الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

تنوع أسباب النزول

تنقسم أسباب النزول من حيث ما نزل القرآن فى شأنه إلى قسمين :

الأول : أسباب عامة على مستوى السور.

الثانى : أسباب خاصة على مستوى الآيات.

وفيما يلى بيان المقصود بكل قسم مع ذكر أمثلة توضح المراد منه :

أما القسم الأول : وهو المتعلق بالأسباب العامة : فالمراد به الأسباب أو الحوادث التى نزلت فيها سور بتمامها (٢١) وذلك موجود فى القرآن الكريم فى أكثر من سورة ، ولما كان المجال ليس مجال حصر لهذه السور فسوف نكتفى بذكر أمثله لهذا النوع مما صح النقل فيه تبين المراد منه ، وهى كما يلى :

١ ـ سورة الأنفال : فقد ذكر العلماء أن هذه السورة نزلت فى شأن غزوة بدر الكبرى ، التى حدثت فى شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.

قال ابن إسحاق رحمه‌الله تعالى (ت ١٥١ ه‍) عقب ذكره لأحداث تلك الغزوة ، وذكر من شهدها من المسلمين والكفار : «فلما انقضى أمر بدر أنزل الله فيه من القرآن الأنفال بأسرها» (٢٢).

وأخرج البخارى رحمه‌الله تعالى عن سعيد بن جبير رحمه‌الله قلت لابن عباس رضى الله عنهما : «سورة الأنفال (٢٣)؟ قال :

نزلت فى بدر» (٢٤).

٢ ـ سورة الفتح : أورد العلماء أنها نزلت فى شأن الحديبية.

فعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : «أنزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة فى شأن الحديبية من أولها إلى آخرها» (٢٥).

٣ ـ سورة الحشر : ذكر المفسرون أنها نزلت فى بنى النضير.

فعن سعيد بن جبير رحمه‌الله تعالى قال :

«... قلت لابن عباس رضى الله عنهما : ... سورة الحشر؟ قال : نزلت فى بنى النضير» (٢٦).

وأما القسم الثانى : وهو المتعلق بالأسباب الخاصة ، فالمراد به الأسباب أو الحوادث التى نزلت فيها آية أو جملة من الآيات ، وهذا هو

٤١

الأعم الأغلب فى أسباب النزول ، وفيما يلى أمثلة لهذا النوع :

١ ـ ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب / ٢٣.

فقد أخرج مسلم ـ رحمه‌الله تعالى ـ عن ثابت قال : «قال أنس : عمّى الذى سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا ، قال : فشق عليه ، قال : أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيبت عنه ، وإن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرانى الله ما أصنع. قال :

فهاب أن يقول غيرها ، قال : فشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، قال : فاستقبل سعد ابن معاذ ، فقال له أنس : يا أبا عمرو أين؟

فقال : واها لريح الجنة أجده دون أحد. قال :

فقاتلهم حتى قتل ، قال : فوجد فى جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية قال : فقالت أخته عمتى الرّبيع بنت النضر :

فما عرفت أخى إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية :

(رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه» (٢٧).

٢ ـ ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر / ٩.

فقد أخرج البخارى ـ رحمه‌الله ـ عن أبى هريرة رضي الله عنه : «أن رجلا أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث إلى نسائه فقلن : ما معنا إلا الماء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يضم ـ أو يضيف ـ هذا؟

فقال رجل من الأنصار : أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمى ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ما عندنا إلا قوت صبيانى ، فقال :

هيئى طعامك ، وأصبحى سراجك ، ونومى صبيانك إذا أرادوا عشاء ، فهيأت طعامها ، وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ضحك الله الليلة ـ أو عجب ـ من فعالكما ، فأنزل الله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٨).

٤٢

فوائد معرفة أسباب النزول

قد عرفنا فيما سبق ما هو سبب النزول ، وما الذى يرجع إليه فى معرفته ، وما صيغته التى يرد بها ، وقد آن لنا أن نعرف ما هى الثمرة المرجوة ، والفائدة المأمولة من وراء هذا البحث.

الحق أن البحث فى سبب النزول وفوائد معرفته بحث مهم ، ولهذا نرى أن علماء الأمة قد أولوه عنايتهم كما سبقت الإشارة إليه فى كلام السيوطى ـ رحمه‌الله تعالى ـ فى بيان من أفرد هذا الموضوع بالبحث ، كما نرى واحدا من أعلام هؤلاء العلماء ، وهو بدر الدين الزركشى ـ رحمه‌الله تعالى ـ قد بدأ مصنفه القيم فى علوم القرآن الذى يعتبر عمدة فى هذا الفن ، وهو كتاب (البرهان فى علوم القرآن) (٢٩) ببحث هذا الموضوع ، فجعل النوع الأول مما بحثه فى كتابه من موضوعات : (معرفة أسباب النزول).

وإنه لمخطئ من يظن أنه ليس من وراء البحث فى أسباب النزول من فائدة ؛ إذ يبنى ظنه على أن هذا الموضوع من قبيل ما يجرى مجرى التاريخ الذى مرت أحداثه ، وانتهت ملابساته ، وعليه فإن معرفة سبب النزول لا تزيد عن كونها نوعا من الاطلاع والعلم المجرد بما وقع من أحداث ، وكان سببا فى نزول بعض الآيات.

ولا شك أن هذا الظن خاطئ ، بل لمعرفة أسباب النزول فى القرآن الكريم فوائد جليلة ، منها ما يلى :

أولا : بيان الحكمة الباعثة على تشريع كثير من الأحكام ، ومن ثم إدراك أن روح التشريع الإسلامى وجوهره يقوم على مراعاة هذا التشريع الحكيم لمصالح العباد فى معالجة ما يعرض لهم من أحداث ووقائع ، وأن مراعاة هذه المصالح أمر ينطلق من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده ، ورأفته بهم ، وتيسيره عليهم.

ولقد تجلت هذه الحكمة واضحة فيما ورد فى حادثة سبب نزول آية التيمم من جهة ، وفى النص عليها فى نفس الآية من جهة أخرى ، وهذه الآية هى قول الله عزوجل :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ

٤٣

وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة / ٦.

فعن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لى ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التماسه وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقالوا : أترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالناس ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء! قالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : فعاتبنى أبو بكر ، وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعننى بيده فى خاصرتى ، ولا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فخذى ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه : ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر قالت : فبعثنا البعير الذى كنت عليه فإذا العقد تحته» (٣٠).

والمقصود بآية التيمم هنا : هى آية المائدة التى مر ذكرها قبل قليل ، لأنه قد ورد فى نفس الباب عند البخارى رواية من طريق ابن وهب : عن عمرو عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فى نفس القصة جاء فى نهايتها قول أم المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ : «ثم إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيقظ وحضرت الصبح ـ أى صلاة الصبح ـ فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية فقال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبى بكر ، ما أنتم إلا بركة لهم».

وقد أشكل على العلماء المقصود بآية التيمم فى قول أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ وقد ساق ابن حجر ـ رحمه‌الله تعالى ـ هذا الإشكال من خلال مقولات العلماء فى المقصود بالآية ، ثم حقق أنها آية المائدة ، قال رحمه‌الله تعالى : «قال ابن العربى : هى معضلة ما وجدت لدائها من دواء ، لأنا لا نعلم أى الآيتين عنت عائشة ـ رضى الله عنها ـ قال ابن بطال : هى آية النساء (٣١) أو آية المائدة. وقال القرطبى : هى آية النساء ، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء ،

٤٤

وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء ، فيتجه تخصيصها بآية التيمم. وأورد الواحدى فى (أسباب النزول) (٣٢) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا ، وخفى على الجميع ما ظهر للبخارى من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد ، لرواية عمرو بن الحارث ، إذ صرح فيها بقوله : فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية» (٣٣).

ثانيا : تخصيص الحكم ـ فيما نزل بصيغة العموم ـ بصورة السبب التى نزل فيها ـ أى بالحادثة التى كان وقوعها سببا فى نزول الحكم ـ وذلك عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

ومعنى هذا الكلام : أن النص العام الوارد على سبب خاص لا يبقى على عمومه بعد نزوله على سببه الخاص ، بل يكون مقصورا على حالة هذا السبب ، بمعنى أن استفادة الحكم فى هذا السبب بذاته مما نزل تكون بطريق النص ، فإذا عمل بهذا الحكم فى حادثة أو حوادث تشابه حادثة صورة السبب كان استفادة الحكم فى هذه الحوادث المشابهة بطريق القياس لا بطريق النص ، ولكن هذا التخصيص مسألة خلافية سوف نعرض لها بالتفصيل عند بحث مسألة عموم اللفظ وخصوص السبب.

ثالثا : إذا كان اللفظ النازل فى سبب ما عاما ، وقام الدليل على تخصيصه ، فإن معرفة سبب النزول تجعل التخصيص الوارد قاصرا على ما عدا الحادثة التى كانت صورة السبب ، ذلك لأن صورة حادثة السبب لا يجوز إخراجها بالاجتهاد قياسا على صورة أخرى لا يجرى فيها الحكم الوارد فى ذلك النص ، ذلك أن دخول الحادثة التى هى صورة السبب فى اللفظ العام قطعى ، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد وهو ظنى.

مثال ذلك : ما ذكره المفسرون فى سبب نزول قول الله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) النور / ٢٣.

فقد أوردوا عن سعيد بن جبير رحمه‌الله تعالى ، وابن عباس رضى الله عنهما : أن هذه الآية نزلت فى رماة عائشة رضى الله عنها خاصة ، أو فيها وسائر أزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة (٣٤) وهو وعيد لهؤلاء الرماة ، عام فى عذابهم فى الدنيا والآخرة ، مما يفيد عدم قبول توبتهم ، ولكن هذا العموم قد خصص بقبول توبة من يقذف غيرهن من المؤمنات إذا تاب بدليل قول الله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا

٤٥

بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور / ٤ ، ٥.

فهذه الآية مخصّصة لعموم الآية السابقة ، ولكن لا ينبغى أن يقاس فى هذا التخصيص قبول توبة من يقذف عائشة رضى الله عنها أو إحدى أمهات المؤمنين على قبول توبة قاذف غيرهن ، لأن قذف أزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو صورة السبب التى نزل عليها الحكم فى قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) الآية ، وعليه فيمتنع أن تخرج صورة السبب من النص العام النازل عليها بالتخصيص الوارد فى الآية الثانية ، بل يقتصر هذا التخصيص على ما عدا صورة السبب ، فلا يكون لقاذف أزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم توبة.

قال السيوطى رحمه‌الله تعالى : «إن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته ، فإن دخول صورة السبب قطعى ، وإخراجها بالاجتهاد ممنوع ، كما حكى الإجماع عليه القاضى أبو بكر فى التقريب ، ولا التفات إلى من شذ فجوّز ذلك» (٣٥).

لكن الآية التى معنا قد تخرّج على اعتبار أن الوعيد الوارد فيها إنما هو لمن أصرّ على القذف ولم يتب ، وأن ذلك يكون فى حق القاذف المصرّ عموما سواء كان قذفه لأزواج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لغيرهن.

كما يمكن تخريجها على اعتبار أن الوعيد الوارد فيها خاص بمن قذف عائشة رضى الله عنها ، أو احدى أمهات المؤمنين رضى الله عنهن جميعا ، بعد نزول ما نزل فى شأن عائشة رضى الله عنها من القرآن.

قال ابن كثير رحمه‌الله تعالى : «وقد أجمع العلماء رحمهم‌الله قاطبة على أن من سبّها ـ يعنى بذلك عائشة رضى الله عنها ـ بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذى ذكر فى هذه الآية فإنه كافر ، لأنه معاند للقرآن وفى بقية أمهات المؤمنين قولان ، أصحهما :

أنهن كهى ، والله أعلم» (٣٦).

رابعا : من أهم فوائد معرفة أسباب النزول ، بل من دواعى هذه المعرفة والحاجة إليها : أنها تعين فى كثير من المواطن على فهم معنى الآيات ، وإزالة ما قد يبدو فيها من إشكال ، وبدون معرفة سبب النزول يمكن أن يخطئ المفسر فى فهم معنى الآية فيحمله على غير المراد ، وقد لا يعرفه على الإطلاق ، وفى هذا من الخطورة ما فيه ، لأن الجهل فى هذا الصدد يفتح الباب على مصراعيه أمام

٤٦

الفتاوى الخاطئة ، ويلبس على المؤمنين أمر دينهم ، ولهذا نبه العلماء على أهمية معرفة سبب النزول من هذه الحيثية.

فقد أشار الواحدى ـ رحمه‌الله تعالى ـ إلى امتناع معرفة تفسير الآية ، ومعرفة ما تعنيه ، دون الوقوف على قصتها والعلم بسبب النزول (٣٧).

وقال ابن دقيق العيد رحمه‌الله تعالى :

«بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى القرآن» (٣٨).

وقال ابن تيمية ـ رحمه‌الله تعالى ـ :

«معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب» (٣٩).

وهناك أمثلة كثيرة من أسباب النزول توضح كيفية إزالة الإشكال فى فهم كثير من آيات القرآن الكريم ، التى لم يكن يتأتى فهم معناها بدون معرفة هذه الأسباب.

ومن بين الآيات التى يتضح فيها ذلك ما يلي :

١ ـ قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) البقرة / ١٥٨.

فإن ظاهر هذه الآية لم ينص على فرضية السعى بين الصفا والمروة ، مما يفهم منه أن السعى بينهما مباح ، من شاء فعله ، ومن شاء تركه ولا حرج عليه ، لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الإلزام ، وهذا الفهم قد تبادر إلى عروة بن الزبير بن العوام (ت ٩٤ ه‍) رحمه‌الله تعالى ، وصرّح به لخالته أم المؤمنين الصديقة عائشة ـ رضى الله عنها ـ ، فلما سمعت منه ذلك بينت له ما تفيده الآية الكريمة على الوجه الصحيح ، وكان ذلك ببيان سبب نزولها. وقد أوردت الصحاح قصة طويلة فى بيان ذلك نوردها بتمامها لما فيها من الفائدة.

فعن ابن شهاب الزهرى رحمه‌الله تعالى :

قال عروة : «سألت عائشة رضى الله عنها ، فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فو الله ما على أحد جناح ألّا يطّوف بالصفا والمروة؟

قالت : بئس ما قلت يا ابن أختى ، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت : لا جناح عليه ألّا يتطوف بهما ، ولكنها أنزلت فى الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية ، التى كانوا يعبدونها عند المشلل ، فكان من أهلّ يتحرج أن يطّوف بالصفا والمروة ، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، قالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطّوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية ، قالت عائشة رضى الله

٤٧

عنها : وقد سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن ، فقال : إن هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس ـ إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة ـ كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة فى القرآن قالوا : يا رسول الله ، كنّا نطوف بالصفا والمروة ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن نطّوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية ، قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت فى الفريقين كليهما : فى الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا فى الجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما فى الإسلام ، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت» (٤٠).

٢ ـ قول الله سبحانه : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ)

(الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) الآية ، الطلاق / ٤.

فقد أشكل معنى هذا الشرط (إن ارتبتم) على البعض ، حتى قال الظاهرية (٤١) بأن الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب (٤٢) وسبب ذلك أنهم فهموا أن الشرط مرتبط بالحيض ، فحسبوا أن المعنى : إن ارتبتم فى حيضهن.

ولكن ما ورد فى سبب نزول هذه الآية يزيل هذا الإشكال ، لأنه يجعل الارتياب فى حكم عدة الآيسة وليس فى حيضها.

فقد أخرج الحاكم (٤٣) وصححه عن أبىّ ابن كعب رضي الله عنه قال : «لما نزلت الآية التى فى سورة البقرة فى عدد من عدد النساء ، قالوا :

قد بقى من عدد النساء لم يذكرن ، الصغار والكبار ، ولا من انقطعت عنهن الحيض ، وذوات الأحمال ، فأنزل الله عزوجل :

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ)».

٣ ـ قول الله عزوجل : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) آل عمران / ١٨٨.

فقد أشكل أمر هذه الآية على مروان بن الحكم ، فأرسل إلى عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما ، فأجابه فيها ببيان سبب النزول ، الذى أزال الإشكال واللبس.

٤٨

فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : أن مروان ابن الحكم قال : «اذهب يا رافع ـ لبوّابه ـ إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى ـ فى رواية مسلم : فرح بما أتى ـ وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون ، قال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ، إنما أنزلت هذه فى أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) وتلا :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ثم قال ابن عباس : سألهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شىء فكتموه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أنهم أخبروه بما قد سألهم عنه فاستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه» (٤٤).

٤ ـ قول الله تبارك وتعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) البقرة / ١٨٩.

فإن هذه الآية يصعب التوصل إلى المقصود فيها من قول الله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) إلا بمعرفة سبب نزولها ، أو فى أى شىء نزلت.

وبالفعل فإنه قد ورد سبب يوضح المعنى المراد ، أخرج البخارى (٤٥) عن أبى إسحاق السبيعى قال : سمعت البراء رضي الله عنه يقول : نزلت هذه الآية فينا ، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ، ولكن من ظهورها (٤٦) فجاء رجل من الأنصار ، فدخل من قبل بابه ، فكأنه عيّر بذلك فنزلت :

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها).

خامسا : ومن الفوائد المترتبة على معرفة سبب النزول : ما ذكره الزركشى من دفع توهم الحصر المتبادر من بعض الآيات ، وقد فصل ذلك بقوله : (قال الشافعى ما معناه فى معنى قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ الآية ١٤٥ من سورة الأنعام : إن الكفار لما حرموا ما أحل الله ، وأحلوا ما حرم الله ، وكانوا على المضادة

٤٩

والمحادة ، جاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال : لا حلال إلا ما حرمتموه ، ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول :

لا تأكل اليوم حلاوة ، فتقول لا آكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة ، لا النفى والإثبات على الحقيقة ، فكأنه قال : لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ولم يقصد حل ما وراءه ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.

قال إمام الحرمين : و «هذا فى غاية الحسن ، ولو لا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك فى حصر المحرمات فيما ذكر فى الآية» أ. ه. ما قاله الزركشى (٤٧).

قلت : وهذا يتوقف على ورود سبب صحيح فى نزول الآية ، يقضى بأن الكفار أحلوا ما حرمته تلك الآية فجاءت الآية ردا عليهم ، ولكن الزركشى لم يورد مثل هذا السبب صريحا ، كما أن السيوطى فى نقله ذلك عنه لم يصرح بهذا السبب كذلك ، بل نقل عبارة الزركشى بنصها كما ذكرها صاحبها فى البرهان.

٥٠

عموم اللفظ وخصوص السبب

عنى بتحقيق هذه المسألة كثير من العلماء ، ومن أشدهم عناية بذلك الأصوليون والمفسرون ، أما الأولون فلأن بحثهم فى مجالهم يقوم على الاستدلال بألفاظ القرآن الكريم على الأحكام الشرعية ، وأما الآخرون فلأن البحث فى ذلك يساعدهم على فهم المعنى المراد من الآيات القرآنية.

واستقراء ما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب فى ضوء مطابقة ألفاظ النازل لأفراد السبب من حيث التعميم أو التخصيص ينكشف عن أربع صور عقلية ، لأن اللفظ النازل إما عام وإما خاص ، والسبب الذى نزل عليه اللفظ إما عام وإما خاص كذلك ، فتنتج هذه الصور التى نذكرها فيما يلى :

أولا : قد يكون سبب النزول عاما ، واللفظ الذى نزل عاما كذلك ، ولا إشكال فى هذه الصورة ، لأن الحكم الوارد فى الآية عام ، وهو ثابت لكل أفراد السبب العام بطريق النص ، وهذا محل اتفاق بين العلماء نظرا للتطابق بين اللفظ والسبب.

مثال ذلك : ما ورد فى سبب نزول قول الله تبارك وتعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة / ٢٢٠.

فعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال :

«لما أنزل الله عزوجل : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ـ الإسراء / ٣٤ ـ و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية ـ النساء / ١٠ ـ انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل من طعامه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله عزوجل :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم» (٤٨).

ثانيا : قد يكون سبب النزول خاصا واللفظ الذى نزل فى شأنه خاصا كذلك ، وهذا مثل سابقه لا إشكال فيه كذلك ، لأن الحكم الخاص الوارد فى الآية ثابت للفرد الخاص الذى نزل فى شأنه ، وذلك للتطبيق

٥١

بينهما فى جهة الخصوص ولا خلاف بين العلماء فى ذلك.

مثال ذلك : ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) إلى آخر سورة المسد.

فقد أخرج البخارى (٤٩) عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : «لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا ، فجعل ينادى : يا بنى فهر ، يا بنى عدى ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقىّ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقا ، قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ).

ثالثا : قد يكون السبب عاما واللفظ خاصا : «وتلك صورة فرضية غير واقعة فى القرآن ، لأنها تتنافى وبلاغته ، لعدم وفاء اللفظ للسبب ، إذ السبب بمنزلة السؤال ، واللفظ المنزل بمنزلة الجواب ، وقصور الجواب عن مطلوب السؤال مخل بالبلاغة» (٥٠).

رابعا : قد يكون سبب النزول خاصا ، واللفظ الذى نزل فى شأنه عاما ، وهذه الصورة هى موضع خلاف العلماء ، وقد تكررت هذه الصورة فى القرآن الكريم فى أكثر من سورة.

واختلاف العلماء فى شأن هذه الصورة يدور حول ما يعتبر عندهم ، ويعتد به من الأمرين :

هل تكون العبرة بعموم اللفظ؟ وعندئذ يكون اللفظ العام باقيا على عمومه ، فيتناول أفراد السبب الخاص وكل ما يكون مشابها له من أفراد غيره ، أو تكون العبرة بخصوص السبب؟ فلا يكون اللفظ باقيا على عمومه بل يكون مقصورا على أفراد السبب الخاص ، ولا يدخل ما سوى ذلك فى الحكم إلا بدليل آخر غير النص.

ولنذكر أولا مثالا تتضح فيه صورة هذا الخلاف ، ثم نذكر ما قاله العلماء فى هذا الصدد مقرونا بالأدلة ، ثم نبين أى القولين أولى بالاعتبار.

ففي الصحيح : عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن السحماء ، فقال رسول الله

٥٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة وإلا حدّ فى ظهرك». قال :

فقال هلال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته ، أيلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «البينة وإلا فحد فى ظهرك» قال : فقال هلال : والذى بعثك بالحق إنى لصادق ، ولينزلن الله فى أمرى ما يبرئ ظهرى من الحد ، فنزل : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) فقرأ حتى بلغ : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) النور / من الآية : ٦ ـ ٩ قال : فانصرف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليهما فجاءا ، فقام هلال بن أمية فشهد ، والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة : (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قالوا لها : إنها موجبة فقال ابن عباس : فتلكأت ونكست حتى ظننا أنها سترجع ، فقالت : لا أفضح قومى سائر اليوم ، فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين (٥١) سابغ الأليتين (٥٢) خدلج الساقين (٥٣) فهو لشريك بن السحماء». فجاءت به كذلك ، فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لو لا ما مضى من كتاب الله عزوجل لكان لنا ولها شأن» (٥٤).

فالحديث كما هو واضح يصرح بأن سبب النزول هنا خاص ، وهو قذف هلال بن أمية زوجته بشريك بن السحماء ، والآيات المذكورة نزلت بحكم اللعان بلفظ عام ، لأنها مبدوءة بقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) الآية ، واسم الموصول من صيغ العموم وموضوع خلاف العلماء هنا هو :

هل لفظ الآية العام يتناول بنصه كل قاذف لزوجته من غير شهود يشهدون معه؟ ولا حاجة مع هذا النص إلى أدلة أخرى من اجتهاد أو قياس فى تعميم هذا الحكم على غير هلال بن أمية ، أى أن العبرة بعموم اللفظ فى الآيات ، لا بخصوص السبب النازلة عليه ، أو أن لفظ الآيات العام قاصر فى حكمه على سببه الخاص ، وهو قذف هلال بن أمية امرأته ، وأما من عداه ممن يفعل فعله فلا ينطبق عليه الحكم من خلال لفظ الآيات ، وإنما ينطبق عليه بدليل آخر هو القياس ، والعبرة عندئذ تكون بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؟ رأيان للعلماء : ذهب إلى الأول منهما جمهور العلماء ، وذهب إلى الثانى فريق منهم.

وقبل أن نستعرض أدلة كل فريق ينبغى التأكيد على أن الجميع متفقون على تعميم أحكام الآيات التى نزلت بألفاظ العموم ، وإن كان سببها خاصا ، ما دامت قد خلت عن قرينة تمنع من هذا التعميم ، بمعنى أن اللفظ العام

٥٣

الذى نزل بحكم ما على سبب خاص لا خلاف فى تعميم حكمه على كل الحالات التى يتناولها ، من أفراد السبب وغيرها ، لكن الخلاف فى كيفية استفادة الحكم بالنسبة لأفراد غير السبب (٥٥) : فالجمهور يرى أن استفادة الحكم فيها بطريق النص كما فى أفراد السبب ، أما غيرهم فيرون أن الحكم فى صورة غير السبب يكون بطريق القياس وليس بالنص ، بمعنى أنهم لا يقولون بامتناع ثبوت الحكم فى غير صورة السبب مما هو من نوعه بل يقولون بتعديته إليه بطريق القياس ، أما أدلتهم فهى كما يلى :

أولا : أدلة الجمهور :

(أ) أن المعوّل فى الاحتجاج على لفظ الشارع وحده ـ أى النص القرآنى ـ لا على السؤال أو السبب الذى نزلت الآيات فى شأنه ؛ لهذا نرى أن اللفظ القرآنى فى بعض الأحوال قد يعدل بالجواب عن سنن السؤال وذلك لحكمة وفائدة فى مجال التوجيه والتربية ، كأن يرد السؤال عن شىء بذاته ، فيوجه الجواب السائل إلى شىء آخر هو أولى بالاهتمام وهو الذى كان من المفروض أن تتحرّى معرفته ، وذلك كما فى قول الله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) البقرة / ٢١٥.

فالسؤال فى الآية قد توخى معرفة ما ينبغى أن ينفق ، والجواب توخى الإعلام بالجهات التى ينبغى أن توجه إليها النفقة لأنه أنسب فى هذا الموضع.

(ب) أن اللفظ القرآنى عام فيجب بقاؤه على عمومه ، لأن الأصل فى الألفاظ حملها على معانيها الأصلية المتبادرة ، ولا يجوز صرف اللفظ عن معناه الذى وضع له إلا لقرينة تمنع بقاءه على هذا الأصل ، وكون اللفظ القرآنى قد نزل على سبب خاص ، فذلك ليس قرينة على التخصيص ، لأنه لا مانع أن يكون السبب الخاص وسيلة لبيان حكمه ، وحكم كل ما هو على شاكلته ، بل إن العدول ـ فى ذاته ـ عن ربط الحكم بالخاص إلى ربطه بالعام دليل على قصد العموم.

(ج) أن الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ ومن بعدهم قد تمسكوا ـ فيما نزل على أسباب خاصة ـ بما أفادته ألفاظ القرآن النازل من العموم ، واحتجوا بذلك على وقائع لم تكن أسبابا لنزول الآيات ، بل شابهتها ، وذلك من غير حاجة إلى دليل آخر كالقياس ونحوه.

فنراهم قد استدلوا على حكم الظهار ، وما

٥٤

ينبغى أن يفعله من يظاهر من زوجته ـ عند العود ـ من الإتيان بالكفارة : من تحرير الرقبة ، أو الصيام ، أو الإطعام ، وأن ذلك لكل مظاهر. أقول : استدلوا على ذلك بعموم ما ورد فى قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) المجادلة / ٣ ، ٤. مع أن السبب فى نزول هذه الآيات هو فعل أوس بن الصامت رضي الله عنه ، لما ظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة كما سيأتى بيانه فى موضع قادم إن شاء الله تعالى.

والصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ من العرب الخلّص ، الذين يعرفون بسليقتهم ما تفيده الألفاظ العربية ، ولو كان ورود العام على سبب خاص يستلزم قصره عليه ـ فيما عهدوه من لغتهم ـ لما ذهبوا إلى هذا التعميم ولوقفوا عند مقتضى التخصيص ، ولكن ذلك لم ينقل عنهم.

بل أصرح من هذا : أنه قد ورد عنهم ما ينص على هذا التعميم ، قال ابن جرير الطبرى رحمه‌الله تعالى : «حدثنى محمد بن أبى معشر ، قال : أخبرنى أبو معشر نجيح ، قال : سمعت سعيدا المقبرى يذاكر محمد بن كعب ، فقال : إن فى بعض الكتب : إن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر ، لبسوا منسوك الضأن من اللين ، يشترون الدنيا بالدين ، قال الله تبارك وتعالى :

أعلى يجترئون ، وبى يغترون؟ وعزتى لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب : هذا فى كتاب الله جل ثناؤه ، فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله؟ قال :

قول الله عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) البقرة / ٢٠٤ ، ٢٠٥ فقال سعيد : قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية ، فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل فى الرجل ثم تكون عامة بعد» (٥٦).

وشبيه بذلك ما صرح فيه عقب نزول بعض الآيات باعتبار عموم لفظه ، على الرغم من خصوص سببه كما جاء فى الحديث التالى :

عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام ، فأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ

٥٥

وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ـ سورة هود / ١١٤ فقال الرجل :

ألى هذه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لك ولمن عمل بها من أمتى». وفى بعض الروايات : فقال أصحابه : يا رسول الله ، ألهذا خاصة ، أم للناس عامة؟ فقال : «بل للناس عامة» (٥٧).

ثانيا : أدلة المخالفين :

أما المخالفون : فليس لهم أدلة سوى بعض المحاذير التى يرون أنها تترتب على القول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهى محاذير يمكن الرد عليها جميعا ، ومن بين هذه المحاذير :

(أ) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ : ألا يكون هناك فائدة لأسباب النزول ، أو لبيانها على الرغم من اجتهاد العلماء فى نقل هذه الأسباب ، واهتمام علماء التفسير بها ، ولا تظهر الفائدة من ذلك إلا بالقول بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

ويمكن الرد على ذلك : بأن لمعرفة أسباب النزول كثيرا من الفوائد الهامة غير هذه الفائدة التى أوردها هؤلاء مثل معرفة حكمة التشريع ، وإزالة ما قد يكون فى الآيات من إشكال ، وغير ذلك مما عالجناه فى موضع آخر.

(ب) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ :

أنه يحنث من قال : والله لا آكل ، جوابا لمن قال : كل فاكهة. إذا حدث وأكل خبزا ، لأن قوله : لا آكل. يعم كل أكل ، مع أن الفقهاء على أنه لا يحنث ، فثبت أن العبرة بخصوص السبب ، لا بعموم اللفظ.

والرد على ذلك : أن التخصيص فى هذا المثال إنما جاء من العرف ، الذى يقضى بأن الحالف فى مثل هذه الحالة لا يقصد نفى الأكل مطلقا ، وإنما يقصد نفى أكل الفاكهة ، فالتخصيص جاء من قرينة قضت به ، لا من خصوص السبب ، ولا نزاع فى ذلك ، إنما النزاع عند عدم القرينة.

(ج) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ :

أن لا يكون لربط نزول الآية بسببها فائدة ، لأن هذا الربط دليل على أن العبرة بخصوص السبب ، ولو لا ذلك كانت الآيات تنزل إما قبل حدوث هذه الأسباب ، أو بعدها بوقت طويل ، حتى ينفك هذا الارتباط ، فدل ذلك التعاقب على أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

والرد على ذلك : أن هذا التعاقب بين السبب والآيات النازلة فى شأنه يؤدى إلى تثبيت الحكم الشرعى وإظهار حكمة التشريع ، وتوضيح المراد من الآيات عند ما يشكل

٥٦

معناها ، وليس المراد منه قصر الحكم على سببه الخاص.

(د) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ :

جواز إخراج صورة السبب من اللفظ العام إذا ورد ما يخصصه لأنه حينئذ كأى فرد من أفراده ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز إخراج صورة السبب من العام فى هذه الحالة فدل ذلك على أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

ويجاب عن ذلك : بأن عدم جواز إخراج صورة السبب بما ورد من التخصيص إنما هو لمزية فى صورة السبب ليست فى سائر الأفراد ، وهى مع ذلك تدخل دخولا أوليا ، وقد عولج ذلك بالتفصيل فى بيان فوائد معرفة أسباب النزول.

(ه) أنه يترتب على القول بعموم اللفظ :

عدم مطابقة اللفظ العام الذى هو بمنزلة الجواب للسبب الذى هو بمنزلة السؤال ، لأن السبب خاص واللفظ عام ، فلا تطابق بينهما ، مع أن التطابق فى مثل ذلك ضرورى ، انطلاقا من قواعد البلاغة ، وإذا لم يتحقق هذا التطابق يكون مخلا ببلاغة القرآن ، وهو عندئذ نقص يتنزه عنه القرآن الكريم.

والجواب على ذلك : أن التطابق المنشود يتحقق فى حالة عموم اللفظ ، لأنه يتضمن بيان حكم السبب الخاص ، وهذا قدر متيقن ، ويزيد عليه بيان حكم ما يشابهه ، ولا يخل بأعلى مراتب البلاغة أن يكون اللفظ العام جوابا شاملا للسبب ولغيره ، بل إن هذه مزية ، لأنها فائدة زائدة ترفع من شأن الكلام ، وتزيد من قيمته.

وحيث زالت هذه المحاذير بما لا تكلف فيه : فإنه لا يبقى لهؤلاء دليل على رأيهم ، وتبقى أدلة الجمهور سالمة ناطقة بصواب ما ذهبوا إليه ، وهو أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وإذا كان لهذا الخلاف من ثمرة : فإن الثمرة تنحصر فى تحديد مأخذ الحكم فى غير صورة السبب الخاص وهى ـ كما قدمنا ـ مندرجة تحت الحكم قطعا ، ولكن جماهير العلماء يرون مأخذ الحكم فيها بطريق النص نفسه بينما يرى البعض مأخذه بطريق القياس ، فالحكم فى غير صورة السبب قائم فى كلتا الحالتين على دليل شرعى (٥٨).

٥٧

تعدد الروايات فى سبب النزول

كثيرا ما يجد المفسر نفسه ـ فيما يتعلق بمعانى الآيات ، أو بملابسات نزولها ـ فى مواجهة روايات بأسباب متعددة لنزول الآية الواحدة ، وسبيله عندئذ أن ينظر فى الصيغ التى وردت بها تلك الروايات والقرائن التى تصاحبها ، وهذه الصيغ أو تلك القرائن هى التى تحدد إمكان الجمع أو الترجيح بين هذه الروايات المتعددة ، وقد تتبع العلماء أوجه هذا التعدد فوجدوها تأتى على النحو التالى :

(أ) أن تكون الصيغ الواردة ليست نصا فى سبب النزول : بأن يقول بعضهم : (نزلت هذه الآية فى كذا) ويذكر شيئا من مضمونها ، ويقول الآخر : (نزلت هذه الآية فى كذا) ويذكر شيئا آخر مما يحتمله مضمون الآية.

فهاتان الصيغتان تقبلان معا على أنهما للتفسير والبيان ، وليس لبيان سبب النزول ، وذلك ما لم تقم قرينة على صيغة منهما تعينها سببا لنزول الآية ، فلو قامت هذه القرينة تعينت تلك الصيغة سببا للنزول دون غيرها.

مثال ذلك : قول الله تبارك وتعالى :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) سورة البقرة / ٢٧٤.

فقد ورد فيها بيان لكل من ابن عباس رضى الله عنهما ، وقتادة بن دعامة السدوسى (ت ١١٧ ه‍) رحمه‌الله تعالى ، فلو تأملنا فيها قول ابن عباس رضى الله عنهما : إنها فى الذين يعلفون الخيل فى سبيل الله تعالى.

وكذلك قول قتادة : إنها فيمن أنفقوا فى سبيل الله الذى افترض عليهم فى غير سرف ولا إملاق ولا تبذير (٥٩) ؛ لكان كل من القولين صحيحا ، لأن الآية تتضمن هذا وذاك ، ولا منافاة بينهما.

ومن هذا القبيل : ما يمكن أن يقال عند تدبر قول الله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) آل عمران / ١٦٩ ، ١٧٠.

٥٨

فلو قال قائل : إن هذه الآية نزلت فى بيان منزلة الشهداء عند الله تعالى ، وأنها من أعلى المنازل فى الجنة اعتبارا بما فى أول الآيات ، وقال آخر : نزلت هذه الآيات فى الترغيب فى الجهاد لنيل الشهادة اعتبارا بما فى آخرها.

لكان كل من القولين صحيحا ، لأن الآيات تتضمن هذا وذاك ، ولا تعارض بينهما.

(ب) أن تكون إحدى الصيغتين نصا فى سبب النزول : بمعنى أن يكون فيها ما يدل على ذلك مثل فاء التعقيب ، وتكون الأخرى ليست نصا فى السببية ، بل جاءت بعبارة :

نزلت الآية فى كذا ، فإن الصيغة الأولى عندئذ تعتمد سببا لنزول الآية ، أما الثانية فتحمل على أنها نوع من التفسير أو الاستنباط من الآية حسب فهم من سيقت عنه.

مثال ذلك : قول الله تبارك وتعالى :

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) البقرة / ١٩٧.

فقد أخرج البخارى رحمه‌الله تعالى (٦٠) عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ، ويقولون :

نحن المتوكلون ، فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)».

كما ورد فى الآية كذلك أنها : فى الأمر بأخذ الزاد عند السفر ، والإخبار والإعلام بأن خير ما يتزود به هو تقوى الله تعالى ، حكاه الإمام عبد الرحمن بن الجوزى (ت ٥٩٧ ه‍) عن أبى إسحاق الزجاج (ت ٣١١) رحمه‌الله تعالى (٦١).

فحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعتبر سببا فى نزول الآية لصراحة عبارته فى ذلك ، وأما قول الزجاج فإنه يحمل على تفسير الآية.

(ج) أن يأتى فى الآية روايتان : وتكون كل منهما نصا فى سبب نزولها ، ولكن إحداهما إسنادها صحيح دون

الأخرى ، فالمعتمد عندئذ فى سبب النزول هو الرواية التى صح إسنادها.

مثال ذلك : ما ورد فى سبب نزول قول الله : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) سورة الضحى / ١ ـ ٥.

فقد أخرج البخارى رحمه‌الله تعالى (٦٢) عن جندب بن سفيان رضي الله عنه ، قال : «اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فجاءت امرأة ـ أى من الكفار ـ فقالت : يا محمد إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره

٥٩

قربك منذ ليلتين أو ثلاثا ، فأنزل الله عزوجل : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)».

وروى الواحدى (٦٣) عن حفص بن سعيد القرشى ، قال : حدثتنى أمى عن أمها خولة ، وكانت خادمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «أن جروا دخل البيت ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياما لا ينزل عليه الوحى ، فقال : يا خولة ما حدث فى بيتى؟ جبريل عليه‌السلام لا يأتينى ، قالت خولة ، لو هيأت البيت وكنسبته فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا شىء ثقيل ، فلم أزل حتى أخرجته فإذا جرو ميت ، فأخذته فألقيته خلف الجدار ، فجاء نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترعد لحياه ، وكان إذا نزل عليه الوحى استقبلته الرعدة ، فقال : يا خولة دثرينى.

فأنزل الله تعالى : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)».

وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه‌الله تعالى أن هذه القصة رواها الطبرانى بإسناد فيه من لا يعرف ، ثم قال : «وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت السرير مشهورة ، لكن كونها سبب نزول الآية غريب ، بل شاذ مردود بما فى الصحيح ، والله أعلم» (٦٤).

(د) أن يأتى فى الآية روايتان صحيحتان :

وكل منهما نص فى سبب نزولها ، لكن فى إحداهما ما يرجحها على الأخرى مثل كونها أصح من الأخرى ، أو أن راويها كان حاضرا مشاهدا للقصة بخلاف الآخر ، فعندئذ يؤخذ فى سبب النزول بالرواية الراجحة دون الرواية المرجوحة.

مثال ذلك : ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) الإسراء / ٨٥.

فقد أخرج البخارى (٦٥) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : «بينا أنا مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حرث ، وهو متكئ على عسيب (٦٦) ـ إذ مر اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقال : ما رابكم إليه؟ ـ وقال بعضهم : لا يستقبلكم بشيء تكرهونه ـ فقالوا : سلوه ، فسألوه عن الروح ، فأمسك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامى ، فلما نزل الوحى قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)».

وأخرج الترمذى (٦٧) وصححه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : «قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل ، فقالوا : سلوه عن الروح ، قال : فسألوه عن

٦٠