الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

٤ ـ الفعل الرباعى المبنى للمجهول نحو «أوتى» و «أخرج».

أما فى الحروف فهى فيها همزة قطع من غير شرط نحو «إنّ» و «كأنّ» المشددتين والمخففتين أيضا.

ثالثا : همزة الاستفهام : هى إحدى همزات القطع المفتوحة أبدأ وهى ثابتة فى الوصل والابتداء ، ولها مع همزة الوصل حالتان عند اجتماعهما ، الحالة الأولى : حذف همزة الوصل وبقاء همزة الاستفهام مفتوحة ، وذلك إذا كانت همزة الوصل فى فعل وكانت مكسورة فى الابتداء لو تجردت عنها همزة الاستفهام وابتدئ بها. والوارد من ذلك فى القرآن الكريم سبعة مواضع منها خمسة متفق عليها بين القراء العشرة ، والموضعان الآخران مختلف فيهما.

أما الخمسة المتفق عليها هى : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) (سورة البقرة آية ٨٠) ، وقوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (سورة مريم آية ٧٨) ، وقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) (سورة سبأ آية ٨) ، وقوله تعالى :

(أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (سورة المنافقون آية ٦).

وأما الموضعان المختلف فيهما فهما : قوله تعالى : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (سورة الصافات آية ١٥٣) ، وقوله تعالى :

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) (سورة ص آية ٦٣).

فقد قرأ بعض القراء بوصل الهمزة فيهما على الإخبار ، ويبتدئ بكسر الهمزة على القاعدة السابقة ، وبعضهم بقطع الهمزة فيهما مفتوحة على الاستفهام.

ووجه حذف همزة الوصل فى هذه الأفعال أن الأصل فيها «أاتخذتم. أافترى.

أأ استكبرت. أاستغفرت. أأتخذناهم.

أاصطفى» بهمزتين. أولاهما : همزة الاستفهام ولا تكون إلا مفتوحة كما مرّ. وثانيهما : همزة الوصل وهى مكسورة لوجودها فى الماضى السداسى فى «استكبرت ، واستغفرت» ، وفى الماضى الخماسى فى الباقى. فحذفت همزة الوصل فى جميعها استغناء عنها بهمزة الاستفهام ولا يترتب على حذفها التباس الاستفهام بالخبر ، لأن همزة الاستفهام إحدى همزات القطع المفتوحة أبدا ، وهى ثابتة فى الوصل والابتداء ـ كما مر ـ بخلاف همزة

٤٢١

الوصل فإنها ثابتة فى الابتداء ساقطة فى الوصل.

وأما حالة بقاء همزة الاستفهام مفتوحة مع همزة الوصل فى كلمة واحدة ، فالشرط أن تكون همزة الوصل مفتوحة فى البدء وواقعة فى اسم محلى بأل وحينئذ لا يجوز حذفها بالإجماع لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر فيتغير المعنى تبعا لذلك ، والجائز فيها حينئذ وجهان :

الأول : إبدالها ألفا مع المدّ الطويل لملاقاتها بالساكن الأصلى.

الثانى : تسهيلها بين بين أى بين الهمزة والألف مع القصر والمراد به هنا عدم المدّ مطلقا. والوجهان صحيحان مقروء بهما لكل القراء ، ووجه الإبدال هو المقدم فى الأداء ، والوارد من ذلك فى القرآن ستة مواضع باتفاق القراء العشرة ، وموضع مختلف فيه بينهم. وقد سبق بيان ذلك عند الكلام على همزة القطع فارجع إليه ١.

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

٤٢٢

تلاوة القرآن الكريم

أولا : أدب التلاوة :

لما كان قارئ القرآن فى حضرة ربه مناجيا له كان لزاما عليه أن يتأدب بآداب خاصة تليق بحضرة ربه ومناجاته ، وقد حدد العلماء الأجلاء هذه الآداب وبيّنوها وسوف ألخص تلك الآداب فيما يلى (١) :

١ ـ أن يكون القارئ على طهارة حسّية ـ أى من الحدث الأكبر والأصغر ـ ، وذلك لأن قراءة القرآن الكريم أفضل أنواع الذكر خاصة وأنها مناجاة بين العبد وربه ، فيستلزم لذلك طهارة الظاهر والباطن.

٢ ـ وأن يقرأ فى الأماكن الطاهرة والنظيفة التى تليق بعظمة ومقام القرآن الكريم ، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة فى المسجد لكونه جامعا للنظافة وشرف البقعة ومحصلا لفضيلة أخرى وهى الاعتكاف. وأن يكون أثناء القراءة مستقبلا للقبلة ، لأن قراءة القرآن عبادة ، واستقبال القبلة من أسباب القبول وأدعى له.

٣ ـ أن يستعمل السواك ويتخلل فيطيب فاهه ويطهره ، لأنه الطريق الذى يخرج منه القرآن الكريم ، ولقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك» (٢) ، وقال يزيد بن أبى مالك : «إن أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهروها ونظفوها ما استطعتم».

٤ ـ أن يخلص فى قراءته ويريد بها وجه الله تعالى دون شىء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس ، أو محبة أو مدح أو رئاسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه ونحو ذلك.

٥ ـ أن يستحضر فى ذهنه أنه يناجى ربه ويقرأ كتابه ، فيتلوه على حالة من يرى الله تعالى فإن لم يكن يراه فإن الله سبحانه وتعالى يراه.

٦ ـ أن يعظم القرآن ويوقره ، فيتجنب الضحك ، والحديث الأجنبى خلال القراءة إلا لحاجة ، وألا يعبث باليد ونحوها ، وألا ينظر إلى ما يلهى أو يبدد الذهن.

٧ ـ أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند ابتدائه للقراءة ، وهذا ما عليه جمهور العلماء قديما وحديثا. وقيل : بعدها. وأوجبها

٤٢٣

قوم لظاهر الأمر فى الآية ، وهى قوله تعالى :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (سورة النحل آية ٩٨) ، وصيغتها المختارة عند عامة الفقهاء وجميع القراء :

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، وكان بعض السلف يزيدون «السميع العليم» ، ولا خلاف بين أهل الأداء فى الجهر بها عند افتتاح القراءة ، والإخفاء أولى إذا كان يقرأ وحده خاليا عن الناس أو فى الصلاة ، ويكفيه تعوذ واحد ما لم يقطع قراءته بكلام أجنبى أو فصل طويل.

٨ ـ أن يحافظ على قراءة البسملة أول كل سورة غير سورة «براءة» ، لأن أكثر العلماء على أنها آية من أول كل سورة ، فإذا أخل بها كان تاركا لبعض الختمة عند الأكثرين ، أما فى الابتداء بما بعد أوائل السور ولو بكلمة فتجوز البسملة وعدمها لكل القراء تخييرا.

٩ ـ ويسن للقارئ أن يقرأ على تؤدة وبترتيل ، لأن ذلك أدعى للتدبر وأقرب إلى التوقير والاحترام. ولقول الله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (سورة المزمل آية ٤) ، ولما رواه أبو داود وغيره عن أم سلمة ـ رضى الله تعالى عنها ـ «أنها نعتت قراءة النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قراءة مفسّرة حرفا حرفا» (٣).

وفى صحيح البخارى عن أنس ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كانت مدّا ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد الله ويمدّ الرحمن ويمدّ الرحيم» (٤).

واتفق العلماء على كراهة الإفراط فى الإسراع بالقراءة ، وقالوا : وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزءين فى قدر ذلك الزمان بلا ترتيل. وقالوا : واستحباب الترتيل للتدبر ، لأنه أقرب إلى الإجلال والتوقير ، وأشد تأثيرا فى القلب ، ولهذا يستحب للأعجمى الذى لا يفهم معناه (٥).

١٠ ـ تدبر ما يتلى :

ينبغى على المؤمن أن يقرأ القرآن بالتدبر والفهم ، وأن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطب به ويتفهمه لقول الله تعالى :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة ص آية ٢٩) وقوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ٢٤).

والطريق إلى ذلك أن يشغل قلبه بالتفكر فى معنى ما يلفظ به ، فيعرف معنى كل آية ، ويتأمل الأوامر والنواهى ، ويعتقد قبول ذلك ، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر ، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل ،

٤٢٤

أو عذاب أشفق وتعوذ ، أو تنزيه نزه وعظم ، أو دعاء تضرع وطلب.

فقد روى الإمام مسلم بسنده عن حذيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : «صليت مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها ، ثم النساء فقرأها ، ثم آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلا ، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مرّ بسؤال سأل ، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ» (٦).

ومما يعين على التدبر أيضا تكرير الآية وترديدها ، فقد روى النسائى وغيره عن أبى ذرّ ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : قام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآية يرددها حتى أصبح. والآية : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (٧).

وعن تميم الدارى ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه كرر هذه الآية حتى أصبح : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٨) (سورة الجاثية آى ٢١) وردد ابن مسعود ـ رضى الله تعالى عنه : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (سورة طه آية ١١٤) وردد سعيد بن جبير قوله تعالى :

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (سورة البقرة آية ٢٨١) إلى غير ذلك من الأقوال فى هذا الصدد.

قال الإمام النووى : «والأحاديث فيه ـ أى فى التدبر والخشوع عند التلاوة ـ كثيرة ، وأقاويل السلف فيه مشهورة. وقد بات جماعات من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح. وقد صعق جماعات من السلف عند القراءة ، ومات جماعات منهم حال القراءة (٩).

١١ ـ تحسين الصوت بالتلاوة :

أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ـ رضى الله تعالى عنهم ـ ومن بعدهم من علماء الأمصار وأئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بتلاوة القرآن وتزيينها ، لأن ذلك يؤدى إلى التأثير على النفوس ، ولقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«زينوا القرآن بأصواتكم» (١٠) ، وفى لفظ عند الدارمى : «حسنوا القرآن بأصواتكم» (١١) ، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت أن يتغنّى بالقرآن» (١٢).

قال ابن كثير : ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشىء كاستماعه لقراءة نبى يجهر بقراءته ويحسنها ، وذلك أنه يجتمع فى قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية وذلك هو الغاية فى ذلك ، وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم ، كما قالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : سبحان الذى وسع سمعه الأصوات.

٤٢٥

ولكن استماعه عباده المؤمنين أعظم كما قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) (سورة يونس آية ٦١) ، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم (١٣).

هذا : وقد ضرب لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المثل الأعلى بنفسه فى تحسين الصوت بالتلاوة ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : «سمعت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فى العشاء : والتين والزيتون ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه» (١٤).

وفى الصحيحين عن جبير بن مطعم قال :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فى المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه ، وفى بعض الروايات : فلما سمعته قرأ : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (٣٥) أم خلقوا السماوات والأرض بل لّا يوقنون (٣٦) أم عندهم خزائن ربّك أم هم المسيطرون (سورة الطور الآيات ٣٥ ـ ٣٧) ، «كاد قلبى أن يطير» (١٥).

ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع من القلب ، وهذا ما أشار إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذى إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله» (١٦).

١٢ ـ التغنى بالقرآن :

ومن أجل تحسين التلاوة وتزيينها أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتغنى بالقرآن ، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن» (١٧).

قال سفيان بن عيينة تفسيره : يستغنى به.

ولكن الإمام الشافعى رحمه‌الله تعالى ردّ هذا القول وقال : ليس هو هكذا ، ولو كان هكذا لكان يتغانى ، إنما هو يتحزن ويترنم به.

ويؤيد هذا ما جاء فى الرواية الأخرى : «ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» (١٨) ، قال الطبرى ـ رحمه‌الله تعالى : لو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى.

ومما يؤكد هذا المعنى أيضا ما أخرجه البخارى وغيره عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» (١٩) ، والمراد بالتغنى بالقرآن تحسين الصوت وتطريبه وتحزينه والتخشع به لما جاء عن أبى موسى رضي الله عنه قال : قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم : «لو رأيتنى وأنا استمع قراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» قلت :

أما والله لو علمت أنك تسمع قراءتى لحبرتها لك تحبيرا» (٢٠).

قال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر هذه

٤٢٦

الأحاديث وغيرها : والغرض أن المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة ، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقى ، فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك فى أدائه هذا المذهب.

وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك كما قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام ـ رحمه‌الله ـ حدثنا نعيم بن حماد عن بقية بن الوليد عن حصين بن مالك الفزارى قال :

سمعت شيخا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين ، وسيجىء قوم من بعدى يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح ، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» (٢١).

وهذا يدل على أنه محذور كبير وهو قراءة القرآن بالألحان التى يسلك بها مذاهب الغناء ، وقد نص الأئمة ـ رحمهم‌الله تعالى ـ على النهى عنه ، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذى يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا ، فقد اتفق العلماء على تحريمه ـ والله أعلم.

١٣ ـ التحزين بالقرآن :

ويستحب للقارئ البكاء عند قراءة القرآن ، والتباكى لمن لا يقدر على البكاء ، والحزن والخشوع ، لقول الله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (سورة الإسراء آية ١٠٩) وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (سورة الأنفال آية ٢) ، ولقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» (٢٢).

وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن الشّخّير عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء» (٢٣) وفى الشّعب للبيهقى عن سعد بن مالك مرفوعا : «إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة ، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» (٢٤).

وفى مسند أبى يعلى حديث : «اقرءوا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن» ، وعند الطبرانى «أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القرآن يتحزن» (٢٥).

قال أبو حامد الغزالى ـ رحمه‌الله تعالى ـ البكاء مستحب مع القراءة وعندها. قال :

٤٢٧

وطرقه فى تحصيله أن يحضر فى قلبه الحزن ، بأن يتأمل ما فيه من التهديد ، والوعيد الشديد ، والمواثيق والعهود ، ثم يتأمل تقصيره فى ذلك ، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر الخواص ، فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب (٢٦).

١٤ ـ حق التلاوة :

ينبغى لقارئ القرآن أن يتلو القرآن الكريم حق تلاوته ، ويتبع ما جاء فيه من أحكام وآداب حق اتباعه ، لقول الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (سورة البقرة آية ١٢١).

وروى ابن أبى حاتم بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى معنى قوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال : إذا مرّ بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مرّ بذكر النار تعوّذ بالله من النار». وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : «والذى نفسى بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله» (٢٧).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ فى معنى هذه الآية قال : «يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه» وقال أيضا : يتبعونه حق اتباعه.

وقال الحسن البصرى : «يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه» (٢٨).

وقال الإمام الغزالى : «تلاوة القرآن حق تلاوته أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب ، فحظ اللسان : تصحيح الحروف ، وحظ العقل : تفسير المعانى ، وحظ القلب : الاتعاظ والتأثر والانزجار والائتمار ، فاللسان يرتل ، والعقل ينزجر ، والقلب يتعظ» (٢٩).

١٥ ـ هيئة قارئ القرآن :

يستحب لقارئ القرآن فى غير الصلاة أن يستقبل القبلة. فقد جاء فى الحديث : «خير المجالس ما استقبل به القبلة» (٣٠) ، ويجلس متخشعا بسكينة ووقار ، مطرقا رأسه ، ويكون جلوسه وحده فى تحسين أدبه وخضوعه ، كجلوسه بين يدى معلمه ، فهذا هو الأكمل.

ولو قرأ قائما أو مضطجعا ، أو فى فراشه أو غير ذلك من الأحوال جاز ، وله أجر ، ولكن دون الأول. قال الله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) (سورة آل عمران آية : ١٩٠ ، ١٩١).

٤٢٨

وثبت فى الصحيح عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكئ فى حجرى وأنا حائض ، فيقرأ القرآن» (٣١) ، وعن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه قال : «إنى أقرأ القرآن فى صلاتى ، وأقرأ على فراشى» (٣٢) ، وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : «إنى لأقرأ حزبى وأنا مضطجعة على السرير» (٣٣).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :

«ينبغى لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون ، وبنهاره إذ الناس مفطرون ، وبحزنه إذ الناس يختالون».

وعن الفضيل بن عياض ـ رحمه‌الله تعالى ـ قال : «حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغى له أن يلهو مع من يلهو ، ولا يسهو مع من يسهو ، ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن» (٣٤).

١٦ ـ سجود التلاوة :

يسن لقارئ القرآن إذا مرّ بآية فيها سجدة من سجدات القرآن أن يسجد ، لما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى إذا جاء السجدة قال : «يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ، ولم يسجد عمر» (٣٥).

وثبت فى الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والنجم» فلم يسجد (٣٦) ، وثبت أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم ، قال : فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد من خلفه ...» (٣٧).

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال :

«سجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» (٣٨).

وأما عدد السجدات ومحلها : فالذى عليه جمهور العلماء أنها أربع عشرة سجدة : فى سورة الأعراف عند نهاية السورة الآية ٢٠٦ ، وفى سورة الرعد عند نهاية الآية ١٥ ، وفى سورة النحل عند نهاية الآية ٥٠ ، وفى سورة الإسراء عند نهاية الآية ١٠٩ ، وفى سورة مريم عند نهاية الآية ٥٨ ، وفى سورة الحج سجدتان عند نهاية الآية ١٨ ، وعند نهاية الآية ٧٧ ، وفى سورة الفرقان عند نهاية الآية ٦٠ ، وفى سورة النمل عند نهاية الآية ٢٦ ، وفى سورة «الم تنزيل السجدة» عند نهاية الآية ١٥ ، وفى سورة «حم السجدة» عند نهاية الآية ١٥ ، وفى سورة «حم السجدة» فصلت عند نهاية الآية ٣٨ ، وفى سورة النجم عند نهاية الآية ٦٢ ، وفى سورة «إذا السماء

٤٢٩

انشقت» عند نهاية الآية ٢١ ، وفى سورة «اقرأ باسم ربك» عند نهاية السورة الآية ١٩.

وأما سجدة سورة «ص» فمستحبة ، وليست من عزائم السجود أى متأكداته ، فقد ثبت فى صحيح البخارى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : (ص) ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها» (٣٩).

ويشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة من الطهارة ، وستر العورة ، والتوجه إلى القبلة. وينبغى أن يقع السجود عقب آية السجدة التى قرأها أو سمعها ، فإن أخر ولم يطل الفصل سجد ، وإن طال فقد فات السجود ، ولا يقضى على المذهب الصحيح المشهور كما لا يقضى صلاة الكسوف (٤٠).

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

المصادر والمراجع :

__________________

(١) انظر : هداية القارى إلى تجويد كلام البارى : ص ٤٩٧ ـ ٥١١ ـ طبعة دار النصر للطباعة الإسلامية بشبرا مصر ـ الأولى سنة ١٤٠٢ ه‍ ١٩٨٢ م ـ للشيخ / عبد الفتاح السيد عجمى المرصفى.

(٢) الحديث : أخرجه ابن ماجة فى سننه فى كتاب الطهارة رقم ١٧ ، وذكر فى إتحاف السادة المتقين ٢ / ٣٤٠ ، وكنز العمال رقم ٢٧٥١ ، وحلية الأولياء ٤ / ٢٩٦ وجمع الجوامع برقم ٦٢٤٩ والدر المنثور فى التفسير بالمأثور ١ / ١١٣.

(٣) الحديث : رواه أبو داود فى كتاب الصلاة ٢ / ٧٤ رقم ١٤٦٦ ، والترمذى فى فضائل القرآن ٥ / ١٦٧ رقم ٢٩٢٣ وقال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد عن أبى مليكة عن يعلى بن مليكة عن أم سلمة ، ورواه النسائى فى الافتتاح ٢ / ١٨١ رقم ١٠٢٢.

(٤) الحديث : رواه البخارى فى فضائل القرآن ، باب مد القراءة انظر فتح البارى ٨ / ٧٠٩ رقم ٥٠٤٦.

(٥) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ١ / ١٤٠.

(٦) الحديث : أخرجه مسلم فى صحيحه فى صلاة المسافرين ١ / ٥٣٦ ، ٥٣٧ رقم ٧٧٢ ، وأبو داود. فى الصلاة ١ / ٥٤٣ ، والترمذى فى الصلاة ٢ / ٤٨ رقم ٢٦٢.

(٧) الحديث : رواه النسائى ٢ / ١٧٧ ، وابن ماجة رقم ١٣٥٠ وأحمد فى المسند ٥ / ١٥٦ ، ١٧٠.

(٨) الأثر : رواه ابن أبى شيبة ٢ / ٣٦٢ بإسناد صحيح.

(٩) انظر : التبيان فى آداب حملة القرآن ص ٦٠ ـ ٦٢.

(١٠) حديث صحيح أخرجه أبو داود فى سننه ٢ / ١٥٥ رقم ١٤٦٨ ، والنسائى ٢ / ١٧٩ ، وابن ماجة ١ / ٤٢٦ رقم ١٣٤٢.

(١١) ذكره السيوطى فى الإتقان ١ / ١٤١.

(١٢) رواه البخارى فى فضائل القرآن ، باب من لم يتغن بالقرآن ، انظر فتح البارى لابن حجر ٨ / ٦٨٦ رقم ٥٠٢٤.

(١٣) فضائل القرآن لابن كثير ص ٣٣ طبعة الحلبى.

(١٤) الحديث : رواه البخارى ومسلم. وقال النووى متفق عليه. رياض الصالحين ص ٢٨٣ طبعة دار التراث العربى الأولى ١٤٠٢ ه‍ ١٩٨٢ م.

(١٥) الحديث : أخرجه مالك فى الموطأ ١ / ٧٨ باب القراءة فى المغرب والعشاء ، والبخارى فى تفسير سورة الطور فتح البارى ٨ / ٦٠٣ رقم ٤٨٥٤ ، ومسلم فى كتاب الصلاة ، باب القراءة فى الصبح ١٢ / ٤١ رقم ١٧٤.

(١٦) الحديث : رواه ابن ماجة فى سننه ، كتاب إمامة الصلاة ١ / ٤٢٥ رقم ١٣٣٩ ، وذكره الألباني فى السلسلة الصحيحة ٤ / ١١٢ برقم ١٥٨٣ بلفظ فيه اختلاف يسير.

(١٧) صحيح البخارى ٦ / ١٠٧ ، وصحيح مسلم ١ / ٥٤٥.

(١٨) الحديث : ٨ / ٢١٤ وصحيح مسلم ١ / ٥٤٥ رقم ٧٩٢ وأبو داود ٢ / ٧٦ رقم ١٤٧٣ وأحمد فى المسند ٢ / ٢٧١.

(١٩) الحديث : رواه البخارى فى كتاب التوحيد انظر فتح البارى ١٣ / ٥١٠ رقم ٧٥٢٧ ، وأحمد فى المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٥.

(٢٠) الحديث : رواه البخارى فى فضائل القرآن ٨ / ٧١٠ رقم ٥٠٤٨ والترمذى فى المناقب ٥ / ٦٥٠ رقم ٣٨٥٥.

(٢١) الحديث : رواه ابن كثير فى فضائل القرآن ص ٣٦ وهو غير صحيح حيث فى سنده بقية بن الوليد مدلس ولم يصرح بالسماع رواه معنعنا عن حصين بن مالك قال عنه النسائى : فى التهذيب ١ / ٤٧٥ : إذا قال حدثت وأخبرنا فهو ثقة وإذا قال عن فلان فلا يؤخذ عنه لأنه لا يدرى عمن

٤٣٠

__________________

أخذه. وفيه أبو محمد شيخ مجهول وقد ذكر الحديث الهيثمى فى مجمع الزوائد ٧ / ١٦٩ ونسبه للطبرانى فى الأوسط وقال : فيه راو لم يسم وفيه بقية أيضا. وقال المناوى : قال ابن الجوزى : حديث لا يصح ، وأبو محمد مجهول وبقية يروى عن الضعفاء ويدلسهم وقال الذهبى فى «ميزانه» تفرد عن أبى حصين بقية وليس بمعتمد والخبر منكر.

(٢٢) أخرجه ابن ماجة فى الإقامة باب ١٧٦ ، والزهد ١٩.

(٢٣) الحديث : رواه أبو داود فى كتاب الصلاة ، باب البكاء فى الصلاة برقم ٩٠٤ ، والنسائى فى كتاب السهو ، باب البكاء فى الصلاة برقم ١٢١٤ ، والإمام أحمد فى المسند ٤ / ٣٥ ، ٣٦.

(٢٤) الحديث : ذكره السيوطى فى الإتقان ١ / ١٤١ ، وابن كثير فى فضائل القرآن عن أبى داود ص ٣٥.

(٢٥) الحديث : ذكره السيوطى فى الإتقان ١ / ١٤١.

(٢٦) التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص ٦٣.

(٢٧) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١ / ٢٣٥.

(٢٨) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١ / ٢٣٦.

(٢٩) نهاية القول المفيد فى علم التجويد ص ٢٣٦ للشيخ / محمد مكى نصر. طبعة الحلبى.

(٣٠) الحديث : رواه الطبرانى فى الأوسط ٣ / ١٨٢ ، ١٨٣ رقم ٢٣٧٥ من حديث أبى هريرة بإسناد حسن.

(٣١) الحديث : أخرجه البخارى ١ / ٤٠١ رقم ٢٩٧ ، ومسلم فى صحيحه ١ / ٢٤٦ رقم ٣٠١ ، وأبو داود فى سننه رقم ٢٦٠ والنسائى ١ / ١٤٧ ، ١٩١ ، وابن ماجة برقم ٦٣٤ ، والإمام أحمد فى المسند ٦ / ٦٨ ، ٧٢ ، ١١٧ ، ١٣٥.

(٣٢) التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص ٥٩.

(٣٣) المصدر السابق.

(٣٤) انظر التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص ٤٤.

(٣٥) رواه البخارى فى كتاب السجود. انظر فتح البارى ٢ / ٥٥٧ رقم ١٠٧٧.

(٣٦) المصدر السابق حديث رقم ١٠٧٢ ، ورواه مسلم برقم ٥٧٧.

(٣٧) انظر فتح البارى لابن حجر تفسير سورة النجم ٨ / ٤٨٠ رقم ٤٨٦٣.

(٣٨) المصدر السابق رقم ٤٨٦٢.

(٣٩) الحديث : أخرجه البخارى برقم ١٠٧٩ ، ورقم ٣٤٢٢ ، وانظر أيضا فتح البارى كتاب التفسير ، تفسير سورة ص حديث رقم ٤٨٠٦ ، ٤٨٠٧ ، وأبو داود تحت رقم ١٤٠٩ ، والترمذى برقم ٥٧٧.

(٤٠) انظر : التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص ٩٤ ـ ١٠٦.

٤٣١

تنكيس القراءة

قال ابن منظور فى لسان العرب : النكس :

قلب الشيء على رأسه ، وقراءة القرآن منكوسا أن يبدأ بالمعوذتين ثم يرتفع إلى البقرة ، أو من آخر السورة فيقرأها إلي أولها.

وهو خلاف الأصل ـ أى الذى عليه المصحف وجاءت به السنة ـ إذ الأصل أن يقرأ من الفاتحة مرتبا إلى آخر الناس (١).

والعلماء فى حكم قراءة القرآن منكوسا تبعا لمذاهبهم فى حكم ترتيب الآى والسور.

أما الآى : فقد أجمعوا على أن ترتيبها بتوقيف من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل ، ولذا فقد اتفقوا على أن قراءة السورة من آخرها إلى أولها ممنوع ، ولم يختلفوا فى حرمته ، لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ، ويزيل حكمة الترتيب. وأيضا فإن السورة وحدة مستقلة ، وتنكيسها إخلال بأجزاء وحدتها وتماسكها ، ويترتب عليه إخلال بالمعنى «وكان جماعة يصنعون ذلك فى القصيدة من الشعر مبالغة فى حفظها وتذليلا للسان فى سردها ، فمنع السلف ذلك فى القرآن ، فهو حرام فيه» (٢).

أخرج الطبرانى بسند جيد عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل «أرأيت رجلا يقرأ القرآن منكوسا؟ فقال ذلك منكوس القلب. فأتى بمصحف قد زيّن وذهّب ، فقال عبد الله : إن أحسن ما زيّن به المصحف تلاوته فى الحق» (٣).

وروى النسائى عن البراء ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : «كنا نصلى خلف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات» ، وعنده أيضا وعند ابن خزيمة نحوه من حديث أنس لكن قال : ب «سبح اسم ربك الأعلى ، وهل أتاك حديث الغاشية» (٤).

وأما تنكيس السور : فقد جوزه قوم منهم الإمام الشافعى ، وكرهه ، قوم منهم الإمام أحمد وأبو حنيفة ومالك والحسن.

أما المجوزون فقد قالوا : إن تقديم سورة متأخرة على أخرى تسبقها فى القراءة داخل أو خارج الصلاة ليس بحرام ، لأن كل سورة وحدة مستقلة وموضوعها مستقل ، فلا يضر تقديمها على غيرها.

قال ابن بطال : لا نعلم أحدا قال بوجوب

٤٣٢

ترتيب السور فى القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها ، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة ، والحج قبل الكهف مثلا ، وأما ما جاء عن السلف من النهى عن قراءة القرآن منكوسا فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها (٥).

وقال القاضى عياض : وترتيب السور ليس بواجب فى التلاوة ولا فى الصلاة ولا فى الدرس ولا فى التعليم. وأنه لم يكن من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك نص ولا حد تحرم مخالفته ... ثم قال : واستجاز النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة بعده فى جميع الأعصار ترك ترتيب السور فى الصلاة والدرس والتلقين. ثم قال : إنه لا خلاف فى جواز قراءة المصلى سورة فى الركعة الثانية قبل التى قرأها فى الركعة الأولى ، وإنما يكره ذلك فى ركعة ، ولمن يتلو فى غير الصلاة. (٦) وكلامه هذا فيه نظر ، لأن الخلاف بين أهل العلم قائم ، وإن كان يمكن تقريب وجهة نظرهم.

وقال النووى : ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلى الأولى ، أو خالف الترتيب فقرأ سورة ، ثم قرأ سورة قبلها جاز ، فقد جاء بذلك آثار كثيرة. وقد قرأ ابن الخطاب رضي الله عنه فى الركعة الأولى من الصبح بالكهف ، وفى الثانية بيوسف (٧).

واستدل أصحاب هذا القول بما رواه البخارى بسنده عن يوسف ابن ماهك قال :

إنى عند عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها إذ جاءها عراقى فقال : يا أم المؤمنين أرينى مصحفك؟ قالت : ولم؟ قال : لعلى أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت : وما يضرك أيه قرأت قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ...» الحديث (٨).

وبما أخرجه مسلم بسنده عن حذيفة قال :

«صليت مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت يركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت يصلى بها فى ركعة فمضى ، فقلت يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا ، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مرّ بسؤال سأل ، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ ...» الحديث (٩). إلى غير ذلك من الأدلة.

أما الذين قالوا : إن ترتيب السور بتوقيف من الله تعالى ، فقد قالوا : إن الأصل أن تكون القراءة على ترتيب المصحف ، وقد فسر بعضهم قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (سورة المزمل آية ٤) بمعنى اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير (١٠).

قال ابن حجر : وقد نقل البيهقى عن أحمد

٤٣٣

والحنفية كراهية قراءة سورة قبل سورة تخالف ترتيب المصحف (١١).

وروى ابن أبى داود عن الحسن : أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه فى المصحف. وروى أيضا عن إبراهيم النخعى ، والإمام مالك بن أنس أنهما كرها ذلك ، وأن مالكا كان يعيبه ، ويقول هذا عظيم (١٢).

وقد استدل هؤلاء العلماء وغيرهم على ما ذهبوا إليه بما رواه الإمام مسلم والترمذى وغيرهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ فى العيدين ويوم الجمعة ب «سبح اسم ربك الأعلى ، وهل أتاك حديث الغاشية» قال : وربما اجتمعا فى يوم واحد فقرأ بهما» (١٣).

وبما رواه مسلم وغيره عن أبى رافع قال :

استخلف مروان أبا هريرة على المدينة ، وخرج إلى مكة ، فصلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة فى الركعة الأخيرة «إذا جاءك المنافقون» قال : فأدركت أبا هريرة حين انصرف ، فقلت له : إنك قرأت بسورتين كان على بن أبى طالب يقرأهما بالكوفة. فقال أبو هريرة : إنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة (١٤).

وبالنظر فى أقوال الفريقين وأدلتهم نرى أن الجميع قد اتفقوا على أن تنكيس القرآن خلاف الأصل الذى عليه المصحف وجاءت به السنة ، وأن قراءة السورة بعد السورة صواب عند الجميع ، وإن عكس فقد جانب الصواب وخالف الأولى عند البعض ، وارتكب المكروه عند البعض الآخر.

قال الإمام النووى : «قال بعض أصحابنا :

ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التى تليها ، ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة ، فينبغى أن يحافظ عليها ، إلا فيما ورد الشرع باستثنائه ، كصلاة الصبح يوم الجمعة ، يقرأ فى الأولى سورة «السجدة» وفى الثانية «هل أتى على الإنسان» ، وصلاة العيد فى الأولى «ق» وفى الثانية «اقتربت الساعة» ، وركعتى سنة الفجر فى الأولى «قل يا أيها الكافرون» وفى الثانية «قل هو الله أحد» ، وركعات الوتر فى الأولى «سبح اسم ربك الأعلى» وفى الثانية «قل يا أيها الكافرون» وفى الثالثة «قل هو الله أحد والمعوذتين» ، ولو خالف الموالاة فقرأ بسورة لا تلى الأولى ، أو خالف الترتيب فقرأ سورة ثم قرأ سورة قبلها جاز ، فقد جاء بذلك آثار كثيرة ... وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف (١٥).

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

٤٣٤

المصادر والمراجع :

__________________

(١) انظر : لسان العرب لابن منظور ص ٤٥٤١ طبعة دار المعارف ، والقاموس المحيط للفيروزآبادى ٢ / ٢٥٦ طبعة دار المأمون الرابعة سنة ١٣٥٧ ه‍ ١٩٣٨ م.

(٢) راجع فتح البارى لابن حجر ٨ / ٦٥٦ طبعة. دار الريان للتراث ـ الأولى ١٤٠٧ ه‍ ١٩٨٧.

(٣) راجع الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ١ / ١٤٤ ، وأخرجه الهيثمى فى مجمع الزوائد ٧ / ١٦٨ وقال : رجاله ثقات ، وذكره النووى فى التبيان ص ٧١ وقال : إسناده صحيح.

(٤) انظر : السنن للنسائى ، باب قراءة النهار ١ / ١٥٣.

(٥) انظر : فتح البارى لابن حجر ٨ / ٦٥٦ ، وتفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ص ٥٣.

(٦) راجع شرح النووى على صحيح مسلم ٣ / ٢٠٢ طبعة دار الغد الأولى ١٤٠٩ ه‍ ١٩٨٨ م.

(٧) التبيان فى آداب حملة القرآن للنووى ص ٧٠.

(٨) الحديث : ذكره البخارى فى كتاب فضائل القرآن ، باب تأليف القرآن ، انظر فتح البارى ٨ / ٦٥٥.

(٩) الحديث : ذكره مسلم فى كتاب الصلاة ، باب استحباب تطويل القراءة فى صلاة الليل ٣ / ١٩٩ من شرح النووى ، ورواه الترمذى فى الصلاة ، باب ما جاء فى التسبيح فى الركوع والسجود ٢ / ٤٨ ، ٤٩.

(١٠) البرهان فى متشابه القرآن للكرمانى. انظر : ص ٢٣ من كتاب أسرار التكرار فى القرآن تحقيق / عبد القادر أحمد عطا طبعة دار الاعتصام الثانية ١٣٩٦ ه‍ ١٩٧٦ م.

(١١) فتح البارى بشرح صحيح البخارى ٢ / ٢٩٩.

(١٢) التبيان فى آداب حملة القرآن ص ٧١.

(١٣) الحديث : أخرجه مسلم فى كتاب الجمعة ، باب ما يقرأ فى صلاة الجمعة ٣ / ١٥ ، ١٦ ، والترمذى فى أبواب العيدين الحديث رقم ٥٣١ انظر تحفة الأحوذى ١ / ٣٩٣.

(١٤) الحديث : أخرجه مسلم فى كتاب الصلاة ، باب ما يقرأ فى صلاة الجمعة ٣ / ٣٦٥ من شرح النووى.

(١٥) التبيان فى آداب حملة القرآن ص ٦٨ ـ ٧٠ طبعة مطابع الوفاء بالمنصورة الأولى ١٤١٦ ه‍ ١٩٩٥ م تحقيق / أبى عبد الله أحمد بن إبراهيم أبى العينين.

٤٣٥

نسيان القرآن

ينبغى على المؤمن الحافظ للقرآن أن يتعاهده بالتلاوة والمراجعة حتى لا ينساه ، لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار كمثل رجل له إبل فإن عقلها حفظها وإن أطلق عقالها ذهبت فكذلك صاحب القرآن» (٢).

وجاء عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذمّ ووعيد لمن يحفظ شيئا من القرآن ثم ينساه حيث قال : «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل نسّى ، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم بعقلها» (٣) وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«عرضت علىّ أجور أمتى حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ، وعرضت علىّ ذنوب أمتى فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» (٤) قال ابن جريج : وحدثت عن سلمان الفارسى قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أكبر الذنوب توافى به أمتى يوم القيامة سورة من كتاب الله كانت مع أحدهم ثم نسيها».

وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى فى قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (سورة طه الآيات ١٢٤ ـ ١٢٦).

قال ابن كثير : وهذا الذى قاله هذا وإن لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه ، فإن الإعراض عن تلاوة القرآن وتعريضه للنسيان ، وعدم الاعتناء به فيه تهاون كبير ، وتفريط شديد نعوذ بالله منه ، ولهذا قال عليه‌السلام : «تعاهدوا القرآن» ، وفى لفظ :

«استذكروا القرآن ، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم» والتفصى : التخلص.

وعن الضحاك بن مزاحم قال : «ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه لأن الله تعالى يقول : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (سورة الشورى آية ٣٠) ، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب (٥). نسأل الله تعالى العفو والعافية منه اللهم آمين.

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

٤٣٦

المصادر والمراجع :

__________________

(١) الحديث : رواه البخارى فى فضائل القرآن رقم ٥٠٣١ باب استذكار القرآن وتعاهده ، فتح البارى ٩ / ٦٩٧ ومسلم فى كتاب الصلاة ، باب الأمر بتعاهد القرآن رقم ١٨٠٨ ، انظر شرح النووى ٣ / ٢٢٦.

(٢) ذكره ابن كثير فى فضائل القرآن ص ٤١ وهو من رواية الإمام أحمد ، وقال : ذكره ابن الجوزى فى جامع المسانيد.

(٣) الحديث : رواه البخارى فى فضائل القرآن ، باب استذكار القرآن وتعاهده رقم ٥٠٣٢ ومسلم فى كتاب الصلاة ، باب الأمر بتعهد القرآن ، رقم ١٨١٠ شرح صحيح مسلم للنووى ٣ / ٢٢٧.

(٤) الحديث : أخرجه الترمذى فى سننه وقال عنه : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. راجع تحفة الأحوذى بشرح جامع الترمذى ٨ / ٨٧ ، أبواب فضائل القرآن ، باب ١٩ حديث رقم ٣٠٨٣. طبعة دار الكتب العلمية.

(٥) فضائل القرآن لابن كثير ص ٤٣.

٤٣٧

ختم القرآن

المدة التى يستحب فيها ختم القرآن بينتها السنة المطهرة فيما رواه البخارى بسنده أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ فى حديث طويل ـ لعبد الله ابن عمرو ـ رضى الله عنهما : «.. وكيف تختم؟ قال : كل ليلة. فقال له : اقرأ القرآن فى كل شهر ، قال : إنى أطيق أكثر من ذلك. فقال له : اقرأه فى كل سبع ليال مرة ..» وفى رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو قال : «قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقرأ القرآن فى شهر. قلت إنى أجد قوة ، حتى قال : فاقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك» ، وفى رواية أخرى : «أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : اقرأ القرآن فى شهر. قال إنى أطيق أكثر ، فما زال حتى قال فى ثلاث» (١).

ومن خلال هذه الأحاديث يتبين لنا أن عبد الله رضي الله عنه كان يقرأ القرآن فى ليلة واحدة ، فقال له النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقرأه فى شهر ؛ لأن لا يلحقه ملل ، ولتكون قراءته على تدبر وفهم ، فرغب عبد الله أن يقرأ فى أقل من هذه المدة محتجا بقوته على ذلك فتدرج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه إلى أن وصل إلى سبع ، ثم قال له : «ولا تزد على ذلك» لأنه رأى ـ والله تعالى أعلم ـ أن التدبر والأمن من الملل لا يكونان فى أقل من هذه المدة ، فرغب عبد الله فى أن يقرأه فى أقل من ذلك ، فما زال به حتى قال فى ثلاث كما جاء فى بعض الروايات.

لذلك نقول : إن المدة المعول عليها فى ختم القرآن هى استطاعة الشخص وعدم استطاعته ، لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله اقرأه فى شهر ، ثم أذن له أن يقرأه فى أقل من هذه المدة لاستطاعته ، فلزم أن تكون الزيادة عليها مأذونا فيها عند الضعف وعند الشواغل الكثيرة التى تحول دون ختمه فى شهر ، فقد أخرج ابن أبى داود عن مكحول قال : كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرءون القرآن فى سبع ، وبعضهم فى شهر وبعضهم فى شهرين وبعضهم فى أكثر من ذلك. وقد روى عن أبى حنيفة ـ رحمه‌الله تعالى ـ أنه قال :

«من قرأ القرآن فى كل سنة مرتين ، فقد أدى حقه لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض القرآن على جبريل فى السنة التى قبض فيها مرتين». وكذلك من نقص عن الشهر لقوته على ذلك يستحب له أن لا ينقص عن سبع لقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله : لا تزد على ذلك ، فإن حكمة هذا النهى

٤٣٨

على ما يظهر هى أن ختم القرآن فى أقل من سبع مظنة الملل ونقصان التدبر ، والأحكام تبنى على الكثير الغالب لا على القليل النادر ، ولإلحاح عبد الله ورغبته فى الإكثار من القراءة واحتجاجه بقوته على ذلك أذن له فى أقل من سبع إلى ثلاث ، إلا إن هذا الإذن المترتب على الإلحاح الشديد من عبد الله لا ينفى أن المأذون فيه خلاف الأولى بقرينة اختصاص هذا العدد بالنهى عن النقص عنه دون ما قبله من الأعداد. وهذا المعنى هو الذى فهمه جمهور العلماء واستقر عملهم عليه. وأما الذين يختمون القرآن فى أقل من ثلاث فعملهم مخالف لصريح السنة لما رواه أبو داود والترمذى وصححه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا : «لا يفقه من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث» (٢) وأخرج ابن أبى داود وسعيد بن منصور عن ابن مسعود موقوفا قال : «لا تقرءوا القرآن فى أقل من ثلاث» ، وأخرج أبو عبيد عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن فى أقل من ثلاث» (٣).

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

المصادر والمراجع :

__________________

(١) انظر : صحيح البخارى وشرحه فتح البارى كتاب فضائل القرآن ، وكتاب الصيام ، باب صيام وإفطار يوم ويوم.

(٢) الحديث : رواه أبو داود فى الصلاة ٢ / ١١٦ رقم ١٣٩٤ والترمذى ٥ / ١٨٢ رقم ٢٩٤٩ وقال حديث حسن صحيح.

(٣) راجع كتاب كيف تقرأ القرآن قراءة شرعية ص ٣٩ د. سيد مرسى نقلا عن الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى.

٤٣٩

الجرس القرآنى

إن طريقة النظم التى اتسقت بها ألفاظ القرآن ، وتألفت لها حروف الألفاظ ، إنما هى طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب ، ولكنها ظهرت فيه أول شىء على لسان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعلت المسامع لا تنبو عن شىء من القرآن ، ولا تلوى من دونه حجاب القلب ، حتى لم يكن لمن يسمعه بدّ من الاسترسال إليه والتوفر على الإصغاء ، لا يستمهلهم أمر من دونه وإن كان أمر العادة ، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة ، فإنه إنما يسمع ضربا خالصا من الموسيقى اللغوية فى انسجامه واطّراز نسقه واتزانه على أجزاء النّفس مقطعا مقطعا ونبرة نبرة كأنها توقعه توقيعا لا تتلوه تلاوة (١).

ويوضح هذا المعنى الدكتور محمد عبد الله دراز فيقول : دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلا بنفسه على هوى القرآن ، وليس نازلا بالقرآن على هوى نفسه ، ثم انتبذ منه مكانا قصيا لا تسمع فيه جرس حروفه ، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها ، ومداتها وغناتها ، واتصالاتها ، وسكتاتها ، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريدا ، وأرسلت ساذجة فى الهواء فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده فى كلام آخر لو جرّد هذا التجريد ، وجوّد هذا التجويد.

ستجد اتساقا وائتلافا يسترعى من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر ، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر. وستجد شيئا آخر لا تجده فى الموسيقى ولا فى الشعر ، ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هى تتحد الأوزان فيها بيتا بيتا ، وشطرا شطرا ، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هى تتشابه أهواؤها ، وتذهب مذهبا متقاربا ، فلا يلبث سمعك أن يمجها ، وطبعك أن يملها ، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا فى لحن متنوع متجدد تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد ، وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء. فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم. بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.

٤٤٠