القرآنى مصحوب بانمحاء الإرادة الشخصية للرسول صلىاللهعليهوسلم وانسلاخه من الطبيعة البشرية حتى ما بقى له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ اختيار فيما ينزل عليه أو ينقطع عنه ، فقد يتتابع الوحى ويحمى حتى يكثر عليه ، وقد يفتر عنه وهو أحوج ما يكون إليه ، فهو وحى الله تعالى لا ريب فيه (١٠١).
وإننا لنلمس ـ فى دهشة ـ مدى حب النبى صلىاللهعليهوسلم للوحى التنزيلى ، وشوقه إليه فى فترته ، إلى ذلك الحد الذى صوره حديث السيدة عائشة إذ تقول ـ رضى الله عنها ـ فى تتمة الحديث المار فى بدء الوحى : «........ وفتر الوحى فترة حتى حزن النبى صلىاللهعليهوسلم ـ فيما بلغنا ـ حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى منه نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد ؛ إنك رسول الله حقا ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك» (١٠٢).
وقد يقال هاهنا : كيف عزم النبى صلىاللهعليهوسلم على إلقاء نفسه من الجبل مع أن ذلك يوجب قتلها ، والعزم عليه من الكبائر ، والأنبياء جميعا ولا سيما حضرته صلىاللهعليهوسلم معصومون من جميع المعاصى قبل البعثة وبعدها؟؟
والجواب عن ذلك أن يقال : إن هذا الخبر من بلاغات الزهرى كما جزم بذلك ابن حجر ، وأنه لو صح لكان مجرد تصوير مجازى لشوق النبى صلىاللهعليهوسلم للوحى ، وحزنه العميق على تأخره.
*****
[كتاب الوحى]
ثم نتعرف على (كتّاب الوحى للنبى صلىاللهعليهوسلم) :
فنجد من عناية الله بكتابه المجيد أن وجه الهمم ووفر الدواعى على تدوينه فى السطور ، كما وجه عناية النبى صلىاللهعليهوسلم وأصحابه إلى حفظه واستظهاره فى الصدور ، فتحقق بالأمرين وعد الله ـ تعالى ـ بحفظه فى قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٠٣) ، فقد تضافرت الصورتان ، وعاضدت كل منهما الأخرى فى الصحة والتوثيق ، حيث كان النبى صلىاللهعليهوسلم ينزل عليه القرآن شيئا فشيئا ، وكان كلما نزل منه شىء بادر بتبليغه لأصحابه وحث على تعلمه وتعليمه ، وكان يأمر كتّاب الوحى بكتابة كل شىء ينزل من القرآن عقب نزوله مباشرة ، فتمت كتابة القرآن كله فى عهده صلىاللهعليهوسلم ، وقد استنبط علماء التنزيل ما يدل على أن الكتابة من الصفات اللازمة للقرآن فى ذلك العهد من
قوله تعالى : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (١٠٤).
كما سجلت السنة الصحيحة أمر النبى صلىاللهعليهوسلم بكتابة القرآن : فيما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث الإمام ابن عباس عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم مما يأتى عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا فى السورة التى يذكر فيها كذا» (١٠٥).
* هذا : وقد تعددت أقوال العلماء فى عدد كتّاب الوحى لسيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فالعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز يذكر أن العلماء الثقات قد ذكروا أن عدد كتاب الوحى قد بلغ تسعة وعشرين كاتبا (١٠٦).
وقام المستشرق (بلاشير) باستطلاع كتّاب الوحى فى عديد من المصادر العربية والغربية ومن تلك المصادر : ما ورد فى طبقات ابن سعد وما كتبه الطبرى والنووى والحلبى ، وكذا شفالى وبهل وكازانوفا ، واستطاع أن يبلغ بكتّاب الوحى إلى أربعين كاتبا (١٠٧).
[اقسام كتاب الوحى]
ولقد قسم العلماء وأصحاب السير كتاب الوحى إلى ثلاثة أقسام :
فالقسم الأول : كتّاب الوحى فى العهد المكى ومن أبرزهم :
١ ـ الصحابى الجليل شرحبيل بن حسنة السهمى أو الكندى المتوفى سنة ١٨ ه وله سبع وستون سنة ، وقد نص الحافظ الشامى فى سيرته على أنه أول من كتب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم (١٠٨).
٢ ـ الصحابى الجليل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قصى المتوفى يوم موقعة أجنادين سنة ١٣ ه كما ذكره الذهبى فى السير (١٠٩). وكان خامسا فى الإسلام وأول من كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ، كما رواه الذهبى عن ابنته أم خالد (١١٠).
٣ ـ الصحابى الجليل أمير مصر عبد الله ابن سعد أبى السرح (ت ٣٦ ه) وهو من السابقين الأوّلين ـ كما ذكر ابن العماد فى ترجمته ـ وقد نص الحافظ ابن حجر على أنه أول من كتب للنبى صلىاللهعليهوسلم بمكة من قريش ، ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح وحسن إسلامه ، وفتح الله على يديه شمال إفريقية وبعض بلاد السودان (١١١).
٤ ـ الصحابى الجليل حنظلة بن الربيع بن صيفى بن رباح الأسيدى. قال صاحب (أسد الغابة) فى ترجمته : (ويقال له حنظلة الأسيدى والكاتب ؛ لأنه كان يكتب للنبى صلىاللهعليهوسلم ، وهو ابن أخى أكثم بن صيفى) (١١٢) ، وهو الذى أرسله النبى صلىاللهعليهوسلم إلى أهل الطائف قائلا لهم :
(أتريدون صلحا أم لا؟ فلما توجه إليهم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ائتموا بهذا وأشباهه!!) ، ثم انتقل إلى قرقيسيا ـ وهى بلد على الفرات فمات بها (١١٣) ، وقد رجح قدم إسلامه بمكة بناء على تلك القرائن بالإضافة إلى كونه ليس أنصاريا (١١٤).
والقسم الثانى : من كتب له صلىاللهعليهوسلم فى الجملة ـ على حد تعبير الحافظ ابن حجر ـ وترجح اشتراك كل منهم فى كتابة الوحى للنبى صلىاللهعليهوسلم بمكة :
وهم سادتنا الصحابة الأجلاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلى ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، والأرقم بن أبى الأرقم ، وحاطب بن عمرو ، وعامر بن فهيرة ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، ومعيقيب الدوسى (١١٥) ـ رضى الله عنهم أجمعين.
وأما القسم الثالث : فهم كتّاب الوحى للنبى صلىاللهعليهوسلم فى العهد المدنى ، ومن أبرزهم :
١ ـ سيدنا أبىّ بن كعب بن قيس الأنصارى النجارى رضي الله عنه (ت سنة ٣٠ ه) ـ وهو الملقب بسيد القراء ، وقد نص الحافظ ابن حجر وغيره على أنه أول من كتب للنبى صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ، ونص أيضا على أنه كتب له قبل زيد بن ثابت (١١٦) ـ رضى الله تعالى عنهما.
٢ ـ سيدنا زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد الخزرجى النجارى الأنصارى رضي الله عنه (ت ٤٥ ه) عن ست وخمسين سنة كما حكاه الذهبى عن الواقدى (١١٧) ، وذكر أيضا أنه لما هاجر النبى صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة أسلم زيد وهو ابن إحدى عشرة سنة ، فأمره النبى صلىاللهعليهوسلم أن يتعلم خط اليهود ليقرأ له كتبهم وقال : «فإنى لا آمنهم» (١١٨).
وروى الطبرانى بإسناد حسن إليه أنه قال :
«كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا نزل الوحى بعث إلىّ فكتبته» (١١٩).
كما روى البخارى بإسناده أن ابن السباق قال : «إن زيد بن ثابت قال : أرسل إلىّ أبو بكر رضي الله عنه قال : إنك كنت تكتب الوحى لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فاتبع القرآن ، فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة ـ آيتين ـ مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدهما مع غيره» (١٢٠) ، ومن ثم كان هو الذى جمع القرآن فى صحف فى عهد الصديق رضي الله عنه كما ندبه سيدنا
عثمان رضي الله عنه إلى كتابة المصحف العثمانى أيضا (١٢١).
هذا وقد حقق الأثبات أن سيدنا عثمان ابن عفان ـ رضى الله تعالى عنه ـ كان من أوثق مصادر التسجيل الفورى للوحى القرآنى ولا سيما فى العهد المدنى أيضا ، حيث قالت السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ : «كان عثمان قاعدا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورسول الله مسند ظهره إلىّ وجبريل يوحى إليه القرآن ، وهو يقول : «اكتب يا عثيم».!! (١٢٢)
ثم هنالك ثلة من الصحابة الأجلاء الذين اشتركوا فى كتابة الوحى للنبى صلىاللهعليهوسلم بالمدينة المنورة ، ومن أبرزهم السادة الأجلاء :
أبان بن سعيد بن العاص (ت سنة ١٣ ه) ، وبريدة بن الحصيب الأسلمى ، وثابت بن قيس ، ومعاوية بن أبى سفيان ، وخالد بن الوليد ، وحذيفة بن اليمان ، وحويطب بن عبد العزى ، وعبد الله بن الأرقم ، وعبد الله بن رواحة ، وسعيد بن سعيد بن العاص ، وعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول وغيرهم ـ رضى الله تعالى عنهم أجمعين ـ وبعض هؤلاء وصفتهم المصادر بالكتابة للنبى صلىاللهعليهوسلم دون تقييد بعهود أو رسائل ، ولم يكونوا قديمى الإسلام بمكة المكرمة (١٢٣).
*****
ونتوقف أخيرا عند نقطة : إثبات الوحى وإبطال دعوى منكريه بالاستدلال العقلى بعد أن قدمنا نصوص الإثبات نقلا من الكتاب والسنة ، فنقول : قد أخبر بثبوت وقوع الوحى الصادق المعصوم سيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم المؤيد بالمعجزة ، وكل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت.
فإن المعجزة ـ وهى الأمر الخارق للعادة الخارج عن حدود الأسباب المعروفة يظهره الله على يد مدعى النبوة عند دعواه إياها شاهدا على صدقه ـ إنما هى بمثابة قول الله تعالى : (صدق عبدى فى كل ما يبلغه عنى ، ومن ذلك أنه يوحى إليه منى)!!
ومن ثم : نستطيع أن نقرر بوثوق : أن الوحى القرآنى بإعجازه هو بنفسه دليل عقلى على مصداقيته ، وذلك بما توافر له من براهين إعجازه بعد التحدى به وإعلان عجز الثقلين عن الإتيان بمثله ، وصدق الله القائل فى كتابه المعجز : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)!! (١٢٤)
* ثم لقد قدم العلماء ـ لإثبات الوحى بالعلم التجريبى والفكر الفلسفى ـ دلائل
ساطعة على جوازه وإمكانه فى مواجهة من ينكرون أدلة الشرع.
ومنها التنويم المغناطيسى الذى كشفه الدكتور (مسمر) فى القرن الثامن عشر ، واعترف به العلماء ، وأثبتوا بواسطته أن للإنسان عقلا باطنا أرقى وأسمى من عقله المعتاد ، وأنه فى حالة التنويم يرى ويسمع من بعد شاسع ، ويقرأ من وراء حجب ، ويخبر عما سيحدث مما لا يوجد فى عالم الحس علامة لحدوثه.
ثم إننا فى عصرنا الحديث وقد أصبح أمامنا التلفاز والراديو واللاسلكى وغير ذلك مما نشاهد ونتخاطب به عبر المسافات البعيدة ، أنستبعد بعد ذلك على قدرة الله ـ تعالى ـ إعلام الله ـ تعالى ـ لخواص عباده بما شاء من وحيه؟؟
ثم كيف نذعن لقول كبار الفلاسفة كأفلاطون أن هناك عبقرية ، وقد عرفها بأنها إلهية مولدة للإلهامات العلوية للبشر ، ويقرر الفلاسفة أنها لا شأن للعقل فيها ، ثم نستبعد على خلّاق القوى والقدر أن يمد بوحيه الإلهى من شاء من عباده؟ (١٢٥)
وهناك الكثير والكثير من الأدلة التى بسطها العلماء للاستدلال لصحة وقوع الوحى والجواب عن الشبهات الواردة عليه فى العديد من المصادر القرآنية ؛ «كالنبإ العظيم» للدكتور محمد عبد الله دراز ، و «الوحى المحمدى» للشيخ محمد رشيد رضا ، و «مناهل العرفان» للعلامة الزرقانى وغيرها ، فضلا عن أمهات التفاسير ؛ للفخر الرازى والقرطبى والآلوسي وغير ذلك ، والله تعالى أعلم.
أ. د. / جودة محمد أبو اليزيد المهدى
هوامش موضوع الوحى
__________________
(١) سورة الشورى : الآية ٧.
(٢) محمد رشيد رضا : الوحى المحمدى ص ٧ ط الزهراء للإعلام العربى ١٤٠٨ ه ـ ١٩٨٨ م.
(٣) د / جودة محمد أبو اليزيد المهدى : فتح الجليل فى علوم التنزيل : ص ١٩١ ـ ١٩٢ ، ط / دار الفاتح للتراث الإسلامى.
(٤) محمد رشيد رضا : الوحى المحمدى ص ٨ ط / الزهراء ١٤٠٨ ه ، وعبد العظيم الزرقانى : مناهل العرفان ١ / ٥٦ ط / الحلبى.
(٥) سورة القصص : الآية ٧.
(٦) سورة المائدة : الآية ١١١.
(٧) سورة النحل : الآية ٦٨.
(٨) سورة مريم : الآية ١١.
(٩) سورة الأنعام : الآية ١٢١.
(١٠) سورة الأنعام : الآية ١١٢.
(١١) انظر تفسير البيضاوى (أنوار التنزيل) ١ / ٢٧٤ ط / الحلبى ١٣٥٨ ه ١٩٣٩ م.
__________________
(١٢) سورة طه ـ عليه الصلاة والسلام ـ الآية ٣٨ ، وبعض الآية ٣٩.
(١٣) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ٢ / ٣٩ ط / الحلبى ١٣٥٨ ه ١٩٣٩ م.
(١٤) سورة المؤمنون : الآية ٢٧.
(١٥) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ٢ / ٨٣ ط / الحلبى ١٣٥٨ ه.
(١٦) سورة الأنفال صدر الآية الكريمة ١٢.
(١٧) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ١ / ٣٢٣ ط / الحلبى ١٣٥٨ ه.
(١٨) سورة النساء : الآية ١٦٣.
(١٩) سورة الأنبياء : الآية ٢٥.
(٢٠) سورة الأنفال : صدر الآية الكريمة ١٢.
(٢١) سورة النجم : الآية ١٠ ، وانظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ١ / ٣٤٠.
(٢٢) انظر (أنوار التنزيل) للبيضاوى ١ / ٣٤٠ ط / الحلبى ، والوحى المحمدى لمحمد رشيد رضا ص ٧ ط / الزهراء.
(٢٣) ،
(٢٤) فتح البارى بشرح صحيح البخارى لابن حجر ١٣ / ٣٨٩ ط / الهيئة المصرية ١٣٤٨ ه.
(٢٥) انظر تخريجه فى (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١ / ١٢٧ ط / المشهد الحسينى ١٣٨٧ ه.
(٢٦) سورة الشورى : الآية ٥١.
(٢٧) سورة الصافات : الآية ١٠٢.
(٢٨) سورة الفتح : الآية ٢٧.
(٢٩) انظر (الجامع الكبير) للحافظ السيوطى ١ / ٢٤٣ ، وانظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ١٦ ، و (مناهل العرفان) للزرقانى ١ / ٥٧.
(٣٠) انظر (روح المعانى) للإمام الآلوسي ٢٥ / ٥٤ ط / المنيرية ، و (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى ٢٧ / ١٨٧ ط / دار الفكر ١٤٠١ ه ١٩٨١ م.
(٣١) سورة النجم : الآية ١٣.
(٣٢) أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد من صحيحه ٤ / ١٩٩ ، ط / حجازى ، وانظر (روح المعانى) للآلوسى ٢٨ / ٥٢.
(٣٣) سورة القصص : الآية ٣٠.
(٣٤) انظر (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) لابن عجيبة الحسنى ٥ / ٣٣٠ ، ط / الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٤٢١ ه ـ ٢٠٠٠ م.
(٣٥) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ١٦ ، ط / الهيئة المصرية.
(٣٦) أخرجه البخارى فى باب (التخفيف فى الوضوء) حديث ١٣٨ ، وخرجه الحافظ فى فتح البارى عن مسلم (١ / ٢٨٩).
(٣٧) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ١٥ ـ ١٦ ط / الهيئة المصرية.
(٣٨) ،
(٣٩) نفس المصدر السابق.
(٤٠) انظر مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٢٢ ، نشر دار صادر.
(٤١) ،
(٤٢) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ٨٥ ، ١٧ ط / الهيئة المصرية.
(٤٣) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١ / ١٢٥ ، ط / المشهد الحسينى.
(٤٤) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى ١ / ٤٤ ، ط / الحلبى ، الأولى ١٣٩٢ ه ـ ١٩٧٢ م.
(٤٥) انظر (فتح البارى) لابن حجر العسقلانى ١٢ / ٣٣٦ ، ط / الهيئة المصرية.
(٤٦) انظر (الإتقان) للحافظ السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١ / ١٢٩ ، ط / المشهد الحسينى.
(٤٧) انظر (عمدة القارى شرح صحيح البخارى) للإمام بدر الدين العينى ١ / ٤٤.
(٤٨) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ١٩ ، ط / الهيئة المصرية.
(٤٩) ،
(٥٠) انظر (عمدة القارى شرح البخارى) للإمام العينى ١ / ٤٤ ، ط / الحلبى ، وانظر (الإتقان) للإمام السيوطى ١ / ١٢٩.
(٥١) أخرجه الإمام مسلم فى كتاب الإيمان : باب ذكر سدرة المنتهى : ١ / ١٥٧ ، ط / دار الفكر ـ ببيروت ١٣٩٨ ه.
(٥٢) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ١٥ ، ط / الهيئة المصرية.
(٥٣) ،
(٥٣) ،
(٥٤) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١ / ٦٥ ـ ٦٦ ، ١٢٩ ، ط / المشهد الحسينى.
__________________
(٥٥) انظر (مناهل العرفان) للزرقانى ١ / ٥٧ ، ط / الحلبى.
(٥٦) ،
(٥٧) انظر الإتقان للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١ / ٦٧ ، ١٢٩.
(٥٨) سورة الشعراء : الآيات ١٩٣ ـ ١٩٥.
(٥٩) انظر (مفاتيح الغيب) ٢٤ / ١٦٦ ، و (روح البيان) ٦ / ٣٠٦ وتفسير الشوكانى ٣ / ١٩٤.
(٦٠) سورة النحل : الآية ١٠٢.
(٦١) انظر (تفسير الشوكانى) ٣ / ١٩٤.
(٦٢) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم ١ / ١٣٠.
(٦٣) ،
(٦٤) نفس المصدر ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦ و (مناهل العرفان) للزرقانى ١ / ٤٠ ، ط / الحلبى.
(٦٥) انظر (مناهل العرفان) للزرقانى ١ / ٤٠ ـ ٤١.
(٦٦) انظر الإتقان للإمام السيوطى ١ / ١٢٦.
(٦٧) ،
(٦٨) نفس المصدر ١ / ١٢٥ ـ ١٢٧.
(٦٩) سورة الشعراء : الآية ١٩٤.
(٧٠) انظر (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى ٢٤ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ، ط / دار الفكر ببيروت ، وروح المعانى للآلوسى ١٩ / ١٢٠ ـ ١٢١ ، ط / المنيرية.
(٧١) سورة التوبة : الآية ٦ ، وانظر (مناهل العرفان) للزرقانى ١ / ٤٢ ، ط / الحلبى.
(٧٢) ،
(٧٣) ،
(٧٤) انظر (الإتقان) للإمام السيوطى ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، ط / المنيرية.
(٧٥) سورة الحشر : الآية ٢١.
(٧٦) انظر (البحر المديد) للإمام ابن عجيبة ٦ / ١١٩ ، ط / الهيئة العامة للكتاب.
(٧٧) سورة الروم : الآية ٤١.
(٧٨) انظر (أعظم المرسلين صلىاللهعليهوسلم من المولد إلى المبعث) للدكتور جودة محمد أبو اليزيد المهدى ج ١ ص ٤٣ ، ط / دار غريب للطباعة والنشر بالقاهرة سنة ١٩٩٧ م.
(٧٩) سورة الشورى : الآية ٥٢.
(٨٠) سورة الملك : الآية ١٤.
(٨١) سورة الإسراء : الآية ٩.
(٨٢) انظر : (الوحى المحمدى) لمحمد رشيد رضا ص ١٤ ، ط الزهراء ١٤٠٨ ه.
(٨٣) سورة النحل : الآية ٦٤.
(٨٤) انظر (الوحى المحمدى) لمحمد رشيد رضا ص ١٢ ـ ١٧ بتصرف.
(٨٥) سورة المائدة : الآيتان ١٥ ـ ١٦.
(٨٦) انظر الحديث بتخريجه فى (عمدة القارى) للإمام العينى ١ / ٥١ ـ ٥٣ ، ط / الحلبى.
(٨٧) انظر المصدر السابق ١ / ٦٨ ، وانظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ٢٢ ط / الهيئة المصرية.
(٨٨) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى ١ / ٦٧.
(٨٩) ،
(٩٠) ،
(٩١) المصدر نفسه ١ / ٦٨ وفتح البارى ١ / ١٨.
(٩٢) انظر (عمدة القارى) للإمام العينى ١ / ١٧.
(٩٣) انظر (المفردات) للراغب الأصفهانى ص ٣٧٣ ط / دار المعارف.
(٩٤) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ٢٢ ط الهيئة المصرية.
(٩٥) انظر (أسباب النزول) للواحدى ، بتحقيق السيد صقر ص ٤٨٩ ، ط / الأولى ، و (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى ٣٢ / ٢١٠ ، ط / دار الفكر.
(٩٦) ـ
(٩٧) انظر (فتح البارى) لابن حجر ١ / ٢٢ ـ ٢٣.
(٩٨) نفس المصدر ١٢ / ٣٠٣.
(٩٩) نفس المصدر ٨ / ٥٧٧.
(١٠٠) نفس المصدر ١٢ / ٣٠٣.
(١٠١) انظر : (مباحث فى علوم القرآن) للدكتور صبحى الصالح ص ٣٥ ـ ٣٦ ، ط / دار العلم للملايين سنة ١٩٩٦ م.
(١٠٢) انظر (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) ١٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، ط / الهيئة المصرية.
(١٠٣) سورة الحجر : الآية ٩.
(١٠٤) سورة البينة : الآية ٢.
(١٠٥) انظر (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) للحافظ ابن حجر ٩ / ١٨ ـ وانظر (البيان فى مباحث من علوم القرآن) للشيخ عبد الوهاب غزلان ص ١٦٠ ، ط / دار التأليف.
(١٠٦) انظر (مدخل إلى القرآن الكريم) للدكتور محمد عبد الله دراز ص ١٣٤ ، ط / دار القرآن الكريم بالكويت سنة ١٣٩١ ه.
__________________
(١٠٧) انظر (مباحث فى علوم القرآن) للدكتور صبحى الصالح ص ٦٩ ، ط / دار العلم للملايين (السادسة).
(١٠٨) انظر (سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد) للعلامة محمد بن يوسف الصالحى الشامى ١٢ / ٣٩٨.
(١٠٩) ،
(١١٠) انظر (سير أعلام النبلاء) للذهبى ١ / ٢٦٠.
(١١١) انظر (فتح البارى) لابن حجر ٩ / ١٨ ، ط / الهيئة المصرية ، و (سبل الهدى والرشاد) للشامى ١٢ / ٤٠٢ ، ط / المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، و (شذرات الذهب) لابن العماد ١ / ٤٤ ، ط / المكتب التجارى بلبنان.
(١١٢) ،
(١١٣) أنظر (أسد الغابة) لابن الأثير ٢ / ٦٥ ، ط / الشعب ، و (فتح البارى) لابن حجر ٩ / ١٨.
(١١٤) انظر (وثاقة نقل النص القرآنى من رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أمته) للأستاذ الدكتور محمد حسن جبل ص ١٦٢ ، ط / التركى بطنطا.
(١١٥) انظر (فتح البارى) لابن حجر ٩ / ١٨. ط / الهيئة المصرية.
(١١٦) نفس المصدر ، وانظر (سير أعلام النبلاء) للذهبى ١ / ٣٨٩.
(١١٧) سير أعلام النبلاء ٢ / ٤٤١ ، ط / الرسالة.
(١١٨) نفس المصدر ٢ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩.
(١١٩) نفس المصدر ٢ / ٤٢٩.
(١٢٠) انظر (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) ٩ / ١٨ ، ط / الهيئة المصرية.
(١٢١) انظر (سير أعلام النبلاء) ٢ / ٤٤١.
(١٢٢) انظر (وثاقة نقل النص القرآنى) للأستاذ الدكتور محمد حسن جبل ص ١٦٦ والأثر فيه معزو إلى (الرياض النضرة) للمحب الطبرى ج ٢ ص ٨٢ ـ ص ١٥٢.
(١٢٣) المصدر السابق ، والعزو فيه إلى (سبل الهدى والرشاد) للصالحى ١٢ / ٣٨٢ ـ ٤٤١.
(١٢٤) سورة الإسراء : الآية ٨٨.
(١٢٥) انظر (النبأ العظيم) للدكتور محمد عبد الله دراز ص ٦٧ ، و (مناهل العرفان) للزرقانى ١ / ٦٦ ـ ٨٤.
أسباب النزول
حقيقة سبب النزول (تعريف سبب النزول)
من خصائص نزول القرآن الكريم أنه لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكنه نزل مفرقا فى مدة الرسالة النبوية ، سواء كان ذلك فى آياته أو سوره ، وقد أشار القرآن الكريم إلى الحكمة من هذا التفريق فى النزول ، وهى تتمثل فى تيسير قراءته وحفظه ، وفهمه والعمل به ، وذلك فى قول الله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) الإسراء / ١٠٦.
كذلك فإن من خصائص نزول القرآن الكريم : أن منه ما نزل فى مواجهة الوقائع والأحداث والمناسبات ولكن ليس معناه أن نلتمس لكل آية فى القرآن سببا لنزولها ، أو قصة تلابس هذا النزول ، بل إن منه ما كان كذلك ، ومنه ما نزل ابتداء من غير سبب ، وقد نبه العلماء فى عبارة واضحة إلى هذا التقسيم ، قال الإمام برهان الدين ابن عمر الجعبرى (ت سنة ٧٣٢ ه) : «نزل القرآن على قسمين : قسم نزل ابتداء ، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال» (١).
وهذا القسم الأخير فى مقولة الجعبرى هو مدار البحث فى سبب النزول.
وبداية فإنه لا يتسنى بحث تفاصيل هذا الموضوع ما لم يتحدد مفهوم سبب النزول بطريقة واضحة ، ومن ثمّ فإن أول ما ينبغى معالجته فى هذا الصدد هو : تعريف سبب النزول ، فما هو؟
جماع ما قاله العلماء فى تعريفه أنه : «ما نزلت الآية أو الآيات فى شأنه أيام وقوعه :
بيانا لحكمه إذا كان حادثة أو نحوها ، أو جوابا عنه إذا كان سؤالا موجها إلى النبى صلىاللهعليهوسلم» (٢).
وفى التعريف أمران يحتاج كل منهما إلى بيان :
الأمر الأول : معاصرة السبب لما نزل فى شأنه من الآيات :
وهو ما عبر عنه فى التعريف بأنه : «ما نزلت الآية أو الآيات فى شأنه أيام وقوعه».
فالحادثة التى تعتبر فى اصطلاح العلماء سببا لنزول آية أو آيات من القرآن هى تلك الحادثة التى تكون قد وقعت فى عهد النبى صلىاللهعليهوسلم
سواء نزل القرآن عقب حدوثها مباشرة ، أو تراخى عن ذلك الحدوث زمنا لحكمة ، ما دام الحدث قد وقع فى عهد النبى صلىاللهعليهوسلم.
وعليه فإنه من التوسع الذى لا يتفق وهذا التحديد فى التعريف ما فعله بعض العلماء ، أو ذهب إليه بعض المفسرين من اعتبار الحوادث الماضية ، والوقائع الغابرة التى نزل بها القرآن ، وساقها فى مجال العظة والعبرة من قبيل أسباب نزول ما جاء فى حكايتها وفى تفصيلها من الآيات ، فما حدث بين الأنبياء السابقين وأقوامهم من اتّباع هؤلاء الأقوام لهم ، أو صدّهم عن رسلهم ، ومن تصديقهم أو تكذيبهم إياهم ، وما تخلل ذلك من إيذاء للرسل ، لا يعتبر شىء من ذلك سببا لما نزل بحكايته من آيات القرآن الكريم ، بل إذا كان هناك من سبب للنزول فى أمثال هذه القصص فإنه بالقطع ليس تلك الأحداث فى ذاتها ، وإنما ما سيقت لأجله من العظة والعبرة للمؤمنين من جهة ، ولتهديد الكافرين من جهة أخرى ، ولتثبيت قلب النبى صلىاللهعليهوسلم من جهة ثالثة ، وكثيرا ما نرى هذه الأسباب مصرحا بها فى القرآن الكريم نفسه.
وذلك كما جاء فى قول الله تعالى عقب حديث عن المشركين من قريش فيه تعريض بهم ، وتهديد لهم : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يوسف / ١٠٩ ـ ١١١.
ومن هذا القبيل : ما جاء عقب حديث القرآن الكريم عن أطراف من قصص نوح وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، من قول الحق تبارك وتعالى :
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) هود / ١٢٠.
ومنه كذلك ما جاء تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو قول الله سبحانه : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) الأنعام / ٣٣ ، ٣٤.
فهذه الآيات ـ كما تقدم ـ تصرح بأسباب نزول هذه القصص التى تتعلق بالوقائع الماضية ، وليست تلك الوقائع فى ذاتها سببا لنزول هذه الآيات ، قال السيوطى رحمهالله تعالى : «والذى يتحرر فى سبب النزول : أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه ، ليخرج ما ذكره الواحدى فى تفسيره فى سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به ، فإن ذلك ليس من أسباب النزول فى شىء ، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية كذكر قصة قوم نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك ، وكذلك فى قوله : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) النساء / ١٢٥ ـ سبب اتخاذه خليلا ، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى» (٣).
كما أنه لا يعد من قبيل سبب النزول ما اشتملت عليه بعض آيات القرآن من الأمور المستقبلة كأحوال اليوم الآخر ، وما يكون فيه من ثواب أو عقاب (٤) نحو ما جاء فى قول الله سبحانه : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) الفرقان / ٢٥ ـ ٢٩.
من أجل هذا كان النص فى التعريف على معاصرة السبب لما نزل فى شأنه من الآيات ، والذى عبر عنه بأنه : «ما نزلت الآية أو الآيات فى شأنه أيام وقوعه» قيدا يحترز به عن مثل هذه الآيات التى وردت فيما سبق.
الأمر الثانى : مجىء سبب النزول فى إحدى صورتين :
الصورة الأولى : مجيئه فى صورة حادثة تحدث فينزل القرآن ببيان الحكم ، ومن هذا القبيل ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) الآية ـ الأحزاب / ٥٣.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «بنى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بامرأة من نسائه ـ فى رواية البخارى : هى أم المؤمنين زينب بنت جحش رضى الله عنها ـ فأرسلنى فدعوت قوما إلى الطعام ، فلما أكلوا وخرجوا قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم منطلقا قبل بيت عائشة رضى الله عنها ، فرأى رجلين جالسين فانصرف راجعا ، وقام الرجلان فخرجا ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) (٥) (الأحزاب / ٥٣)». وفى الحديث قصة.
الصورة الثانية : مجىء السبب فى صورة سؤال يوجه إلى النبى صلىاللهعليهوسلم فى مسألة ما ، فينزل القرآن بجواب هذا السؤال ، ومن هذا القبيل ما ورد فى سبب نزول قول الله تعالى :
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) البقرة / ٢٢٢.
فعن أنس رضي الله عنه : «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوهن فى البيوت ـ أى ولم يخالطوهن ولم يساكنوهن فى بيت واحد ـ فسأل أصحاب النبىّ صلىاللهعليهوسلم النبىّ صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اصنعوا كل شىء إلا النكاح». فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا ، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما ـ أى غضب عليهما ـ فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبى صلىاللهعليهوسلم فأرسل فى آثارهما فسقاهما ، فعرفنا أن لم يجد عليهما (٦)».
وهذه الصورة وما قبلها هى ما عبر عنها فى التعريف بأن الآيات تنزل : «بيانا لحكمه إذا كان حادثة أو نحوها ، أو جوابا عنه إذا كان سؤالا موجها إلى النبى صلىاللهعليهوسلم».
أبرز المؤلفات فى سبب النزول
اهتم علماء المسلمين اهتماما بالغا بأسباب النزول ، وبرغم أن موضوع هذا الفن يعتبر مبحثا من مباحث علوم القرآن ، وقد عولج بالفعل فيما ألف فيها ، إلا أنه لأهميته قد أفرده العلماء بالتصنيف ، وألفوا فيه مؤلفات استقصت الآيات التى نزلت على سبب ، وذكروا هذه الآيات معزوة إلى مصادرها ، ولنفس الأهمية توفر العلماء على هذه المؤلفات يحققون مروياتها ، ويميزون صحيحها من سقيمها.
فقد أفرده بالتصنيف جماعة من العلماء منهم :
١ ـ على بن المدينى (ت ٢٣٤ ه) رحمهالله تعالى ، ولكن كتابه غير موجود ، بل أشار إليه السيوطى ـ رحمهالله تعالى ـ عند عده لأبرز المصنفات فى أسباب النزول.
٢ ـ أبو الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدى النيسابورى (ت ٤٦٨ ه) رحمهالله تعالى ، وكتابه (أسباب النزول) من أشهر ما صنف فى هذا الباب وهو مرجع مهم للعلماء ولطلاب العلم.
٣ ـ شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر بن على العسقلانى (ت ٨٥٢ ه) رحمهالله تعالى ، ألف كتابا فى أسباب النزول ولكنه مات عنه وهو مسودة لم يكتمل.
٤ ـ الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد المعروف بالسيوطى (ت ٩١١ ه) ألف فى أسباب النزول كتابا سماه : (لباب النقول فى أسباب النزول) وهو من أشهر الكتب المسندة فى هذا الفن.
يقول السيوطى ـ رحمهالله ـ عن المصنفات فى أسباب النزول ، وتطور الكتابة فيها : «أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم على بن المدينى شيخ البخارى ، ومن أشهرها : كتاب الواحدى على ما فيه من إعواز ، وقد اختصره الجعبرى ، فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئا ، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتابا مات عنه مسودة فلم نقف عليه كاملا ، وقد ألفت فيه كتابا حافلا موجزا محررا لم يؤلف مثله فى هذا النوع ، سميته : (لباب النقول فى أسباب النزول» (٧).
وإضافة إلى ذلك فهناك من اهتم بأسباب
النزول فيما كتب ولكن ليس على استقلال ، وإنما جاء ذلك ضمن ما كتبوا فى علوم القرآن أو التفسير ، ومن هؤلاء :
٥ ـ الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى (ت ٧٩٤ ه) رحمهالله تعالى فى كتابه : (البرهان فى علوم القرآن) فقد عنون لأول مباحث هذا الكتاب ب : (معرفة أسباب النزول).
٦ ـ الإمام أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن على بن الجوزى (ت ٥٩٧ ه) رحمهالله تعالى فى كتابه : (زاد المسير فى علم التفسير).
٧ ـ الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن فرح القرطبى (ت ٦٧١ ه) رحمهالله تعالى فى كتابه : (الجامع لأحكام القرآن).
٨ ـ الإمام الحافظ أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير (ت ٧٧٤ ه) رحمهالله تعالى فى كتابه : (تفسير القرآن العظيم).
٩ ـ شهاب الدين الآلوسي (ت ١٢٧٠ ه) رحمهالله تعالى فى كتابه (روح المعانى) وغير هؤلاء كثير.
طريق معرفة سبب النزول
معرفة سبب النزول من الأمور التى لا تقبل اجتهادا بحال من الأحوال ، لأن ما ترتبط به هذه الأسباب من ملابسات ليس افتراضا عقليا يقوم على ضرب الأمثال ، بل هى أحداث ووقائع حدثت بالفعل فى أوقات محدودة وفى ظروف معينة وملابسات معروفة ، وفى مثل هذه الأحوال لا مجال للوقوف على معرفتها إلا بنقل واضح عمن عاصر هذه الأحداث ، وشاهد تلك الملابسات.
ومن ثم فإن العلماء قد قرروا أن المرجع فى معرفة أسباب النزول يتحتم أن يكون عن طريق النقل الصحيح عن صحابة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأنهم هم الذين عاصروا الوحى ، وعايشوا التنزيل ، ووقفوا على الأحداث والوقائع التى أحاطت بما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب ، كما أنهم سمعوا من الرسول الكريم صلىاللهعليهوسلم ما لم يسمعه غيرهم.
من أجل ذلك تعين أن ينفرد هؤلاء بكونهم المرجع فى معرفة أسباب النزول ، وعليه فإنه لا مجال لعمل العقل فى هذا الأمر ، اللهم إلا أن يكون فى إطار ما ورد من أسباب النزول ، ونقل عن الصحابة وتعدد فى الحادثة الواحدة ، فإن عمل العقل عندئذ يتمثل فى محاولة الترجيح بين الروايات ، أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها.
ولأن معرفة أسباب النزول يترتب عليها فى مجال التشريع أمور هامة تعميما ، أو تخصيصا ، أو إثباتا ، أو نفيا ، فإن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد احتاطوا لهذا الأمر أشد الحيطة ، فلم يقولوا فى شىء مما قالوه برأى أو اجتهاد ، ولكنهم قرروا أسباب النزول وأخبروا بها ، مستندين إلى قرائن تحتف بقضايا هذه الأسباب وأحداثها. ومع هذا فإنهم ضاعفوا هذه الحيطة عند ما حددوا الألفاظ التى عبروا بها عما أخبروا من أسباب النزول تحديدا واضحا ، فإذا كان الصحابى لا يقطع ـ بناء على ملابسات وقرائن تعيّن ما يخبر به ـ بأن سبب آية ما هو هذا الحدث بعينه ، فإن تعبيره عن سبب النزول يتضح فيه ذلك ، فنراه لا يجزم بما قال ، بل يقول : أحسب أن هذه الآية نزلت فى كذا ، ونحو ذلك.
مثال ذلك : ما أورده العلماء فى سبب النزول
قول الله تبارك وتعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء / ٦٥.
فقد ورد فى الحديث عن الزبير بن العوام رضي الله عنه ، أنه خاصم رجلا من الأنصار فى شراج الحرة (٨) كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصارى : سرّح الماء يمر عليه ، فأبى عليه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم (٩) : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك». فغضب الأنصارى وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر». فاستوفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم للزبير حقه ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأى فيه سعة له وللأنصارى ، فلما أحفظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم الأنصارىّ استوفى للزبير حقه فى صريح الحكم ، قال الزبير : لا أحسب هذه الآية إلا أنزلت فى ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١٠).
ولقد توارثت أجيال العلماء هذا الاهتمام بأسباب النزول ، فإذا كان الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ قد احتاطوا للإخبار به هذه الحيطة ، فإن العلماء قد احتاطوا أيضا فى التنبيه على أن النقل الصحيح عن هؤلاء الصحابة الأبرار هو المرجع الوحيد فى معرفة أسباب النزول ، وحذروا من سلوك غير هذا السبيل فى طلبها.
قال الواحدى رحمهالله تعالى : «ولا يحل القول فى أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب ، وبحثوا عن علمها وجدّوا فى الطّلاب ـ أى الطلب» ثم روى عن سعيد بن جبير رحمهالله عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اتقوا الحديث إلا ما علمتم ، فإن من كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار» (١١) ثم قال : «والسلف الماضون كانوا من أبعد الغاية احترازا عن القول فى نزول الآية .. وذكر عن محمد بن سيرين قوله : «سألت عبيدة عن آية من القرآن ، فقال : اتق الله وقل سدادا ، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن ، وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا ، ويخلق إفكا وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكر فى الوعيد للجاهل بسبب الآية» (١٢).
قال الشيخ مناع القطان رحمهالله تعالى بعد أن نقل قول الواحدى السابق معقبا :
«وإذا كان هذا قول ابن سيرين وهو من أعلام
علماء التابعين تحريا للرواية ، ودقة فى الفصل ، فإنه يدل على وجوب الوقوف عند أسباب النزول الصحيحة ، ولهذا فإن المعتمد من ذلك فيما روى من أقوال الصحابة ما كانت صيغته جارية مجرى المسند ، بحيث تكون هذه الصيغة جازمة بأنها سبب النزول» (١٣).
أما قول التابعى فإنه إذا كان صريحا فى سبب النزول ، فقد قرر السيوطى رحمهالله تعالى أنه إذا صح سنده يقبل ويكون من قبيل المرفوع أيضا مثل قول الصحابى ، لكنه مرسل ، خاصة إذا كان القائل من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم : كمجاهد بن جبر المفسر رحمهالله تعالى (ت ١٠٤ ه) ، وأبى عبد الله عكرمة المدنى مولى ابن عباس رضى الله عنهما وأحد أوعية العلم رحمهالله تعالى (ت ١٠٥ ه) ، وأبو عبد الله سعيد بن هشام الأسدي رحمهالله تعالى (ت ٩٥ ه) ، أو اعتضد بمرسل آخر (١٤) إن لم يكن من هؤلاء الأئمة الأعلام.
الصيغ التى يرد بها سبب النزول
أهمية بحث هذه المسألة مبعثها أن صيغة سبب النزول هى التى يتوقف عليها كيفية الجمع أو الترجيح بين الروايات المختلفة عند تعدد أسباب النزول للآية أو الآيات ، كما سيأتى بحثه فيما بعد.
ولقد قرر العلماء انطلاقا من تتبع أسباب النزول فى القرآن الكريم أن العبارات الدالة على أسباب النزول تأتى على وجهين ، لأنها إما أن تكون صريحة فى كون الحادثة أو نحوها سببا فى نزول الآية ، فعندئذ تكون تلك الصيغة نصا فى السببية لا يقبل التأويل أو الاحتمال ، وإما أن تكون العبارة غير صريحة فى السببية فتكون عندئذ محتملة ، فيجوز أن تكون تعبيرا عن السبب ، كما يصلح أن تكون تعبيرا عن تفسير الآيات ، وبيان معناها وما تضمنته من أحكام ، وفيما يلى بيان كل من الصيغتين فى التعبير عن سبب النزول :
الصيغة الأولى :
هى التى يقول الصحابى مثلا : سبب نزول هذه الآية كذا. فهذه العبارة صيغة صريحة فى السببية ، وكذلك إذا أتى بفاء التعقيب ، وقرنها بعبارة الإنزال بعد ذكر حادثة أو سؤال ، كأن يقول : حدث كذا وكذا ، فأنزل الله تعالى آية كذا ، أو فنزلت آية كذا ، أو يقول :
سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن كذا فنزلت آية كذا ، فهذه الصيغة كذلك صريحة فى السببية ، لأن قائلها أوضح فيها أن نزول الآية أو الآيات ترتب على وقوع تلك الحادثة ، أو توجيه هذا السؤال ، ومعنى ذلك أن سبب النزول هو هذه الحادثة ، أو ذلك السؤال.
مثال قول الصحابى : «حدث كذا فنزلت آية كذا». ما ثبت فى الصحيح (١٥) عن مسروق قال : سمعت خباب بن الأرت يقول : جئت العاص بن وائل السهمى أتقاضاه حقا لى عنده ، فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا ، حتى تموت ثم تبعث ، قال : إنى لميت ثم مبعوث؟ فقلت : نعم ، فقال : إن لى هناك مالا وولدا فنزلت : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) مريم / ٧٧.
وأما قول الصحابى : «سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن كذا فأنزل الله آية كذا» فمثاله ما جاء
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : «أن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوهن فى البيوت ، فسئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فأنزل الله سبحانه وتعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «جامعوهن فى البيوت ، واصنعوا كل شىء غير النكاح» (١٦).
وفى مقابل هذه الدلالة الصريحة على سببية النزول هناك من العبارات ما هو صريح فى التفسير ، لا يحتمل السببية بوجه ، كأن يقول الصحابى مثلا : المراد من هذه الآية كذا ، أو تدل هذه الآية على كذا ، أو يؤخذ منها كذا.
فهذه العبارات وأمثالها غير صريحة فى السببية.
مثال ذلك ، ما أورده ابن كثير رحمهالله تعالى عن ابن عباس رضى الله عنهما فى تفسير قول الله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) السجدة / ٢١.
قال : «قال ابن عباس : يعنى بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وآفاتها وأسقامها ، وما يحل بأهلها مما يبتلى الله به عباده ليتوبوا إليه .. وفى رواية عنه : يعنى إقامة الحدود عليهم» (١٧).
الصيغة الثانية :
هى التى تكون العبارة فيها محتملة ، فتصلح لأن يراد بها سبب النزول ، كما تصلح أن يراد بها التفسير ، كأن يقول الصحابى رضي الله عنه : «نزلت هذه الآية فى كذا» لكن لا ينبغى أن يفهم احتمال هذه العبارة للأمرين معا دفعة واحدة فى الموضع الواحد ، بل المراد أنها إما أن يراد بها سبب النزول ، أو يراد بها التفسير ، فتارة يراد منها السبب ، وتارة يراد منها بيان ما تشتمل عليه الآية ، وعندئذ يتوقف فهم المراد منها على دليل أو قرينة توضح هذا المراد.
قال ابن تيمية رحمهالله تعالى : «قولهم :
نزلت هذه الآية فى كذا. يراد به تارة سبب النزول ، ويراد به تارة أن ذلك داخل فى الآية وإن لم يكن السبب ، كما تقول : عنى بهذه الآية كذا ، وقد تنازع العلماء فى قول الصحابى :
نزلت هذه الآية فى كذا ، هل يجرى مجرى المسند ، كما لو ذكر السبب الذى أنزلت من أجله ، أو يجرى مجرى التفسير منه الذى ليس بمسند؟ فالبخارى رحمهالله يدخله فى المسند ، وغيره لا يدخله فى المسند ، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره ، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا فى المسند» (١٨).
ونعود إلى بيان القرينة التى تحدد المراد ، فإذا ذكر الصحابى فى عبارته بعد حرف الجر (فى) شخصا أو حادثة ، أو ما يماثل ذلك ، كأن يقول : نزلت هذه الآية فى فلان ، أو فى قوم مثلا ، أو فى حادثة ، كان المقصود بها ذكر سبب النزول. أما إذا ذكر بعد حرف الجر معنى تشتمل عليه الآية ، أو حكما شرعيا مأخوذا منها ، فالمقصود بعبارته التفسير فى هذه الحالة.
مثال ذلك ، قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) المائدة / ١٠١.
فإنه إذا قيل : هذه الآية نزلت فى رجل (١٩) قال : يا رسول الله ، من أبى؟ فقال : أبوك فلان. كان ذلك بيانا لسبب نزولها ، وإذا قيل :
هذه الآية نزلت فى النهى عن كثرة مسائلتهم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لأن السؤال عما لا يعنى ولا تدعو إليه الحاجة قد يكون سببا فى عنت السائل والمشقة عليه ، كان ذلك تفسيرا لها وبيانا لما تشتمل عليه.
والظاهر غلبة استعمال هذه العبارة فى المعنى الثانى المراد به التفسير ، ومن أجل ذلك يقول بدر الدين الزركشى رحمهالله تعالى :
«وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية فى كذا ، فإنه يريد أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم ، لا أن هذا كان السبب فى نزولها» (٢٠).
وقد سبق ذكر ما قاله ابن تيمية رحمهالله تعالى عن حكم هذا التفسير من جهة اعتباره مسندا أو غير مسند.