الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

تفسيرات غريبة «أغرب منها ما قاله قتادة من زيادة الخلق الملاحة فى العينين والحسن فى الأنف والحلاوة فى الفم (١٩).

ومن المحدثين من المفسرين تنبه الشهيد الأستاذ سيد قطب إلى أن الأيدى هى القوة ، والقوة أوضح ما ينبئ عنها بناء السماء الهائل التناسق بأى مدلول من مدلولات كلمة السماء سواء أكانت تعنى مدارات النجوم والكواكب أم تعنى مجموعة من المجموعات النجمية التى يطلق عليها اسم المجرة ، وتحوى مئات الملايين من النجوم (٢٠).

ولو أن المرحوم سيد قطب نسئ له فى أجله الذى مضى على انقضائه نحو سبع وثلاثين سنة ، واطلع على الاكتشافات العلمية الحديثة لأكمل الصورة كاملة لمداومة اتساع الكون بحول من الله خالقه سبحانه وتعالى.

وفى حقيقة اتساع الخلق والزيادة فيه ، يستفتح المولى ـ سبحانه وتعالى ـ سورة فاطر بقوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

إن دليل الحسم على ما تعبر عنه الآية هنا هو ذلك الشطر من الآية بقوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ـ ومعنى الخلق هنا هو عملية الخلق.

والأمر العجيب : إن عددا من المفسرين لم يوفق إلى مدلول الآية ومن ثم كان الخطأ الذى وقعوا فيه ، فابن الجوزى على سبيل المثال يرى أن زيادة الخلق مقصود به الملائكة ، والفهم نفسه يقول به القرطبى الذى يفسر (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أى : يزيد فى خلق الملائكة كيف يشاء. وغير ذلك كثير من سوء الفهم الذى أدى إلى خطأ التفسير ، وإن الذى يقرأ الآية بعمق وإمعان حتى من المحدثين ـ وإن كان بعض مشهورى المفسرين المحدثين وقعوا فى الخطأ نفسه ـ ينتهى إلى الفهم الذى هو أقرب إلى الصواب ، ومرة أخرى نعرض لنص الآية وهى قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) فقصر المفسرون الزيادة فى الخلق على الملائكة دون السموات والأرض اللذين تتلاءم زيادة الخلق فيهما أكثر من ملاءمتها لزيادة الملائكة.

ومن ثم تكون جملة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) الأقرب إلى الصواب الذى يعنى اتساع الكون منه إلى قصر زيادة الخلق على الملائكة ، والسموات بالذات هى ما نراه أرجح قصدا لانسجامها مع بنية الآية ، ولقول الله عزوجل فى سورة النازعات : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ

٨٤١

خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) (٢١).

والحق أن الحديث عن السنن الإلهية فى خلق السموات حديث طويل يحوى من نعم الله ـ سبحانه ـ ما لا يتسع له المقام فى هذا البحث ، الذى روعى فيه الإيجاز ، لأسباب اقتضتها طبيعة الموضوع الكبير الذى يشكل بحثنا هذا جزءا منه.

أ. د. مصطفى الشكعة

هوامش :

__________________

(١) الأنعام الآيتان ١٠١ ، ١٠٢.

(٢) سورة إبراهيم الآيات ٣٢ ـ ٣٤.

(٣) سورة البقرة الآية ٦٤.

(٤) الأعراف الآية ٥٤.

(٥) صفوة التفاسير المجلد الأول صفحة ٤٥٠ الطبعة الرابعة.

(٦) تفسير القرطبى المجلد السابع صفحة ٢١٧.

(٧) سورة هود الآية ٧.

(٨) الكشاف المجلد الثانى صفحة ٣٨٠.

(٩) سورة يس الآيات ٣٨ ـ ٤٠.

(١٠) سورة الرعد الآية الثانية.

(١١) صفوة التفاسير المجلد الثانى صفحة ٧٣.

(١٢) بحث عنوانه «وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى» جريدة الأهرام اليومية المصرية صفحة ١٢ بتاريخ ٣٠ سبتمبر ٢٠٠٢.

(١٣) انظر تفسير ابن كثير المجلد ٣ صفحة ٥٤٩ ، ٥٥٠.

(١٤) تفسير الجلالين المجلد الثانى.

(١٥) المجلد الثالث صفحة ١٥.

(١٦) القيامة الآيات ٧ ـ ٩.

(١٧) جريدة الأهرام المصرية ، مقال بعنوان «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم» الصفحة الثانية عشرة بتاريخ ٢ سبتمبر ٢٠٠٢ م.

(١٨) ،

(١٩) آراء بعض المفسرين التى أوردها صاحب صفوة التفاسير المجلد الثانى صفحة ٥٦٤ ، ٥٦٦.

(٢٠) فى ظلال القرآن المجلد السادس صفحة ٣٣٨٥.

(٢١) سورة النازعات الآيات ٢٧ ـ ٣١.

٨٤٢

(٩)

السنن الإلهية فى خلق الأرض

الأرض هى الكوكب الوحيد الذى خصه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعنايته وفضله بين ملايين الكواكب والنجوم ، فى ملايين المجرات التى يضمها الكون ، الذى لا يعرف حقيقته إلا الله الذى خلقه.

لقد هيأ الله الأرض للحياة بكل أنواعها لجميع من منّ عليهم بالحياة فيها برا وبحرا وجوا وظاهرا وباطنا ، وشرفها بما لم يشرف به كوكبا آخر مع قدرته غير المتناهية على خلق ما يشاء ، وذلك طبقا لمعلوماتنا المحدودة كبشر ، المستمدة من كتابه العزيز وسنة رسوله وخاتم أنبيائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

لقد أراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن تكون الأرض مستقرا لآدم وذريته من البشر ، بعد أن وسوس الشيطان لكل من آدم وزوجته أن يقربا الشجرة التى حرّمها الله عليهما وذلك فى قول الله عزوجل : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (١).

ولما كانت قصة آدم وخروجه وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض من الأهمية بمكان ، فقد وردت مرة أخرى فى سياقها من سورة البقرة فى قول الله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (٢).

لقد اقتضت المناسبة والإرادة الإلهية تذكيرا للبشرية بوجودها فى الأرض ، ذلك

٨٤٣

الحوار الذى أجراه المولى مع ملائكته على النحو الذى ذكرنا فقال جل ثناؤه : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣).

وإذا كانت الآيات السابقة قد اقتصر الخبر فيها على نزول آدم إلى الأرض واستقراره وزوجته فيها إلى حين ، فإن الآيات الأخرى من الكتاب العزيز قد أوضحت أن الله ـ سبحانه ـ قد خلق البشر من الأرض ، ثم يعيدهم إليها بعد الموت ، ثم يخرجهم منها مرة أخرى يوم النشور ، جاء ذلك فى الحوار الذى جرى بين موسى وهارون من ناحية وفرعون من ناحية أخرى فى قوله عزوجل :

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٤).

ذلك خبر نزول آدم وزوجته إلى الأرض ، ومن وجود البشر جميعا فيها : مولدا ومستقرا وبعثا ونشورا ، وإذا كان بعض البشر يرون فى خروج آدم من الجنة وإنزاله إلى الأرض حرمانا لهم من البقاء فى الجنة التى أخرج آدم منها وشرا أصابهم ، فإنهم بذلك يكونون قد ارتكبوا خطأ وإثما كبيرا ، لأن تلك إرادة الله والإرادة الإلهية لا يصدر عنها إلا ما فيه صالح البشرية ، وصالح البشرية يقتضى ـ وقد وهبهم الله العقل وأرسل إليهم النبيين والمرسلين ـ أن يعملوا بتعاليمه التى حملها إليهم المرسلون ، فمن آمن فقد استحق الجنة ومن لم يؤمن فحسابه عند ربه ، وربنا لا يظلم مثقال ذرة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٥).

أما وقد جعل الله الأرض سكنا ومستقرا لعباده من الجن والإنس فقد جرت مشيئته بتحصينها وكمال السيطرة عليها وعلى ساكنيها ، فلا يستطيعون العبث بها أو النفاذ منها أو الانعتاق من بقائهم بين ظهرانيها إلا بسلطان هو باعثه ومسيطر عليه ، جاء ذلك فى صيغة التحدى من القول والحسم فى الخطاب ، حيث يقول جل شأنه : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦).

٨٤٤

ويتبع المولى ـ سبحانه ـ هذا التحدى الحاسم بتسجيل ألوهيته المكينة فى تثبيت قدرته المتينة فى أن كل شىء فى السموات والأرض يسجد له ، من شمس وقمر ونجوم وجبال ودواب وأناس إلا من انحرف من البشر عن الصراط القويم فيقول عز من قائل : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٧).

وفى إطار من مزيد تأكيد قدرته وتمكين إرادته إزاء خلقه الذين منهم المؤمن الطائع والمنكر ، فيسجل قدرته العظمى فى خلق السموات وبنائها وبسط الأرض وإثرائها وذلك فى قوله جل وعز : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٨).

بهذا الخطاب القرآنى المعجز الحاسم يبدى منزل القرآن آياته الحاسمة حكما ، القاطعة مشيئة ، المترعة بفضله وكرمه ، وبيان مننه الإلهية ليس على الإنسان وحده ، وإنما هى للإنسان وما يملك من أنعام وحيوان.

هذه الأرض التى خلقها ومنّ بها على الإنسان خلقا من طينها ومستقرا فى بيوتها ومساكنها واستمتاعا بخيرها من زرع وضرع ، ثم بعد ذلك استخلافا فيها وثواء فى ثراها ، قد غمره تكريما وأنعم عليه بالمنة العظمى ، بأن جعل لذاته العلية بيتا فيها يؤمه الناس حجا وعمرة وصلاة وعكوفا ، وينزل الآيات البينات فى تكريم بيته وتأمين من يعيشون حوله ، رزقا فى الدنيا وثوابا فى الآخرة.

لقد كرم الله الأرض وساكنيها بأن جعل لذاته العلية أول بيت بنى فيها ، إنه كما وصفه الله مبارك وهدى للعالمين ، وأن فيه مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمنا ، وأن على كل مسلم مستطيع أن يحج إليه ، وكيف لا يكون آمنا من دخله وهو بيت الرحمن ، وأن كل من حج إليه أو طاف به فهو ضيف الرحمن ، فهل هناك منة إلهية فى هذا المجال أعظم وأجلّ من تلك المنة التى سجلها القرآن الكريم بقول الله عزوجل : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩).

ويؤكد المولى ـ سبحانه ـ أن الكعبة هى البيت الحرام ـ وجعلها قياما للناس وصلاحا

٨٤٥

لحالهم واطمئنانا لمعاشهم ، وفى هذا البيت يلوذ الخائف ويأمن المطارد ويربح التاجر ، وكذلك جعل الله الشهر الحرام ـ وهو شهر ذى الحجة وتلحق به ثلاثة شهور أخرى ـ حرمة وأمنا وهى ذو القعدة والمحرم ورجب ، يقول الله سبحانه وتعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠).

ومرة أخرى يزيد الله بيته تكريما ، وهو دعاء يدعو به المسلم أول ما يقع بصره على الكعبة ، فيدعوا الله كما كان يدعوه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم زد بيتك هذا تعظيما وإجلالا وتكريما».

يقول الله عزوجل : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١١).

فى الآية السابقة يذكر المولى ـ سبحانه ـ أنه ـ تكريما لإبراهيم وإسماعيل ـ أمرهما بتطهير بيته ـ جل وعلا ـ من الأصنام والأوثان حتى تقر أعين الطائفين حول البيت والمعتكفين فيه والراكعين والساجدين من أن تقع على علامات الشرك وذرائع الكفر ، ثم تكون بعد ذلك منة ما يعرف عند المسلمين بدعوة إبراهيم التى سأل فيها رب العزة قائلا : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تلك الدعوة التى استجاب الله لها ، وهذه الاستجابة ماثلة إلى يومنا هذا وإلى يوم تقوم الساعة ، واستجابة المولى لدعوة إبراهيم هذه من المنن العظمى لأن هذا البلد ـ مكة ـ آمن إلى يوم الدين ، وأهله مرزوقون رزقا موسعا بإذنه تعالى إلى يوم الدين.

وتتجلى عظمة الخالق وفيض كرمه بألا يقف أثر دعوة إبراهيم على من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، بل يقول رب العزة : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) أى فى الدنيا ، لأن هؤلاء الكافرين يسرى عليهم كرم الله لأنهم يعيشون فى كنف بيته الآمن ، ولأنه تعالى يرزق المؤمن والكافر فى الدنيا فهو الرزاق الكريم ، فإذا ما حلت الآخرة كان جزاء الكافرين متكافئا مع كفرهم ، أما المؤمنون فجزاؤهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.

٨٤٦

ثم تتواكب الآية التالية مع أخواتها الآيات السالفات الذكر من كلام رب العالمين ، وهى ليست آيات متواكبة متتابعة وحسب ، وإنما هى منن عظمى متتالية متزاحمة يجود به رب العزة على إبراهيم وذريته ـ ونحن جميعا وقراء هذه الكلمات منهم بإذن الله ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢).

إن ضمن هذه الآيات المتواكبة بل المنن المتوالية دعوة عظمى أخرى لسيدنا إبراهيم ، ذلك أنه دعا ربنا أن يبعث فيهم ـ أى فى ذريته ـ رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم كتابك والحكمة ويزكيهم ، فاستجاب له ربنا وبعث فينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ووضعنا على المحجة البيضاء :

تلا علينا آياتك وعلمنا كتابك ووجهنا إلى صراطك المستقيم ، وهو الرسول الخاتم الذى اخترته مبلغا لأسمى رسالة : خاتمة الرسالات التى سوف تظل تحرسها بهدى من كتابك العظيم ، ويسهم فى التذكير بها والعمل على حفظها ونشرها من اخترته من أتباع دينك المستقيم ، إلى أن ترث اللهم الدنيا ومن عليها وأنت أكرم الأكرمين و

خير الوارثين.

السير فى الأرض :

إن الأرض التى خلقها الله للإنسان لكى تستقر حياته فيها مليئة بمنن الله على خلقه ، مكتظة بآيات خالقها التى ما إن يتفكر الإنسان فيها وفيما تقع عليه عيناه فى أرجائها الواسعة لن يملك إلا أن يؤمن بالله ربا واحدا خالقا مبدعا ، هذا فضلا عن آيات أخرى كثيرة ، ومنن ربانية لا حصر لها ، فيكون بين أمرين لا ثالث لهما : إيمان ، وحسن جزاء ، أو نكران وسوء عقاب ، وإذن فلا مفر له من أن يطيع أمر خالقه بالسير فى أكناف الأرض حتى لا يكون له عند الله حجة إذا لم يستجب لأمره ويذعن إلى الاتجاه إلى الخالق الأعظم.

يقول جل شأنه وتباركت مشيئة ، (الخطاب هنا موجه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (١٣).

٨٤٧

هكذا يكون مصير الخلق ، من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فقد وطأ لنفسه مكانا فى الجنة ، وهو ما تشير إليه الآية المعقبة على الآيتين السابقتين ، وذلك فى قول الله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (الروم : ٤٥).

ويقول المولى موجها الخطاب مرة أخرى وفى نفس الغرض إلى عبده ورسوله ومبلغ رسالته ، أن يطلب إلى الذين لا يؤمنون أن يسيروا فى الأرض ليتفكروا كيف بدأ الله الخلق ، وكيف أن الله يميتهم ثم يحييهم مرة أخرى أو ينشئهم نشأة أخرى ، وأنهم جميعا إليه ينقلبون (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٤).

ويظل التوجيه الإلهى بصيغة الخطاب الموجه من الله إلى عبده ورسوله ، فى إطار من التشجيع والمواساة وذلك فى قوله تعالى :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (الأنعام : ١٠). ويتكرر الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يظل على صيغة أمر الكفار بالسير فى الأرض لتتسع آفاق المعرفة عندهم فيعرفوا عاقبة المكذبين (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام : ١١) ويظل النهج القرآنى العظيم على رسله فى خطاب الرسول ولكن بصيغة «قل» وذلك فى قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٥).

وتتخذ آيات الكتاب العزيز نهجا متغايرا فى السير فى الأرض ، فبعد أن كان «السير» أمرا صار خبرا استنكاريا ؛ ذلك أن عقاب الله حاق بالكافرين لأنهم ساروا فى الأرض وعلموا خبر الذين كفروا وخبر الذين آمنوا ، ومع ذلك ظلوا مستمسكين بكفرهم ، فدمر الله عليهم أسباب حياتهم ، وذلك فى قوله تعالى فى سورة محمد :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٦).

٨٤٨

إن الأمر الإلهى للناس بالسير فى الأرض ليؤمنوا منّة كبرى ، لأن الذين يسيرون فى الأرض فينظرون حكمة الله فى خلقه وعظم آياته فى الكون يسارعون إلى الإيمان ، والذين يفعلون ذلك ثم لا يؤمنون لا يكون لهم على الله حجة فى كفرهم ، فقد رأوا مفاتيح الإيمان وبدائع صنع الله وظلوا على نكرانهم ، وإن من فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل طلب العلم فريضة على المسلمين دون سائر الأمم السابقة ، والعلم عند المسلمين لا تكتمل أسبابه إلا بالرحلة أو السير فى الأرض بلغة القرآن الكريم ، وإن كبار علماء المسلمين لم تكتمل لهم أسباب النبوغ العلمى ـ سواء أكان علما دينيا أو علما دنيويا ـ وكلاهما مطلوب ـ إلا بالرحلة ، وإن حديث العلم والعلماء فى الإسلام وما قاموا به من رحلات وأسفار وسير فى الأرض سوف يكون له مكانة فى هذا البحث بمشيئة الله بعد قليل.

منحة إلهية مقرونة بمعجزات ربانية :

إن معجزات الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ كلها منن على خلقه ، منها ما تفضل ربنا علينا مقرونا بمعجزة ، ومنها ما جاء فضلا منه ورزقا وكرما منه ولطفا.

فمن المعجزات المقرونة بمننه سبحانه وتعالى قوله جل وعز : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (١٧).

أما المعجزة فهى أن السماوات والأرض كانتا جسما واحدا ضخما متماسكا ففصل الله بقدرته بينهما ، وجعل السماوات مستقلة والأرض كذلك ، وتدخل معجزة «الرتق والفتق» فى سلك معجزات الخلق الأولى ، وبمعجزة الفتق يسّر الله الأرض للناس وأنعم عليها بالماء الذى لا حياة فيها إلا به ، وبغير الماء لا تكون حياة ، وإتماما لمننه على الأرض وساكنيها ثبت أركان الأرض ، وثبت كيانها بالجبال الضخمة التى جاء المصطلح القرآنى فسماها «رواسى» ؛ لأنها تجعل الأرض فى ثبات واتزان ، وجعل فى هذه الجبال سبلا وفجاجا يسلكها الناس فى تحركاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم ، وذلك فضل الله يلمسه كل من عاش أو زار أقطارا فى الأرض جبلية.

ومن المعجزات المقرونة بالمنن الإلهية أيضا قول الله عزوجل : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨).

٨٤٩

الله ـ سبحانه ـ يذكّر الناس بالرواسى التى ألقاها فى الأرض ، للسبب الذى سلف ذكره فى الآية السابقة ، وكذلك السبل التى شقها فيها تيسيرا على الناس ، ثم يضيف المولى ـ سبحانه ـ منة خلق الأنهار التى يرتوى منها البشر والحيوان والنبات ، وخلق النجوم التى يهتدون بها فى سفرهم ليلا برا وبحرا.

ثم يوبخ المولى ـ سبحانه ـ الذين لم يؤمنوا به فى كل من الآيتين ، ففي معجزة «الرتق والفتق» تكون مؤاخذة الله للكفار فى صيغة السخرية بهم وبعقولهم ، وفى الآية التى نحن بصددها تكون السخرية أيضا فى صيغة الاستفهام الاستنكارى فى قوله عزوجل :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ثم تكون الإضافة القرآنية الشريفة تقريعا للكافرين وتذكيرا للمؤمنين فى قوله جل وعز :

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

صدق ربى جلت قدرته فمن الذى يستطيع إحصاء نعمه وأفضاله ومننه وعطاياه.

وفى المقام نفسه يلفت المولى ـ سبحانه ـ عباده عن معجزة خلق السماوات ، وما ميزها به من نجوم وكواكب جعلها زينة لها ، ومعجزة خلق الأرض وتثبيتها بالجبال الرواسى وما منّ به من خلالها على الناس من الغيث يتنزل من السماء ، فأنبت فيها كل ما تشتهيه الأنفس من حدائق ونخيل ، وبعث الحياة فى الأرض الميتة ، وتلك من المعجزات الكبرى ، ويجعل ذلك مثالا للبعث الذى كذب به الكافرون ، هذا فضلا عن بلاغة الإعجاز فى وصف مننه سبحانه على تعدد أنواعها (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) وفى ذلك كله يقول جل من قائل : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١٩).

ويتمثل الإعجاز القرآنى المعبر عن المنن الإلهية فضلا عن خلق الأرض وإنبات الثمر والزرع فى جنات وأعناب وزرع ونخيل ، أنها جميعا تسقى من ماء واحد مع أنها تختلف طعما وتتفاوت حسن مذاق ، وهى قدرة لا يستطيع إنجازها إلا الله القادر الخلاق العظيم ، لقد أنعم الله على خلقه بتلك المنن لتكون آيات للعاقلين على أن الله هو ـ وحده ـ الخلاق العظيم. يقول جلت قدرته فى كتابه

٨٥٠

العزيز : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٠).

ويزيد المولى من الإنعام بمننه الكثيرة بالتذكير ببعض ما ورد فى آيات سابقات وبالجديد منها ما يمثل عبرا للعباد مثل عبرة الأنعام فى إخراج لبنها من بين فرث ودم ، ومثل معجزة النحل التى أوحى فيها إلى تلك الحشرة البديعة السخية بالعطاء أن تتخذ بيوتها فى الجبال والشجر الكثيف ، وأن تسلك سبيل ربها فى جمع طعامها من كل الثمرات والأزهار ، وإن سبيل خالقها فى ذلك لا يكون إلا الطعام الطاهر النظيف الذى ينتهى بإخراج شراب مختلف ألوانه من بطونها فيه شفاء للناس ، إنه النعمة الكبرى المتمثلة فى العسل المختلف الألوان والنكهة والتى تسهم فى شفاء الأجسام وإبراء السقام. يقول جل شأنه : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١).

إن الله ـ سبحانه ـ لطيف بعباده يغمرهم بفضله وينعم عليهم بمننه ، ولا يحب لهم إلا الطيب من الطعام ، وينأى بهم عن الأطعمة المحرمة لأنها من دس الشيطان ووسوسته ، إن الشيطان لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء ، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.

يقول جلت قدرته وتباركت أسماؤه ودامت نعمه ومننه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٢).

ومن المنن الكبرى التى أنعم الله بها على الإنسان تلك الأنعام التى نتخذ من جلودها بيوتا ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا ، يقول الله ـ عزوجل : (وَاللهُ جَعَلَ

٨٥١

لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٢٣).

ومن آيات الله العظمى ، ومننه الكبرى :

الرواسى ؛ التى هى الجبال التى تشكّل ميزانا للأرض فى حركتها وثباتها ؛ فضلا عما تضمه هذه الجبال من نعم يتأمل العابد أمرها ، وذلك فى قول الله سبحانه وتعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)) (٢٤).

إلى هذه النعم الكبرى التى احتوتها الآيتان سالفتى الذكر الدواب والأنعام التى خلقها المولى ورزقها ، وجعل منها رزقا لعباده فى مختلف بقاع الأرض ، وتصديقا لهذا القول فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول فى سورة هود (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)) (٢٥).

وقد يعرف الإنسان مكان الدواب التى ينتفع بها ويتملكها ، ولكن ثمة دواب أخرى لا يعلم مستقرها ومستودعها إلا الله ، فتلك المخلوقات التى تعيش فى باطن الأرض وبين الأحجار ، وبعضها لا يعيش إلا داخل الحجر نفسه ، وتلك آية من آيات الله التى لا يقدر عليها إلا الخالق الأعظم الذى خلق كل شىء ، ورزق كل شىء.

ومنن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فى الأرض لا حدود لها ، ففيها ألقى الرواسى ، وفيها أنبت كل شىء مما يحتاجه العباد فى معاشهم ؛ بل إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل الرياح لتعمل عملها بين السحاب الذى ينزله الله من السماء ماء لسقيا خلقه من إنسان ، وحيوان ، ونبات ؛ بل إنه ـ سبحانه ، يخزن بعضا من هذا الماء فى جوف الأرض لكى يتفجر من بين الأحجار ماء عذبا ذلالا يجرى فيصنع أنهارا يستقى منها الإنسان والحيوان والنبات ، ويتمثل ذلك فى قول الله ـ عزوجل :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)

٨٥٢

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣)) (٢٦).

وفى فضل الجبال التى تعد معلما خالدا من معالم الأرض ، يقول الله ـ سبحانه وتعالى :

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)) (٢٧).

ولا يغيب عن فطنة القارئ لكتاب الله ، الربط بين الجبال والمياه ، لأن الجبال يتفجر منها المياه العذبة كما أوضحنا فى الآيات السابقة.

وفى تسخير الخالق الأعظم ومننه التى منّ بها على عباده ؛ خلقه البحار والمحيطات التى تجرى فيها الفلك كالأعلام ، وأنه من فضله يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، رأفة منه بخلقه ، ورحمة منه لعباده ، وفى ذلك يقول ـ جل وعز :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)) (٢٨).

وإن الأرض على الرغم من مساحتها الواسعة التى يتخذ الناس منها معاشا ، وسكنا ، ومستقرا ، يغلب عليها فى ساحاتها الواسعة عنصر الماء ، بحيث أن هذا الماء يغطى نحو ثلاثة أرباع الأرض ، وإن النعم التى تزخر بها البحار لمما يستعصى على الإنسان حتى اليوم إحصاؤه والتعرف عليه ، وقد أخبرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ ببعضه ، وذلك فى قوله ـ عزوجل ـ :

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)) (٢٩).

والماء الذى فى البحار أكثره مالح وأقله عذب ، وفى ذلك يقول ـ جل وعلا :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)) (٣٠).

وهكذا كل من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج يسوق المولى من كل منهما لخلقه ، يأكلون أنواع الأسماك والأطعمة الأخرى ؛ فضلا عن الحلى التى تستخرج من كل من البحرين ، وبخاصة اللؤلؤ الذى يعيش فى الماء العذب مثلما يعيش فى الماء الملح.

٨٥٣

ومن المنن الكبرى التى ضمنها الله ـ سبحانه وتعالى ـ كتابه العزيز قوله ـ سبحانه :

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)) (٣١).

وتلك الحقيقة من آيات الله العظمى ، ومننه الكبرى بحيث يتدفق الماء العذب الفرات ، ويموج الملح الأجاج ، ويخلق بينهما فاصلا قد لا يكون من الأرض ، بل كثيرا ما يكون من الماء نفسه ، وهذه الحقيقة تتبدى بوضوح عند مصبات الأنهار الكبرى ، مثل نهر الأمازون فى أمريكا الجنوبية ، الذى يندفع الماء العذب بين أحضان الماء المالح لمسافة تمتد لنحو ثلاثمائة كيلومتر فى قلب المحيط ، يستطيع الإنسان فى أى موقع من هذه المسافة الطويلة أن يشرب ماء عذبا سائغا ، دون أن يختلط به قطرة واحدة من الماء المالح ، وكنا نحن قبل ثلاثة عقود من الزمان نرى ذلك فى نهر النيل أيام فيضانه الذى كان يستطيع صائدو الأسماك أن يشربوا مياه عذبة داخل البحر الأبيض المتوسط لعديد من الكيلومترات داخل البحر المالح الذى يغذوه الماء العذب ، ويشكل برزخا وحجرا محجورا.

بل إن هذا الأمر ـ أمر الماء العذب الفرات والملح الأجاج ـ لا يقتصر عليهما مرج البحرين ـ العذب والمالح ـ وإنما يحدث ذلك بين البحار الملحة ، ويتضح ذلك فى قول الله تعالى فى سورة الرحمن :

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١)) (٣٢).

وهذه الحقيقة تتضح فى لقاء البحر الأحمر ببحر العرب الذى هو جزء من المحيط الهندى ، ذلك أن مياه البحر الأحمر أشد ملوحة ، وأكثر حرارة من تلك التى فى بحر العرب ، فلا يمتزج ماؤهما عند اللقاء ، وإنما يجلف ماء البحر الأحمر ـ لطبيعته السالف ذكرها ـ إلى أسفل مياه بحر العرب ، كما قرر العلماء المختصون بعلوم البحار.

والظاهرة نفسها تتكرر عند لقاء مياه البحر الأبيض المتوسط عند خليج جبل طارق بمياه المحيط الأطلنطى الكبير.

على أن هذه الحقيقة الكبرى تتمثل بشكل ظاهر للعيان عند رأس الرجاء الصالح فى جنوب إفريقيا حيث تلتقى مياه المحيط الأطلنطى بمياه المحيط الهندى فتشكل حاجزا مائيا ضخما ممتدا جنوبا إلى مرمى البصر ، ولقد قام بمحاولة مشاهدة هذه الظاهرة الفذة كاتب هذه السطور ، حينما زار مدينة الكاب ممثلا لفضيلة الإمام الأكبر شيخ

٨٥٤

الأزهر ، فى احتفال المسلمين هناك بمضى مائة عام على بناء أول مسجد فى جنوب إفريقيا ، وكان تفسير العلماء هناك لهذه الظاهرة أن ماء المحيط الأطلنطى بارد بمقدار ثلاث درجات عن مثيلاتها من مياه المحيط الهندى فيتخلق هذا البرزخ المائى العظيم بسبب هذا الفرق الواضح بين درجتى حرارة المحيطين العظيمين.

إن منن الله العظمى فى المياه التى تكسو وجه الأرض لا يمكن أن تحصى أو تستقصى.

ومن خير ما نختتم به منة الله فى كتابه العزيز بالمياه عامة ، وبالعذبة منها خاصة.

تلك المنة العظمى من الخالق الأعظم الذى يجعل المياه العذبة تتفجر من الحجارة الصلدة عذبة ذلالا سائغة للشاربين تروى الظمأ ، وتحيى الأرض الميتة ، وذلك فى قوله ـ عزوجل ـ فى وصف قسوة قلوب اليهود :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٣٣).

وهذه المنة الكبرى متعددة الظهور خاصة فى المناطق الجبلية فى جبال الشام ، وجبال أوروبا وأمريكا ، ولقد أنعم الله على كاتب هذه السطور بأن رأى كميات المياه العظيمة العذبة الباردة تتفجر من جبل فى سهل البقاع بلبنان من أرض الشام ، فتصنع نهرا كبيرا مشهور ومعروفا ، يشق سطح الأرض المنبسطة حينا ، والجبلية حينا لمسافة مئات من الكيلومترات حتى تصل إلى الأراضى التركية فى شمال بلاد الشام ، فتصنع الخضرة والرّى والنماء فى تلك البقعة المباركة من أرض المسلمين.

نهاية الحياة الدنيا ، وقيام الساعة

إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو خالق الموت والحياة ، ولقد قدّم الموت على الحياة لارتباطه بالحياة الآخرة وهى الدار الباقية ، ومثابة الخلود ، وفيها ينال المحسن إحسانه فيكون من أهل الجنة ، ويلقى المسيء جزاءه بما قدّمت يداه عدلا من الله وحقا ، ومن هنا كان على المرء من عباد الله أن يتدبر هذا اليوم تدبرا موصولا حتى يكثر من الخير ، ويبتعد عن الشر ، وأن يظل مؤمنا بأن للكون خالقا قادرا بيده مقاليد الدنيا والآخرة ، ومن ثم كان من منن الله الكبرى فى كتابه العزيز أن نبّه الناس إلى ذلك اليوم الذى تنتهى فيه الحياة الأولى ، ويكون البعث ، والنشور ، والحساب ، والمصير إلى جنة عرضها السموات والأرض ، أو إلى جهنم التى أعدت للكافرين.

٨٥٥

ولقد نبهنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى أن للآخرة علامات ، وأن لنهاية الدنيا معالم ، ذكرت فى آيات كثيرة من كتاب الله العزيز ، وفى ذلك يقول الحق ـ جل جلاله :

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (البقرة : ٢٥١).

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٤).

وتبصيرا للعباد بذلك اليوم العصيب التى تزلزل فيه أركان الأرض إيذانا بنهايتها وانتهاء الحياة على وجهها ، تحدث الزلزلة الكبرى التى يتزلزل معها الكيان الإنسانى وذلك فى قول الله ـ جل وعز ـ فى سورة الزلزلة : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)). (٣٥)

ويصف الله ـ خالق الخلق ـ وبارئ الأرض والسماء ، وملك يوم الدين ، هذا اليوم بيوم الفصل ، ويفصّل ـ جل جلاله ـ أحداث ذلك اليوم ، وما يمن به على المحسنين من عباده من حسن الجزاء ، وعلى العاصين أتباع الشيطان وما يقع عليهم من عقاب ، فيقول جلت قدرته ، وتباركت أسماؤه : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) إلى نهاية الآية رقم ٣٠ من سورة النبأ.

ومن الصور القرآنية التى تناول المولى فيها ـ جلت قدرته ـ وصف فزع الكون ممن فى السموات والأرض ، والجبال الراسيات وهى تمر مر السحاب فى قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (سورة النحل : ٨٧ ، ٨٨).

وفى موضع آخر من الكتاب العزيز يتجلى المولى على خلقه بمزيد من المنن فى وصفه خطر هذا اليوم تذكيرا للغافلين ، وتنبيها للمنكرين ، وتفزيعا للكافرين فهو يوم الفزع الأكبر الذى مقداره خمسون ألف سنة فيقول ـ جلت قدرته : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)

٨٥٦

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلَّا إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى) (٣٦).

وفى صورة جليلة من سور القرآن الكريم يجرى إطلاق اسم «الواقعة» على هذا اليوم الرهيب الذى ترجّ فيه الأرض رجّا ، وتبث فيه الجبال بثا ، ويصنّف الخلق فيه تصنيفا يتسق مع أعمالهم : إن شرا فهم من أصحاب المشأمة ، وإن خيرا فهم المقربون فى جنات النعيم ، وذلك فى قوله ـ عزوجل : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٣٧).

ومن آيات الله العظمى وآياته الكبرى (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) فإذا دعاهم دعوة من الأرض أسرعوا خارجين. فهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهو القاهر فوق عباده فيقول تباركت أسماؤه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٨).

والله ـ سبحانه وتعالى ـ عدلا منه وإنصافا يصف المقصر بتقصيره ، والمفسد بفساده تذكيرا بذلك اليوم العظيم ، وتنبيها إلى القيامة ، ومجىء الآخرة ونهاية الدنيا ، ثم ينبه إلى النفس المطمئنة التى عملت أعمالا صالحة فيزيل عنها الروع ، ويبعث فى أعطافها الاطمئنان كل ذلك يتضمنه قوله الكريم : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠) (٣٩).

أ. د. مصطفى الشكعة

٨٥٧

هوامش :

__________________

(١) سورة الأعراف : الآيات ١٩ ـ ٢٥.

(٢) سورة البقرة : الآية ٣٠.

(٣) سورة البقرة : الآية ٣٦.

(٤) سورة طه : الآيات ٤٩ ـ ٥٥.

(٥) سورة فصلت : الآية ٤٦.

(٦) سورة الرحمن : الآيات ٣٣ ـ ٣٦.

(٧) سورة الحج : الآية ١٨.

(٨) سورة النازعات : الآيات ٢٧ ـ ٣٣.

(٩) سورة آل عمران : الآيتان ٩٦ ، ٩٧.

(١٠) سورة المائدة : الآيتان ٩٧ ، ٩٨.

(١١) سورة البقرة : الآيتان ١٢٥ ، ١٢٦.

(١٢) سورة البقرة الآيات : ١٢٧ ـ ١٢٩.

(١٣) سورة الروم الآيات : ٤٢ ـ ٤٤.

(١٤) سورة العنكبوت : ٢٠ ـ ٢٢.

(١٥) سورة الأنعام : الآية ١٢.

(١٦) سورة محمد : الآيات ١٠ ـ ١٢.

(١٧) سورة الأنبياء : الآيتان ٣٠ ـ ٣١.

(١٨) سورة النحل : الآيات ١٥ ـ ١٨.

(١٩) سورة ق : الآيات ٦ ـ ١١.

(٢٠) سورة الرعد : الآيتان ٣ ، ٤.

(٢١) سورة النحل : الآيات ٦٥ ـ ٦٩.

(٢٢) سورة البقرة : الآيات ١٦٨ ، ١٦٩.

(٢٣) سورة النحل : الآيات ٨٠ ـ ٨٢.

(٢٤) سورة فاطر : الآيتان ٢٧ ، ٢٨.

(٢٥) سورة هود : الآية ٦.

(٢٦) سورة الحجر : ١٩ ـ ٢٣.

(٢٧) سورة المرسلات : ٢٥ ـ ٢٨.

(٢٨) سورة الحج : ٦٥.

(٢٩) سورة النحل : ١٤.

(٣٠) سورة فاطر : ١٢.

(٣١) سورة الفرقان : ٥٣.

(٣٢) سورة الرحمن : ١٩ ـ ٢١.

(٣٣) سورة البقرة : ٧٤.

(٣٤) سورة يونس : ٢٤.

(٣٥) سورة الزلزلة : السورة كاملة.

(٣٦) سورة المعارج : الآيات ٤ ـ ١٨.

(٣٧) سورة الواقعة : الآيات ١ ـ ١٢.

(٣٨) سورة الروم : الآيات ٢٥ ـ ٢٧.

(٣٩) سورة الفجر : الآيات ١٧ : ٣٠.

٨٥٨

ترجمة معانى القرآن الكريم (١)

ويتناول فيها :

١ ـ تعريف الترجمة لغة وعرفا.

٢ ـ تقسيم الترجمة ، وبيان بعض خواصها.

٣ ـ كلمة عن الحاجة إلى الترجمة.

٤ ـ بيان الجائز من هذه الأقسام من غير الجائز منها.

٥ ـ الصلاة بالمترجم.

٦ ـ تجربة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

٨٥٩

١ ـ تعريف الترجمة

الترجمة لغة (٢) : بالنظر للفظة «ترجمة» نجد أنها استعملت فى لغة العرب للدلالة على الكشف والبيان عن حقيقة اللفظ المترجم.

يقال : ترجم الكلام ، بمعنى : بينه ، وترجم عنه : أوضح أمره ، وترجم لهذا الباب بكذا :

عنون له ، وترجم لفلان : بين تاريخه وسيرته.

وعلى ذلك فقد وضعت لفظة «الترجمة» لتدل على معان عدة كلها تدور حول الكشف والبيان عن حقيقة اللفظ المترجم ، ومن هذه المعانى :

(أ) تبليغ الكلام لمن لم يبلغه مطلقا ـ أى سواء كان ذلك بنفس اللغة أم بغيرها (٣). ومنه قول الشاعر :

إن الثمانين وبلغتها

قد أحوجت سمعى إلى ترجمان

(ب) تفسير الكلام بلغته التى جاء بها (٤) ، وعليه فقد قيل فى ابن عباس ـ رضي الله عنه : إنه ترجمان القرآن.

(ج) تفسير الكلام بلغة غير لغته ، قال ابن منظور (٥) : «ويقال : قد ترجم كلامه : إذا فسره بلسان آخر». وفى «مختار الصحاح» (٦) :

«وترجم كلامه : إذا فسره بلسان آخر».

(د) نقل الكلام من لغة إلى أخرى (٧) ، جاء فى «الرائد» : «الترجمة : نقل الكلام من لغة إلى أخرى». وفى «المرجع» للعلايلى :

«الترجمة : النقل من لسان إلى آخر». وفى «المعجم العربى الأساسى» : «ترجم الكتاب :

نقله من لغة إلى أخرى».

ومما سبق فقد تبين لنا أن المعنى العام للترجمة هو مطلق البيان والتعبير ، وإذا ما أطلقت الترجمة فلا تدل على معانى القرآن الكريم إلا بقرينة قاطعة.

الترجمة عرفا :

يقصد بالعرف هنا : عرف التخاطب العام ، لا عرف طائفة خاصة ولا أمة معينة.

وهذا العرف العام الذى تواضع عليه الناس جميعا ـ من القدم حيث كان العرب يترجمون كتب اليونان والرومان ويسمونها بنفس أسمائها ـ قد خص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوى المذكور آنفا ، وهو : نقل الكلام من لغة إلى أخرى.

٨٦٠