الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

معجزة كما قال الرافعى ولكنّها إرهاص بالمعجزة التى تجلّت فى القرآن الكريم ، كما عدّ الرافعى نهضة الأمة العربية بعد ضياعها فى العصر الجاهلى وامتداد دولها شرقا وغربا مظهرا من مظاهر الإعجاز القرآنى فى تربية النفوس ، وحفز السلوك إلى المثل الأعلى ، والإعجاز بهذه الفتوح لا يقف عند الجاهلين من أهل مكة لأنّهم لم يروا ما جدّ من الفتوح فيما بعد ، ولكنه شهادة لدوام الإعجاز لدى الخلف بعد انقضاء عهد السلف.

وقد جاء من المؤلفين فى البيان القرآنى وإعجازه بعد وفاة الرافعى من ظهر فى نتاجهم العلمى أثر الإعجاز كما قرر الرافعى من قبل ، فكان الرجل بذلك قائد كتيبة علمية وجهت نشاطها إلى حقل القرآن ، وأحرزت فخار النصر ورجعت بالأسلاب ، (وبعضهم ـ ولا أدرى لما ذا ـ لم يشيروا إلى كتاب الرافعى الذى استقوا من نبعه وارتووا من مائه ، ولو أشاروا إليه لكان ذلك أدلّ على منزعهم الخلقى قبل أن يدل على فهمهم لأصول البحث العلمى ، إذ يتسمون بالأمانة العلمية ، ولا أنتقل إلى محاولة من رأى أن يعارض الرافعى بعد أن استقى من نبعه ، ليقول إنه غير متأثر به ، وللقراء عقول تعرف انحرافات الأهواء ، وتستّر الميول).

عبد الله عفيفى

كان الأستاذ عبد الله عفيفى من كبار أدباء عصره ، وقد ألقى محاضرات على طلبة كلية الشريعة فى الأدب العربى ، جمعها تحت عنوان (زهرات منثورة) وفيه خص القرآن الكريم والحديث النبوى بتحليل دقيق ، وتعرّض لحديث الإعجاز القرآنى فبسطه بسطا شافيا ، ننقل هنا خلاصته.

ذكر الأستاذ أوجها كثيرة للإعجاز فى مقدمتها هذه القوّة الروحية التى تسيطر على المشاعر ، وتأخذ بالألباب ، وهو مسبوق فى هذا الوجه بالأستاذ محمد فريد وجدى ، وقد بسطنا القول فيه من قبل.

أما الوجه الثانى من الإعجاز فقد قال فيه : إنّ العرب لم يكونوا يحسنون من فنون النثر إلا الأسلوب الخطابى الذى يعتمد على التأثير فى النفس باللّفظ الفخم والقول المردد ، ولكنهم لم يكونوا من كثير من الأسلوب المنطقى الذى ينتقل من المقدمات إلى النتائج ، وينفذ من المعلوم إلى المجهول ، أمّا الأسلوب العلمى الذى تساق فيه الحقائق العلمية من

٦٨١

أيسر السبل ، وأقرب الموارد ، فذلك لم يكونوا منه فى شىء ، فجاء القرآن ليواجههم بالأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى معا فى سلاسل مفرغة الحلقات ، محكمة الصوغ ، لا وهى بها ، ولا انقطاع لها ، فوقفهم بذلك بين شعاب متشابكة لا يستطيعون النفاذ إلى مكنونها (٥).

وقد استشهد الأستاذ لذلك بالآيات الست الأولى من سورة الحج ، وبيّن ما بها من أدلة عقلية ، وأفكار علمية بيانا شافيا ثم قرنها بأفصح خطبة قيلت فى العصر الجاهلى وهى خطبة قس بن ساعدة الأيادى التى يقول فيها : «ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا ، أم تركوا هناك فناموا» ؛ ليؤكد أن الخطيب الجاهلى قد اعتمد على التأثير العاطفى وحده ، أما آيات القرآن فقد جمعت العاطفة والعقل والعلم فى أسلوب سهل ميسور ، وأزيد على ذلك بأنها جمعت من التصوير البيانى ما لم يعهد من قبل ، ويتجلّى ذلك فى قوله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٦)

وبعد أن شرح الأستاذ الآيات شرحا أدبيا مصوّرا ما تتضمنه من تفوق البلاغة الرفيعة قال :

«هذا هو الأسلوب الخطابى الذى بلغ الغاية العليا بكل ما فى الخطابة من تأثير ، فإذا ملأت منه يدك ، وروّيت نفسك فاستمع حديث المنطق والعلم فى قوله جلّ شأنه (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٧) إلى آخر الآية ، فقد ساق الله دليلين لا يقبلان الشك ، فى الوجود بعد الهمود ، والحياة بعد الممات ، وفى الحالتين استحال التراب بما فيه من الحياة الكامنة ، إلى خلق حى يزداد على الأيام نموا وسموا ، فتأمل كيف كشف الله حجاب العلم فى قوله تعالى : (مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) (٨) فهو سبحانه وتعالى يسقط هذه المضغ من الأرحام ، ليشرح للإنسان كيف كانت أوّليته ، ففي هذه الآيات بسط لأدوار التكوين الإنسانى بما لا يمكن للعرب أن يأتوا بمثله ، لأنّه أتاهم بعلم ما لا يعلمون ، ومن الدقة البديعة فى الأسلوب

٦٨٢

العلمى تعبيره عزوجل عن تضام ذرات الأرض المتشابهة ، واختمارها بعد الحرث والبذر والرى ، بقوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (٩) ثم انظر إلى ما وصل إليه المنطق من جمع الأدلة وسياق المدلول ، أو تقديم الأمثلة وتأخير الدعوى فى قوله تعالى بعد أن ساق الدليلين المنطقيّين (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١٠) وهذا كلّه وأشباهه ممّا لا قبل للعرب به ، ولا طوق لهم بتحديه.

هذا لباب ما قاله الأستاذ عبد الله عفيفى ، وكان له صدى بعيد بين الدارسين ، وطبيعى أن يلقى معارضة من ذوى النقد فالآراء لا تستقرّ دون معارضة يتبعها التمحيص ، وقد عارضه الأستاذ الكبير محمود مصطفى أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية فذكر أن العرب كانت تعرف هذين اللونين من الأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى ، والدليل على ذلك أنّهم لو كانوا يجهلونهما ما كان لهما وقع فى نفوسهم ، لأن الناس أعداء ما جهلوا (١١) ، وقد ساق خطبة منحولة قيلت على لسان قبيصة بن نعيم حين وفد على كسرى ، وألفاظ الخطبة وترتيبها يدلّ على إسلاميتها ، وأنّ المعانى مما جاء به القرآن الكريم ، هذا من ناحية ، أما الناحية الأخرى فإنّ خطبة قبيصة المنحولة تخلو من الأسلوب العلمى الذى أشار إليه الأستاذ عبد الله عفيفى ، فكيف يقال : إنّ العرب كانت تعرف هذين الأسلوبين ، أما القول بأن العرب لو كانوا يجهلون هذا الأسلوب ما قبلوه فممّا لا يستقيم مع النظر الصحيح ؛ لأنّ الجديد الطريف لا يرفض بداهة عند ذوى العقول.

وقد جاء عصرنا الحاضر بفنون من القول لم تكن معروفة فى الأدب العربى مثل الشعر التمثيلى ، فلاقت الترحيب المشجّع ، وما زال الجديد يفد كلّ يوم بثماره المشتهاة.

أما الوجه الثالث من وجوه الإعجاز عند الأستاذ عبد الله عفيفى فهو الإفاضة فيما كان يجهله العرب من أحداث التاريخ من قبل ومن بعد ، فأخبار الأمم السابقة لم تكن معروفة لدى العرب ، وقد قال الله عزوجل (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (١٢) ولو

٦٨٣

كان قوم الرسول يعلمون شيئا من هذه الأنباء لصاحوا به ، نحن نعلم ، ولكن كان قصاراهم أن يقولوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (١٣)

وندع أخبار التاريخ إلى ما استفاض به القرآن من أمور التشريع ، فقد كان العرب فى جاهليتهم لا ينزعون إلى شريعة مفروضة فجاءهم القرآن من جانب التشريع بما دهشوا ، كذلك لم يكونوا يعرفون شيئا عن المعاد وأمور البعث والحساب والملائكة والجن والجنة والنار فأتى لهم بما يجهلون ، ثم هذا التصوير الأدبى الرائع الذى أعجزهم كل الإعجاز فى مثل قول الله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ). (١٤)

ولم يسق الأستاذ هذه الآيات مجردة من التحليل الأدبى الشائق ، والعرض الأسلوبى البديع ، بل بلغ من ذلك مبلغا حميدا ـ رحمه‌الله.

الدكتور محمد عبد الله دراز :

ألّف الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز كتاب «النبأ العظيم» ليثبت إعجاز القرآن بما لا يدع مجالا للريب ، والكتاب فى القمة من الأدب العالى (وقد طبع عدة مرات وأرجو أن يكون فى مكتبة كل مسلم) لما تضمن من حقائق جديدة ، أكثرها من بنات فكره الخاص مع تمتعه بأسلوب نادر يجذب القارئ حتى ليخاله شعرا ، (وهو فى رأيى أقرب إلى نفوس القراء من كتاب الرافعى ـ رحمه‌الله ـ على عظم تقديرنا إياه ، لأنّ الرافعى يتعمّق فى التصوير والتعبير حتى يحوج القارئ إلى التثبت ، أما النهر المتسلسل الدفاق فهو ما انهمر من يراع الدكتور دراز ، وكأنه غيث نزل من السماء فأحيا به الله الأرض).

لقد رصد المؤلف الخصائص القرآنية للأسلوب البيانى فى كتاب الله فحدّها فى أربعة أمور هى سر الإعجاز ، وأول هذه الخصائص هو (البيان والإجمال معا) (١٥) فهما خارقة عجيبة من خوارق التعبير لأنّ الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع إلى تأويل ، وإذا أجملوها ذهبوا بها إلى الإبهام أو الإلباس ، ولا يكاد يجتمع لهم هذان

٦٨٤

الطرفان فى كلام واحد ، ولكنك تقرأ القطعة من القرآن فتجد فى ألفاظها من الشفوف والملاسة والإحكام ، والخلو من كلّ غريب عن الغرض ، ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كدّ خاطر ، أو استعارة حديث ، كأنك لا تسمع كلاما ولغات بل ترى صورا وحقائق ماثلة ثم يخيّل إليك أنّك أحطت به خبرا ، ووقفت على معناه محدودا ، ولكن لو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذى سبق إليه فهمك أول مرة ، حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوها عدّة كلها صحيح ، أو محتمل الصحة ، كأنما هى فصّ من الماس يعطيك كلّ ضلع منه شعاعا ، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة ، بهرتك بألوان من الطيف ، لا تدرى ما ذا تأخذ منها وما تدع ولعلّك لو وكلت النظر فيها لغيرك لرأى فيها أكثر مما رأيت ، وهكذا نجد كتابا مفتوحا مع الزمان يأخذ منه كل فرد ما تيسّر له ، بل ترى محيطا مترامى الأطراف لا تحدّه عقول الأفراد ولا الأجيال ، ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف وسائلها فى القديم والحديث ، وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين ، لا يتناقض ولا يتبدل ، يحتج به كل فريق لرأيه ، ويدّعيه لنفسه ، وهو فى سمّوه فوق الجميع يطلّ على معاركهم حوله ، وكأنّ لسان حاله يقول (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (١٦) ، وثانية هذه الخصائص هى (إقناع العقل وإمتاع العاطفة) (١٧) : والحديث عن اجتماع العقل والعاطفة فى أسلوب واحد لا يقنع به إلا دارس مكين تغلغل فى خوانى علم النفس فاهتدى إلى أسرار صارت مصباحا فى يده يضيء الطريق ، فقد عرفنا كلام الحكماء والعلماء ، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء ، فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلوّا فى جانب وقصورا فى جانب ، فأما الحكماء فإنهم يؤدون إليك ثمار عقولهم ، غذاء لعقلك ، ولا تتوجّه نفوسهم إلى استهواء نفسك ، واختلاف عاطفتك ، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم ، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعرى ، ونبوّ عن الطباع ، أما الشعراء فيسعون إلى استثارة وجدانك ، وتحريك أوتار الشعور من نفسك ، ولا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيا أو رشادا ، وأن يكون حقيقة أو تمثيلا ، فتراهم جادين وهم هازلون ، يستبكون وإن كانوا لا يبكون ، ويطربون وإن كانوا لا يطربون ، وكل امرئ حين يفكر إنما هو فيلسوف صغير ، وكل امرئ حين يحس إنما

٦٨٥

هو شاعر صغير ، فهل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير ، وقوة الوجدان ، وسائر القوى النفسية على حد سواء ، واذا كانت الإجابة بالنفى فكيف تطمع من إنسان أن يهب لك الطّلبتين معا ، وهو لم يجمعهما فى نفسه على حد سواء ، وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من تلك الأحوال.

هذا مقياس تستطيع أن تتبين به كل إنسان ، وحكم أى القوتين كان خاضعا لها ، حين قال وكيّف ، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية ، أو وصف طريقة عملية ، قلت :

هذه ثمرة الفكرة ، وإن رأيته يعتمد إلى تحريض النفس أو تغييرها وقبضها وبسطها ، واستثارة كوامن لذاتها وآلامها ، قلت : هذه ثمرة العاطفة ، فإذا رأيته انتقل من أحد هذين الضّربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطرا من سابقه ، كما ينتقل من غرض إلى غرض ، عرفت ذلك من تعاقب الشعور والتفكير على نفسه ، فأمّا أنّ أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا ، ويجمع بين يديك هذين الطرفين معا ، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أزهارا وأثمارا وأوراقا معا ، وكما يسرى الروح فى الجسد ، والماء فى العود الأخضر ، فذلك ما لا نظفر به فى كلام بشر ، ولا هو من سنن الله فى النفس الإنسانية ، فمن لك بهذا الكلام الذى يحى من الحقيقة البرهانية الصارمة بحيث يرضى حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين ، وبين المتعة الوجدانية بحيث يرضى هؤلاء الشعراء المرحين. ذلك الله رب العالمين ، فهذا الذى لا يشغله شأن عن شأن ، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان واحد ، وأن يخرج الحقّ والجمال معا يلتقيان فلا يبغيان ، وهذا هو ما تجده فى كتابه الكريم حيثما توجهت ، ألا تراه فى نسجه قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة ، ألا تراه وهو فى معمعة براهينه وأحكامه ، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق ، وتحذير وتنفير ، يبث الله ذلك فى مطالع آياته ، ومقاطعها وتضاعيفها.

وثالثة هذه الخصائص القرآنية لدى الدكتور دراز هى ما حصره الباحث فى (خطاب العامة والخاصة) (١٨) إذ هذان الخطابان يمثلان غايتين أخريين متباعدتين عن الناس ، فلو أنّك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذى تخاطب به الأغبياء ، لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه فى الخطاب لأنفسهم ، ولو أنّك خاطبت العامة باللمح والإشارة لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه

٦٨٦

عقولهم ، فلا غنى لك إذا أردت أن تعطى كلتا الطائفتين حظها من كمال بيانك أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى ، فأما أنّ جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء ، وإلى الأذكياء والأغبياء ، وإلى السوقة والملوك ، فيراها كل منهم مقدرة على قياس عقله ، وعلى وفق حاجته ، فذلك ما لا تجده إلا فى كتاب الله.

أما الخاصية الرابعة ، فهى (القصد فى اللفظ والوفاء بحق المعنى) فقد جلاها الدكتور أحسن تجلية واستشهد لها بآيات كريمة أحسن تحليلها وإيضاح مراميها ، ولا يحسن تلخيص ما جاء به هنا ، لأنّه يطفئ من نور الكتاب إذا أوجز واختصر ، فليرجع القارئ إليه.

ولا بدّ من كلمة أقولها هى أن الدكتور رحمه‌الله ـ مبتكر مبدع فى أكثر ما انتحاه من التحليل ، وبذلك أضاف كتابه ثروة طريفة للدراسات القرآنية الجادة ، ثم هو بذلك يعطى المثل لمن يريد أن يبحث وجوها من الإعجاز القرآنى ، إذ لا يقتصر على الترديد ، بل يحاول أن يأتى بالجديد.

سيد قطب :

احتفل الشهيد سيد قطب بكتاب الله احتفالا تجلّى فى موسوعة (فى ظلال القرآن) وقد تواضع فذكر أنه يعيش فى الظلال فحسب ، أى أنه لم يقدم تفسيرا يتجاوز الظلال إلى الأعماق ، وهذا غير ما يحسّه قارئ الظلال ، فقد كتبه الأستاذ بفكره وشعوره معا ، شعوره المتقد بما نزل بالمسلمين من محن فى عهودهم الأخيرة ، وفكره الوثّاب المشرئب لآفاق فسيحة يحلق فيها بقوته الخارقة.

وسأتجاوز كتاب الظلال فى حديث الإعجاز إلى كتاب (التصوير الفنى فى القرآن) لأنه ذو تنظير قاعدىّ يلتفت إلى جهات الإعجاز كما تصوّره ، وهو يشترك مع الدكتور محمد عبد الله دراز فى شىء ملحوظ : هو أنّ كليهما يعتمد على ذهنه وروحه وإحساسه قبل أن يعتمد على مقررات الإعجاز فى الكتب السابقة ، فالجديد الطريف لديهما كثير.

تحدّث الأستاذ الشهيد عن تأثير القرآن فى نفسه وهو طفل صغير إذ أخذ فى مكتب القرية يحسّ بروعة تملك عليه أقطار نفسه

٦٨٧

دون أن يدرك سرها ، ونما هذا الإحساس فى نفسه كما تنمو البذرة الجيدة فى الأرض الطيبة ، حتى إذا درس فنون النقد الأدبى فيما بعد ، راجع كتاب الله فرأى من فنون الإعجاز ما لم يحم حوله أحد من السابقين ، وهو التصوير الفنى للقرآن ، وقد شرح وجهة نظره فى ذلك فقال :

«إن التصوير الفنى هو الأداة المفضلة فى أسلوب القرآن ، فهو يعبّر بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذهنى ، والحالة النفسية ، ثم عن الحادث المحسوس ، والمشهد المنظور ، وعن النموذج الإنسانى ، والطبيعة البشرية ، ويرتقى بالصورة التى رسمها فيمنحها الحياة الشاخصة ، أو الحركة المتجدّدة ، فإذا المعنى الذهنى حركة أو هيئة ، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد ، وإذا النموذج النفسى شاهد حىّ ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية ، أما الحوادث والمشاهد ، وأما القصص والمناظر ، فيردّها شاخصة حاضرة فيها الحياة ، وفيها الحركة ، فإذا أضاف إليها الحوار ، فقد استوت كل عناصر التخيل ، فما يكاد يبدأ العرض ، حتى يحيل السامعين نظّارة ، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول ، الذى وقعت فيه أو ستقع ، حيث تتوالى المناظر ، وتتجدد الحركات ، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ، ومثل يضرب ، ويتخيل أنه منظر يعرض ، وحادث يقع ، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو ، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف ، المتساوقة مع الحوادث ، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة ، فتنم عن الأحاسيس المضمرة ، إنها الحياة هاهنا ، وليست حكاية الحياة» (١٩).

وقد وفّى الشهيد ـ رحمه‌الله ـ بما وعد ، والاستشهاد الكامل متعذر هنا ، ولكنّنا ننقل مثلا تطبيقيا لسورة من قصار السور ، التى ربما حسبها البعض سجعا مرصوفا ، وهى سورة الفلق ، إذ قال عنها المؤلف :

ما الجو المراد إطلاقه هنا؟ إنه جو التعويذة بما فيه من خفاء وهيمنة ، وغموض وإبهام ، فاسمع : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥)) (٢٠) فما الفلق الذى يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر لأنه أنسب فى الاستعاذة من ظلام ما سيأتى ، ممّا خلق ، ومن الغاسق ، ومن النفاثات فى العقد ، ومن شر حاسد إذا

٦٨٨

حسد ، ولأن فيه إبهاما خاصا ستعلم حكمته بعد قليل ، يعوذ برب الفلق من شر ما خلق ، هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة ، وفى هذا التنكير والشمول ، يتحقق الغموض ، والظلام المعنوى فى العموم ، «ومن شر غاسق إذا وقب» ، الليل حين يدخل إلى كلّ شىء وحين يمسى مخوفا مرهوبا ، «ومن شر النفاثات فى العقد» ، وجوّ النفث فى العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام ، بل هنّ لا ينفثن غالبا إلا فى الظلام ، «ومن شر حاسد إذا حسد» ، والحسد انفعال باطنى مغمور فى ظلام النفس ، غامض مرهوب كذلك ، فالجوّ كله رهبة وغموض ، وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله ، والله رب كل شىء ، فلما ذا خصصه بالفلق ، لينسجم مع جو الصورة كلها ، ويشترك فيه ، وكان المتبادر للذهن أن يعوذ من الظلام برب النور ، ولكنّ الذهن ليس هنا المحكّم ـ إنما المحكم هنا آلة التصوير الدقيقة فالنور يكشف الغموض المرهوب ، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث فى العقد ، ولا مع جو الحسد ، والفلق يؤدى معنى النور من الوجهة الذهنية ، ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية ، التى تجمع بين النور والظلمة ، ولها جوّها الغامض المسحور.

ثم ما أجزاء الصورة هنا؟ أو محتويات المشهد ، هى من ناحية الفلق والغسق مشهدان من مشاهد الطبيعة ، ومن ناحية النفاثات فى العقد والحاسد إذا حسد مخلوقان آدميّان ...

فالجو قائم على أساس من هذه الوحدة فى الأجزاء والألوان ، وليس فى هذا البيان شىء من التمحل ، وليست هذه الدقة بلا هدف ، وليس الهدف حلية عابرة ، فالمسألة ليست مسألة ألفاظ ، أو تقابلات ذهنية ، وإنما هى مسألة لوحة وجو وتنسيق ، وتعاملات تصويرية تعدّ فنا رفيعا من التصوير يلفت النظر إذا أداه مجرد التعبير (٢١).

هذا النص يدل على كثير غيره ، بل هناك ما هو أجود منه فى التحليل الأدبى وبخاصة فيما كتبه الأستاذ عن القصة القرآنية فقد جاء كلامه رائعا فائقا غير مسبوق.

ومما أخذ على الأستاذ أنه اعتبر الأداء الوجدانى هو سرّ الإبداع فى الإعجاز ، وقد عارضه الأستاذ عبد المنعم خلاف فوضّح أن المنطق العقلى جناح آخر للإعجاز ، وهذا ما وافق عليه الأستاذ قطب مؤكدا أنه لم يغفل جانب المنطق ، ولكن هذا الجانب لا يأتى جافا كما فى كتب العلوم بل يضيء بشعاع التصوير الأدبى فلا خلاف (٢٢) وقد ظهر هذا الاتجاه

٦٨٩

فيما كتبه الأستاذ قطب فى «ظلال القرآن» حيث فسح المجال للمنطق العقلى والمنطق الوجدانى معا فكانا أداتى الإقناع والإمتاع فى كتاب الله العزيز.

(وبعد)

فهذه صور من الإعجاز القرآنى فى الفكر العربى الحديث تضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه من صور الإعجاز فى الفكر العربى القديم (وفى حدود هذه الصفحات لم ألم بكل ما قيل ، ولكنّى اكتفيت بما كانت له جدواه الحقيقية عند الدارسين مقدرا ما كتبه غير هؤلاء من أفاضل الباحثين فهو قوى رائع فى بابه ، وقد يأتى من يتناول كل ما قيل فى مجلد مستقل ، فالحقل العلمى حافل بكرام الباحثين).

أ. د. محمد رجب البيومى

مراجع البحث ، وفق ورودها :

__________________

(١) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى ـ الدار المصرية اللبنانية للنشر ٢٠٠٠ م.

(٢) إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى ـ الطبعة السادسة ـ سنة ١٩٥٦ ـ مطبعة الاستقلال.

(٣) رسائل الجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون ـ مكتبة الخانجى سنة ١٩٧٩.

(٤) البيان والتبيين بتحقيق الأستاذ حسن السندوبى ـ مطبعة مصطفى محمد التجارية.

(٥) كتاب الحيوان بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون ـ ط ٣ سنة ١٩٦٩ طبعة بيروت.

(٦) خطوات التفسير البيانى للدكتور محمد رجب البيومى (سلسلة مجمع البحوث الإسلامية) سنة ١٩٧١ م.

(٧) ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ـ تحقيق محمد خلف الله أحمد ، ومحمد زغلول سلام ـ ط دار المعارف ١٩٦٢ م.

(٨) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف ـ ط دار المعارف سنة ١٩٦٥.

(٩) إعجاز القرآن للباقلانى ـ تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى الطبعة الأولى مطبعة صبيح.

(١٠) أمالي المرتضى ـ الطبعة الأولى ـ دون تاريخ طبعة هندية.

(١١) تلخيص البيان فى مجاز القرآن ـ للشريف الرضى ـ تحقيق محمد عبد الغنى حسن ـ مطبعة عيسى الحلبى سنة ١٩٥٥ م.

(١٢) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجانى ـ تحقيق السيد محمد رشيد رضا مطبعة المنار سنة ١٩٦٧ م ـ ط رابعة.

(١٣) تفسير الكشاف ـ الطبعة الأولى ـ سنة ١٣٥٤ ه‍ ـ طبعة مصطفى محمد.

(١٤) بديع القرآن لابن أبى الإصبع ـ الطبعة الأولى تحقيق الدكتور حفنى شرف.

(١٥) دائرة معارف القرن العشرين ـ الطبعة الأولى جزء (٧) للعلامة محمد فريد وجدى ـ مطبعة دار المعارف.

(١٦) زهرات منثورة فى الأدب العربى للأستاذ عبد الله عفيفى مطبعة مصطفى الحلبى سنة ١٩٣٢ م.

(١٧) الأدب العربى وتاريخه ج (١) للأستاذ محمود مصطفى ـ مطبعة عيسى البابى الحلبى سنة ١٩٤٤.

(١٨) النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز الطبعة الأولى سنة ١٩٥٧ م.

(١٩) التصوير الفنى للقرآن للأستاذ سيد قطب ـ ط دار المعارف سنة ١٩٤٤ م.

٦٩٠

الهوامش :

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين ، الجزء السابع ص ٦٧٧ وما بعدها ـ الطبعة الأولى ، تأليف الأستاذ محمد فريد وجدى.

(٢) إعجاز القرآن للرافعى ص ١١٣.

(٣) السابق ص ٢١٤.

(٤) السابق ص ١٥٨.

(٥) زهرات منثورة فى الأدب العربى ص ٥٢ للأستاذ عبد الله عفيفى ـ ط مصطفى الحلبى ١٩٣٢.

(٦) الحج : ١ ، ٢.

(٧) الحج : ٥.

(٨) الحج : ٥.

(٩) الحج : ٥.

(١٠) الحج : ٦ ، ٧.

(١١) الأدب العرب وتاريخه ج (١) ص ٤٢ للأستاذ محمود مصطفى ـ طبعة عيسى الحلبى.

(١٢) هود : ٤٩.

(١٣) الفرقان : ٥.

(١٤) النور : ٣٥.

(١٥) النبأ العظيم تأليف الدكتور محمد عبد الله دراز ص ١٢٨ ـ الطبعة الأولى سنة ١٩٥٧ م.

(١٦) الإسراء : ٨٤.

(١٧) النبأ العظيم ص ١٢٤.

(١٨) النبأ العظيم ص ١٢٣.

(١٩) التصوير الفنى فى القرآن ، الطبعة الأولى ، دار المعارف سنة ١٩٤٤ م.

(٢٠) سورة الفلق بأكملها من ١ ـ ٥.

(٢١) التصوير الفنى : ٤٤.

(٢٢) مجلة الرسالة العددان ٦١٧ ، ٦٢٠.

٦٩١

الإعجاز العلمى للقرآن الكريم

تعريف الإعجاز العلمى :

الإعجاز لغة : مشتق من العجز. والعجز :

الضعف أو عدم القدرة.

والإعجاز مصدر «أعجز» : وهو بمعنى الفوت والسبق (١).

والمعجزة فى اصطلاح العلماء : أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدى ، سالم من المعارضة (٢).

وإعجاز القرآن : يقصد به إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله ، أى نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الإتيان بمثله.

ووصف الإعجاز بأنه علمى نسبة إلى العلم.

والأصل فى معنى «العلم عند العرب هو الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء ، وهو معنى مطلق غير مقيد بتخصيص بعينه ، والإطلاق :

يفيد الشمول والتعميم. أما تصنيف العلوم إلى دينية ودنيوية ، أو نقلية وعقلية ، أو شرعية وكونية ، أو نظرية وتجريبية ، أو إنسانية وطبيعية ، أو غير ذلك ، فهو تصنيف يعتمد على الصفات المعبّرة عن موضوعات العلم ، أو مصادره ، أو الطرائق التى يتم تحصيله بها بحسب تناسبها وقرب بعضها من بعض. وقد يخصص العلم بموضوع معين ، فيقال : «علم التفسير» أو «علم اللغة» أو «علم التاريخ» أو «علم الفلك» أو «علم الأحياء» ، أو غير ذلك من مختلف فروع العلم (٣).

والمقصود بالعلم الذى ينسب إليه مصطلح «الإعجاز العلمى للقرآن الكريم» هو العلوم الكونية التجريبية الباحثة فى ظواهر الكون والحياة.

وعليه : فإن «الإعجاز العلمى» للقرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة هو إخبارهما بحقيقة كونية أثبتها العلم التجريبى ، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية فى زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يظهر صدقه فيما بلّغ عن رب العزة سبحانه وتعالى (٤). ووصف الإعجاز هنا بأنه علمى نسبة إلى العلم التجريبى المعنىّ بدراسة الظواهر المطردة فى الآفاق وفى الأنفس وصولا إلى القوانين التى تفسر سلوكها وتعلل حدوثها بحيث تنكشف

٦٩٢

حقائق الأشياء انكشافا تاما ، وتتجلى حقيقة الحقائق متمثلة فى الإيمان الخالص على هدى وبصيرة بالخالق الواحد ، مصداقا لقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥).

والعلاقة بين آيات الحق فى القرآن والكون تجمع فى ترابط محكم بين إعجاز السبق والبيان فى كتاب الإسلام الخالد ، وإعجاز القدرة الإلهية فى كتاب الكون اللانهائى ، ليدلى كل إعجاز بشهادة تسليم وتصديق للآخر ، وليكون فى الإعجازين عبرة لكل ذى عقل رشيد ، أو لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فكما أن الأدلة القاطعة برهنت على أن القرآن الكريم لا يمكن إلا أن يكون من عند الله الواحد ، بدليل عدم الاختلاف بين آياته ، كذلك فإن النظام الكونى المعجز بكل ما فيه من تدبير وإحكام لا يمكن إلا أن يكون من صنع الله الذى أتقن كل شىء.

وينبغى أن ندرك هنا أن المعجزة نوعان ينبغى التمييز بينهما ، كى نطلب المعجزة التى يجب أن تطلب ، ونتورع عن طلب المعجزة التى لا تجدى أحدا من العقلاء (٦).

أما النوع الأول فهى المعجزة التى تتجه إلى العقل ، وهى موجودة يلتقى بها من يريدها حيثما التفت إليها ، متمثلة فى الإطراد المنتظم لظواهر الكون والحياة التى لا تتبدل ولا تتحول ، قال تعالى : (... فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٧).

وأما النوع الثانى فهى المعجزة التى تكون من خوارق العادات ، فهى التى تدهش العقل وتضطره بالإفحام القاهر إلى التسليم ، وهى ليست بحاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التى نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم وكل ساعة. والعالم الحق أحرى أن يعرف موضع العجب فيما يشاهده من سنن الله الكونية المألوفة فى دوران الأفلاك وخصائص المادة وسلوك الكائنات والظاهرات ، فليست ألفته لها مما يصح أن يبطل العجب منها ، ومن قال هذا فهو هازل مستخف بالمعجزة التى تخاطب العقل وتستثير ملكاته ، وهو أيضا عاجز عن أن يجد فى هذه المعجزة يد العناية الإلهية التى تسيّر حركة الكون والحياة.

وقد غاب مثل هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة عن كثير من الباحثين الذين يقفون بتفكيرهم عند حد «التفسير العلمى» للظاهرة الكونية ، أو الذين يقحمون أنفسهم فيما لا يدركه العقل البشرى المحدود من خوارق العادات التى لا تخضع للنواميس الطبيعية ولا للتجارب البشرية.

٦٩٣

كذلك أدّى غياب هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة إلى الخلط أحيانا بين الإعجاز العلمى الذى يقصد به سبق القرآن الكريم إلى الإخبار بحقيقة كونية قبل أن يكتشفها العلم التجريبى ، وبين «التفسير العلمى للقرآن الكريم» الذى يراد به الكشف عن معان جديدة للآية القرآنية ، أو الحديث النبوى ، فى ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية ، دون إسراف فى التأويل ، بمعنى أن تكون هذه العلوم فى خدمة تفسير القرآن والسنة مثلما خدمته علوم اللغة والأصول والفقه وغيرها من مجالات العلوم الشرعية.

وكان طبيعيا أن يظهر فى مجال الدراسات الإسلامية مبحث خاص من مباحث علوم القرآن يعنى بدراسة الآيات الكونية فى إطار من توافق الحقائق العلمية مع ما أنبأ به القرآن أو أشار إليه ، سواء كان غرض هذه الدراسة هو الكشف عن أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم فى بيان حكم التوجيهات الإلهية فيما يتعلق بالحلال من الطيبات والحرام من الخبائث والمحرمات ، أو كشف وجوه الهداية القرآنية فى آفاق النفس والكون بصورة عامة.

* الترقى فى فهم الإعجاز العلمى للقرآن الكريم :

لقد شاءت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يكون إرشاد الناس وهدايتهم بوسائل متنوعة ، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ خبير بعباده ، فهو تارة يخاطبهم بما يمس قلوبهم مسا رقيقا رفيقا ، وهو تارة أخرى يقرع عقولهم قرعا قويا شديدا ، وكان من أبرز ما جلى به أبصارهم وأنار بصائرهم حضّه إياهم على التدبر فى آيات خلقه. وهذا ما شجع العلماء الذين يرون فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم لونا من التفسير فيه فتح جديد وتجديد فى طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى دين الله.

ولما كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى أيد الله بها رسوله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتبقى بين أيدى الناس إلى قيام الساعة ، مصداقا لقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٨) ، فقد ظهرت مباحث فى علوم القرآن تعنى بجوانب الإعجاز القرآنى البلاغية والتشريعية والتربوية والعلمية وغيرها. وفى بيان المعجزة العلمية من حيث طبيعتها الباقية بين يدى الناس ، وتجددها مع كل كشف بشرى فى ميادين العلوم ، وكذلك فى المعارف ذات الصلة بمعانى الوحى الإلهى ، يقول الله تعالى :

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٩).

وجاء فى تفسير هذه الآية الكريمة : أنزله

٦٩٤

بعلمه : أى فيه علمه الذى أراد أن يطلع العباد عليه ، من البينات والهدى والفرقان ، وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب ، من الماضى والمستقبل (١٠).

كذلك وعدنا الحق جل وعلا بأن يرينا آياته ، فيتحقق لنا العلم الدقيق بها ، وذلك فى قوله عزوجل : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) (١١) ، وقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١٢). ومن آيات الله فى الآفاق وفى الأنفس كل مخلوقاته التى خلقها فى شتى آفاق الأرض والسماء ، مصداقا لقوله تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) (١٣).

والقرآن الكريم حافل بذكر آيات الله فى خلقه متخذا من التفكير فيها مدخلا رحيبا إلى الإيمان الخالص بالله عن طريق الاستشعار بوحدانيته سبحانه وبقدرته وبديع صنعه. ويتخذ القرآن الكريم أساليب بلاغية متنوعة فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله والاحتفال بذكر السموات والأرض ، والشمس والقمر ومنازله ، والمشارق والمغارب ، والبروج والنجوم والكواكب ، والليل والنهار والفجر والغسق ، والظلمات والضياء والنور ، والبحار والأنهار والعيون ، والرياح اللواقح ، والسحاب الثقال والمركوم والمنبسط ، والبرق والرعد والمطر ، والجبال الراسيات والجدد البيض والحمر والغرابيب السود ، والأرض الهامدة والأرض المهتزة الرابية ، والجنات والنخيل والأعناب والتين والزيتون ، والطلح والسدر واليقطين ، والنمل والنحل والبعوضة والعنكبوت ، والطير الصافات ، والإبل والخيل والأنعام ، واللبن يخرج من بين الفرث والدم ، والشراب الشافى يخرج من بطون النحل ، وخلق الإنسان من تراب ومن ماء مهين ، وتطوره فى ظلمات الرحم خلقا من بعد خلق ، وشفتيه ولسانه وسمعه وبصره وفؤاده ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحى ...

وهذه كلها أمثله قليلة بعيدة عن تمام الحصر مما يوجهه القرآن الكريم لأولى الألباب الذين يعقلون ويتفكرون ويتدبرون.

ومن يتأمل الخطاب القرآنى فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله ؛ يجد أنه ينزل فى نفوس المؤمنين منزلة الأمر ، فالمسألة عندهم إذن مسألة فريضة وتكليف (١٤) ، لكن من البديهى أن يتفاوت هذا التكليف بالنظر فى آيات الله من مؤمن إلى مؤمن ، ومن قارئ إلى قارئ ، إذ أن نظرهم هذا يتفاوت بتفاوت استعدادهم ومقدرة إدراكهم وحصيلة معارفهم ، فالسماوات مثلا آيات رائعة معجزة عند الأمىّ وعند عالم الفلك المتخصص على

٦٩٥

السواء ، وإن كان العالم أقدر على الإحاطة بجلال الإعجاز فى خلقها ، ومن ثمّ كانت خشيته العميقة لخالقها مصداقا لقوله تعالى :

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١٥).

فمن هنا كان النظر الفطرى البسيط والنظر العلمى المتأمل العميق ، وكلاهما مطلوب ومشروع ومفيد.

وهذا سر من أسرار بلاغة القرآن ، بيد أن التعمق بالبحث العلمى السليم لا يتوافر إلا للقادرين عليه والمؤهلين له ، فهو إذن فرض كفاية عليهم ، كما أنهم مكلفون أيضا بتبصرة غيرهم بما انتهى إليه نظرهم ، فقد أمرنا أن نتعلم ونعلم ، ونهينا عن كتمان العلم.

والناس يتفاوتون فى فهمهم للقرآن بحسب درجاتهم وأحوالهم واستطاعتهم ، وهم فى عصرنا أحوج من أى عصر مضى إلى أن يتعلموا من مأدبته ما استطاعوا ، وأن يفيدوا من كنوزه وأسراره فى إصلاح دنياهم والفوز بنعيم أخراهم. يقول الراغب الأصفهانى فى كتابه «مقدمة التفسير» : ثم إن القرآن ـ وإن كان فى الحقيقة هداية للبرية ـ فإنهم لن يتساووا فى معرفته ، وإنما يحظون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم ، فالبلغاء تعرف من فصاحته ، والفقهاء من أحكامه ، والمتكلمون من براهينه العقلية ، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المتخصص بفنه. وقد علم أن الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته فى العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه .. (١٦). وأهل الاختصاص فى فروع العلوم ـ بطبيعة الحال ـ ليسوا بدعا بين هؤلاء الذين ذكرهم الأصفهانى ، فكل ما يساعد من حقائق العلم على تعميق فهمنا لمعانى القرآن الكريم وتعاليمه وأحكامه ، هو ما يجب الأخذ به. وكم فى القرآن الكريم من آية إذا مستها يد العلم أبانت أسرارها وأظهرت إعجازها. ذلك أن القرآن الكريم له أسلوبه الحكيم فى الدلالة على آيات الله فى الكون ، والهداية التى جاء أصلا من أجلها تقتضى ألا يخاطب الناس عن الكون بما ينكرون ، أو بما يستعصى على أفهامهم ، فيقوم ذلك حجابا بينهم وبين قبول دعوته ، وحاملا على التكذيب (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ).

كذلك تقتضى الهداية القرآنية ألا يوافق القرآن الناس على باطل معتقداتهم الكونية فى عصر نزول الوحى به ، فيقوم ذلك حائلا دون قبول دعوته فى عصور التقدم العلمى والتقنى التى علم منزّل القرآن أنها ستكون.

وتجنب هذين العائقين عن قبول هداية القرآن هو من بدائع إعجاز أسلوبه ومن أكبر الدلائل على أنه حقا من عند الله فاطر الناس وفاطر الكون.

٦٩٦

وينبغى الترقى فى فهم آيات القرآن والكون إلى درجة الفقه حتى ندرك الحكمة وراء إعجازها ، ونبلغ نهاية درجة الإحسان فى قراءة الكتابين : المسطور والمنظور. أما نهاية الإحسان فى قراءة آيات القرآن فتعنى تجاوز حدود الأصوات والألفاظ ، واختراق حاجز الزمان والمكان ، وصولا إلى الاستمتاع من المتكلم الأزلى جل جلاله. فالنفس الشفافة ، والإحساس المرهف ، لهما أثر جلىّ فى قراءة القرآن ، أو الاستماع إليه ، وبذلك تتجلى أنوار القرآن على قلب القارئ أو السامع. ولهذا كانت نصيحة العارفين : «اقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك».

وأما نهاية الإحسان فى قراءة آيات الكون ـ كتاب الله المنظور ـ فتعنى تجاوز حدود البحث العلمى الآلى ، بعناصره ووسائله وأدواته. واختراقه عالم النظريات والقوانين العلمية بصياغاتها اللفظية ، وصولا إلى إدراك أنه كل علم من العلوم الباحثة فى ظواهر الكون والحياة ، هو فى حقيقته علم يبحث بلغته الخاصة عن الله خالق الكون والحياة ، ويستند فى غاية منتهاه إلى اسم من أسماء الله الحسنى .. فعلوم الطب والصيدلة تصل إلى كمالها بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم «الشافى» فى كل حبة دواء. وعلوم الفيزياء والفلك والكيمياء والنبات والحيوان تبحث فى حقيقة الموجودات باستنادها إلى ما يناسبها من أسماء العليم الحكيم القادر المقدر الذى أوجد هذا العالم على أعلى درجة من الترتيب والنظام والكمال والجمال. وبهذا تكون العلوم فى حقيقتها غير مقصودة لذاتها ، وإنما هى ضرورات حيوية وحاجات معرفية وعقلية تحيط الهداية الإيمانية بأبعاد جديدة ، وترى فى كل مشهد كونى آية ناطقة بقدرة الخالق ووحدانيته ، ومظهرا معبرا من مظاهر تجليات أفعال الله تعالى وأسمائه الحسنى.

ولا شك أن البحث فى الإعجاز العلمى لآيات القرآن الكريم على هدى وبصيرة يؤتى ثماره الحقيقية ببلوغ نهاية الإحسان على سلم الترقى فى فهم آيات الله المنبثة فى القرآن الكريم ، وفى جنبات الكون الفسيح ، وفى أسرار النفس البشرية وباقى الموجودات.

كما أن ارتقاء العلوم الحديثة ونجاحاتها فى استكشاف حقائق جديدة عن الكون من العوامل التى ساعدت على الاجتهاد فى تسخير العلم الكونى لتجلية معان جديدة لآيات القرآن الكريم ، شريطة أن يكون الاجتهاد فى ذلك المجال وفق منهاج رصين محدد ينبغى الالتزام به فى ضوء ما هو معروف عن معنى الحقيقة العلمية وحدودها.

٦٩٧

* ضوابط (منهج) البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم :

إذا كانت قضية الربط بين القرآن والعلم تتعرض لنقد لاذع بسبب إفراط بعض المتحمسين ، أو تفريط البعض الآخر من الرافضين والمعارضين ، وأمام الحاجة الماسة إلى هذا النوع من الدراسات القرآنية لتنشيط حركة الدعوة الإسلامية المعاصرة ، فإنه أصبح ضروريا أن يكون للبحث فى مجال الإعجاز العلمى للقرآن منهاج ، وأن يوضع للمجتهد ضوابط وشروط ، وأن ينبّه إلى مزالق الخطأ وموارد الزلل وكبوات الاجتهاد.

ويمكن إيجاز الإطار العام الذى توصل إليه الباحثون لترشيد البحث فى مجال الإعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة فيما يلى :

١ ـ علم الله هو العلم الشامل المحيط الذى لا يعتريه خطأ ولا يشوبه نقص ، وعلم الإنسان محدود ، يقبل الازدياد ، ومعرّض للخطأ. ولقد نزلت نصوص الوحى بألفاظ جامعة تحيط بكل المعانى الصحيحة فى مواضيعها التى قد تتتابع فى ظهورها جيلا بعد جيل. وإذا جمعت نصوص الكتاب ، والسنة الصحيحة ، وجدت بعضها يكمل بعضها الآخر ، فتنجلى بها الحقيقة ، مع أن هذه النصوص قد نزلت مفرقة فى الزمن ، وفى مواضيعها من القرآن الكريم ، وهذا لا يكون إلا من عند الله الواحد الذى يعلم السر فى السموات والأرض ، ومن ثم فإنه لا يوجد تعارض بين نصوص الوحى القاطعة التى تصف الكون وأسراره ، على كثرتها ، وبين الحقائق العلمية المكتشفة ، على وفرتها.

٢ ـ الحقيقة العلمية التى يعرف رجال العلم معناها وحدودها لا تبطل مع الزمن ، ولكنها قد تزداد مع جهود العلماء المتتابعة تفصيلا ووضوحا وجلاء. كل ما فى الأمر أن القوانين العلمية تعبر عادة عن حقائق علمية محدودة ، وليس من الصواب أبدا أنه تعتبر هذه الحقائق الجزئية دليلا على قصور العلم أو منقصة فيه ، فطبيعة المعرفة العلمية تتميز بالنمو المطرد فى اكتشاف القوانين التى تلقى الضوء شيئا فشيئا على حقائق الواقع الثابت فى الكون بعد أن أشارت إليها آيات من القرآن العظيم.

٣ ـ يجب التّقيد بما تدل عليه اللغة العربية ، فلا بد من :

(أ) أن تراعى معانى المفردات كما كانت فى اللغة إبّان نزول الوحى ، ويراعى كذلك فقه استعمالها.

(ب) أن تراعى القواعد النحوية ودلالاتها.

٦٩٨

(ج) أن تراعى القواعد البلاغية ودلالاتها ، خصوصا قاعدة «ألا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية».

٤ ـ يجب البعد عن التأويل فى بيان الإعجاز العلمى للقرآن والسنة ، ولا ينبغى الإسراف فى ذلك.

٥ ـ يجب ألا تجعل حقائق القرآن موضع نظر ، بل تكون هى الأصل ، فما وافقها قبل ، وما عارضها رفض ، ذلك أن المرجعية يجب أن تكون للحقائق القرآنية ، وليس للعلم التجريبى ، فالحقائق العلمية تحتكم إلى القرآن ولا تزكيه ، فإن وافقته فبها ونعمت ، وإن تعارضت معه رفضت ، لأن النص القرآنى وحى من الذى أحاط بكل شىء علما.

٦ ـ يجب على المجتهدين من العلماء أن يكونوا ملمين من علوم القرآن بالقدر الكافى وأن يكون لديهم استعداد شخصى يعززه رجوعهم إلى أمهات كتب التفسير رجوع المتعلم التأنى ، لا اطلاع القارئ العجول ، فإذا تعذر عليهم هذا كان عليهم أن يسألوا أهل الذكر والاختصاص ، فهذا أقل مقتضيات التحرى وعدم التورط فى الكلام فى كتاب الله بغير علم.

٧ ـ كذلك يجب على المجتهدين من الباحثين فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة المطهرة (البيان النبوى) أن يكونوا على معرفة تامة بالظاهرة العلمية قيد البحث وتاريخ المصطلحات الفنية المتعلقة بها.

إن هذه الضوابط والشروط المنهجية ضرورية لترشيد البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن والسنة ، وينبغى توافرها فى كل من يتعرض للاجتهاد بما يناسب جلال القرآن وقدسيته ، وكتاب الله العزيز كله معجز ، ويستطيع العلماء أن يتلمسوا دلائل إعجازه فى شتى المجالات ، فإذا ما كنا بصدد «إعجازه العلمى» تحتم علينا أن نتوخى الدقة التامة ، فلا نفتعل مناسبة ، أن نتشبث بلفظة ونحملها فوق ما تحتمل ، أو نجهل أو نتجاهل حقائق التاريخ ، وينبغى أن يكون لنا فى الأئمة السابقين أسوة حسنة حين نرى دقة مناهجهم العلمية عند ما تناولوا القرآن الكريم من نواحيه اللغوية والبلاغية والتشريعية وغيرها.

وإذا علمنا أهمية هذه الأبحاث فى تعميق اليقين الإيمانى عند المؤمنين ، ودفع الفتن التى ألبسها الكفار ثوب العلم ، عن بلاد المسلمين ، وفى دحض محاولات التستر بالعلم لإثارة الشبهات حول الإسلام والمسلمين ، وفى دعوة غير المسلمين وتوصيل الحقائق الإسلامية إليهم على اختلاف أجناسهم وأوطانهم ، وفى حفز المسلمين للأخذ بأسباب النهضة العلمية ، وفى تعميق فهم ما خوطبنا به فى

٦٩٩

القرآن والسنة ، تبين من ذلك كله أن القيام بهذه الأبحاث من أهم فروض الكفايات ، خاصة أن أهل عصرنا ممن يريدون الحق من سائر الأجناس لا يذعنون بشيء مثل إذعانهم للعلم ومنهجه وبيناته ودلائله.

* من أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم :

١ ـ فى آيات السماء :

يقول الله تعالى فى كتابه الكريم : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١٧).

تشير هذه الآية القرآنية الكريمة إلى بعض الظواهر الكونية التى أخبر بها الله ـ سبحانه وتعالى ـ لتدل على كمال قدرته وبالغ حكمته ، ومنها أنه خلق السموات مرتفعات بغير عمد ، أى دعائم ، يمكن رؤيتها بالبصر ، وقد جاء فى تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد والحسن أنهم قالوا : لها عمد ولكن لا ترى. ولو قيل (بغير عمد) فحسب لكان ذلك نفيا مطلقا للعمد ، مرئية وغير مرئية. والنفى المطلق يخالف الواقع الذى أودع الله تعالى فيه سننه ونواميسه وآياته التى وعد ـ سبحانه ـ بإظهارها مستقبلا على أيدى من يشاء من عباده ، وبهذا يكون المعنى العام أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق السموات ورفعها وربط بين أجزائها وحفظ اتزانها فى مواقعها التى قدّرها لها من غير دعائم مرئية ، لأن هذه الدعائم من شأنها وطبيعتها التى أوجدها الله عليها أنها لا ترى أصلا.

ويمكن تصور هذه الدعائم غير المرئية ـ من منظور العلم الحديث ـ بأنها من نوع القوى المجالية التى تعمل وفق قانون محدد من أجل حفظ الاتزان الكونى والإمساك بالأجرام السماوية فى أفلاكها ومنعها من الانفراط فى الفضاء أو الوقوع على بعضها البعض. ذلك أن الأجرام السماوية تتحرك تحت تأثير قوى جاذبة للربط بينها ، وقوى رافعة لحفظها من السقوط.

وحيث إن قوى التجاذب الرابطة من شأنها أن تقرب وتجمع بين الأجرام ، فى حين تعمل طاقة حركتها (المكتسبة من القوى الرافعة) على انطلاقها بعيدا عن أعماق الفضاء طبقا لخصائص تأثير القوى فى الأجسام ، فإن تقرير حفظ هذه الأجرام من السقوط على بعضها البعض واستمرار دورانها فى أفلاك ثابتة يستلزم بالضرورة العقلية أن يكون تأثير قوى التجاذب مساويا ومضادا (أى معادلا) لتأثير طاقة الحركة ، وتصير الأجرام بذلك

٧٠٠