الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

مثال (هلمّ ، وأقبل ، وتعال ، وإلىّ ، وقصدى ، ونحوى ، وقربى) ، وحتى هذا المثال لا يصحّ إلّا إذا أثبت أن هذه الألفاظ بألسنة مختلفة لا بلسان واحد.

أما استدلاله بأن اختلاف الناس فى القراءة هو الذى دفع عثمان رضي الله عنه أن يجمع المصحف على حرف واحد لدرء الخلاف ، وتشبيهه لما فعله عثمان بأنه مثل اختيار خصلة من خصال الكفارة ، فلا نوافقه عليه ؛ لأن السبب المعقول أن الصحابة لمّا تفرقوا فى الأمصار وأقرءوا الناس بقراءاتهم التى سمعوها من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفظ منهم أهل الأمصار المختلفة قراءتهم ، فلما اجتمع أهل الأمصار المختلفة فى غزاة سمع بعضهم قراءة بعض ، فدفع الجهل والعصبية بعضهم إلى أن يقول : قراءتى خير من قراءتك. فرأى عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد بعد أن قال له حذيفة رضي الله عنه : أدرك أمتك قبل أن تختلف اختلاف اليهود والنصارى. فهل كان حذيفة يقصد أن يدرك عثمان الأمة من البلاء الذى ينزل عليهم بسبب الأحرف السبعة! بل الصواب أن عثمان رضي الله عنه جمعهم على مصحف واحد يجمع كل ما هو قرآن ، وينفى عنه كل ما ليس بقرآن ، فجمع المصحف على سبعة أحرف.

وأمّا تشبيهه للأحرف بخصال الكفارة فهو لا يستقيم ؛ لأن خصال الكفارة كلها مخلوقة من أفعال العباد ، أما الأحرف السبعة فهى منزلة من عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهى من القرآن المعجز ؛ ولذا لم يرتض أهل التحقيق من المتكلمين والفقهاء والقراء ما ذهب إليه الطبرى وشيعته ، ونقل ابن الجزرى أن جماعات الفقهاء والمتكلمين والقراء على أن المصاحف العثمانية جمعت الأحرف السبعة. ونقل البدر العينى عن أبى الحسن الأشعرى الإجماع على عدم جواز تضييق ما وسعه الله على عبده من إنزاله القرآن على أحرف ، ولا حرج أن يقرأ بأى حرف شاء مما نزل به القرآن. وقرر أبو شامة ذلك فى «المرشد الوجيز» فى غير ذات موضع : فمرة ينقل عن أبى بكر ابن الطيب أن مصحف عثمان جمع ما أقرأ به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، ووصل إلينا متواترا ، أما الآحاد فلم يدونه كقراءة ابن مسعود فى : (فَإِنْ فاؤُ) زاد فى قراءته (فيهن). وفى موضع آخر يقرر أنه ـ عثمان ـ ما كان هو ولا أحد من أئمة المسلمين يستجيز المنع من القراءة بحرف ثبت أن الله ـ تعالى ـ أنزله. وموضع ثالث ينفى ما يتوهم من أن المصاحف العثمانية جمعت حرفا واحدا ، بل جمعت الأحرف السبعة حتى يقرر أن عثمان رضي الله عنه عرف حاجة الناس للأحرف السبعة فأثبتها فى مصاحفه.

١٢١

أما اختياره لحرف زيد فلأنه اجتمع عليه المهاجرون والأنصار فكان مشهورا مستفيضا وأشار إلى أنه سمّى بحرف زيد ؛ لأنه هو الذى رسمه فى المصاحف وتولى إقراءه دون غيره. ونقل الأبىّ فى شرح مسلم عن القاضى عياض مثل ما نقلنا عن أبى شامة فى اشتمال المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة ، ثم نقل الأبىّ عن ابن عرفة المالكى أن الأحرف باقية ومحفوظة مع مرور المئين من السنين.

الوجه الرضى فى الأحرف وكيف اكتملت به العدة سبعة :

الوجه الرضى عندى : أن المقصود بالحرف الوجه من وجوه القراءات ، وهو الرأى الثانى الذى ذكره أبو عمرو الدانى. وقد أخفق بعض العلماء فى عدّ هذه الوجوه السبعة كأبى عمرو الدانى. ونجح بعضهم كابن الجزرى فقال : «وذلك أنى تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك : إما فى الحركات بلا تغير فى الصورة والمعنى نحو (البخل) (٣٣) بأربعة (وبحسب) بوجهين (٣٤) أو بتغير فى المعنى فقط نحو (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ، (٣٥) (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (٣٦) وأمه. وإما فى الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو : (تبلو وتتلوا). (٣٧) و (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) و (ننحيك ببدنك) ، (٣٨) أو عكس ذلك نحو (بصطة وبسطة) ، و (الصراط والسراط) ، أو بتغيرهما نحو : (أشد منكم ومنهم) ، (٣٩) و (يأتل ويتأل) ، (٤٠) (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، و (فامضوا (٤١) إلى ذكر الله) ، وإما فى التقديم والتأخير نحو : (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (٤٢) (وجاءت سكرة الحق بالموت) (٤٣) أو فى الزيادة والنقصان نحو :

(وأوصى ووصى ، والذكر والأنثى). (٤٤) فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها. وأما نحو اختلاف الإظهار ، والإدغام ، والروم ، والإشمام ، والتفخيم ، والترقيق ، والمد ، والقصر ، والإمالة ، والفتح ، والتخفيف ، والتسهيل ، والإبدال ، والنقل ، مما يعبر عنه بالأصول ، فهذا ليس من الاختلاف الذى يتنوع فيه اللفظ والمعنى ؛ لأن هذه الصفات المتنوعة فى أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا ، ولئن فرض فيكون من الأول. ثم رأيت الإمام الكبير أبا الفضل الرازى حاول ما ذكرته فقال : إن الكلام لا يخرج اختلافه عن سبعة أوجه :

الأول : اختلاف الأسماء من الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والمبالغة وغيرها.

١٢٢

الثانى : اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه من نحو الماضى والمضارع والأمر والإسناد إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به.

الثالث : وجوه الإعراب.

الرابع : الزيادة والنقص.

الخامس : التقديم والتأخير.

السادس : القلب والإبدال فى كلمة بأخرى وفى حرف جر بآخر.

السابع : اختلاف اللغات من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم وتحقيق وتسهيل وإدغام وإظهار ونحو ذلك.

ثم وقفت على كلام ابن قتيبة ـ وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر ـ فقال : وقد تدبرت وجوه الاختلاف فى القراءات فوجدتها سبعة :

الأول : فى الإعراب بما لا يزيل صورتها فى الخط ولا يغير معناها نحو : (هن أطهر لكم ـ وأطهر) (٤٥). (وهل يجازى إلا الكفور ـ ونجازى (٤٦) إلا الكفور) ، و (البخل والبخل) ، (وميسرة وميسرة). (٤٧)

والثانى : الاختلاف فى إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها نحو : (ربّنا باعد ، وربّنا باعد ، (٤٨) وإذ تلقونه ، وإذ تلقونه ، (٤٩) وبعد أمّة ، وبعد أمه).

الثالث : الاختلاف فى حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو : (وانظر إلى العظام كيف ننشزها وننشرها) (٥٠) ، (وإذ فزع عن قلوبهم ، وفزّع). (٥١)

الرابع : أن يكون الاختلاف فى الكلمة يغير صورتها ومعناها نحو : (طلع منضود) فى موضع (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) فى آخر.

الخامس : أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يغير صورتها فى الكتاب ولا يغير معناها نحو : (إلا زقية واحد ـ وصيحة (٥٢) واحدة ، وكالعهن المنقوش ـ وكالصوف). (٥٣)

السادس : أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو : (وجاءت سكرة الحق بالموت ـ سكرة الموت بالحق ـ).

السابع : أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو (وما عملت أيديهم ـ وعملته ـ) (٥٤) ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٥٥) (وهذا أخى له تسع وتسعون نعجة أنثى). (٥٦)

ثم قال ابن قتيبة : وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : وهو حسن كما قلنا وهناك أمثلة أخرى لاختلاف القراءات أكثر وضوحا مثل :

(بضنين) بالضاد (وبظنين) بالظاء (٥٧) (وأشد

١٢٣

منكم ، وأشد منهم) على أنه قد فاته كما فات غيره أكثر أصول القراءات. كالإدغام ، والإظهار ، والإخفاء ، والإمالة ، والتفخيم ، وبين بين ، والمد ، والقصر ، وبعض أحكام الهمز ، كذلك الروم ، والإشمام ، على اختلاف أنواعه ، وكل ذلك من اختلاف القراءات ، وتغاير الألفاظ مما اختلف فيه أئمة القراء ، وقد كانوا يترافعون بدون ذلك إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرد بعضهم على بعض ، كما سيأتى تحقيقه وبيانه فى باب الهمز والنقل والإمالة ، ولكن يمكن أن يكون هذا من القسم الأول فيشمل الأوجه السبعة على ما قررناه (٥٨) أه.

وما نقله ابن الجزرى ـ رحمه‌الله ـ عن ابن قتيبة هو بعينه ما حكاه القاضى الباقلانى عن بعض أهل العلم ، لكن مع نوع تغير فى العبارات وتصرف فى زيادة بعض الأمثلة ، وليس قولا مستقلا فى المسألة كما توهم شيخ أشياخنا الزرقانى ، ولينظر قارئنا الكريم بشيء من الإمعان إلى هذا النص من تفسير القرطبى قال ـ رحمه‌الله : (القول الرابع : ما حكاه صاحب «الدلائل» عن بعض العلماء ، وحكى نحوه القاضى ابن الطيب قال :

تدبرت وجوه الاختلاف فى القراءة فوجدتها سبعا :

منها : ما تتغير حركته ، ولا يزول معناه ولا صورته مثل : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وأطهر ، (وَيَضِيقُ صَدْرِي) ويضيق.

ومنها : ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب ، مثل : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) وباعد.

ومنها : ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف ، مثل قوله : (نُنْشِزُها) وننشرها.

ومنها : ما تتغير صورته ويبقى معناه :

(كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) وكالصوف المنفوش.

ومنها : ما تتغير صورته ومعناه ؛ مثل :

(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) وطلع منضود.

ومنها : بالتقديم والتأخير كقوله :

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) ، وجاءت سكرة الحق بالموت.

ومنها : بالزيادة والنقصان ، مثل قوله :

«تسع وتسعون نعجة أنثى» ، وقوله : «وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين» ، وقوله :

«فإن الله من بعد إكراههم لهن غفور رحيم» (٥٩) أه.

فهذا حصر ثلاثة من أكابر العلماء للأحرف السبعة أو الوجوه السبعة بين القراءات ، وإن كان بينهم ثمة خلاف فقد رأى العلماء الخضرى والدمياطى وبخيت المطيعى أن الخلاف بينهم لفظى ؛ لأن غاية الاختلاف بينهم اختلاف التعبير عن بعض الوجوه ، وزيادة أبى الفضل الرازى اختلاف اللهجات ،

١٢٤

وهذه الزيادة يمكن ردها إلى الوجوه الأخرى فلا يبقى خلاف حقيقى ؛ فابن الجزرى ، وإن لم يذكر اختلاف اللهجات ضمن الوجوه ، ولكنه أنكر على ابن قتيبة عدم ذكره.

أما انحصار أمر التيسير فى النطق فليس بشرط ، كما سبق أن وضحنا ، حتى لا ينحصر التيسير فى الوجه السابع فقط ، وهو اختلاف اللهجات.

وهناك شبهة أوردها الحافظ وهى :

أن القرآن نزل وأكثر العرب أميون وكانوا لا يعرفون الحروف إلّا بمخارجها. وإن كانت هذه الشبهة قد تنال فى الظاهر مما ذهب إليه ابن قتيبة ، فقد ردّ الحافظ بأن ذلك لا يلزم ؛ لأن هذا قد يكون وقع اتفاقا ، وإنما اطلع عليه ابن قتيبة بالاستقراء.

وقد زاد الشيخ الزرقانى هذا وضوحا حيث بيّن أن هذه الوجوه توصل إليها بالاستقراء ، وكان يكفى المسلمين ، وإن كانوا أميين فى هذا الوقت ، أن يعرفوا أن وجوه الاختلاف سبعة ، وإن لم يضعوا لهذه الوجوه عناوين ؛ لأنهم يعرفون هذه الوجوه تطبيقا فى كل مفردات القرآن ، ومثل ذلك عدم معرفتهم بالعناوين الخاصة بالإعراب والبناء ، ولكنهم يعرفون النطق الصحيح الفصيح. وبذلك اتضح أن كون العرب أميين لا يعرفون العناوين التى ذكرت فى الوجوه السبعة هذا لا يعنى عدم وجودها ؛ لأن هذه العناوين أسماء لمسميات وجدت كوجوه اختلاف بين القراءات ، فهى وصف للواقع ، وليست إنشاء له.

بقاء الأحرف السبعة فى المصحف على هذا الوجه :

بحثنا فى هذه المسألة لا يشمل الكلام على قرآنية الأحرف السبعة النازلة ، ولا أوجه الخلاف بين القراءات كما صنع الأئمة الثلاثة : ابن قتيبة وأبو الفضل الرازى وابن الجزرى ، لما كان فى كلامهم من كفاية الكلام على ما ذهب إليه الشيخان الجليلان محمد بخيت المطيعى والزرقانى من أن بعض الأحرف السبعة متواترة ، وبعضها الآخر غير متواتر ومخالف للمصحف العثمانى فى الرسم فلم تكتب. حتى ادعى الشيخان نسخ ما لم يتواتر منها. والصحيح أن إثبات أصل القرآنية يحتاج لدليل التواتر ، فنحتاج إلى ثبوت التواتر أولا فيما ادعيا فيه النسخ ، وهذا هو المتسق لكلام الأصوليين وغيرهم ولمنطق العقل السليم. ونحن لا نوافق أيضا على ما ذهب إليه الشيخ المطيعى من لفظية الخلاف بين القائلين ببقاء الأحرف السبعة فى المصحف وبين القائلين ببقاء حرف واحد فقط كما قال الطبرى وغيره. وحاولنا لتفهم

١٢٥

كلام الشيخ أن نغض الطرف عن الخلاف بين القولين فى أن أحدهما يعقبه الكفر والآخر لا ، وأن أصحاب القول الثانى يقولون : إنما أثبت من القراءات المشهورة ما وافق الرسم العثمانى فقطو كذلك غض النظر عن تفرقة الطبرى الغريبة بين جحد الحرف وجحد القراءة ، إذا غضضنا الطرف عن هذا كله ، سيبقى الخلاف عندنا حقيقيا ، لما قلناه من عدم صحة دعوى النسخ لشىء من الأحرف السبعة النازلة. وكان سبيلنا لإثبات وجود الأحرف السبعة إيجاد مثال واحد فى القرآن ، وقد كان تعليقنا على ما ذكرناه من نصوص الأئمة الثلاثة : ابن قتيبة والرازى وابن الجزرى ما فيه كفاية فى هذا الباب.

ونلاحظ فى المثل المذكور فى هذه النصوص وحواشىّ عليها أن مثل الزيادة والنقص لا تكون من مصحف واحد. فلا تجتمع الزيادة والنقص فى مصحف واحد ، ونلاحظ أيضا قلة أمثلة الإبدال فى تغير الحرف والصورة معا سواء تغير المعنى أم لا.

ليست قراءات الأئمة السبعة تمام الأحرف السبعة :

سبق لنا عرض نصّ الأبىّ فى شرح مسلم الذى نقل عن ابن عرفة المالكى أنه يرى أن الأحرف السبعة هى القراءات السبع ، وأن قراءة يعقوب داخلة فيها ، ولكن الإمام ابن الجزرى فى النشر ردّ هذا القول ونسبه للعوام ، واحتج على من قال بأن الأحرف السبعة وجدت قبل وجود القراء السبعة ، وقبل جمعها على يد ابن مجاهد فى القرن الرابع.

وذكر فى موضع آخر أن مسألة بقاء الأحرف السبعة مفرعة على مسألة هل يجوز للأمة ترك شىء من الأحرف المتواترة؟ فمن منع أوجب أن تكون الأمة تقرأ بالأحرف السبعة إلى اليوم ، وإلّا اجتمعت الأمة المعصومة على ضلالة. ولكنه ذكر أن القراءات السبعة أو العشرة المشهورة بالنسبة لما كان يقرأ به الصحابة والتابعون نزر من بحر.

ونحن نوافق ابن الجزرى فيما قاله من إنكار أن تكون القراءات سبعة ؛ لأن التواتر للقراءات لم ينحصر فى السبعة المشهورة وهى قراءات نافع وابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى ، بل تعدى إلى قراءات الأئمة الثلاثة المتممة للعشرة وهم :

أبو جعفر ويعقوب وخلف أحد راويى حمزة ، فقد ذكر الجلال المحلى أن الأخير كانت اختياراته من أوجه فى السبعة ، ولكنه صار وجها مستقلا به ؛ ولذا صارت قراءة مستقلة.

ولكننا لا نوافق الإمام ابن الجزرى فيما ذكره من أن القراءات السبع بالنسبة للقراءات التى كان يقرأ بها الصحابة والتابعون نزر من

١٢٦

بحر ، والذى حمله على ذلك هو انخداعه بقول سابقيه من أمثال : أبى عباس المهدوى ، وأبى محمد مكى ، وأبى شامة ، وابن تيمية ، فى عدم اشتراط التواتر فى ضوابط القراءة المقبولة حتى نظم ابن الجزرى هذا الرأى فى «طيبة النشر» فقال :

وكل ما وافق وجه نحوى

وكان للرسم احتمالا يحوى

وصحّ إسنادا هو القرآن

فهذه الثلاثة الأركان

وحيثما يختل ركن أثبت

شذوذه لو أنه فى السبعة

بل لقد أنكر ابن الجزرى على جماهير القراء والفقهاء والمحدثين اشتراطهم التواتر فى القراءة.

ونحن نسأل ابن الجزرى : أين ذهبت القراءات التى هى سوى العشرة المشهورة والتى كان يقرأ بها السلف ، مع الأخذ فى الاعتبار أنه لا تصح دعوى النسخ إلّا بإثبات أصل القرآنية بالتواتر ، وإذا كان السلف يقرءون بها ، فهى لم تنسخ لانقطاع الوحى ، بل إن هذا القول يكذبه القرآن نفسه بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

والخلاصة : أن القراءات السبع هى بعض أحرف القرآن السبعة لا كلها ، وأن القراءات العشر المشهورة بين أيدى الناس اليوم هى جميع الأحرف السبعة التى أنزل الله عليها القرآن. وإن شئت قلت : الأحرف السبعة هى القراءات العشر بلا أدنى فرق بين العبارتين.

والله أعلم.

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

مراجع للبحث والاستزادة :

__________________

(١) اتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربع عشر ، للشيخ أحمد الدمياطى الشهير بالبناء ، طبع ونشر عبد الحميد أحمد حنفى.

(٢) الإتقان فى علوم القرآن ، للسيوطى.

(٣) إكمال إكمال المعلم شرح مسلم ، لأبى عبد الله الأبىّ ، مكتبة طبرية ، الرياض.

(٤) بذل المجهود فى حل أبى داود ، للشيخ خليل أحمد السهارنفورى ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان.

(٥) البرهان فى علوم القرآن ، لبدر الدين الزركشى.

(٦) جامع الترمذى.

(٧) جامع البيان عن تأويل آى القرآن ، للطبرى.

(٨) جامع البيان فى القراءات السبع ، لأبى عمر الدانى ، قطعة من مقدمة حققها دكتور عبد المهيمن طحان ووضعها تحت عنوان «الأحرف السبعة للقرآن» دار المنارة للنشر والتوزيع ، مكة المكرمة.

(٩) الجامع الصحيح ، للبخارى.

(١٠) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبى.

(١١) روح المعانى ، للآلوسى.

(١٢) زهر الربى شرح المجتبى ، للسيوطى ، ط المكتب العلمى ، بيروت ، لبنان.

(١٣) سنن أبى داود.

(١٤) شرح النووى لصحيح مسلم ، مؤسسة مناهل العرفان ، بيروت ، نشر مكتبة الغزالى ، دمشق.

(١٥) صحيح مسلم.

١٢٧

__________________

(١٦) عمدة القارى شرح صحيح البخارى ، لبدر الدين العينى ، ط دار إحياء التراث العربى ، بيروت ، لبنان.

(١٧) عون المعبود شرح سنن أبى داود ، لأبى الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى ، ط دار الحديث ، القاهرة.

(١٨) فتح البارى بشرح صحيح البخارى ، للحافظ ابن حجر العسقلانى.

(١٩) فضائل القرآن ، للحافظ ابن كثير ، ط عيسى البابى الحلبى.

(٢٠) الكلمات الحسان فى الحروف السبعة وجمع القرآن ، للشيخ محمد بخيت المطيعى.

(٢١) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمى ، ط دار الكتاب العربى ، بيروت ، لبنان.

(٢٢) المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها ، لأبى الفتح عثمان بن جنى ، تحقيق على النجدى ناصف والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبى ، نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

(٢٣) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ، لأبى شامة ، د. طيار آلتى قولاج ، دار وقف الديانة التركى للطباعة والنشر ، ـ أنقرة.

(٢٤) مسند الإمام أحمد بن حنبل ، ط الحلبى.

(٢٥) مناهل العرفان فى علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.

(٢٦) النشر فى القراءات العشر ، لابن الجزرى ، نشر عباس أحمد الباز ، المروة ، مكة المكرمة ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان.

الهوامش :

__________________

(١) انظر : (ج ١ ص ١٦٣).

(٢) الحديث ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد عن أبى المنهال بلفظ مقارب بلاغا ثم قال : «رواه أبو يعلى فى مسنده والطبرانى فى الكبير وفيه راو لم يسم» (ج ٧ ص ١٥٢).

(٣) انظر : الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٤٢.

(٤) فتح البارى ج ٩ ص ٢٣. وعبارة القاضى عياض حسبما نقلها عنه الإمام النووى فى شرح صحيح مسلم هكذا : (قال القاضى عياض : قيل : هو توسعة وتسهيل لم يقصد به الحصر قال : وقال الأكثرون : هو حصر للعدد فى سبعة) ج ١ ص ٩٩. وهذه العبارة من القاضى لا تفهم جنوحه إلى عدم الانحصار كما ذكر الحافظ لا نصا ولا ظاهرا إلا أن يكون الحافظ أخذ هذا من مجرد ابتداء القاضى به مع كونه غير متعين فيما ذكره ، ولا سيما أنه جاء من القاضى على صورة التمريض (قيل) ، أو يكون الحافظ قد اطلع من كلام القاضى فى موضع آخر على ما هو أصرح من هذا فهو وذلك. والله اعلم.

(٥) هو أحد القراء كان يقرأ بقراءة حمزة ثم اختار لنفسه قراءة نسبت إليه توفى سنة ٢٣١ ه‍. إنباه الرواة ٣ ص ١٤٠. وانظر البرهان ج ١ ص ٢١٣ ، والإتقان ج ١ ص ١٦٤.

(٦) انظر شرحه لسنن النسائى المسمى زهر الربى على المجتبى ج ٢ ص ١٥٢.

(٧) انظر : بذل المجهود فى حل ألفاظ أبى داود للشيخ خليل أحمد السهارنفورى ج ٧ ص ٣٢.

(٨) صحيح البخارى كتاب فضائل القرآن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافر باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه.

(٩) قال البدر العينى فى عمدة القارى فى شرح هذا الحديث من كتاب الخصومات من الجامع الصحيح تحت عنوان ذكر تعدد موضعه (أى من صحيح البخارى ومن أخرجه غيره) أخرجه البخارى من فضائل القرآن عن سعيد بن عفير ، وفى التوحيد عن يحيى بن بكير عن ليث عن عقيل ، وفى استتابة المرتدين وقال الليث : حدثنى يونس ، وفى فضائل القرآن أيضا عن أبى اليمان عن شعيب. وأخرجه مسلم فى الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك به ، وعن حرملة عن ابن وهب ، وعن إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن حميد ، وأخرجه أبو داود عن العقبى عن مالك به ، وأخرجه الترمذى فى القراءة عن الحسن بن على العلال وأخرجه النسائى فى الصلاة عن يونس بن عبد الأعلى وعن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين ، وفى فضائل القرآن أيضا عنهما. ج ١٢ ص ٢٥٨.

وقوله : أساوره أى أواثبه ، وقوله : فلببته بردائه ، أى : جمعته عليه عند لبته وهى النحر. أى : أخذت بخناقه.

(١٠) صحيح المسلم الموضع السابق.

(١١) أخرجه الترمذى (أبواب القراءات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باب ما جاء أن القرآن نزل على سبعة أحرف).

(١٢) النشر فى القراءات العشر : (ح ١ ص ٢٢) وما بعدها.

(١٣) النشر فى القراءات العشر ، (ح ١ ص ٥٢ ـ ص ٥٤).

(١٤) قول الحافظ وقيل : بالمد والهمز إلخ راجع للجمع لا للمفرد ، وعبارة النووى من شرح مسلم فى بيان هذه اللفظة (عند أضاة بنى غفار) هى بفتح الهمزة وبضاد معجمة مقصورة ، وهى الماء المستنقع كالغدير وجمعها أضا كحصاة وحصا ، وإضاء بكسر الهمزة والمد كأكمة وإكام. ح ٦ ص ١٠٤.

(١٥) فتح البارى ج ٩ ص ٢٨.

(١٦) صحيح البخارى (كتاب فضائل القرآن ـ باب بيان نزول القرآن بلسان العرب وباب جمع القرآن).

(١٧) فتح البارى : (ح ٩ ص ٩)

١٢٨

__________________

(١٨) فى حديث إسلام أبى ذر عند مسلم قوله : (وقال نصفهم «يعنى قومه غفارا» إذا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أسلمنا ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقى ، وجاءت أسلم فقالوا : يا رسول الله! إخوتنا ـ نسلم على الذى أسلموا عليه فأسلموا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله» صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم ، باب فضائل أبى ذر رضي الله عنه.

(١٩) انظر : مقدمة جامع البيان لأبى عمرو الدانى (المحققة منفصلة باسم الأحرف السبعة) د. عبد المهيمن الطحان ، (ص ٤٦).

(٢٠) انظر مثلا : روح المعانى ، للآلوسى : (ح ١ ص ٢٠).

(٢١) انظر : فتح البارى ، للحافظ ابن حجر (ح ١ ص ٢٩).

(٢٢) النشر فى القراءات العشر ، لابن الجزرى : (ج ١ ص ١٧١).

(٢٣) الإتقان : (ج ١ ص ١٧١).

(٢٤) مناهل العرفان : (ح ١ ص ١٨٢ ـ ص ١٨٤).

(٢٥) القطعة التى حققها د. عبد المهيمن الطحان (ص ٢٧ ـ ٣٠).

(٢٦) النشر فى القراءات العشر : (ح ١ ص ٢٤).

(٢٧) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد : صاحب كتاب «الجمهرة فى اللغة» وناظم المقصورة (ت ٣٢١ ه‍ ببغداد) ـ إنباة الرواة (ح ٣ ص ٩٢).

(٢٨) هو أبو حاتم سهل بن محمد السجستانى صاحب المبرد ، مات بالبصرة سنة ٢٥٥ ه‍.

(٢٩) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهرى ، صاحب كتاب «التهذيب» توفى سنة ٣٧٠ ه‍ (اللباب : ح ١ ص ٣٨).

(٣٠) البرهان : (ح ١ ص ٢١٨) وما بعدها.

(٣١) روح المعانى : (ح ١ ص ٢١).

(٣٢) انظر : تفسير الطبرى (الطبعة المحققة) : (ح ١ ص ٥٥ ص ٥٩) (ح ١ ص ٦٣ ـ ص ٦٦).

(٣٣) هى ضم فسكون وضمتان ، وفتح فسكون وفتحتان ، والمتواتر من ذلك أول الأربعة وآخرها.

(٣٤) كسر السين وفتحها ، والقراءتان متواترتان.

(٣٥) برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس ، والقراءتان متواترتان.

(٣٦) بضم الهمزة وتشديد الميم وبعدها تاء تأنيث بمعنى حين ، وهى المتواترة ، وأمه بفتحات آخره هاء وصلا ووقفا بمعنى النسيان وهو شاذ لا يقرأ به.

(٣٧) أى من قوله تعالى فى سورة يونس : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) والقراءة باللفظين متواترة.

(٣٨) ننجيك بالجيم وهى المتواترة وننحيك بالحاء وهى شاذة.

(٣٩) فى موضعين من سورة غافر آية ٢١ ، آية ٨٢ والقراءتان متواترتان.

(٤٠) الأولى بصورة الافتعال من الألو بمعنى التقصير ، والثانية بصورة التفعل من الآلية بمعنى الحلف ، فيختلف المعنى كما اختلفت الصورة. هذا مراده ، ولا يتعين لإمكان أن تكون الصورتان معا بمعنى الحلف فيكونا من تغير الصورة دون المعنى والقراءتان متواترتان.

(٤١) الأولى هى المتواترة ، والثانية بالغة الشذوذ ، وقد مشى ابن الجزرى هنا على أن السعى يفيد معنى الإسراع ، والمضى يفيد السير العادى ، ومن ثم اختلف المعنيان على هذا.

(٤٢) بتقديم المبنى للمعلوم على المبنى للمجهول وعكسه ، والقراءتان متواترتان.

(٤٣) بالغة الشذوذ ، والمتواتر ما فى المصحف.

(٤٤) أى مع وما خلق الذكر والأنثى ، والنقصان بالغ الشذوذ.

(٤٥) هود آية ٧٨. قرأ لفظ (أطهر) بالرفع على الخبرية ، وهى القراءة المتواترة ، وبالنصب على الحالية وهى ضعيفة بالغة الشذوذ.

(٤٦) أى بالغيبة والبناء للمجهول وبنون العظمة ، والقراءتان متواترتان.

(٤٧) (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) البقرة ٢٨٠. قرأت (مَيْسَرَةٍ) بفتح السين وضمها ، والقراءتان متواترتان.

(٤٨) (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ـ سبأ ـ بنصب ربنا على النداء وسكون دال باعد على الطلب ، وبرفع ربنا على الابتداء وفتح دال باعد على المضى ، والقراءتان متواترتان.

(٤٩) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) النور آية ١٥ قرئ (تلقونه) بحذف إحدى التاءين من التلقى أى (تتلقونه) ، وهى القراءة المتواترة ، وقرئ شذوذا (تلقونه) بضم تاء المضارعة وتسكين اللام أى يلقيه بعضكم إلى بعض من الإلقاء ، (وتلقونه) بفتح وكسر اللام وتخفيف القاف مع ضمها من (الولق) ، هو الكذب ، وهما شاذتان.

(٥٠) (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) البقرة ٢٥٩ قرئ (ننشزها) بالزاى أى نرفعها ونضم بعضها إلى بعض ، و (ننشرها) بالراء أى نبعثها ونحييها ، والقراءتان متواترتان.

(٥١) فى سبأ قرئ (فزع) بالبناء للمعلوم وللمجهول. وهما متواترتان ، وقرئ (فرغ) بالراء والغين وهى شاذة.

(٥٢) يس وص والمتواتر (صيحة وزقية) وإن كانت بمعناها هى بالغة الشذوذ مخالفة لرسم المصحف.

(٥٣) القارعة والمتواتر ما فى المصحف.

(٥٤) (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) ب يس قرئ بحذف الهاء وإثباتها ، وهما متواترتان.

(٥٥) ومن يقول (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الحديد ٢٤ قرئ بحذف هو وإثباتها والقراءتان متواترتان.

(٥٦) كلمة (أنثى) زائدة على الرسم وهى فى غاية الشذوذ والمتواتر حذفها.

(٥٧) (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) ـ التكوير قرئ بالضاد من الضن بمعنى البخل والكتمان ، وبالظاء من الظنة وهى التهمة ، وهما متواترتان.

(٥٨) النشر فى القراءات العشر ، لابن الجزرى (ج ١ ص ٢٦ ـ ص ٢٨).

(٥٩) مقدمة تفسير القرطبى (ج ١ ص ٤٥ وما بعدها).

١٢٩

عروبة لغة القرآن ، وهل يقدح فيها المعرب؟

ترجم البخارى فى «جامعه الصحيح» بابا بعنوان (نزل القرآن بلسان قريش والعرب) وذكر فيه قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، وقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ثم ذكر طرفا من حديث أنس رضي الله عنه فى جمع القرآن ، وفيه قول عثمان : (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش ، فإن القرآن أنزل بلسانهم). وما ذكره الإمام البخارى يكشف عن أنه يرى أن قريشا لم يقتصر القرآن على لسانها ، وإن كانت هى أسعد حظا به من غيرها ؛ ولذا قدم لسان قريش ثم سائر العرب.

ولا يعنى هذا عندى ما ذهب إليه الطبرى من تناكر ألسنة العرب وعدم ائتلافها بما يسبب اختلافا فى جواهر ألفاظها ، وإنما أفهم منه اختلاف اللهجات فى النطق بالألفاظ ؛ ولذا لم أره حسنا ما صنعه بعض الأئمة من عقد أنواع مخصوصة فى كتبهم لما ورد فى القرآن بغير لغة الحجاز ، منهم الزركشى والسيوطى ، فعدوا سبعا وثلاثين لغة. وما أحسب إلّا الاتفاق فى جواهر الألفاظ هو الذى سوغ جمع هذه الألسنة فى لسان واحد فى قوله تعالى : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ، وقوله فى سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ، ولو كانت مختلفة الجواهر لجمعها كما فى قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ). ولكنّ هذا لا يعنى استيعاب القرآن لكل لهجات العرب ، بل اصطفى منها ما لا تنفر الآذان منه ، فقد نقل الزركشى عن قاسم بن ثابت (١) فى كتابه «الدلائل» أن من الأحرف ما لقريش ولكنانة ولأسد وهذيل وتميم وضبة وألفافها وقيس. ونقل قولا آخر : أن مضر تستوعب اللغات التى نزل بها القرآن ؛ لأن قبائل مضر تستوعب سبع لغات وتزيد.

ونقل الزركشى عن ابن عبد البر : أن قوما أنكروا كون كل لغات مضر فى القرآن ؛ لأنها تشتمل على شواذ لا يقرأ بها.

كشكشة قيس وهى قلب الكاف شينا ، وعنعنة تميم وهى قلب الهمزة عينا ، وكذلك

١٣٠

إبدالهم السين تاء. وما نقل عن عثمان أن القرآن نزل بلسان مضر. معارض بحديث أنس أنه نزل بلغة قريش. (٢)

وقد ذكر أبو نصر الفارابى فى كتابه (الألفاظ والحروف) أن أحسن لسان لسان قريش وأجوده وأسهله ، وعنها أخذ اللسان العربى من قيس وتميم وأسد ، فهؤلاء هم أكثر من أخذ عنهم ، وتركت قبائل لمجاورتها الأعاجم وغير العرب ، ولم يؤخذ عن حضرى ولا أحد من سكان البرارى. (٣)

والمقصود من هذا البحث : أن القرآن الكريم جاء بأصفى ألفاظ اللغة العربية وأعذبها وأفصحها ، مما لا يمكن أن يخدش عربية لغة القرآن ، بحيث لا تجد لفظا واحدا فيه إلّا وله أصالة فى العربية ، أمّا ما يدعيه البعض من وجود ألفاظ أعجمية فى القرآن ، فليس فى القرآن لفظ أعجمى لا يعرفه العربى أو لم يستعمله ، وكيف يصحّ خلاف ذلك والقرآن يكذبه عند ما يبين أنه نزل بلسان عربى ، وهذا يقتضى أن اسم الشيء ووصفه المخلوع على اسمه معا يجب أن يحمل على جميعه كما هو متبادر ، وعليه يكون جميع القرآن عربيا ، وقد قال ـ عزوجل ـ فى ردّه على من زعم أن النبىّ يعلمه بشر فقال : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٤) وقال عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) (٥). فالكلمة إذا كانت عربية ولكنها حوشية مجهولة لم تكن توصف بالفصاحة ، فكيف بالكلام الأعجمى مجهول اللفظ والمعنى ، ولو كان فى القرآن أعجمى لبادر العرب بإنكاره على القرآن. فمن ينفى وجود الأعجمى فى القرآن إنما يقصد الذى لا تعرفه العرب ولا تستعمله ، ومن قال بوجوده فهو يقصد الذى عرفه العرب واستعملوه حتى لان وانقاد للسانهم ، وهكذا يكون الخلاف بين الفريقين لفظيا ؛ لأنه توارد على محلين لا محل واحد.

وعلى هذا التحرير يحمل ما نقله الزركشى عن جمهور العلماء ، من عدم وجود غير العربى فى القرآن ، ومنهم : أبو عبيدة والطبرى والقاضى أبو بكر بن الطيب فى «التقريب» وابن فارس اللغوى والشافعى فى «الرسالة» ، ونقل عن الشافعى ردّه على القائلين بوقوع الأعجمى فى القرآن. (٦) وحكى عن ابن فارس عن أبى عبيدة أنه أنكر قول القائلين بوقوع غير العربى فى القرآن ؛ لأنه لو كان واقعا لتوهم متوهم أن العرب عجزت عن الإتيان بمثله ؛ لأنه يشتمل على غير لغاتهم ؛ ولذا أبطل القراءة بالفارسية فى الصلاة لعدم

١٣١

إعجاز الترجمة ، ورأى أن من جوز القراءة بالفارسية فليجوزها بكتب التفسير. ثم نقل عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما القول بوقوع غير العربى فيه. (٧)

أما السيوطى فقد ذكر أنه أفرد هذه المسألة بالتصنيف فى كتاب «المهذب فيما وقع فى القرآن من المعرب» ملخصه : أن العلماء اختلفوا فى وقوع المعرب فى القرآن ، فالأكثرون منهم : الشافعى ، والطبرى ، وأبو عبيدة ، والقاضى أبو بكر ، وابن فارس ، على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ). وشدد الشافعى النكير ثم ذكر قول أبى عبيدة السابق ذكره ، وذكر أن ابن جرير نقل عن ابن عباس وغيره تفسير بعض ألفاظ القرآن بأنها حبشية أو فارسية أو نبطية ، من باب توارد اللغات ، فقد تكلم العرب والفرس والحبش بلفظ واحد ، ونقل قولا آخر أن ذلك جاء لنزول القرآن بلغة العرب العاربة ، الذين كانت لهم مخالطة بألسنة غيرهم فى الأسفار ، ونقل ثالثا يقول : إن هذه الألفاظ عربية صرفة ، ولغة العرب متسعة فقد تخفى على الأكابر. ونقل ذلك عن أبى المعالى عزيزى بن عبد الملك ، ونقل قولا رابعا بوقوعه فيه ، وأجابوا عن قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أنها كلمات يسيرة لا تخرجه عن كونه عربيا ، وعن قوله تعالى : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أن المعنى أكلام أعجمى ومخاطب عربى ، واستدلوا أيضا باتفاق النحاة على منع صرف (إبراهيم) للعلمية والعجمة. وردّ هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست محل الخلاف ، ولكنهم وجّهوه بأن تجويزه فى الأعلام يجوزه فى الأجناس.

ونقل السيوطى أن أقوى دليل لهم ـ وهو اختياره ـ ما رواه الطبرى عن أبى ميسرة التابعى قال : فى القرآن من كل لسان. بسند صحيح. وروى مثله عن سعيد بن جبير ووهب ابن منبه ، وعليه يكون فى القرآن إشارة إلى أنواع اللغات والألسنة ليتم إحاطته بكل شىء. ثم ذكر عن ابن النقيب قوله فى أن القرآن جمع كل اللغات. ثم استدل السيوطى بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل للعالمين ، فلا بد أن يجمع القرآن كل اللغات.

ونقل عن الخويّيّ (٨) أنه ذكر فائدة أخرى لوقوع المعرب فى القرآن ، وهو : أن المعرب الواقع فى القرآن لا يسع الفصيح إلّا استعماله ، وضرب لذلك مثالا ب (إستبرق) بأن عظمة الوعد تكون بالوعد بالملبس الناعم ، والحرير كلما كان أثقل كان أرفع ، فوجب على الفصيح أن يذكر الحرير الأثخن

١٣٢

الأثقل ، وهذا هو الإستبرق ، ولو أراد أن يأتى بكلمة عربية واحدة فلن يستطيع ؛ لأنها لن تكون فى نفس درجة الفصاحة ، أو لا توجد ؛ لأن العرب عرفوا الحرير عن العجم والديباج الثقيل لا وضع لهم فيه ، فاكتفوا بتعريب (الإستبرق) ، ولو لم يستعمل (الإستبرق) لتكلم بكلمتين ، والكلمة الواحدة أوجز. ثم نقل عن أبى عبيد القاسم بن سلام حكايته القول بالوقوع عن الفقهاء ، ثم نقل جمعه بين القولين بأن جعل هذه الكلمات أصولها أعجمية ، وهذا به يصدق قول الفقهاء ، ولكن العرب عرّبوها فصارت عربية. وإلى هذا الجمع ذهب الجواليقى وابن الجزرى وآخرون أه. (٩)

قلت : ما ذكره السيوطى عن أبى عبيد عقّب عليه ابن فارس فأنكر على أبى عبيد أنه نسب القائلين بوقوع المعرب فى القرآن للجهل ، ولكنه وافقه فى الجمع فقال : «فالقول إذن ما قاله أبو عبيد ، وإن كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره». (١٠) والكلام فى هذه المسألة مبسوط فى كتب فقه اللغة وأصول الفقه وفيه مصنفات مفردة كالجواليقى وما ذكره السيوطى فى كتابه. وقد جمعنا لك خلاصته. ثم السيوطى جمع كل ما قيل فيه معرب ورتبها على حروف المعجم ، ونحن نكتفى بالمثال الذى أوردناه عن الخويّيّ فى (الإستبرق).

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

الهوامش :

__________________

(١) هو القاسم بن ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف بن سليمان العوفى السرقسطى الأندلسى أبو محمد ، عالم بالحديث واللغة والفقه ، توفى سنة ٣٢٠ ه‍. فهرست ابن خير ص ١٩١ ، بغية الوعاة ص ٣٧٤ ؛ نفح الطيب ١ / ٢٥٥. وكتابه الدلائل فى غريب الحديث ومعانيه.

(٢) البرهان فى علوم القرآن ، للزركشى ، ج ١ ، ص ٢١٩ فما بعدها.

(٣) البيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن عن طريق الإتقان ، للشيخ طاهر الجزائرى ، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص ٨٤ وما بعدها.

(٤) سورة النحل آية (١٠٣).

(٥) سورة فصلت آية (٤٤).

(٦) الرسالة (ص ٤٠) ، تحقيق أ. أحمد محمد شاكر ، ط مصطفى الحلبى سنة ١٩٤٠ م.

(٧) البرهان فى علوم القرآن : (ج ١ ص ٢٨٧) وما بعدها.

(٨) الخويّيّ : بضم الخاء وفتح الواو وتشديد الباء وهو شمس الدين أحمد بن حنبل بن سعادة الخويّيّ الشافعى ، صاحب الإمام فخر الدين الرازى ، كان فقيها مناظرا وأستاذا فى الطب والحكمة. توفى سنة ٦٣٨ ه‍ ونسبه إلى خوبى مدينة بآذربيجان (شذرات الذهب ٥ / ١٨٣).

(٩) الإتقان فى علوم القرآن : (ج ٢ ص ١٢٥ ـ ص ١٢٩).

(١٠) انظر : الصاحبى ، لابن فارس ، (ص ٢٩).

١٣٣

غريب القرآن

عرّف السعد التفتازانى فى شرحه «لتلخيص المفتاح» الغرابة بأنها : «كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال» ثم قال : «لا يقال الغرابة كما يفهم من كتبهم : الكلمة ، غير مشهورة الاستعمال ، وهما فى مقابلة المعتادة ، وهى بحسب قوم دون قوم. والوحشية ، هى المشتملة على تركيب ينفر الطبع منه وهى فى مقابلة العذبة ، فالغريب يجوز أن يكون عذبا ، فلا يحسن تفسيره بالوحشية ، بل الوحشية قيد زائد لفصاحة المفرد ، وإن أريد بالوحشية غير ما ذكرنا ، فلا نسلم أن الغرابة بذلك المعنى تخل بالفصاحة ، لأنا نقول هذا أيضا اصطلاح مذكور فى كتبهم ، حيث قالوا : الوحشى منسوب إلى الوحش الذى يسكن القفار استعيرت للألفاظ التى لم يؤنس استعمالها. والوحشى قسمان : غريب حسن ، وغريب قبيح. فالغريب الحسن : هو الذى لا يعاب استعماله على العرب ؛ لأنه لم يكن وحشيا عندهم ، وذلك مثل : شرنبث واشمخر واقمطر. وهى فى النظم أحسن منها فى النثر ، ومنه غريب القرآن والحديث. والغريب القبيح : يعاب استعماله مطلقا ، ويسمى الوحشى الغليظ ، وهو : أن يكون مع كونه غريب الاستعمال ثقيلا على السمع كريها على الذوق ويسمى المتوعر (١) أيضا» أه.

وقال عبد الحكيم السيالكوتي ـ رحمه‌الله ـ تعقيبا على قول السعد : «فالغريب الحسن هو الذى لا يعاب استعماله على العرب. اعلم أن الألفاظ على ثلاثة أقسام : منها ما هى مستعملة مطلقا كالأرض والسماء ، فلا يعاب استعماله على أحد ، ومنها ما هى مستعملة فى العرب العرباء غير مستعملة فى غيرهم ، فلا يعاب استعمالها عليهم ويعاب على غيرهم ، ومنه غريب القرآن والحديث ـ ومنها ما هى غير مستعملة مطلقا ، فيعاب استعمالها على الكل ، فمنه ما هو كريه على الذوق والسمع كجحيش (٢) ، ومنه ما هو غير مكروه كتكأكأتم وافرنقعوا» (٣) ، وإليه أشار الشارح رحمه‌الله بقوله ـ فيما سيأتى فى وجه النظر ـ من أن الجرشى (٤) إما من قبيل تكأكأتم أو جحيش ، فعلم مما ذكرنا أن قوله : والوحشى قسمان ليس المقصود منه الحصر بل مجرد إطلاق الغريب على الوحشى.

١٣٤

ثم ذكر أن عدم الغرابة المعتبرة «هى عند العرب العاربة لا عند غيرهم ، فلا تعتبر الغرابة عند غيرهم وجودا ولا عدما (٥)»

إذن الغريب قسمان :

(١) قبيح غير مأنوس الاستعمال لدى جمهور العرب العاربة ، وهو عيب يخل بالفصاحة ، ولذا لا يشتمل القرآن على شىء منه ؛ لأنه إن وجد جرّ لنسبة الجهل أو العجز له سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كما يقول السعد فى شرحه «لمختصر التلخيص» (٦) قلت : «أو السفه والعبث ؛ لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ إن لم يعلم بعدم فصاحة الكلمة لزم نسبة الجهل إليه ، وإن علم فلم يستطع وضع الفصيح لزم العجز ، أو استطاع ولم يضع ، لزم العبث بتعريض القرآن لما يسقط حجيته ، ونبيه لما يذهب نبوته ؛ ولذا لا شىء منه فى كلام الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا كلام نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(٢) حسن مأنوس لدى جمهور العرب الخلّص ، وإن غمض على من سواهم بقدر ما يجهلون من مدلول اللغة ، أما العرب لا يتصور فى حقهم الجهل بهذا القسم ، وإلا صار كالأول وللزمت منه مفسدة فوق ما ذكرنا ، وهى التناقض بأن نجعله عند العرب حسنا مأنوس الاستعمال ، ونجعله كذلك عندهم قبيحا مهجور الاستعمال ، وكذلك يستلزم اختلال القسمة ؛ لأن المقسوم ليس أعم من أقسامه ، بل القسم الواحد هو عين مقسومة وهو عين القسم الآخر فالغريب ليس أعم من القبيح بل هو عين القبيح ، والقبيح هو عين الحسن فليس هناك قسمة.

والذى دفعنا لهذا التفصيل هو غفلة بعض أصحاب الرواية عنه ، وهم الذين يشترطون لصحة الحديث خلوه من الشذوذ والعلة ، ومع ذلك ينقلون عن جماهير الصحابة أنهم كانوا ـ وهم العرب الخلص ـ يجهلون مدلول اللغة ، وهذا يستلزم جميع المعانى السابق ذكرها ، ودفعهم إلى ذلك حرفيتهم فى اتباع صحة السند ما رواه أبو عبيد القاسم وابن سعد عن أبى بكر الصديق وعمر ـ رضى الله عنهما ـ فى عدم معرفة (الأب) فى قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) ، وإن كان ابن كثير أعلّ الأثر المروى عن أبى بكر بالانقطاع ؛ لعدم إدراك إبراهيم التيمى ـ الراوى عن أبى بكر ـ أبا بكر الصديق ، ولكنه لعله رفعه لدرجة الحسن بالأثرين الشاهدين له عن عمر رضي الله عنه ، وتكلف ابن كثير فى تأويل الأثر بأن عمر رضي الله عنه أراد استكشاف علم كيفية الأب ، وإلا فكونه نبتا فى الأرض معلوم لقوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) وكان يكفى الحافظ إعلال متن الأثر بما سبق أن ذكرنا من علة متمثلة فى المفاسد السابقة.

١٣٥

أسباب أخرى لغرابة هذا القسم الحسن لدى العرب الخلص :

قدمنا بأن جهل العرب الخلص بمدلول القسم الحسن من الغريب غير مقصود ؛ لذا فهناك أسباب أخرى غير الجهل منها :

(أ) تعنت مشركى قريش وتجاهلهم فى فهم الواضحات تلبيسا على القرآن والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسؤالهم عن الرحمن فيما أورده القرآن فى قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (٧). وقد بيّن أبو حيان فى «تفسيره» أنهم استفهموا عن (الرحمن) وهم عالمون به (٨). وذلك كما صنع فرعون حيث جحد الحقيقة عند ما سأل عن رب العالمين وهو يعلم حقيقة الأمر وحقيقة الإطلاق والاستعمال.

وما استظهره أبو حيان هو عين ما استظهره الآلوسي وهو الحق الذى لا ريب فيه.

فهم يعلمون من الاشتقاق أن هذا الاسم مشتق من صفة الرحمة للدلالة على المبالغة فيها.

(ب) واستهداف المشركين إظهار القرآن فى مظهر السابق المتهافت والعابث اللاهى ، ويظهر هذا بوضوح عند تشبيههم على شجرة الزقوم وهم يقولون : النار تأكل الشجر فكيف تنبت فيه شجرة. وقال آخر : ما الزقوم إلا التمر بالزبد وأنا أتزقمه فردّ عليه القرآن بقوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٩)

وقد ذكر البغوىّ فى تفسير هذه الآيات أن ابن الزبعرى قال لصناديد قريش : إن محمدا يخوفنا بالزقوم ؛ فجمعهم أبو جهل فى بيته وقال لجارية : زقمينا ، فأتتهم بالزبد والتمر فقال : تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمدا فقال تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (١٠).

وغير ذلك من النماذج من هذا النمط الخبيث ، من نحو سخريتهم من عدد التسعة عشر لخزنة النار ، على ما جاء فى سورة المدثر ، وحمل اليهود استقراض الله خلقه على حقيقته لا على مجازه أو الاستعارة التمثيلية حتى قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ، واستشكال نصارى نجران من أخوّة

١٣٦

مريم لهارون ، وهى أخت موسى ـ عليهما‌السلام ـ فكان القرآن يرد بحسم على تشبيهاتهم وسفههم. وكذلك النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما ردّ على نصارى نجران بأنهم كانوا يسمون بأنبيائهم وصالحيهم (١١).

(ج) الفهم الخاطئ عن حسن قصد لبعض نصوص التنزيل ؛ بسبب النقص فى أدوات الاجتهاد الأخرى ، مما يدفع للتسرع والعجل ، وقد وقعت نماذج من ذلك من الصحابة رضى الله عنهم ، وكأنه ـ سبحانه ـ أراد أن ينبه على وجود التزام أقصى غايات الاحتياط وبذل الجهد فى فهم الكتاب العزيز ؛ لأن الصحابة الذين شهدوا منازل الوحى يقع منهم مثل هذا ، فعلى الجميع أن يتحروا التقوى وبذل أقصى الجهد فى فهم الكتاب ، وسنعرض نموذجين فقط من هذه النماذج وهما :

(١) ما وقع فى فهم بعض الصحابة لقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ، فالمجاز المشهور الذى يكاد يلحق بالحقيقة ، أن المقصود بالخيط الأبيض بياض النهار ، والخيط الأسود سواد الليل ، ثم نزل البيان المانع من حمل معنى الخيطين على الحقيقة ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الْفَجْرِ) ولكن بعض الصحابة حملوا المعنى على الحقيقة فجاء بخيطين : أبيض وأسود ، وربطهما في قدميه ، وظل يأكل حتى يتبين كل واحد من الآخر ، حتى نزل البيان بقوله : (مِنَ الْفَجْرِ) هكذا فى رواية البخارى (١٢) التى نقلها الحافظ ابن كثير فى تفسيره ، ثم ذكر روايات أخرى فقال :

«وقال الإمام أحمد : حدثنا هشام أخبرنا حصين عن الشعبى أخبرنى عدى بن حاتم قال لما نزلت هذا الآية : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت إلى عقالين : أحدهما أسود ، والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتى. قال :

فجعلت أنظر إليهما ، فلما تبين لى الأبيض من الأسود أمسكت ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه و

سلم فأخبرته بالذى صنعت فقال :

إن وسادك إذا لعريض ، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل». أخرجاه فى الصحيحين (١٣) من غير وجه عن عدى.

ويعنى قوله : «إن وسادك إذا لعريض أى : إن كان ليسع الخيطين الأسود والأبيض المراد بهذه الآية تحته ، فيقتضى أن يكون بعرض المشرق والمغرب.

وهكذا وقع فى رواية البخارى (١٤) مفسرا بهذا : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو

١٣٧

عوانة عن حصين عن الشعبى عن عدى قال :

أخذ عدى عقالا أبيض وعقالا أسود حتى إذا كان بعض الليل نظر فلم يستبينا ، فلما أصبح قال : يا رسول الله جعلت تحت وسادتى ...

قال : «إن وسادك إذا لعريض ، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك».

وجاء فى بعض الألفاظ «إنك لعريض القفا». ففسره بعضهم بالبلادة. وهو ضعيف ، بل إذا صح فإنه يرجع إلى هذا ؛ لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض. والله أعلم.

ويفسره رواية البخارى (١٥) أيضا : حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبى عن عدى بن حاتم قال : قلت يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال «إنك لعريض القفا ، إن أبصرت الخيطين ، ثم قال لا بل هو سواد الليل وبياض النهار». انتهى المقصود منه (١٦).

(٢) النموذج الثانى : ما وقع من بعض الصحابة فى فهم قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (١٧) فقد فهمت عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن المنة والنعمة من الله فى تخفيف الحساب ، فوقع عندها تعارض بين معنى الآية وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نوقش الحساب عذّب». فبين لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه الصواب. والقصة كما أخرجها البخارى ومسلم والترمذى وأبو داود من حديث ابن أبى مليكة قال : إن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه ، وإن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نوقش الحساب عذب». فقالت : أليس يقول الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) ، فقال : «إنما ذلك العرض ، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك». وفى رواية : «وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب». وفى أخرى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس أحد يحاسب إلا هلك». قلت : يا رسول الله ، جعلنى الله فداك ، أليس الله تعالى يقول : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال : «ذلك العرض تعرضون ، ومن نوقش الحساب هلك» (١٨) إلى غير ذلك من نماذج هذا اللون الواقعة فى عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى أفراد قليلة على أية حال.

(د) أن يقع عام يراد به الخصوص ، أو يخصص بما يقع به البيان من كتاب أو سنة فلا يعلم المراد إلا بذلك البيان.

(ه) أن يقع مطلق فيقع تقييده من بيان القرآن أو السنة فيحتاجون لمعرفة البيان.

(و) أن يقع مجمل يبينه الكتاب أو السنة كذلك فيتوقف فهم المراد على هذا البيان.

١٣٨

(ز) أن يأتى مبهم من مبهمات القرآن وقع بيانها فى الكتاب أو السنة ، كتفسير لفظ :

(خليفة) فى قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فجاء البيان فى القرآن بأنه (آدم) عليه‌السلام ، وكذلك (العبد الصالح) فى آية الكهف : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ، فجاء البيان فى السنة فى حديث البخارى الطويل بأنه الخضر عليه‌السلام.

(ح) تبادر أن للمنطوق مفهوما ثم يبين صاحب الشريعة أنه لا مفهوم له ـ كما فى حديث آية قصر الصلاة فى السفر : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإن قيد (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لا مفهوم له ، بيّن لهم ذلك المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال :

«صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته» (١٩) وذلك جواب على استفسار بعض الصحابة الذين أشكل عليهم فهم الآية ؛ لأن القيد هنا خرج مخرج الغالب ؛ لأن غالب أسفارهم كانت مخوفة. وكذلك خرج القيد مخرج الغالب فى قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) وقوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ).

(ط) أن تراد الحقيقة الشرعية (عند القائلين بوقوعها) وهى دون الحقيقة اللغوية فيحتاجون للبيان من الشارع.

فهذه تسعة أسباب لوقوع هذا القسم من الغريب للعرب الخلص من الصحابة ، ثم امتنعت خطوات الحديث عن الغريب بعد عصر النبوة ، وفى عصر الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم ، وكلما طال الزمان على الناس ، احتاجوا إلى البيان وإلى المزيد منه ، ثم اتسعت الدولة الإسلامية وظهر المولدون وذهب العرب الخلص ، فصار الاحتياج إلى ما كان ظاهرا بينا ، حتى سرى إلى كثير من العامة وإلى بعض الخاصة ، فصنفت كتب النحو والصرف والبلاغة والمعاجم وفقه اللغة ، وأفردت المصنفات فى غريب القرآن ، وبيان أن اللفظ لا تتوقف معرفته على معرفة حقيقته ؛ لأن حمله على الحقيقة اللغوية قد يسبب مفاسد عظيمة فى فهم النص الشرعى ، وأوضح من دلل على فائدة معرفة معانى مفردات غريب القرآن الراغب الأصفهانى فى مقدمة كتابه «المفردات» ، فقد بيّن أن أول درجات الوصول لمعانى القرآن فهم مفرداته ، بل هى أول درجات إتقان العلوم المختلفة ؛ لأن ألفاظ القرآن هى لب كلام العرب ، وذكر أنه فى كتابه سيبين الألفاظ القرآنية ويبين مناسبتها لسياقها والاشتقاقات وكذلك الألفاظ المستعارات منها (٢٠).

١٣٩

وقال السيوطى فى «الإتقان» : «أفرده (يعنى بيان الغريب) بالتصنيف خلائق لا يحصون منهم : أبو عبيدة ، وأبو عمر الزاهد ، وابن دريد ، ومن أشهرها (كتاب العزيزى) ؛ فقد أقام فى تأليفه خمس عشرة سنة ، يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنبارى ، ومن أحسنها (المفردات) للراغب ، ولأبى حيان فى ذلك تأليف مختصر فى كراسين. قال ابن الصلاح : وحيث رأيت فى كتب التفسير :

(قال أهل المعانى) ، فالمراد به مصنفو الكتب فى معانى القرآن ، كالزجاج ، والفراء ، والأخفش ، وابن الأنبارى». انتهى.

وينبغى الاعتناء به ، فقد أخرج البيهقى من حديث أبى هريرة مرفوعا : «أعربوا القرآن ، والتمسوا غرائبه» ، وأخرج من حديث ابن عمر مرفوعا : «من قرأ القرآن فأعربه كان له بكل حرف عشرون حسنة ، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات».

المراد بإعرابه معرفة معانى ألفاظه ، وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة ، وهو ما يقابل اللحن ؛ لأن القراءة مع فقده ليست قراءة ، ولا ثواب فيها. وعلى الخائض فى ذلك التثبت ، والرجوع إلى كتب أهل الفن وعدم الخوض بالظن (٢١) أه.

وقد قام مجمع اللغة العربية بمصر بتصنيف مصنف نفيس فى هذا الباب باسم (معجم ألفاظ القرآن الكريم) استفاد واضعوه من جميع كتب التفسير.

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

١٤٠