزل مقدمة تقود الباحث إلى ما فى هذا الكتاب العزيز من مقاصد وعبر وأحكام وحكم ، وآخر ما نزل يوجز كل ما ورد فيه من تلك المقاصد والعبر ، والأحكام والحكم فيلتقى الآخر بالأول فى نسق واحد ، ونسج فريد لا تناقض فيه ولا اختلاف ، كما عرفنا ذلك عند معرفة أول ما نزل من الآيات وآخر ما نزل على الصحيح من أقوال المحققين.

السادس : وقد اهتم الكثير من علماء التفسير وعلماء الفقه والأصول بمعرفة جهات النزول وهى الأماكن التى نزل فيها على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمكة والمدينة والجحفة وبيت المقدس والطائف والحديبية وتبوك وغيرها.

٥٩٩

وبذلوا جهدا مشكورا فى هذا البحث معتمدين على الروايات الصحيحة التى نقلها التابعون عن ائمة الصحابة وعلمائهم ؛ ليستعينوا بمعرفتها على فهم الأحكام الشرعية التى تضمنتها الآيات ، وليعرفوا الناسخ منها والمنسوخ وغير ذلك مما ذكرنا فى معرفة المكى والمدنى.

وقد نقل السيوطى فى «الاتقان» (٥) عن أبى القاسم النيسابورى فى كتابه (التنبيه على فضل علوم القرآن) قوله : (من أشرف علوم القرآن علم نزوله ، وجهاته ، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة ، وما نزل بمكة وحكمه مدنى ، وما نزل بالمدينة وحكمه مكى ، وما نزل بمكة فى أهل المدينة وما نزل بالمدينة فى أهل مكة ، وما يشبه نزول المكى فى المدنى ، وما يشبه نزول المدنى فى المكى ، وما نزل بالجحفة ، وما نزل ببيت المقدس ، وما نزل بالطائف ، وما نزل بالحديبية ، وما نزل ليلا ، وما نزل نهارا ، وما نزل مشيعا ، وما نزل مفردا ، والآيات المدنيات فى السور المكية ، والآيات المكيات فى السور المدنية ، وما حمل من مكة إلى المدينة ، وما حمل من المدينة إلى مكة ، وما حمل من المدنية إلى أرض الحبشة ، وما أنزل مجملا ، وما نزل مفصلا ، وما اختلفوا فيه فقال بعضهم مدنى وبعضهم مكى.

فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم فى كتاب الله تعالى). أه.

أقول : فى هذا الكلام شىء من المبالغة ؛ لأن معرفة هذه الوجوه كلها لا يترتب عليها فوائد ذات بال.

ومعرفتها جميعا من فضول العلم لا من أصوله ، وقوله : (من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم فى كتاب الله تعالى) حكم غير صحيح ، فإن أراد بعضها ، كمعرفة المكى والمدنى فمسلّم.

والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لم يكونوا يعرفون هذه الوجوه جميعا ، ومع ذلك كانوا يتكلمون فى كتاب الله ـ تعالى ـ بما انتهى إليه علمهم عن الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو وصل إليه فهمهم للآيات إذا لم يكن فيها بيان عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول منه أو بفعل.

نقل الزركشى فى «البرهان» (٦) عن القاضى أبى بكر فى «الانتصار» : (أن هذا يرجع إلى حفظ الصحابة وتابعيهم .. غير أنه لم يكن من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك قول ولا ورد عنه أنه قال : اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا ، وبالمدينة كذا ، وفضله كذا ، ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر ، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة.

٦٠٠