الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

(٥)

سنة الله مع الكفر والكافرين

لقد أوضحنا السنة الإلهية مع المؤمنين ، ولما كان فريق كبير من الناس أرسل الله إليهم رسله ليؤمنوا به ربّا واحدا لا شريك له وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فلم يستجيبوا لدعوة الإيمان وظلوا يتخبطون فى سراديب الكفر وظلام الضلالة ، فقد عنى القرآن الكريم بوصف حالهم وتصوير عصيانهم وكشف كيدهم عدوانا على الأنبياء وإيذاء للمؤمنين ، مع تكرار دعوة الإيمان المكللة بالعفو والغفران ، وترك لهم الخيار فاختاروا طريق جهنم وانحازوا إلى سبيل الغواية الذى يؤدى بهم إلى نار الجحيم.

إن هذا الفريق من الذين اختاروا الكفر عنادا واستكبارا واستسلموا لشياطينهم الذين أضلوهم ـ ونعنى هنا كفار قريش ـ قد استمعوا ـ بين ما قد استمعوا إليه من الكتاب الذى أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قول الله عزوجل :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (١)

إن الذين استمعوا إلى تلك الآيات من كتاب الله المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتلو على أسماعهم مبينا سنن الله فى شئون حياتهم مما احتوته الآيات من دعوة إلى الإيمان مؤيدة بالبرهان ثم ما تلاها من نذير لا يحول بينه وبينهم ما اتخذوه من أولياء من دون الله : ثم لم يؤمنوا ، مستحقون للعذاب الذى هو أشد أنواع العقاب ، إنه جهنم التى أعدها الله للكافرين.

ولقد عنى الكتاب العزيز بوصف أحوالهم وإصرارهم على كفرهم وكشف كيدهم ولؤمهم ، وبيان كذبهم على الله ورسوله

٨٢١

والمؤمنين ، ودحض حججهم وتسفيه عللهم ؛ وذلك لأن الشرك والكفر هما أسوإ سبيل لعصيان رب الكون وخالقه ، وذلك فى قوله عزوجل :

(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان آية ١٣).

يقول الله عزوجل فى شأن هؤلاء : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). (٢)

إن هؤلاء الكفار لم يقف الأمر بهم عند رفض الإيمان ولكنهم كانوا يصدّون الناس عن الإيمان بالترغيب تارة وبالترهيب والأذى تارات أخرى ، وإن ما كان يصنعه طغاة مشركى قريش من إيقاع أشد أنواع الأذى بالذين آمنوا من المستضعفين مسطور فى كتاب الله ومسجل فى كتب السيرة.

وفى هؤلاء أيضا يقول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣).

وإن دائرة الكفر لا يقف الأمر بها عند إنكار الإيمان بالله ، وإنما تتسع تلك الدائرة لتشمل من كفر بالملائكة أى أنكر وجودهم ومن كفر بكتب الله ورسله واليوم الآخر ، وتلك ظاهرة عند بعض المعاصرين ممن يظهرون الإيمان ، لكن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلّ لا يتجزأ ، وإن إنكار ركن من هذه الأركان الخمسة يخرج بصاحبه عن دائرة الإيمان ، وفى ذلك يقول الله عزوجل فى محكم كتابه (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (٤) ثم تتضمن الآية التالية صورة أخرى للكفر هى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) ثم تجىء الآية التالية لتكمل صورة الكفار بالمنافقين وذلك فى قول الله عزوجل : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٥).

والمنافقون من أشد الكفار خطرا على المؤمنين ؛ لأنهم يعمدون إلى الخديعة حين يتظاهرون بالإيمان ويبطنون أشد أنواع الكفر حقدا على المؤمنين وتضليلا لهم ، ومن ثمّ كان مكانهم فى الآخرة هو الدرك الأسفل من النار تصديقا لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (٦) وفى وصف تضليل هؤلاء المنافقين وخداعهم يقول المولى عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ

٨٢٢

بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). (٧)

لقد حفل الكتاب العزيز بآيات كثيرة مبثوثة فى مكانها الملائم لها فى عدد كبير من سوره ، ولكن لما كان لهؤلاء المنافقين من خطر على دعوة الإيمان ومن زرع بذور الفتنة بين جموع المؤمنين فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تفضحهم ، وتستهزئ بهم بصورة متكاملة ، دقة وصف وكمال بيان ، وجمال عرض ، وإعجاز أسلوب ، فى هذه المجموعة المتفردة من آيات كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فخلفت عارا لكل منافق ، وسبة لكل مخادع عند كل من وقعت عيناه عليها من الذين يتلون كتاب الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويوم يبعثون.

أ. د / مصطفى الشكعة

الهوامش :

__________________

(١) سورة الجاثية الآيات ٣ ـ ١٠.

(٢) النساء الآيات ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٣) سورة محمد الآية ٣٤.

(٤) النساء من الآية ١٣٦.

(٥) النساء الآيات ١٣٧ ـ ١٣٩.

(٦) سورة النساء الآية ١٤٥.

(٧) سورة البقرة الآيات ٨ ـ ١٦.

٨٢٣

(٦)

توصيف القرآن لطوائف الكافرين

إن القرآن الكريم حين تناول الكافرين بالحديث عنهم فإن منزّله ـ عزوجل ـ لم يترك كبيرة ولا صغيرة عن هذه الطوائف إلا وقد سجل ألوان الضلال التى اتصفت به ، وأنواع الشرك الذى مارسته ، وفنون الإفك التى اقترفتها ، وحيل النفاق التى خاضت فى مزالقها ، وأكاذيب الخداع التى أصرّت على الاستمساك بها ، والضلالات التى تروت فى أعماقها.

لم يكن ذلك ـ وحاشا لله ـ افتراء عليهم أو افتئاتا على فضائل صنعوها أو خيرات قدموها ؛ ولذلك وصفتهم آيات الكتاب العزيز بالمشركين ، والكفار ، وأهل الضلالة ، والمنافقين ، وأتباع الشيطان ، والخاسرين ، وغير ذلك من صفات أهل النار ، ومن ثم كانت الأمثال التى ضربت لحماقاتهم وكفرهم من السمو والإعجاز بمكان يقول الله سبحانه فى تقبيح فكرهم والاستخفاف بعجزهم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). (١)

إن هؤلاء الكفار من الغباء والعجز بحيث لا يستطيعون خلق ذبابة وهى من أضعف مخلوقات الله وأقلها شأنا ، بل إن تلك المخلوقة الضعيفة لو سلبتهم شيئا فإنهم يعجزون عن استرداده ، ومع ذلك فإنهم يكفرون بعبادة الله ، ثم تقرع الآية التالية أسماعهم لعلهم يعقلون ، وهى قوله جل وعزّ :

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

ولكن لقد ضلت أفئدتهم وقست قلوبهم وعميت أبصارهم وبصائرهم فلم يؤمنوا.

ويضرب الله مثلا آخر لجمود هؤلاء المكابرين وعناد أولئك الضالين الذين هم على شاكلة سابقيهم فى المثل السابق ، وفى هذا المثال ييسر على هؤلاء الضالين طريق الإيمان فى آيتين ، ويردف بآية توصيف حال هؤلاء الكافرين بآية ثالثة تظهر إصرارهم على الضلال ، ثم يختم بآية رابعة لعلها توقظ حسّ الإيمان فى قلوبهم ونور اليقين فى أفئدتهم ولكنهم لا يهتدون : لقد قدّت قلوبهم من صخر ، وسلبت بصائرهم فطرة الإيمان.

٨٢٤

يقول الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ). (٢)

يقول ابن عباس (٣) فى (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أى : خوفا من الصواعق وطمعا فى الغيث الذى يعقب البرق فيحيى الأرض وينبت الزرع. (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أنه تعالى شديد القوة والبطش والنكال ، القادر على الانتقام ممن عصاه.

بعد هاتين الآيتين اللتين تجمعان بين الوعد والوعيد وإظهار نعم الله الخالق وقدرته على البطش بالكافرين ، تجىء الآية التى تصف من لا يستجيبون لدعوته ـ سبحانه ـ وهى دعوة الحق (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٤).

لقد ضلت أفئدتهم ، وقست قلوبهم ، وعميت أبصارهم وبصائرهم فلم يؤمنوا.

ومثل آخر يضربه الله سبحانه لأعمال الكفار التى قد يكونون قصدوا بفعلها الخير فى الدنيا ؛ من صدقة مبذولة أو صلة ذى رحم وبيان أنه لا فائدة منها ما دام فاعلها أو فاعلوها عاشوا على الكفر والإشراك بالله ، فمثلها مثل الرماد فى يوم عاصف ذهبت ريحه به فى الهواء ، ومن ثم فإن أعمال الكفار لا يقبلها الله بل يمحقها كما تمحق الريح الرماد فى يوم اشتدت رياحه وهاجت عواصفه ، يقول رب العزة جلّ ثناؤه : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (٥).

ومن لطف الله ورحمته يتبع سبحانه هذه الآية ـ مثلما حدث مع مثيلات لها فى مثل هذا الموقف سبق لنا التمثل بها ـ بآية تحمل التوجيه الحميد وتهدى إلى الإيمان لو كانوا يعقلون ، فيقول جل من قائل : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ)

(السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).

ولكن القوم ضلت قلوبهم وقست أفئدتهم وعميت أبصارهم وبصائرهم فأصروا على الكفر ولم يهتدوا.

وفى سورة النور يضرب الله مثلين فى آيتين متتابعتين لأعمال الكفار التى لا طائل من وراء

٨٢٥

بذلها ما داموا على كفرهم ـ إذ لا ثواب للكافرين ـ والآيتان هما قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٦).

وهذان المثالان من آيتى النور لهما مكانة خاصة ومقام متميز بين مثيلتهما من الآيات التى تمثل أعمال الكفار وطبيعتهم ـ أستغفر الله فكلام الله جميعه على أوفى صورة من التميز ـ ولكن هاتين الآيتين مسبوقتان بأربع آيات جليلة ترشح للدخول إليهما ، ثم تتبع الآيتين موضع التمثيل آيتان أخريان تمثلان خاتمتين إيمانيتين تمجدان الذات الإلهية وتحملان من يقرأها إلى مقاصد الرشاد وسبل الإيمان.

فأما الآيات الأربع السابقة على آيتى توصيف أعمال الكفار فهى قول الله ـ عزوجل ـ عن ذاته العلية فى أولاها : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٧).

إن الآية الأولى من هذه الآيات الأربع لو قرئت على شخص أمّى قد تغيب عنه معانى بعض ألفاظها فإن قلبه ينفتح لذكر نور الله إيمانا وطهرا ، فما بالنا لو قرأها عالم بمعانيها وما تضمنته من إعجاز نورانى وبهاء إلهىّ ، وأما الآيات الثلاث الأخرى فتجمع ثلة من عناصر الإيمان جمعها الله سبحانه فيها ، مثل بيوت الله وهى المساجد ذات المقام الأسمى عند المؤمنين فيها يؤدون الصلوات ويسبحون بحمد ربهم ، وهم الذين يسعون فى طلب الرزق حلالا عن طريق التجارة التى لا تلهيهم عن ذكر الله وأداء شعائره : إقامة صلاة وإيتاء زكاة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ).

٨٢٦

ثم بعد هذه الآيات المضيئة يضرب الله المثلين لأعمال الكفار فى آيتين : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) إلى آخر الآية. والمعنى : أن أعمال الكفار التى يعملونها فى الدنيا بحسبانها أعمالا صالحة نافعة لهم فى الآخرة ، لن تجدى فتيلا ، فهى كالسراب الذى يظنه الظمآن ماء وهو ليس بماء بل ليس بشيء (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أى حسابه على كفره بربه.

والآية الثانية (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) والمعنى ، أن أعمال الكفار لا تنفعهم ، بل إنها كظلمات كثيفة فى بحر عميق مائج هائج يعلوه سحاب ، فإن تراكم طبقات الموج مع طبقات السحاب يحجب الضياء ، حتى إن الكافر لا يكاد يرى كفه إذا أخرجها. وليس أشد ظلمة من ظلمة الموج لمن مارس الأسفار فى البحار والمحيطات ، وهذا التشبيه العجيب فى نظر الإنسان ، وبخاصة إنسان عصر المبعث ، حقيقة مخيفة ، وأما فى العصر الحديث فقد حملت بحارا غير مسلم إلى الإيمان بالله بعد أن قرأ الآية الكريمة فى ترجمة لمعانى القرآن خاصة بعد أن عرف أن محمدا لم يجرب ارتياد البحار القريبة فضلا عن عبور المحيطات التى تحدث فيها هذه الظاهرة.

لقد ختم الله الآية الكريمة ـ وعمادها وصف كلمة البحار والمحيطات ـ بقوله عزوجل : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وذلك تعقيبا على ظلام عمل الكفار.

وفى اجتهاد بعض المفسرين لهاتين الآيتين :

أن الله ضرب المثل الأول لعمل صالح قام به الكافر فمثل له بالسراب الخادع ، وضرب الثانى ومثل له بالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض لاعتقاده السيئ وذلك فى الختام الرائع (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٨)

إن من المبهر فى السنن الإلهية فى المثلين المتتاليين سالفى الذكر حيال تصوير أعمال الكفار أنهما قد سبقا بآيتى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) و (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) وأنهما أتبعتا بثلاث آيات إيمانية تسبح له فى أولاها ـ السموات والأرض ، والطير السابحات الصافات بين السماء والأرض ـ وتفرد الآية الثانية أن لله ملك السموات والأرض ، وتشرح الآية الثالثة قدرة الخالق على خلق السحاب ومراحل تكوينه حتى يصير ركاما ينزّل الغيث

٨٢٧

من خلاله كما ينزل مع الغيث جبالا من البرد مقرونة بسنا برقه الذى يكاد يذهب بالأبصار ، وذلك فى قوله جل وعزّ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٩).

تلك أمثلة قليلة عن توصيف المولى ـ جل وعلا ـ لأعمال الكفار ، وهو ـ جل جلاله ـ لا يقدم توصيفا لعمل من أعمال الكافرين إلا ويقدم قبله آية أو آيتين إيمانيتين ترشح قارئها للإيمان رحمة منه وعدلا ، وتنبيها للقلوب المغلقة ، وإيقاظا للنفوس النائمة فى ظلام الضلال.

فأما المثال الأخير المكون من عملين وتوصيفين متتابعين لأعمال الفئات الضالة فقد قدم ـ جل جلاله ـ قبلهما آيتين باهرتين ، إحداهما : يوضح فيها نور ذات ، ويذكر بيوته المأهولة بمرتاديها من عباده المؤمنين الصالحين. ثم يختم الآيتين ـ موضع التوصيف والمؤاخذة ـ بثلاث آيات باهرات هادية إلى اليقين داعية إلى الإيمان.

ولكن القوم ضلت قلوبهم وقست أفئدتهم ، ويبست مشاعرهم وعميت بصائرهم فأصروا على الكفر وباءوا بخسران مبين.

أ. د / مصطفى الشكعة

هوامش :

__________________

(١) سورة الحج الآية ٧٣.

(٢) سورة الرعد الآيتان ١٢ ، ١٣.

(٣) صفوة التفاسير ٣ / ٧٦.

(٤) سورة الرعد الآية ١٤ ، ١٥.

(٥) سورة إبراهيم الآية ١٨.

(٦) سورة النور الآيتان ٣٩ ـ ٤٠.

(٧) سورة النور الآيات ٣٥ ـ ٣٨.

(٨) صفوة التفاسير ٢ / ٣٤٨ ـ سورة النور آية ٤٠.

(٩) سورة النور الآيات ٤١ ـ ٤٤.

٨٢٨

(٧)

تتابع سنّتى الإيمان والعصيان فى آية واحدة أو أكثر

ومن السنن الإلهية الإيمانية فى القرآن الكريم أن تأتى سنة الإيمان وجريرة العصيان فى الآية الواحدة أو فى آيتين متجاورتين رحمة من الرحمن الرحيم بخلقه من بنى الإنسان ، حيث يضع الحسن والقبيح متجاورين ، وينزل الإيمان والكفر متتاليين حتى يكون العبد على بيّنة من أمره ، من آمن بالخير اتخذه طريقا ، ومن ارتضى العصيان فهو المسئول عن سوء ما ارتضى ، والآيات فى هذه السنّة كثيرة شأنها فى ذلك شأن آيات الإيمان وشأن آيات فضل الله على العباد ، ولأن هذا النوع من الآيات يبين رحمة الله بخلقه وعدله بين عباده ، فقد رأينا أن نقدم نماذج منها ، وهذه النماذج وإن تكن قليلة بالقياس إلى ما حفل به الكتاب العزيز منها ، فإن قليلا من الخير فى أحيان كثيرة يغنى عن كثيره ، وإن كانت هذه القاعدة لا يجمل بنا أن نجعلها مقياسا ونحن نتعامل مع القرآن الكريم ، كلام الله الذى أنزل على سيد خلقه وخاتم رسله وأنبيائه.

يقول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ). (١)

ويقول الله ـ عزوجل ـ فيمن استجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ). (٢)

وفى الفرق بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة يقول عزوجل : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ

٨٢٩

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣).

والذى يستوقف القارئ المتمعن فى هذه الآيات هو أن منزل الكتاب جلت قدرته حسم القضية فى آية واحدة هى أولى الآيات الثلاث فى إيجاز وإعجاز ، ثم يتبع فى الآية الثانية بقصر الكلام على طلاب الدنيا فى إطار من التوبيخ والوعيد ، وتكمل أولى كلمات الآية الثالثة وصف حال الظالمين بما يشبه الإشفاق ؛ ثم تكون بقية الآية تتويجا لحال من أرادوا حرث الآخرة بأنهم فى روضات الجنات لهم ما يشتهون عند ربهم (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فشتان ـ فى القول الإلهى ـ بين حال الفريقين : لطلاب حرث الآخرة روضات الجنات ، وللآخرين عذاب عظيم.

ولمن يسلم وجهه إلى الله ، وعن من يكفر ، يقول رب العزة : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٤).

ولا ينبغى لنا ونحن بسبيل العيش فى رحاب كلام الله ألا نشير إلى أن هنا خطابا من العزيز الحميد موجها إلى حبيبه ورسوله يخفف عنه بعض ما يمكن أن يكون قد لحقه من حزن ألمّ به لإصرار بعض أهل الكتاب على شركهم ، يجادلون فى توحيد الله وصفاته بغير علم أو برهان. إنّ أحد أكابر المفسرين (القرطبى) قال : إن الآية نزلت فى يهودى جاء إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، أخبرنى عن ربك من أى شىء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته (٥). وهنا ينبغى أن نذكر أن الآيتين موضع الاستشهاد مسبوقتان بآيتين كاشفتين هما قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). (٦)

ومن السنن الحسنة والسيئة التى مثل الله لها فى آيتين متجاورتين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ، فالأولى دالة على الخير والإيمان ، والثانية دالة على الخبث والكفران ، وفى ذلك يقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٨٣٠

الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (٧)

وإن ما قد عود الله عباده عليه من قارئى كتابه العزيز ، أن هذا القبيل من الآيات التى تتجاور فيها آيات الإيمان مع آيات الكفران تكون مسبوقة حينا بمدخل إيمانى يتمثل فى آية كريمة ، وحينا آخر تكون مسبوقة بآية أو آيات إيمانية متسقة مع روح الآية التالية لها ثم متبوعة بآية أو آيات تعزيزية كما هو الحال فى آيات سورة النور التى سبق التمثيل بها ، وكما هو الحال هنا فى آيات الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ، فآية الكلمة الطيبة مسبوقة بآية يقول الله سبحانه فيها :

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). وآية الكلمة الخبيثة جاءت تالية لها آية فى إطراء وتثبيت للمؤمنين وإنذار ووعيد للظالمين فى قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ). (٨)

إن خير ما نختتم به هذا الفصل هو قول الله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

أ. د. مصطفى الشكعة

الهوامش :

__________________

(١) سورة الحشر الآيات ١٨ ـ ٢٠.

(٢) سورة الرعد الآية ١٨.

(٣) سورة الشورى الآيات ٢٠ ـ ٢٢.

(٤) سورة لقمان الآيات ٢٢ ـ ٢٤.

(٥) القرطبى ١٤ / ٧٤.

(٦) الآيتان ٢٠ ، ٢١ من لقمان.

(٧) سورة إبراهيم الآيات ٢٤ ـ ٢٧.

(٨) سورة إبراهيم الآيات ٢٧ ، ٢٩.

٨٣١

(٨)

سنن الخلق

الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الخالق البارئ المصور ، إنه خالق كل شىء (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)) (١).

لقد أكرمنا الله ـ سبحانه ـ ونحن نستعرض فى القرآن الكريم الآيات التى تحمل سنن الخلق وهى كثيرة وخصيبة وهادية ومرشدة وكافية وشافية ومقنعة ومعجزة ، ووقفنا أمامها كما ينبغى للعبد أن يقف أمام كلمات خالقه ، خالق الكون بكل ما فيه ، وتحيرنا بأى الآيات نبدأ هذه الشريحة من آيات سنن الخلق ، فإذا بنا ونحن نقرأ سورة الأنعام وما حفلت به من سنن الخلق تقع أعيننا على الآيتين سالفتى الذكر وفيهما تتكرر عبارة (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ففي الآية الأولى يقول جل وعز : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وفى الآية الثانية يقول عزوجل : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) فاستخرنا الله وجعلنا الآيتين استهلالا للحديث عن سنن الخلق.

وإنه بسبب وفرة آيات سنن الخلق وثرائها فى نطاق القداسة الربانية رأينا أن نتناول ما يتيسر تناوله منها فى نطاقين : نطاق الآيات التى يمكن أن نطلق عليها الآيات الكونية ، والجانب الآخر هو نطاق الإنسان وما يتصل به باعتبار أن الله ـ سبحانه ـ كرمه بين خلقه واستخلفه فى أرضه ، وسخر له كل شىء.

سنن الله فى الآيات الكونية :

إن كلّ الآيات الكونية متضمنة «خلق السموات والأرض» إذ منهما يتشكل الكون الذى عرف الإنسان منه النزر اليسير ، وغاب عنه الكثير الوفير ، وبمضى الأزمنة يكتشف الإنسان ما يتيسر له اكتشافه بالعقل الذى وهبه الله إياه والعلم الذى فرض الله عليه طلبه.

والذى يلاحظه قارئ آيات الكتاب العزيز :

أن الآيات الكونية بعد أن يذكر فيها خلق السموات والأرض ، يجدها مليئة بعد

٨٣٢

ذلك بالعديد المتباين من سنن الله خلقا وإبداعا.

يقول الله جل شأنه : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٢).

بعد استهلال الآية بذكر الله للسماوات والأرض ، نجد فيضا من نعم الله التى أنعم بها على خلقه من نزول الغيث وإخراج الثمرات وتسخير الفلك للإنسان تجرى به فى البحار ، بل وسخر لهم الشمس والقمر دائبين ، وسخر الليل والنهار فلكل منهما شأن ثم أجابهم الله إلى كل ما سألوه من نعمه التى يعجزون عن إحصائها.

وعلى النسق نفسه من ذكر سنن الله فى خلقه ، وإسباغ نعمه عليهم يقول الله عزوجل : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)) (٣).

إن هذه الآية من سورة البقرة ، تحمل من الألفاظ والمسميات كثيرا مما تحمله الآيات السابقة من سورة إبراهيم ، ومن ثم يذهب الظن بل اليقين عند بعض من لا يعرفون العربية وبخاصة من المستشرقين ، أن فى القرآن الكريم ما يطلقون عليه ظاهرة التكرار ، وقد وقع فى الخطأ نفسه بعض أبناء المسلمين ممن درسوا على تلك الطائفة من المستشرقين ، وغاب عنهم أن اللفظ الذى تكرر فى آيات سورة إبراهيم وآية البقرة ، يؤدى وظيفة تختلف من حيث الهدف والمنهج عن تلك الوظيفة التى أدتها هناك ، فالماء فى الآيات الأولى نزل على أرض خصبة فأخرج من الثمرات رزقا ، والماء فى الآية الأخرى نزل على أرض ميتة فأحياها لتكون صالحة للغرس والإثمار ، والفلك فى الآية الأولى مسخرة بأمر الله لنفع الناس ، والفلك فى الآية الثانية تجرى أيضا بما ينفع الناس.

ولكن الهدف من ذكرها هنا كونها آية لبرهان على قدرة الله عند القوم الذين يعقلون ، وكذلك الشأن فيما يتعلق بذكر الليل والنهار ، فإن ذكرهما فى الآيات من سورة إبراهيم نعمة سخرها الله للناس على النحو الذى بيناه هناك ، وأما ذكرهما فى آية البقرة فإنما

٨٣٣

جاء على سبيل الإقناع إذ الهدف من ذكرهما هو أن كلا من الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر بصورة دائمة لا تتبدل ولا تتوقف ، ومثل ذلك كثير فى آيات الكتاب العزيز التى لا يفقهها إلا من توفرت لديه أدوات فهم اللغة العربية ، فضلا عن أن ثمة شروطا كثيرة حددها علماء الأمة ينبغى توفرها عند من يعرض لتفسير القرآن الكريم.

نعود مرة أخرى إلى المنهج الذى سرنا عليه فى ارتباط ذكر خلق السموات والأرض فى آيات كتاب الله الكونية لتتمثل بقول الله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)) (٤).

وإن وقفة التدبر هنا موقعها معجزة خلق الكون ، ممثلا فى السموات والأرض فى ستة أيام ، ثم الاستواء على العرش ، وفى تتابع الليل والنهار بصورة أكثر تفصيلا ، وهى كون الليل والنهار يغشى أحدهما الآخر حثيثا ؛ أى أن الليل يغطى على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعا حتى يدركه. (٥)

وإذا كان الكون كله من إبداع الخالق الأعظم ، فمن المقطوع به أن الشمس والقمر والنجوم مسخرة جميعا بأمر الله ، والآية جميعها موقوفة على الجزء السماوى من سنن الله الكونية ؛ إعجازا وإدراكا لجميع البشر ، ومن ثم كان ختامها متسقا مع مدلولاتها وذلك بقول الله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

ومعجزة الخلق فى ستة أيام يراها القرطبى أنها مثيلة لأيام الدنيا ويقول : «لو أراد لخلقها فى لحظة ، ولكنه سبحانه أراد أن يعلّم العباد التثبّت فى الأمور» (٦).

وفى آية أخرى يقول ـ جل وعزّ ـ لتأكيد فترة الخلق فى ستة أيام : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) (٧).

وموقع التدبر هنا أن عرش الله كان على الماء ، ويرى الزمخشرى أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض (٨) ، فإذا عدنا إلى الماء موضع التدبر وجدنا فى الآية توبيخا لكفار مكة لأنهم ينكرون البعث والنشور.

ومن الآيات الكونية المترعة بالسنن الإلهية ـ بدون ذكر خلق السموات والأرض ـ قول الله عزوجل : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي

٨٣٤

لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)) (٩).

تضم هذه الآية أربعة عناصر تمثل سننا إلهية ، وهى موضوع اهتمام الخلق جميعا ، إنها الليل والنهار والشمس والقمر ، وليس عجبا أن كل اثنين من هذه المعالم الأربعة مرتبط بقرين له ، فالليل والقمر مرتبط أحدهما بالآخر ، وكذلك النهار والشمس مرتبط كلاهما بالآخر ، وهى جميعا تمثل سننا إلهية ذكرت كل واحدة منها فى القرآن الكريم عشرات المرات.

وفيما يتعلق بذكر الليل والنهار ، فإن ثمة نوعا من التكافؤ حادث بينهما إذ لا غنى للعيش بدونهما ، وإذا كانت آية الأعراف تضمنت قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) حسبما مرّ بنا قبل قليل ، فإن الأمر يختلف هنا ، إذ يقول المولى عزوجل :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) ، وليس ذلك من قبيل التضاد ، وإنما هو من قبيل الموازنة والمساواة بين قيمة كل من الليل والنهار.

وأما ذكر الشمس والقمر مقترنين أحدهما بالآخر ، فتلك من سنن الله الخالدة الباقية إلى أن تقوم الساعة ، ويتجلى ذلك فى قوله عزوجل : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)).

وإذا كان بعض المفسرين لم يصل اجتهاده إلى المعنى القرآنى ، فإن المفسرين المحدثين قد وفقوا إلى المراد من الآية ؛ وهو أن الشمس تدور حول نفسها ، وكان المظنون أنها ثابتة فى موضعها ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة فى مكانها ، وإنما هى تجرى فى اتجاه واحد فى الفضاء الكونى الهائل ، ولا بأس بهذا التفسير ، وإنما نحن نوضح أنها فى سيرها محكومة بالمجرة التى تضم ملايين الشموس الأخرى ، ولعل شمسنا التى أطلعنا الله عليها ، والتى جعلها مصدرا من مصادر حياتنا هى ـ على ضخامتها الهائلة ـ من أصغر شموس المجرة التى تحتويها وتعرف بمجرة سكة اللبان ، وهذه المجرة التى لا تعرف بدايتها من نهايتها ، هى واحدة من ملايين المجرات التى يضمها الكون الذى خلقه الله جلت قدرته بغير حدود.

هذا وإن الشمس فى جريانها تتحرك بقدرة السميع العليم. ولا يفوتنا فى هذا المقام الذى جرى فيه توصيف الشمس ، أنها مسخرة هى والقمر لعوامل أرادها لهما الخلاق

٨٣٥

العظيم وذلك فى قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٠).

ولعل من خير ما جاء به المفسرون من قدامى ومحدثين فى هذا المقام ، هو ما قال به أخونا فى الله الشيخ محمد على الصابونى برغم إيجازه الشديد : «أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذلل الشمس لمصالح العباد ، كل يسير بقدرته ـ تعالى ـ إلى زمن معين هو زمن فناء الأرض» (١١).

على أن أحدث ما كتب فى شأن سنة الله فى تسخير الشمس والقمر ، وأقربه إلى المراد القرآنى هو ما سطره أخونا فى الله الدكتور زغلول النجار بقوله : «من معانى تسخير كل من الشمس والقمر ضبط حركة كل منهما لما فيه صلاح الكون واستقامة الحياة على وجه الأرض ، ومن معانى أن كلا منهما يجرى إلى أجل مسمى أن الكون ليس بأزلى ولا بأبدى ، بل كانت له فى الأصل بداية تحاول العلوم المكتسبة تحديدها ، وكل ما له بداية لا بدّ وأن تكون له فى يوم من الأيام نهاية ، لها من الشواهد الحسية فى كل من الشمس والقمر ما يؤكد على حتميتها ، والحقائق القاطعة بتسخير الشمس عديدة جدا منها :

(١) الاتزان الشديد بين تجاذب مكونات الشمس وتمددها ... وقد بقيت الشمس مستمرة فى الوجود تحت هذا التوازن العجيب على مدى عشرة بلايين من السنين على أقل تقدير وإلى أن يرث الله ـ تعالى ـ الكون ومن فيه ، ولو لا هذا التوازن الدقيق لانفجرت الشمس كقنبلة نووية عملاقة أو لانهارت على ذاتها تحت ضغط جاذبيتها خاصة وأنها مجرد كرة ضخمة من الغازات.

(٢) تسخير طاقة الشمس من أجل ضبط حركة الحياة على الأرض ، ذلك أن الشمس تطلق من مختلف صور الطاقة ما يقدّر بحوالى خمسمائة ألف مليون مليون مليون (ثلاث مرات) حصان فى كل ثانية من ثوانى عمرها ، ويصل إلى الأرض من هذا الكمّ الهائل من الطاقة حوالى الواحد فى الألف ، وبدون هذه الطاقة الشمسية تستحيل الحياة على كوكبنا ؛ لأن كلا من النبات والحيوان والإنسان يعتمد فى وجوده بعد إرادة الله الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ على قدر الطاقة الذى يصله من أشعة الشمس ، كذلك وإن كل الظواهر الفطرية التى تحدث على الأرض وما حولها

تعتمد على الطاقة القادمة إلينا من الشمس ، فتصريف الرياح وإرسال السحاب وإنزال المطر وبقية دورة الماء حول

٨٣٦

الأرض ، وما يصاحب ذلك من تسوية وتمهيد لسطح الأرض ، وشق الفجاج والسبل فيها وتفجير للأنهار والجداول من حجارتها ، وخزن الماء تحت سطح الأرض ، وتكوين التربة والصخور الرسوبية ، وحركات الأمواج فى البحار والمحيطات ، وعمليات المد والجزر ، وغير ذلك من عمليات وظواهر ، تحركها طاقة الشمس بإرادة الله.

(٣) تكوين نطق الحماية المختلفة للأرض بفعل طاقة الشمس ، ذلك أن إرادة الله شاءت أن يحمى الحياة على سطح الأرض بعدد من نطق الحماية التى لعبت أشعة الشمس ـ ولا تزال ـ الدور الأول فى تكوينها بعد إرادة الله ، منها النطاق المغناطيسى للأرض وأحزمة الإشعاع ونطاق الأوزون ، وهذه النطق تتعاون فى حماية الأرض من كل من الأشعة فوق البنفسجية والكونية ، ومن الجسيمات الكونية الدقيقة والكبيرة التى منها النيازك والشهب ، ولو لم تكن هذه النطق موجودة لاستحالت الحياة على الأرض ، وإن وجود هذه النطق صورة من صور التسخير التى لم تكن معروفة فى زمن الوحى بالقرآن الكريم ، ولا بعد قرون متطاولة من تنزيله حتى نهايات القرن العشرين الميلادى.

(٤) تحديد الزمن ، إذ أنه يتحدد كل من الليل والنهار ويوم الأرض وشهورها وفصولها وسنيها بدورة الأرض حول محورها ، وبسبحها فى مدارها حول الشمس ، وبذلك يستطيع الإنسان إدراك الزمن وتحديد الأوقات والتاريخ للأحداث ، فبدورة الأرض حول محورها أمام الشمس يتبادل الليل والنهار ويتحدد يوم الأرض.

وبسبح الأرض فى مدارها حول الشمس بمحور مائل على الأفق تتحدد الفصول المناخية من الربيع والصيف والخريف والشتاء ، كما تتحدد سنة الأرض التى يتقاسمها اثنا عشر شهرا شمسيا تحددها بروج السماء الاثنا عشر المتتابعة» (١٢).

هذا بيان بتفسير سنة الله فى تسخير الشمس ، ثم نعود إلى سورة يس مرة أخرى وننعم النظر فى قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).

يقول ابن كثير فى تفسير هذه الظاهرة الكونية الإلهية : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) ؛ أى جعلناه يسير سيرا آخر ـ غير سير الشمس ـ يستدل به على معنى الشهور كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار كما قال عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ). ويمضى

٨٣٧

المفسر فى حديثه عن كل من الشمس والقمر إلى أن يقول : أما القمر فقدره منازل يطلع فى أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور ثم يزداد نورا فى الليلة الثانية ويرتفع منزله ، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء ، وإن كان مقتبسا من الشمس حتى يتكامل نوره فى الليلة الرابعة عشرة ، ثم يشرع فى النقص إلى آخر الشهر حتى يصير «كالعرجون القديم». قال ابن عباس : هو أصل العذق ، وقال مجاهد :

العرجون القديم أى : العذق اليابس. يعنى أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى (١٣).

ويجيء تفسير الجلالين ـ بالرغم من منهجه إيجازا فيزيد الظاهرة تفصيلا فيقول :

قدرناه من حيث سيره منازل ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، وليلة إن كان تسعة وعشرين يوما ، حتى عاد فى آخر منزله «كالعرجون القديم» ، تعود الشماريخ جمع شمراخ وهو عيدان عنقود النخيل الذى عليه الرطب إذا عتق فإنه يرق ويتقوس ويصغر (١٤). ويقول مثل ذلك صاحب صفوة التفاسير (١٥).

ثم يعرض الأستاذ الدكتور زغلول النجار لتفسير هذه الآية فى ضوء التقدم الكبير فى علم الفلك فى السنوات الأخيرة ، فيتحدث عن منازل القمر فى علم الفلك حديثا مسهبا ويزيد الأمر وضوحا فى إيضاح الإعجاز العلمى فى الآية الكريمة فيقول : «نظرا للارتباط الشديد بين مراحل أشكال القمر المتتالية من الهلال الوليد إلى التربيع الأول إلى الأحدب الأول إلى البدر ، ثم إلى الأحدب الثانى ثم الهلال الثانى ثم المحاق إلى الهلال الجديد فى الشهر القمرى الجديد وبين منازل القمر الثمانية والعشرين وهى مواقعه اليومية المتتالية فى السماء بالنسبة إلى نجوم تبدو مواقعها قريبة ظاهريا ، فإن التعبير بمنازل القمر يمكن إطلاقه على مراحل القمر المتتالية وعلى منازله المتواقعة مع تلك المراحل ـ أى مواقعه المتتالية فى السماء ـ باعتبار المنازل ـ جمع منزل ـ وهو المنهل والدار. وإن تقدير هذه المنازل القمرية فيه من الدلالة على طلاقة القدرة الإلهية ما فيه لأهميته فى معرفة الزمن وتقديره وحسابه باليوم والأسبوع والشهر والسنة ، وفى التأريخ للعبادات والأحداث والمعاملات والحقوق ، ولما فيه من تأكيد على ضبط سرعة القمر ضبطا دقيقا ؛ من أجل الحيلولة دون ارتطامه بالأرض فيفنيها وتفنيه ، أو انفلاته من عقال جاذبيتها فينتهى إلى نهاية لا يعلمها إلا الله وفى الوقت نفسه الارتباط الدقيق بين سرعة دوران كل منهما حول محوره ، فإذا زادت

٨٣٨

إحداهما قلّت الأخرى بنفس المعدل. ويمضى الأستاذ العالم الدكتور زغلول النجار قائلا :

ولما كانت سرعة دوران الأرض فى تناقص مستمر بمعدل جزء من الثانية فى كل قرن من الزمن ، فإن سرعة دوران القمر فى تزايد مستمر بنفس المعدل تقريبا ، مما يؤدى إلى تباعد القمر عن الأرض بمقدار ثلاثة سنتيمترات فى كل سنة ، وهذا التباعد سوف يخرج القمر فى يوم من الأيام من إسار جاذبية الأرض ليدخله فى نطاق جاذبية الشمس فتبتلعه تحقيقا للنبوءة القرآنية التى يقول فيها الحق تبارك وتعالى : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ). (١٦) ومن هنا كانت هذه الإشارة القرآنية المعجزة إلى وصف مراحل القمر المتتالية فى كل شهر ، والتى يقول فيها ربنا سبحانه وتعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ). ويمضى الأستاذ الدكتور زغلول قائلا : ويضاف إلى هذه المعجزات القرآنية التى لا تنتهى أبدا ، وصف المرحلة الأخيرة من مراحل الدورة الشهرية للقمر ؛ بالعرجون القديم : وهو العنقود من الرطب (العذق) إذا يبس وانحنى واصفر لونه ، وهو عند يبوسه على النخلة ينحنى تجاهها ، فكذلك الهلال الثانى ينحنى بطرفيه تجاه الأرض ، بينما الهلال الوليد ينحنى بهما بعيدا عنها فما أروع هذا التشبيه القرآنى.

ويختم الدكتور زغلول بقوله : هذه الحقائق عن القمر لم يدركها العلم الكسبى إلا بعد مجاهدة استغرقت آلاف العلماء وعشرات القرون ، وورودها فى آية واحدة من كتاب الله الذى أنزل على نبى أمىّ وفى أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين ، ومن قبل ألف وأربعمائة سنة ، مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذى أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وتعهد بحفظه حفظا كاملا. (١٧)

وقوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) «يس : ٤٠» هو سنة إلهية عظمى من سنن الله فى خلقه ، ذلك أن الشمس والقمر إذا اجتمعا محا ضياء الشمس نور القمر ، لأن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها ، والحال نفسها تحدث إذا سبق الليل النهار ، ولكن نتيجة ذلك تكون مضادة لنتيجة اجتماع الشمس والقمر ، إذ الحال فى سبق الليل النهار أن تكون الأوقات ليلا وحينئذ يختل نظام الحياة على الأرض ؛ لأن إرادة الله جعلت طبيعة الحال على كوكب الأرض ينقسم اليوم فيها إلى ليل ونهار ، ولليل

٨٣٩

طبيعته ووظيفته ، وللنهار طبيعته ووظيفته ، وقد بينا ذلك تفصيلا فى تفسير آية تسخير الشمس والقمر ، والله سبحانه هو الذى سخرهما لصالح الحياة على الأرض ، فالشمس لها مدار لا تتجاوزه ، والقمر له مدار ومنازل لا يحيد عنها ولا يطغى أحدهما على الآخر ، ولا يكون الجمع بينهما إلا يوم القيامة تبعا لقوله ـ عزوجل ـ فى سورة القيامة :

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢)) (الآيات : ٧ ـ ١٢).

اتساع الكون وزيادته بغير حدود.

قبل أن ننهى الحديث عن الكون والسماوات وسنن الله فيهن ، ننبه إلى ما يقوله علماء الفلك والباحثون فى شئون الكون المعاصرين وأحاديثهم عن المجرات التى لا يعرفون مداها ، وأن كل مجرة من هذه المجرات الملايين لا يستطاع تحديد سعتها ، حتى إنهم قالوا : إن المجرة التى توجد فيها شمسنا وما يسير فى مدارها من كواكب تضم ملايين الشموس التى تعد شمسنا وما يتبعها من كواكب هى أصغر الشموس حجما ومن أقلها شأنا ، وأن هذا الكون الذى يضم ملايين المجرات دائم الاتساع بغير حدود ، والجدير بالذكر أن هؤلاء العلماء ليسوا من المسلمين بل إن أكثرهم من الماديين ، وما عرفوا أن القرآن الكريم قد سجل الله فيه ما توصلوا إليه بعد طول البحث والتفانى فى بذل الجهد لمعرفة شىء يعلل ما قد توصلوا إليه من أن الكون يزيد اتساعا.

يقول الله ـ جل وعز ـ فى سورة الذاريات : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) وموضع الدهشة يكمن فى الآية الأولى ، فقد فهمها المفسرون القدامى على النحو الذى توصل إليه دارسو الكون من العلماء المعاصرين ، ولو أنهم أو بعضهم قرأ القرآن لسارع إلى الإيمان واعتناقه ، مثلما فعل عدد غير قليل من غير المسلمين الذين قرءوا القرآن ووقعت أعينهم على الكثير من السنن الإلهية التى يحفل بها الكتاب العزيز ، وقد عرفنا كثيرا من هؤلاء العلماء والمستنيرين الذين أسلموا طوعا واقتناعا بعد قراءتهم القرآن الكريم مترجما إلى لغاتهم.

يقول المفسرون فى قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أى شيدنا السماء وأحكمنا خلقها بقوة وقدرة. وقال ابن عباس : بأيد :

يعنى بقوة. ويقولون فى (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أى لموسعون فى خلق الملائكة (١٨) وتلك

٨٤٠