الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

والنازعات ، والانفطار ، وثلاث بعدها ، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن إلا التين والعصر والكافرون.

وقسم فيه الناسخ والمنسوخ ، وهو خمس وعشرون : البقرة وثلاث بعدها ، والحج ، والنور وتاليها ، والأحزاب ، وسبأ ، والمؤمن ، والشورى ، والذاريات ، والطور ، والواقعة ، والمجادلة ، والمزمل ، والمدثر ، والتكوير ، والعصر.

وقسم فيه الناسخ فقط ، وهو ست : الفتح ، والحشر ، والمنافقون ، والتغابن ، والطلاق ، والأعلى.

وقسم فيه المنسوخ فقط ، وهو الأربعون الباقية) (١٥).

هذا. والسور التى ذكر السيوطى أنها تشتمل على ناسخ فقط ، أو ناسخ ومنسوخ معا ، يحمل على النسخ بمعناه الواسع الذى يشمل ما كان مطلقا فقيد إطلاقه ، وما كان عاما فخصص عمومه بنوع من أنواع التخصيص ، أو كان مبهما فأزيل إبهامه ، أو كان غير مؤقت فأقت ، ونحو ذلك.

وهو مفهوم الصحابة للنسخ كما سيأتى بيانه.

(١١)

الآيات التى قيل إنها منسوخة عدها السيوطى اثنتين وعشرين آية بعد أن ضيق مفهوم النسخ بعض الشيء وبين الناسخ لها ونظمها فى قصيدة لتحفظ.

وإليك هذه الآيات وما ذكره فى شأنها ـ مع مناقشته فى بعض ما ذهب إليه.

الأولى : قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة) : ١٨٠.

قيل : هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وقيل : بحديث «لا وصية لوارث» (١٦) ، وقيل :

بالإجماع ، حكاه ابن العربى.

وقد نازعه فى نسخ هذه الآية جماعة من أهل العلم ، وقالوا : إنها محكمة ، وهو الظاهر لى.

قال القاسمى فى «محاسن التأويل» (١٧) بعد أن ذكر ما ذهب إليه السيوطى : (ذهبت طائفة إلى أن الآية محكمة لا تخالف آية المواريث ، والمعنى : كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ).

أو كتب على المحتضر : أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم ، وأن لا ينقص من أنصبائهم .. ولو فرض المنافاة لأمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية ، بإبقاء القريب الذى لا يكون وارثا لأجل صلة الرحم ....

٦٤١

قالوا : ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها فى غيرهم).

الثانية : قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ). ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

واعتمدوا فيما ذهبوا إليه على آثار كثيرة وردت فى صحيح البخارى ومسلم ومسند أحمد.

لكن قد ورد ما يفيد أنها محكمة ؛ فقد روى البخارى فى التفسير عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول فى هذه الآية : «ليست منسوخة ، وهو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان كل يوم مسكينا».

الثالثة : قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) البقرة : ١٨٧.

قيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فقد روى أن شهر رمضان قد فرض على الذين من قبلنا على الوجه الذى كان مفروضا على المسلمين قبل نزول هذه الآية الناسخة ، بمعنى أنهم قد كتب عليهم أنه إذا صلّى أحدهم العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها من الليلة المقبلة.

وهذا ما رواه أبو جعفر الرازى عن الربيع ابن أنس عمن حدثه عن ابن عمر.

ونحن لا ندرى على وجه اليقين أن الصوم قد فرض على الذين من قبلنا على هذا النحو ، فيكون الأصح الذى تطمئن إليه النفس أن هذه الآية ناسخة للسنة التى كان عليها المسلمون فى أول الإسلام.

الرابعة : قوله جل شأنه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) البقرة : ٢١٧.

ذكر القرطبى وغيره من المفسرين : (أن العلماء اختلفوا فى نسخ هذه الآية ، فالجمهور على نسخها ، وأن قتال المشركين فى الأشهر الحرم مباح.

واختلفوا فى ناسخها :

فقال الزهرى : نسخها (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) التوبة ٣٦.

وقيل : نسخها غزو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثقيفا فى الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس فى الشهر الحرام.

وكان عطاء يقول : الآية محكمة ، ولا يجوز القتال فى الأشهر الحرام ، ويحلف على ذلك ؛

٦٤٢

لأن الآيات التى وردت بعد عامة فى الأزمنة ، وهذا خاص ، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق) (١٨).

الخامسة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة : ٢٤٠.

(قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) البقرة : ٢٣٤. وهى متقدمة عليها فى الترتيب مؤخرة عنها فى النزول.

وذهب جماعة من المفسرين إلى أنها محكمة لا نسخ فيها وهو الراجح عندى.

وبيان ذلك : أن الآية الأولى فى ترتيب المصحف فرضت على المرأة أن تعتد فى بيت الزوجية أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن ، لا تخرج فيها من بيتها إلا لحاجتها الضرورية ، ولا تتزين للرجال ، ولا تتعرض لهم من أجل الزواج ، حتى تنقضى عدتها.

والآية الثانية فى الترتيب أقرت حكم الآية الأولى من وجوب العدة أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن ، مع إفادة استحباب أن تكون العدة حولا.

وهذا الاستحباب إما أن يكون وصية من الله للورثة ؛ مبالغة فى تكريم المرأة وإنعاما منه فى رفع المعاناة عنها ، وتطييبا لنفسها ووفاء لزوجها ، وإما أن يكون وصية من الزوج قبل موته ، وإما أن يكون وصية من الورثة بعضهم لبعض.

وأما النفقة فليست مرفوعة بميراثها من زوجها ؛ لأن هذه الوصية على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب ، فآية المواريث نقلت الحكم من الوجوب إلى الاستحباب ولم ترفعه بالكلية.

ومن هنا نفهم أن النسخ فى هذه الآية يحمل على معناه الواسع الذى قال به السلف ، والخلاف بين الفريقين لفظى أو اصطلاحى ولا مشاحة فى الاصطلاح ، وكل من الفريقين على الصواب ـ إن شاء الله تعالى.

ومن نظر فى هاتين الآيتين وجد الأمر كما قررناه ، فالآية الأولى فيها ذكر التربص وهو الانتظار والحبس عن الزواج حتى تنتهى العدة ، بخلاف الآية الثانية ، وبذلك تكون الآية الأولى خاصة بالزمن الذى لا تتعرض فيه المرأة إلى خطبة الأزواج ، وما تبقى من الحول وهو سبعة أشهر وعشرين يوما تكون المرأة فيه مخيرة بين الانتقال من بيت الزوج المتوفى والتزوج بآخر والمكث فى بيت زوجها المتوفى

٦٤٣

عنها دون أن تتزوج بآخر ؛ وفاء لزوجها الأول ومبالغة فى تكريمه ، وعندئذ تكون أهلا لإكرام أهل زوجها لها ، واعتزازهم بوجودها بينهم.

وحيث أمكن الجمع فلما ذا نعدل عنه إلى القول الذى يرتضيه قوم وينكره آخرون.

السادسة : قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) البقرة :

٢٨٤.

قيل إنها منسوخة بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) البقرة : ٢٨٦.

والأصح أنها ليست منسوخة ، فالآية الثانية بيان لها ؛ فقد وقع فى نفوس المؤمنين أنهم سيحاسبون على كل ما يخطر فى ضمائرهم من سوء ؛ كما يحاسبون على كل ما تبديه أنفسهم من شر وإن لم يمكنهم دفعه ؛ فبيّن الله ـ عزوجل ـ فى الآية الثانية أنه لا يحاسبهم إلا على ما يمكنهم دفعه من الخواطر ؛ إذ على المؤمن أن يدفع وساوس الشيطان أولا بأول ، ولا يسمح لها أن تتحول إلى إرادة ثم إلى عزم ثم إلى فعل ؛ عملا بقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الأعراف : ٢٠٠ / ٢٠١.

والدليل على ما ذكرناه من عدم النسخ ما رواه أحمد ، ومسلم ، والنسائى وغيرهم عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : لما نزلت هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ـ دخل قلوبهم منها شىء ، فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال : فألقى الله الإيمان فى قلوبهم فأنزل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : قد فعلت. (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال : قد فعلت.

واستدل القائلون بالنسخ بما رواه أحمد فى مسنده عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : «لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم جثوا على الركب ، وقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا :

٦٤٤

(سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله فى إثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل :

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

والمراد بالنسخ هنا من قبيل بيان المجمل وتقييد المطلق على حسب مفهوم المتقدمين من الصحابة والتابعين لا على حسب مفهومه عند المتأخرين ، فالقول بعدم النسخ أسلم) (١٩).

السابعة : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) آل عمران ١٠٢.

قيل : إنها منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن : ١٦.

فإن كان النسخ بمعنى بيان المجمل وتقييد المطلق ـ كما هو مفهوم المتقدمين للنسخ ـ فلا مانع من القول به ؛ لأن الآية الثانية بيان للأولى وتقييد لمطلقها ؛ فمن المعلوم شرعا أن الطاعة على قدر الطاقة.

الثامنة : قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) النساء : ٨.

قيل : منسوخة ، وقيل : لا ، ولكن تهاون الناس فى العمل بها.

والأصح : أنها محكمة لم تنسخ بآية المواريث كما قال بعضهم ؛ وذلك لما رواه البخارى فى صحيحه عن ابن عباس فى الآية قال : «هى محكمة وليست بمنسوخة» ، وفى لفظ عنه : «هى قائمة يعمل بها».

التاسعة والعاشرة : قوله تعالى :

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) النساء : ١٥ ـ ١٦.

هاتان الآيتان منسوختان عند جمهور المفسرين والمحدثين ، ودليل النسخ فيهما ظاهر ، لكن هذا النسخ هو من قبيل التدرج فى التشريع ؛ رعاية لمصالح العباد فى العاجل والآجل.

فالآية الأولى تنص على عقوبة الزانية بكرا كانت أم ثيبا بحبسها فى البيت حتى يتوفاها الله أو يجعل لها مخرجا بآية أخرى أو حديث.

والآية الثانية تنص على عقوبة الرجال من

٦٤٥

الأيامى والأبكار ، وهى الإيذاء بالأيدى والنعال والتقريع بالألسنة وما إلى ذلك من أنواع الإيذاء المناسب لهذه الجريمة ، وهى جريمة الزنا واللواط كما يرى بعض المفسرين.

قال ابن كثير فى تفسيره : (كان الحكم فى ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة ، حبست فى بيتها فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ..

فالسبيل الذى جعله الله هو الناسخ ؛ لذلك قال ابن عباس : «كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور ، فنسخها بالجلد أو الرجم» ، وكذا روى عن عكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وعطاء الخرسانى ، وأبى صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والضحاك ، أنها منسوخة ، وهو أمر متفق عليه).

ثم ساق الحديث الذى رواه أحمد فى مسنده ، ومسلم فى صحيحه وغيرهما من أصحاب السنن ، وفيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر ، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نفى سنة».

الحادية عشرة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) النساء : ٣٣.

منسوخة بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) الأنفال ٧٥ (وقيل إنها غير منسوخة ، لأنها تدل على توريث مولى الموالاة ، وتوريثهم باق غير أن رتبتهم فى الإرث بعد رتبة ذوى الأرحام ، وبذلك يقول فقهاء العراق).

والأصح : أنها منسوخة ؛ لكثرة الآثار الواردة فى ذلك عن الصحابة والتابعين.

الثانية عشرة : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) المائدة : ٢.

قيل إن قوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) منسوخ بمقتضى عموم قوله :

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) التوبة : ٣٦ ، وقد سبق القول فى هذا ، فالحق عدم النسخ.

فالحكم باق كما هو ، فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوا عدوهم فى الأشهر الحرم ، إلا إذا اضطروا لذلك.

الثالثة عشرة : «قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) المائدة : ٤٢ منسوخة بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) المائدة : ٤٩.

وقد قيل بعدم النسخ ، وأن الآية الثانية متممة للأولى ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم ، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية ، وهذا ما نرجحه ، لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع.

٦٤٦

الرابعة عشرة : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) المائدة : ١٠٦.

قيل : قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) منسوخ بقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق : ٢.

قال الزرقانى (٢٠) : «وقيل إنه لا نسخ ؛ لأن الآية الأولى خاصة بما إذا أنزل الموت بأحد المسافرين ، وأراد أن يوصى فإن الوصية تثبت بشهادة اثنين عدلين من المسلمين ، أو غيرهم ؛ توسعة على المسافرين ، لأن ظروف السفر ظروف دقيقة ، قد يتعسر أو يتعذر وجود عدلين من المسلمين فيها ، فلو لم يبح الشارع إشهاد غير المسلمين لضاق الأمر وربما ضاعت الوصية ، أما الآية الثانية فهى القاعدة العامة فى غير ظروف السفر».

الخامسة عشرة : قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الأنفال : ٦٥.

قيل : إنها منسوخة بقوله سبحانه (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال : ٦٦.

ووجه النسخ : أن الآية الأولى أفادت وجوب ثبات الواحد للعشرة ، وأن الثانية أفادت وجوب الواحد للاثنين ، وهما حكمان متعارضان فتكون الثانية ناسخة للأولى ـ على ما تقدم بيانه عند الكلام على نسخ الأثقل بالأخف ـ والنسخ هنا ظاهر ـ ولكن قد يقال إن هذا النسخ هو انتقال من الواجب إلى الرخصة.

السادسة عشرة : قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) التوبة : ٤١.

قيل : نسخت بآيات العذر ، ومنها قوله :

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) التوبة : ٩١.

والأصح أنه لا نسخ فى الآية ، فكأنه قيل :

انفروا خفافا وثقالا إلا من كان معذورا لا يستطيع القتال لكونه ذا عاهة من مرض أو عرج ، أو عمى أو زمانة ، ونحوها من المعوقات ، مع بقاء طائفة تقوم بما يحتاج إليه القاعدون من أولى الضرر ، كتعليم وإرشاد وغير ذلك.

السابعة عشرة : قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) النور : ٣.

قيل : منسوخة بقوله سبحانه (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ

٦٤٧

وَإِمائِكُمْ) النور : ٣٢. لأن الآية خبر بمعنى النهى ، بدليل قراءة «لا ينكح» بالجزم وهى قراءة عمرو بن عبيد والقراءات يفسر بعضها بعضا.

والأصح عندى ـ والله أعلم ـ أنه لا نسخ فى الآية ، لأن الآية لها معان يمكن أن تحمل عليها بحيث لا تتعارض مع قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ).

فمن معانيها : أن الزانى لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك الزانية لا يطاوعها على الزنا إلا عاص بزناه ، أو مشرك لا يعتقد تحريمه.

وقراءة عمرو بن عبيد بالجزم تدل على حرمة نكاح الزانيات إلا إذا ظهرت توبتهن.

وآية (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) مخصّصة بقوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) أى : وزوجوا الأيامى منكم بشرط ألا يكن زانيات ، والله أعلم.

الثامنة عشرة : قوله تعالى :

(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) الآية النور : ٥٨.

قال السيوطى فى «الإتقان» (٢١) : «قيل :

منسوخة ، وقيل : لا ، ولكن تهاون الناس فى العمل بها». أه.

والأصح : أنها غير منسوخة ، فهى أدب عظيم أدّب الله به عباده ، فلا أدرى كيف ساغ له أن يذكرها فى هذا الباب.

التاسعة عشرة : قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) الأحزاب : ٥٢.

قيل : نسخها قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) الأحزاب : ٥٠.

وهذا النسخ لا يستقيم إلا على أن هذه الآية متأخرة فى النزول عن الآية الأولى.

وقد أخرج أبو داود فى سننه والترمذى فى جامعه والحاكم وابن المنذر وغيرهم عن عائشة قالت : (لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم).

العشرون : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) المجادلة ١٢.

قيل : نسخت بالآية التى بعدها.

الواحدة والعشرون : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) الممتحنة : ١١.

قيل : نسختها آية الغنيمة وهى قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَ

٦٤٨

لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الأنفال : ٤١.

وقيل : منسوخة بآية السيف وهى قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية التوبة : ٥.

والأصح : أنها محكمة إذ لا تعارض بين هذه الآيات الثلاث.

الثانية والعشرون : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) المزمل ١ ـ ٤.

قيل : منسوخة بقوله سبحانه فى آخر هذه السورة : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) الآية المزمل : ٢٠ ثم نسخ هذا الوجوب بالصلوات الخمس.

روى أحمد فى مسنده ومسلم فى صحيحه عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت فى حديث طويل : (إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة ـ تعنى سورة المزمل ـ فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها فى السماء اثنى عشر شهرا ، ثم أنزل الله التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة).

هذه هى الآيات التى قيل إنها منسوخة قد نقلتها من «الإتقان» للسيوطى وتصرفت فى نقلها بالتوضيح والتعليق والإضافة ليعلم القارئ جلية الأمر فى هذه الآيات وموقف العلماء فى نسخها من عدمه ، وأكثرها فى نظرى غير منسوخ على المعنى الضيق الذى تمسك به المتأخرون وهو رفع الحكم المتقدم بحكم متأخر.

فضلا عن المعنى الواسع الذى قال به المتقدمون ؛ وهو تخصيص الحكم العام أو تقييد المطلق بحكم متأخر عنه.

وبعد أن عرفنا مفهوم النسخ فى اللغة والشرع ، وعرفنا حكمه وأدلته وأركانه وشروطه ، وما إلى ذلك ، أرى أن أختم هذا البحث ببيان الحكمة من النسخ وإنها لعظيمة ، عرفنا شيئا منها فآمنا به ، وخفى منها الكثير فسلمنا بجهلنا فيه.

ومن المعلوم أن شريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السماوية التى لم يعد لها ما يستدعى بقاءها بحال ، فجاءت جامعة لأصول الشرائع كلها تعدل المسار ، وتصحح المعتقد وترد الناس إلى فطرتهم التى فطرهم الله عليها ، وتلائم ظروفهم المعيشية ، وتلبى مطالبهم الدنيوية والأخروية ، وتبغى لهم اليسر ورفع الحرج ودفع المشقة ، وتتدرج بهم رويدا رويدا ، صاعدة بهم فى مدارج الرقى شيئا فشيئا ، وتسير بهم من السهل إلى

٦٤٩

الأسهل ومن الصعب إلى الأصعب أحيانا تدريبا لهم على احتمال صنوف الحياة فى شتى صورها ، أو تسير بهم من تكليف إلى تكليف آخر مساو له ؛ لابتلائهم وامتحان قلوبهم ، فتظهر طاعة المطيع وعصيان العاصى.

فالنسخ نوع من التدرج فى التشريع ، روعى فيه مصالح العباد فى العاجل والآجل ، فإن من الأمور التكليفية ما يصلح فى وقت دون وقت ، وفى حال دون حال فأخذ الله عباده بالحكمة ، فوضع لهم من التشريعات ما يناسبهم على اختلاف درجاتهم وبيئاتهم وأحوالهم.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أ. د / محمد بكر إسماعيل

الهوامش :

__________________

(١) لسان العرب لابن منظور ط دار المعارف المصرية ، ومقاييس اللغة لابن فارس.

(٢) ج ٢ ص ٩٧٨ تحقيق د / عبد الملك عبد الرحمن السعدى ط وزارة الأوقاف السعودية سنة ١٤٠٧ ه‍ / ١٩٨٧ م

(٣) ج ٣ ص ١٥٥ ط دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٨٠ م

(٤) مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ / محمد عبد العظيم الزرقانى ج ٢ ص ٧٦ ط عيسى الحلبى وشركائه.

(٥) انظر الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ج ٣ ص ٨١ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

(٦) انظر اللآلئ الحسان فى علوم القرآن د / موسى شاهين لاشين مطبعة الفجر الجديد بالقاهرة.

(٧) مناهل العرفان ج ٢ ص ١٠٧.

(٨) النسخ فى القرآن الكريم ج ٢ ص ٢٨٣.

(٩) اللآلئ الحسان ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(١٠) ج ٢ ص ٣٩ ـ ٤٠.

(١١) رواه مسلم : ٢ / ١٠٧٥ ، والترمذى ٣ / ٤٥٦ ، وأبو داود بذل المجهود ٩ / ٤٤.

(١٢) ج ٢ ص ١٠٠٨ ـ ١٠٠٩.

(١٣) ص ٣٢٨.

(١٤) انتهى بتصرف وإيضاح من الإحكام فى أصول الأحكام ج ٣ ص ١٩٥.

(١٥) ج ٣ ص ٦٩ ـ ٧٠.

(١٦) الحديث أخرجه الترمذى فى كتاب الوصايا ، باب ما جاء فى : (لا وصية لوارث) عن عمرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب وهو يقول : «إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث».

(١٧) ج ٣ ص ٤١١ وما بعدها.

(١٨) راجع القرطبى عند تفسير هذه الآية.

(١٩) دراسات فى علوم القرآن أ. د. محمد بكر إسماعيل ط دار المنار ص ٢٦٤ ـ ٢٦٧ سنة ١٩٩١ م.

(٢٠) انظر مناهل العرفان ج ٢ ص ١٦١.

(٢١) ج ٣ ص ٧٦.

٦٥٠

الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم

١ ـ الإعجاز فى العصر النبوى :

لم تكن كلمة الإعجاز بمعناها البلاغىّ معروفة فى عصر النبوة ، ولكنّ المعنى اللغوى الذى يدل على عدم تمكن أحد من البلغاء أن يأتى بمثل ما جاء به القرآن كان مؤكّدا وملموسا ، لأن القرآن الكريم قد فاجأ العرب بأسلوب لا عهد لهم به ، فظلّوا حائرين يلمسون سحره الخالب دون أن يستطيعوا معارضته وقد تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة من مثله ، فبذلوا قصارى جهدهم فى ذلك فما استطاعوا ، وهم بعد فرسان البلاغة وأئمة الكلام.

لقد فاجأهم القرآن بنمط من القول المعجز لا عهد لهم به ، فهو وإن تألّف من كلماتهم وحروف لغتهم فإنه ينصبّ فى قالب متفرّد يدركون حلاوته ويحسّون روعته دون أن يستطيعوا محاكاته. وكان عهدهم بالكلام الجيّد أن يصوغه شاعر فصيح منهم ، فيهبّ المنافسون لمعارضته واحتذائه فيقعوا منه قريبا ، أو يسبقوه ظافرين بأحسن مما قال.

فما بالهم يتحداهم القرآن أن يأتوا بعشر آيات من مثله فتضطغن نفوسهم غضبا حين يدركهم البهر فلا يستطيعون (١).

إنّ العهد بصاحب الأسلوب المتميز من ذوى الفصاحة أن يكون تميّزه الاستقلال غير منقطع الصلة بما قبله تماما ، فهو وإن أتى بالجديد المستطرف فإنّه يمتّ بأقرب الوشائج إلى سلف قريب قد احتذاه بدءا ثم تفوّق عليه ، أما أن تنقطع الصلة تماما بين ما يسمعون وما جاءوا به من قبل فى الشعر والخطب والوصايا الجاهلية فهذا ما كان موضع الدهشة والانبهار.

وهذا النبىّ الذى نزل عليه الوحى ، يأتى بالقول المبين فى حديثه وخطبه ، ولكنّ أسلوبه فى الحديث والخطب يبتعد ابتعادا شاسعا عن أسلوب الوحى المنزل. فدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن القرآن نمط إلهى ليس فى طوق البشر محاذاته. ولو جاز لأحد من بلغاء البشر أن يأتى بمثله لكان رسول الله وهو أفصح العرب قاطبة أحقّ أن يكون هذا الذى يستطيع! أمّا أن يوجد هذا الفرق الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوى فهو الدليل القاطع على أن القرآن من عند الله.

٦٥١

والروايات التى تزعم أن بعض البشر حاول معارضة القرآن ، تدل إن صدقت ـ على هذا الإعجاز ؛ وإن كنت أرى أن البليغ الممتاز ممن عزيت إليه هذه المعارضة أعقل وأحصف من أن يتورط فى شىء لا يقوم له ، فما قيل فى هذا المجال موضع توهين.

٢ ـ أوّل من نفى الإعجاز عن القرآن :

لا يعرف على وجه التحديد أوّل من ذهب إلى أن القرآن الكريم غير معجز ، وقد قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى كتابه إعجاز القرآن (٢) إنّ أول من ذهب إلى ذلك هو الجعد بن درهم ، يقول الرافعى :

«هو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية ، وكان زنديقا فاحش الرأى واللسان ، وهو أول من صرح بالإنكار على القرآن والرد عليه ، وجحد أشياء مما فيه ، وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة وأن الناس يقدرون على مثلها ، وعلى أحسن منها ، ولم يقل بذلك أحد قبله ، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلّا من بعده».

وكتب الكلام التى دوّنت آراء الجعد ، تحدثت عن قوله بخلق القرآن ، وعن قوله بالتعطيل ، وقوله بالقدر ، ولكنها لم تتحدث عن إنكاره للإعجاز ، فإذا كان الرافعى قد قرأ عن جعد ما لم نقرأه ، فكان عليه أن يذكر مصدره ، ومهما يكن من شىء فإن القول بخلق القرآن فى هذا الزمن المتقدم ـ فى العصر الأموى ـ جرّأ الملاحدة والزنادقة ممن دخلوا فى الإسلام ظاهريّا دون أن تطمئن قلوبهم إلى نوره ؛ جرّأهم على الحديث المتسرّع عن كتاب الله ؛ ومنه ما قالوه عن عدم الإعجاز ، وقد دعت حرية الجدل فى مطلع العهد العباسى هذا النفر إلى الافتراء بغير العلم ، فراج حديثهم عن عدم الإعجاز ، واضطر المدافعون عن دين الله أن يواجهوا الباطل بما يدحضه ، فبدأ الحديث عن الإعجاز ، وتنوّع القول فى بيان خصائصه. وفى هؤلاء المدافعين من تورط فى حديث فهم على غير وجهه ، وأعنى به حديث الإعجاز بالصرفة ، وهو مما يحسن أن نقف لديه.

٣ ـ القول بالصرفة :

ينسب القول بالصرفة فى تفسير الإعجاز القرآنى لأبى إسحاق النظام ، وهو قول لم يدونه النظام فى كتاب ، ولو لا أن الجاحظ رواه عنه ما اشتهر وما ذاع ، وفحواه أن العرب قد انصرفوا عن معارضة القرآن ، وهذا الانصراف دليل الإعجاز ، ويوحى هذا القول بأنهم لو اتجهوا إلى معارضته لجاءوا بمثله ؛ كما أن تمام الرأى عند النظام أنه قال إن الإعجاز إنما جاء من الإخبار عن الأمور

٦٥٢

الماضية والآتية ، والحق أن تفسير الصرفة بمعنى عدم اتجاه العرب إلى المعارضة فقط ، مما لا يعقل أن يقول به رجل كبير العقل كالنظام مهما أرجف أعداؤه بما اختلفوا من مثالبه ، وقد جعله الجاحظ عبقرى القرن الثالث ، فكيف يكون بهذه المنزلة الرفيعة ثم يذهب هذا المذهب المخطئ ، كما أن مما يجعل المسألة ذات خطر فى حديث الإعجاز أن أفاضل من الأعلام مثل الجاحظ وابن سنان والمرتضى وابن حزم والعلوى قد قالوا به ؛ أفيكون هؤلاء من الضحالة وضيق النظر حتى يفهموا من الصرفة هذا الفهم الذى ينكره الغلام الناشئ بله العالم المفكر؟ إن الأمر لا يستقيم إلا إذا فهمت الصرفة فهما يتفق وجلال هؤلاء الكبار الذين هتفوا بما قال النظام. وهم أنفسهم الذين تحدثوا عن بلاغة القرآن وإعجاز فصاحته تركيبا ونظما وتصويرا بما يجعل ذلك من أسباب الإعجاز ، إن الذى فهمته من معنى الصرفة ، ولا أدرى إذا كنت قرأته من قبل لبعض الفضلاء ونسيت اسمه أو أنه شىء قذفه الله فى نفسى! هذا المعنى هو أن العرب حين دهشوا من روعة القرآن ، وبهرهم تأثيره بما فوق القدرة ، انصرفوا تلقائيا عن معارضته ، لأنهم علموا أنهم مهما حاولوا هذه المعارضة وجمعوا لها أساطين القول من بلغائهم المعدودين فلن يأتوا بسورة من مثله ، أو بعشر آيات من مثله ، فكانت (الصرفة) عن المعارضة التى توقعوا استحالتها بادئ ذى بدء هى وجه الإعجاز الذى عناه النظام وهو وجه معقول نلمس نظائره فى الحياة حين يبنى مهندس عبقرى صرحا رائعا. فيكون آية الآيات فى بابه ، ويراه زملاؤه فيقرون بالعجز عن بناء مثله ، ويصرفون أنفسهم عن محاولة هذا البناء! هذا هو الفهم الجدير بالنظام ومن تبعه من البلغاء ، وهم من هم!

الجاحظ :

للجاحظ سطوة فى التعبير ، وتدفق فى سوق الحجج والبراهين ، وقد عاش فى مشتجر الجدل ، وخاض عباب الحوار فلا بد أن يكون لإعجاز القرآن نصيب من حديثه الدافق ، وقد ذكروا من مؤلفاته المفقودة كتابى (نظم القرآن) و (آى القرآن) وحديث النظم قد اشتهر كثيرا من بعده حتى مخض زبدته الإمام عبد القاهر الجرجانى. فلا أستبعد أن يكون هذا الكتاب المفقود نواة هذا الحديث ، وقد قال الجاحظ عنه مخاطبا الفتح بن خاقان حين طلب منه أن يكتب مؤلفا عن القرآن : «فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسى ، وبلغت فيه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن ، والرد على كل طعّان ، فلم

٦٥٣

أدع فيه مسألة لرافضى ولا لحديثى ، ولا لحشوى ، ولا لكافر مباد ، ولا لمنافق مقموع ، ولا لأصحاب النظام ، ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن خلق ، وليس تأليفه بحجة ، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة ، فلما ظننت أنى بلغت أقصى محبتك ، وأتيت على معنى صفتك ، أتانى كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن ، وكانت مسألتك مبهمة ، ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفا ، فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما ، وأغمضهما معنى وأطولهما» (٣).

ويقرب من كتاب النظم ما كتبه فى مؤلفه المفقود أيضا (آى القرآن) حيث أشار إلى بعض ما جاء به فى كتاب الحيوان حين قال تحت عنوان (من إيجاز القرآن) :

«ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف بها فصل ما بين الإيجاز والحذف ، وبين الزوائد والفضول والاستعارات ، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز ، والجمع للمعانى الكثيرة بالألفاظ القليلة على الذى كتبته لك فى باب الإيجاز وترك الفضول ، فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة :

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) ، وقوله ـ عزوجل ـ حين ذكر فاكهة أهل الجنة :

(لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعانى. وهذا كثير دللتك عليه ، فإن أردته فموضعه مشهور (٤).

وقراءة هذين النصين تدل على ما فقدناه من إفاضة الجاحظ فى هذه المسائل التى تتصل بالإعجاز بأقوى سبب ، وقد بقيت لنا شذور شتى مما كتبه الجاحظ فى رسالة (حجج النبوة) [التى نشرها الأستاذ عبد السلام هارون فى الجزء الثالث من رسائل الجاحظ] ، وبها ما يمكن أن يستدل به على منحى الجاحظ فى ثبوت الإعجاز ، [وسأنقل منها ما يدل على ذلك دون إطالة] ؛ فمنها قوله :

«إن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة ، طويلة أو قصيرة ، لتبين له فى نظامها ومخرجها ، وفى نقلها وطبعها ، أنه عاجز عن مثلها ، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها ، وليس ذلك فى الحرف والحرفين ، والكلمة والكلمتين! ألا ترى أن الناس قد يتهيأ لهم فى طبائعهم ، ويجرى على ألسنتهم أن يقول رجل منهم «الحمد لله ، وإنا لله ، وربنا الله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل» وهذا كله فى القرآن ، غير أنه متفرق غير مجتمع ، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو

٦٥٤

قصيرة ، على نظم القرآن وطبعه ، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه ولو استعان بجميع قحطان معد بن عدنان» (٥).

وهذا الكلام أصل لقضية النظم ، وكل ما انتمى إليها ينتهى إلى هذا الأصل ، ثم يقول الجاحظ : (٦)

«ولا يجوز أن يكون مثل العرب فى كثرة عددهم ، واختلاف عللهم ، والكلام كلامهم وهو سيد عملهم فقد فاض بيانهم ، وجاشت به صدورهم ، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم .. وقد هجوه من كل جانب ، وهاجى أصحابه شعراءهم ، ونازعوا خطباءهم ، وحاجوه فى المواقف ، وخاصموه فى المواسم ، وبادءوه العداوة ، وناصبوه الحرب ، فقتل منهم وقتلوا منه ، وهم أثبت الناس حقدا ، وأبعدهم مطلبا ، وأذكرهم لخير ولشر وأنفاهم له ، وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة ، ثم لا يعارض معارض ، ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر ، (٦) إلى أن يقول :

«فإما أن يكونوا عرفوا عجزهم ، وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم ، فرأوا أن الإضراب عن ذكره ، والتغافل عنه فى هذا الباب ، وإن قرعهم به ، أمثل فى التدبير ، وأجدر ألا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف ، وأجدر أن يجدوا للدعوة سبيلا ، فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه ، وهو قوله عز ذكره (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) (٧) وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز ، والتوقيف على النقص ، ثم لا يبذلون مجهودهم ، ولا يخرجون مكنونهم ، وهم أشد خلق الله أنفة ، وأفرطهم حمية ، وأطلبهم بطائلة ، وقد سمعوه فى كل منهل وموقف ، والناس موكلون بالخطابات ، مولعون بالبلاغات ، فمن كان شاهدا فقد سمعه ، ومن كان غائبا فقد أتاه به من لم يزوّده ، وإما أن يكونوا غير ذلك ، ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة ، وهم قادرون عليها ، لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة ، والحلماء مع اختلاف عللهم ، وبعد همهم ، وشدة عداواتهم الإطباق على بذل الكثير ، وصون اليسير». (٨)

على أن الجاحظ هو الذى فتق أكمام الحديث عن الأسلوب القرآنى ، وبيّن من سماته ما جعله الكثيرون مصدرا أولا للإعجاز القرآنى ، فقد نظر الرجل إلى ألفاظ القرآن ومعانيه ليهتدى إلى فطن بارعة فى التحليل والاستنتاج كانت عون البلاغيين فى كثير مما كتبوه عن اللفظ والجملة والصورة ، فما تحدث البلغاء عن فصاحة الكلمة وفصاحة الكلام ، وأسرار الحذف والذكر ، ومواضع الإيجاز والإطناب ، وجمال التشبيه

٦٥٥

والاستعارة وغيرها من الأبواب إلا بعد أن عرض لهم الجاحظ فنونا مترفة من استشفافه الذوقى لكتاب الله ، ولن نرسل القول إرسالا دون شواهد صريحة توضح ما نعنيه. (٩).

أجل تحدث الجاحظ عن ألفاظ القرآن حديثا لم يسمع من أحد قبله إذ قال فى الباب الأول من البيان والتبيين : «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها ، وغيرها أحق منها ، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلا فى موضع العقاب ، أو موضع الفقر المدقع ، والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة ، وكذلك المطر ، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا فى موضع الانتقام ، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث ، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع ، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا ، والجارى على أفواه العامة غير ذلك. (١٠)

وقد جاء من بعد الجاحظ من كشف عن أسرار هذه الكلمات ، وحسنها فى موضع ، وعدم لياقتها فى موضع آخر اقتداء بكتاب الله ورجوعا إلى البيان والتبيين فى الإسناد.

أما حديث الجاحظ عن الصورة البيانية فى القرآن فقد كثرت أمثلته ، وكتاب الحيوان بالتراث معرض رائع لهذا الحديث ، واكتفى بمثل واحد من هذا المجال : قال الجاحظ تحليلا لقول الله عزوجل (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (١١) «زعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه ، والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا : ما عنى إلا رءوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم ، فقال أهل الطعن والخلاف : ليس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فتتوهمه ، ولا وصفت لنا صورته فى كتاب ناطق أو خبر صادق ، ومخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها ، وعلى أنه لو كان شىء أبلغ فى الزجر من ذلك لذكره ، فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شىء هائل قد عاينوه ...

إلى أن قال : قلنا : وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط ، ولا صوّر رءوسها لنا صادق بيده ، ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان ، حتى صاروا يضعون ذلك فى مكانين ، أحدهما أن يقولوا : لهو أقبح من الشيطان ، والوجه الآخر : أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطير له كما تسمى الفرس الجميلة شوهاء والمرأة الجميلة صماء

٦٥٦

وخنساء وأشباه ذلك على جهة التطير له ، ففي إجماع المسلمين والعرب على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه فى ذلك أقبح من كل قبيح». (١٢)

والأمثلة كثيرة لما حلله الجاحظ من آيات الكتاب المبين ، وفى الفصل الذى كتبته عن (وثبات الجاحظ) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) توضيح كاف لما أعنيه ، حيث ذكرت من النماذج ما يدل على معاناة الجاحظ فى هذا المضمار ؛ لأنه بهذا التحليل الرائع لآيات القرآن الكريم قد دل على أمثلة من الإعجاز القرآنى تكون تطبيقا لما قرره بشأن هذا الإعجاز [مما أشرت إليه فى صدر هذا البحث] ، وآخذ على بعض المعاصرين ممن كتبوا عن الصور البيانية فى كتاب الله أنهم اقتبسوا كلام الجاحظ دون أن يشيروا إليه ؛ وكأن القول من مبتكراتهم ، وهذا فى العلم غير حميد.

الرمانى :

دعت الحرية الفكرية فى العصر العباسى نفرا من الناس أن يقولوا فى كتاب الله ما يشاءون ، ووجد الملاحدة منهم فى كتاب الله ما يشفون به صدورهم من الإرجاف الكاذب ، فهب المخلصون من حماة الإسلام يدافعون عن إعجازه بما يملكون من إقناع ، فكتب الجاحظ عن نظم القرآن ما جعله موضوعا لقضية الإعجاز ، واقتفاه أبو بكر داود السجستانى ت ٣١٦ ه‍ ، وأبو زيد البلخى ت ٣٢٢ ه‍ ، وأبو بكر بن الأخشيد ت ٣٢٦ ه‍ ، فتحدثوا عن الإعجاز فى كتب تحمل عنوان (نظم القرآن) ثم جاء محمد بن يزيد الواسطى فتحدث عن إعجاز القرآن فى كتاب جعله بعنوان (الإعجاز) ، فكان أول من خالف عنوان النظم إلى عنوان الإعجاز ، ولاقى عنوانه قبولا لدى الدارسين ، فكان موضع اختيار من كتبوا فى الإعجاز من بعده وفى طليعتهم الرمانى ٣٨٦ ه‍ والخطابى ٣٨٨ ه‍ والباقلانى ٤٠٣ ه‍ ، وغيرهم كثير ، وإذا كان ما كتبه السابقون من قبل هؤلاء الثلاثة قد فقد ولم تظهر مخطوطاتهم بعد ، فإننا سنخصهم بالحديث.

كان الخطابى والرمانى متعاصرين كما يعلم من تاريخ وفاتهما ، ولا نعلم أيهما سبق صاحبه فى الحديث عن إعجاز القرآن ولكن قراءة الكتابين تدل على أن أحدهما لم يحبذ الآخر ، بل لم يقرأ ما كتب ، فإن التأثر مفقود تماما ، لاختلاف المنحى ، وإذا كان الرمانى قد سبق صاحبه إلى لقاء ربه بعامين أو بأربعة على اختلاف الروايات فسأبدأ به.

لقد عمّر على بن عيسى الرمانى دهرا طويلا قطعه فى الدراسات العميقة حتى صار

٦٥٧

علما من أعلام النحو فى عصره ، وقورن بأبى علىّ الفارسى ، وكاد يرجحه عند قوم ، وتأليفه فى النحو على وجه التفريع والتقسيم والإكثار من المصطلحات كان واضحا فى حديثه عن الإعجاز ، إذ بدأ بتقسيم البلاغة إلى طبقات ثلاث ، ثم ثنى بتقسيم مسائلها إلى عشرة أقسام هى الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والتواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان ، وأوضح كل قسم بما توسع فيه من الاستشهاد المتعدد ، ويطول بنا القول لو تتبعناه فى كل ما كتب ، ولكننا نشير إلى ما ينبئ عن اتجاهه فحسب ، فقد بدأ

بالحديث عن الإيجاز فقسمه إلى إيجاز حذف وإيجاز قصر ، فتابعه البلاغيون على اصطلاحه ، واستشهد بمثل قول الله عزوجل (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (١٣) فقال :

«كأنه قيل حصلوا على النعيم المقيم الذى لا يشوبه التنغيص ، وإنما صار الحذف فى مثل هذا ـ يريد حذف جواب الشرط ـ لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذى تضمنه البيان فحذف الجواب فى قولك «لو رأيت عليا بين الصفين» أبلغ من الذكر لما بيناه. (١٤)

ثم تعرض للموازنة بين قول الله تعالى :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١٥) وقول من قال (القتل أنفى للقتل) فأفاض على غير عادته ليردّ على من لغا لغوا سفيها فى هذا المجال. فكان أول من كتب فى هذه الموازنة ، وقد تبعه من جاء بعده وهم كثيرون ، حتى جاء الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى هذا العصر فلم يدع مجالا لقائل ، أما ما كتبه فى الاستعارة فقد كان أوضح نسبيا مما كتبه عن الإيجاز إذ تخلى عن الكزازة الضيقة فى التعبير هناك. وتمثل لذلك بما ذكره عن قول الله عزوجل : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) (١٦) حيث قال : شهيقا ، حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكى ، والاستعارة أبلغ وأوجز ، والمعنى الجامع بينهما قبح الصوت ، «تميز من الغيظ» حقيقته من شدة الغليان بالاتقاد ، والاستعارة أبلغ منه وأوجز ؛ لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك بما يدعو إليه من شدة الانتقام فى الفعل ، وفى ذلك أعظم الزجر وأبلغ الوعظ ، وأول دليل على سعة القدرة وموقع الحكمة ، ومنه : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١٧) أى تستقبلهم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزفر غيظا عليهم ، وكذلك قال الرمانى عن قوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى

٦٥٨

آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (١٨) حقيقته منعناهم الإحساس بآذانهم ، والاستعارة أبلغ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس. وإنما دل على عدم الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار لأنه أدل على المراد من حيث كان يضرب على الأبصار من غير عمى فلا يبطل الإدراك أصلا وذلك بتغميض الأجفان ، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم فى الآذان ، لأنه إذا ضرب عليهما من غير صمم دلّ على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك ، ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الانتباه ثم ضربوا عليها ، لم يكن سبيل إليه». (١٩)

وكذلك ما أتبع به قول الله عزوجل : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (٢٠) حيث قال : القذف والدمغ هنا مستعار ، وهو أبلغ ، وحقيقته ، بل نورد الحق على الباطل فيذهبه ، وإنما كانت الاستعارة أبلغ لأن فى القذف دليلا على القهر. لأنك إذا قلت : قذف به إليه ، فإنما معناه ، ألقاه إليه على جهة الإكراه والقهر ، فالحق يلقى على الباطل فيزيله على جهة القهر والاضطرار ، لا على جهة الشك والارتياب ، ويدمغه أبلغ من «يذهبه» لما فى يدمغه من التأثير فهو أظهر فى الكناية ، وأعلى فى تأثير القوة» (٢١).

كم يحتاج مثل هذا البيان الدقيق إلى تحليل ساطع كتحليل الإمام عبد القاهر ليفيض من ضيائه ما قبضه التركيز المكتنز ، ولئن فات الرمانى أن يفيض بما يشرق من النور فقد أتاح لخلفائه أن يستريحوا لقوله فى مكان مطمئن لا يرهقه عسر ، إذ اعتمد أبو هلال وابن سنان وعبد القاهر وابن الأثير وابن رشيق على الكثير من خطراته الدقيقة ، وأوسعوها تحليلا وتفصيلا ، كلّ حسب منحاه وبذلك صار الرمانى علما من أعلام البيان ، وإن لم يؤلف فى هذا العلم رأسا بل جاء حديثه فيه خاصا بكتاب الله.

وقد طبع كتاب الرمانى فى النحو وفيه إشارات مقتضبة عن الإعجاز حين يستشهد بآية كريمة ، فإذا أضيفت هذه الإشارات إلى ما كتبه فى رسالته الخاصة بالإعجاز فإنها تفصح عن نظر دقيق.

الخطابى :

أبو سليمان الخطابى من أعلام المحدثين فى عصره ، وهو إمام سنى نافح عن مذهبه فيما ترك من آثار ، وقد كتب رسالة (إعجاز القرآن) ليرد على الطاعنين من وجهة نظره ، فجاء رده سلسا فصيحا لا يحوج القارئ إلى بعض العناء كما أحوجته رسالة الرمانى ، وقد هدف إلى تحديد عناصر الإعجاز فى كتاب

٦٥٩

الله مقدما ذلك بتمهيد يتحدث عن قضية الذوق الأدبى ، ومدى الاستناد إلى ارتياح الناس له دون تحديد ، فقال : «وزعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة ، ووجدت عامة أهل هذه المقالة ، قد جروا فى تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له ، وإحاطة العلم به ، ولذلك صاروا إذا ما سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التى اختص بها القرآن ، الفائقة فى وصفها سائر البلاغات ، وعن المعنى الذى يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة ، قالوا إننا لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم مباينة القرآن غيره من الكلام ، وإنما يعرفه العالمون عن سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده ...

وقد توجد لبعض الكلام عذوبة فى السمع وهشاشة فى النفس ، لا توجد مثلها لغيره ، والكلامان معا فصيحان ثم لا يوقف لشىء من ذلك على علة. قلت : وهذا لا يقنع فى مثل هذا العلم ، ولا يشفى من داء الجهل به ، وإنما هو إشكال أحيل به على اتهام». (٢٢)

فأنت تراه لا يجعل الارتياح النفسى بعض أسباب الاستحسان الأدبى إلا إذا قرن بتعليل ودليل ، وهذا ما نهض للإجابة عنه حين تحدث عن أسلوب القرآن ، فذكر «أن أجناس الكلام مختلفة ، ومراتبها فى نسب البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز المطلق المرسل ، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود ، دون النوع الهجين المذموم ، الذى لا يوجد فى القرآن شىء منه البتة ، فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه ، والقسم الثانى أوسطه وأقصده ، والقسم الثالث أدناه وأقربه ، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حفنة ، وأخذت من كل نوع من أنواعها بشعبة ، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتى الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد فى نعوتهما كالمتضادين ، لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة فى الكلام تعالجان نوعا من الوعورة. فكان اجتماع الأمرين فى نفسه ، مع نبو كل منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن ، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره ، لتكون آية بينة لنبيه ، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر ربه. (٢٣)

وهذا كلام جيد. والذين تعرضوا له بالتحليل فهموا منه أن الجزالة والعذوبة يجتمعان فى القرآن معا : كلّ فى موضعه على انفراد ، بحيث تكون آية عذبة ، وآية جزلة ، وفق ما تقتضى المعانى : ولكنى أفهم منه ما يدل على امتزاج الرقة بالجزالة فى تعبير واحد. وهو ما فصّلت الحديث عنه فى

٦٦٠