الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

فتأمل هذه الروائع واللطائف فى هذا التشبيه ، وقس عليها ما شئت من تشبيهات البشر ، لتدرك بعد الثريا من الثرى.

وصورة ثالثة نعرج عليها فى سرعة ، هى قوله تعالى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (٧).

هذه الآية تتحدث عن رجل أو صنف من الناس كانوا يقفون عقبة كئودا فى وجه الدعوة ، ويستجلبون بدائل عنها يلهون بها الناس عن سماع دعوة الحق ، ويفرون هم منها فرار الحمر المذعورة من الأسد الهصور. هذه هى القضية ، فكيف صورها التشبيه القرآنى للناس ، فى كلمات صغار ذوات معان كبار.

تعال معى لنرى ونتذوق : صورها أولا :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) والتولى هو الفرار أو الهروب السريع ، ثم بين علة هذا الهروب والفزع ، وهى الاستكبار ، وجعل الاستكبار حالا منه ، يعنى هرب يطير به استكباره الخادع. ومن أى شىء هرب مسرعا؟ من آيات الله الهادية إلى سبيل أقوم.

هذا التصوير كان كافيا فى رسم شخصية هذا الخصم الألد ، لكن القرآن يخطو بنا خطوة أخرى عن طريق التشبيه فيقول :

(كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) شبه حاله فى عدم التأثر بهدى الله ، وهو يتلى عليه بحال من لم يسمع تلك الآيات الهاديات. ووجه الشبه هو انعدام الإحساس بما يتلى.

ومن دقائق هذه الصورة إيثار (أن) المخففة من الثقيلة (أنّ) لأن هذا الإيثار أتاح حذف ضمير الشأن من (أن) مضافا إلى تخفيف (أن) من التشديد. فكان فى هذين (التخفيف وحذف ضمير الشأن) إسراع إلى وصف هذا الصنف من الناس بعدم السماع ، وفى هذا ذم لهم وتسجيل سريع عليهم بالإعراض عن دعوة الحق.

والمشبه والمشبه به أمران معنويان : انعدام التأثر ، وفقد القدرة على السماع. ووجه الشبه هو شدة التبلد فى كل منهما ثم جاء التشبيه الثانى (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) كاشفا ، وشارحا لفقد القدرة على السماع فى التشبيه الأول ، مع زيادة تأصيل للصمم الذى حل بالمعرضين عن دعوة الحق ، فقد أصيبت أذناه بآفة عطلت وظيفتهما فكأنهما ـ أعنى أذنيه ـ غير موجودتين.

فتأمل كيف بنى التشبيه الفكرة تصاعديا ، حتى وصل بها الذروة فى المعنى المراد :

ولى مستكبرا.

كأن لم يسمعها.

كأن فى أذنيه وقرا.

فبشره بعذاب أليم.

٥٢١

ونشير بعد ذلك إلى أمرين :

أولهما أن جميع تشبيهات القرآن تشبيهات مجملة ، لم يذكر فيها وجه الشبه ولا مرة واحدة.

وثانيهما : أن فى تشبيهات القرآن نوعا أسميناه فى بعض كتبنا : التشبيه السلبى ..

وتحته صور كثيرة. هذا النوع نادر جدا فى غير القرآن ، وكثير فى القرآن وضابطه أن التشبيه وقع خطأ بين أمرين خارج القرآن.

فجاء القرآن ونفى ذلك التشبيه ، ومن أمثلته قوله تعالى :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٨).

فهذا التشبيه بين الصالحين والطالحين وقع خارج دائرة القرآن ، فى ظن الذين عاندوا الله ورسوله. والذى فى القرآن هو نفى ذلك التشبيه. لذلك أسميناه ب «التشبيه السلبى أو التشبيه المسلوب» (٩).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ، ـ والمعاجم اللغوية مائدة : شبه.

(٢) بغية الإيضاح (٢ / ٧).

(٣) البلاغة التطبيقية (مبحث التشبيه) د / أحمد إبراهيم مرسى.

(٤) بغية الإيضاح (٢ / ١٧٦).

(٥) الصف (٤).

(٦) الأحزاب (٤٥ ـ ٤٦).

(٧) لقمان (٧).

(٨) الجاثية : ٢١.

(٩) خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة ـ القاهرة.

٥٢٢

التّمثيل

التمثيل فى اللغة المماثلة بين شيئين تجمع بينهما صفات مشتركة فيهما أكثر من الصفات المفرقة بينهما ، أو ما فى أحدهما مماثل تماما لما فى الآخر ، بحيث لا يعتد بما بينهما من تباين (١). أما فى اصطلاح البلاغيين فيطلق التمثيل على عدة فنون بلاغية :

يطلق على الاستعارة التمثيلية ، وعلى ضرب المثل ، وعلى الكناية ، وعلى نوع من الاستعارة غير التمثيلية (٢) ، ثم على التشبيه المركب ، وهو الذى نخصه بالحديث فى هذا المبحث.

والتشبيه المركب هو التشبيه التمثيلى ، أو التمثيل ، وهو قسيم التشبيه فى الوجود. وبين التمثيل والتشبيه اتفاق واختلاف ؛ لأن كل تمثيل تشبيه ، وليس كل تشبيه تمثيلا فالتشبيه خاص بما كان طرفاه (المشبه والمشبه به) مفردين ولو كان مثنى أو جمعا ، كما تقدم فى مبحث التشبيه ، وكذلك وجه الشبه يكون فى التشبيه مفردا ، يعنى أمرا واحدا وإن تعدد وجه الشبه ، كتشبيه القمر فى أواخر لياليه بالعرجون القديم فى التقوس والشحوب والنحافة (الدقة).

أما التمثيل أو التشبيه التمثيلى فيشترط فى طرفيه أن يكونا مركبين من عنصرين فأكثر.

هذه هى الفروق بين التشبيه ، والتشبيه التمثيلى. وهذا موضع إجماع بين علماء البيان. فإن أطلق وصف التمثيل على التشبيه لم يرد منه التشبيه التمثيلى باتفاق وفى القرآن الكريم صور كثيرة للتشبيه التمثيلى المركب الطرفين والوجه ، موزعة على معان وأغراض شتى شارحة ، مرغبة ، محذرة ، ناصرة للحق ، داحرة للباطل جامعة فى تصويرها بين مخاطبة كل المدارك والملكات مستخدمة فى أدائها كل عناصر الكشف ، وقوة التأثير من ألوان يدركها البصر ، وأصوات يتلقاها السمع وطعوم يحس بها الذوق ، وشذا مفعم بالأريحية تمتع حاسة الشم ، أو دخان خانق يزكم الأنوف.

وقد أجمل بعض الباحثين الأغراض التى تراد من التشبيه التمثيلى وغير التمثيلى فى الآتى :

* تقرير المعنى المراد فى وعى السامع.

٥٢٣

* الإقناع بفكرة ما خيرية أو شرية.

* تحسين أمر للعمل به والحث عليه ، أو تقبيح أمر للتنفير منه.

* إثارة المشاعر رغبة ، أو رهبة.

* المدح أو الذم ، التعظيم أو التحقير.

* إخراج الخفى مخرج الجلى.

* إمتاع العواطف وإثارة ملكات الفهم.

* عرض المعانى فى أسلوب شيق غير ممل (٣).

وكثيرا ما تأتى صور التشبيه التمثيلى فى القرآن ، وطرفا التشبيه فيها كلمة «مثل» بفتح الميم والثاء ، أو يأتى «مثل» مشبها مصرحا به دون المشبه به.

وقد يؤتى بكلمة «مثل» فى تشبيهات القرآن مرادا بها القصة والشأن العجيب ، أو مشارا بها إلى مثل مضروب على غير طريق التشبيه.

والمراد من كل استعمالاتها التوضيح والكشف والعظة والاعتبار.

وقبل أن نأخذ فى عرض النماذج وتحليلاتها نشير إلى فرق آخر جوهرى بين التشبيه المفرد الطرفين والوجه والتمثيل المركب الطرفين والوجه.

ذلك الفرق هو أن التشبيه المفرد يأتى فى نطاق أضيق من حيث الدلالة على المعانى ، من التشبيه التمثيلى ، حيث ترى نسبة معانى التشبيه المفرد من نسبة معانى التشبيه التمثيلى تعادل نسبة ١ : ٢ ، أو إلى ٣ أو أكثر ، لأن التشبيه التمثيلى له دلالات مكثفة فى الطرفين ، وفى الوجه.

فمثلا قول كعب بن زهير فى مدح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن الرسول لنور يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول

فيه تشبيه للرسول بالنور فى الهداية فى الشطر الأول وتشبيه له بالسيف فى القوة.

ففي كل تشبيه منهما معان جزئية مفردة لا كثافة فيها.

قارن هذا بقول الشاعر يصف الشمس وقت شروقها

والشمس من مشرقها قد بدت

صفراء ليس لها حاجب

كأنها بوتقة أحميت

يجول فيها ذهب ذائب

المشبه هو الشمس وقت شروقها فى لونها الأصفر ، وامتدادات قرصها ، وأشعتها المتهادية منها. هذا هو تركيب المشبه أما المشبه به فهو إناء نحاس مستدير الشكل

٥٢٤

أحميت عليه النار وفيه ذهب أصفر اللون ، ذائب يتحرك وسط الإناء تخرج منه أشعة صاعدة أمام الرائى. وهذا هو تركيب المشبه به والمشبه وهما مركبان حسيان يريان بحاسة البصر. أما وجه الشبه :

فهو الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع صفرة اللون والأشعة المتموجة المرسلة من سطح الإناء وهذا هو تركيب وجه الشبه.

قارن هذا التشبيه التمثيلى بالتشبيه المفرد فى قول كعب بن زهير يمدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. تر الفروق الواضحة بين كثافة المعانى والصور هنا ، ويسرها وبساطتها هناك.

وعلى هذا المنوال جاءت التشبيهات التمثيلية في القرآن الكريم ، ولنأخذ أولا قوله تعالى :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤).

هذه الآية الكريمة تواجه قضية من قضايا الشرك والإيمان فى منتهى الخطورة :

حاصل هذه القضية أن مشركى العرب ، مع إيمانهم بالله ، كانوا يشركون به أصنامهم وأوثانهم ، يرجون منها النفع ، وأن يقربوهم من الله زلفى.

فكيف واجه القرآن هذه القضية. وكيف أبطل باطل القوم وأقام عليهم الحجة ، وساعدهم على التخلص من اعتقادهم الباطل ، لا بحز أعناقهم بالسيوف ، ولكن بالعقل والبرهان بادئا بتوجيه الخطاب إليهم هكذا :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ..) وخلاصة هذا المثل أن الله ساق لهم عظة وعبرة من واقع حياتهم التى يعيشونها بكل مشاعرهم ووعيهم. يقول الله لهم :

إنكم تزعمون أن أصنامكم وأوثانكم لها شرك مع الله فى ملكه تنفع وتضر كما ينفع الله ويضر ، متساوون مع الله فى التصرف فى شئون الكون.

ونحن نسألكم : هل لكم من عبيدكم وإمائكم الذين تملكون رقابهم هل لكم منهم شركاء فى ما تملكون يتصرفون فى ممتلكاتكم بكل حرية دون الرجوع إليكم ، وأنكم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم وتخشونهم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم يعلمون ، كخشية بعضكم بعضا ـ أيها الأحرار ـ إذا كانت بينكم شركة وخلطة فى بعض الأموال.

إن الإجابة على هذا السؤال هى بالنفى قطعا ، سواء أفصحوا بها أو أسروها فى أنفسهم.

٥٢٥

فهذا تمثيل جدلى احتجاجى أفحم الله فيه المشركين بالعقل والبرهان ؛ ولذلك جاءت خاتمة الآية :

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

وكان الله يقول لهم بعد ذلك النفى الذى يحسونه فى أنفسهم : إذا كنتم لا ترضون أن تشركوا عبيدكم وإماءكم معكم فى ممتلكاتكم وأنتم وهم بشر مخلوقون ، فكيف ترضونه لأصنامكم مع الله وهو الخالق المهيمن ، وهم مخلوقون بل جماد لا إحساس لهم ولا إرادة.

فالمشبه والمشبه به هنا هيئتان أو صورتان مركبتان وكذلك وجه الشبه هيئة مركبة من عدة عناصر ، لأنه تشبيه تمثيلى مركب.

المشبه هو دعوى المشركين أن للاصنام شركة مع الله فى الكون تنفع كما ينفع ، وتضر كما يضر مع بطلان الأسس التى بنوا عليها هذه الدعوى.

وهو مركب مزيج من الحسيات وبعض المعنويات والمشبه به نفى أن يكون للمشركين شركاء من عبيدهم ومملوكيهم يتصرفون كما يتصرف أسيادهم فى ما يملكون ، مع خشية الأسياد من المملوكين إذا تصرفوا فى أموالهم دون الرجوع إليهم ، كخشية الشركاء الأحرار بعضهم بعضا. وهو مركب حسى مشوب بشيء من المعنوى.

ووجه الشبه هو بطلان المساواة بين الطرفين مع بطلان ما بنيت عليه هذه المساواة.

وبهذا التمثيل الرائع بطلت عقيدة الإشراك عقلا كما هى باطلة واقعا.

ومثال آخر هو قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٥).

المشبه فى هذا التمثيل الإنفاق الذى يتبعه منّ وأذى من المنفق الذى لم يرد بإنفاقه وجه الله ولا يرجو ثوابه ، والمشبه به حجر صخرى عليه قليل من تراب ، هطل عليه المطر فأزال التراب وترك الحجر أملس نقيا.

فكل من المشبه والمشبه به هيئة ، مركبة من عدة عناصر حسية ومعنوية.

ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تجمع أشياء بعضها فوق بعض ، سلطت عليها عوامل الإزالة مع سرعة الفناء والهلاك وهو مركب حسى.

٥٢٦

والغرض من التمثيل هو الحرمان والحسرة والعجز عن التدبير والتحذير من سوء المصير ومثال ثالث ، هو قوله تعالى :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ..) (٦).

وهذا مثل أو تمثيل لحال الحياة الدنيا فى نموها وازدهارها وسرعة فنائها وهوان أمرها.

شبهها الله عزوجل بصورة حديقة أرواها الماء فأنبتت من كل زوج بهيج ، ثم سرعان ما ذبلت ويبست وزالت نضارتها وبهاؤها ، وتحطمت أشجارها وجفت ينابيعها وصار نباتها وزرعها غثاء أحوى.

فالمشبه هو الدنيا فى سرعة زوالها بعد بهجتها ونضارتها ، والمشبه به حديقة توفرت لها أسباب النماء والازدهار والإبهاج ثم سرعان ما أسرع إليها الفناء والهلاك ، وطرفا التشبيه مركبان حسيان.

أما وجه الشبه فهو الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء مبهجة ، نافعة ، أبلغ ما يكون النفع ، مع سرعة هلاكها وانقضائها. وهو مركب حسى كذلك.

والغرض من التشبيه هو التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها وترك العمل للحياة الآخرة.

ومما تجدر الإشارة إليه أن التشبيه التمثيلى فى القرآن إذا كان المشبه به فيه مركبا من عدة عناصر نجد أداة التشبيه فيه داخلة دائما على العنصر الرئيسى من عناصره. وإذا تتبعنا هذه التمثيلات القرآنية كلها نجدها خاضعة لهذا المنهج البيانى الحكيم. ونريد من العنصر الرئيسى فى التمثيل القرآنى كونه سببا فى ما بعده ، ولولاه ما كان عنصر منها ، وهى منه بمثابة المسبب ، فقد ضرب ثلاثة أمثال للحياة الدنيا. وفى كل واحد منها نجد الماء هو العنصر الرئيسى لجميع العناصر الآتية بعده.

أول هذه الأمثال الثلاثة كان فى سورة «يونس» وهو قوله تعالى :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٧).

تأمل العناصر التى وردت بعد «الماء» تجد الماء هو السبب فيها ، ولو لا الماء ما كان لواحد منها وجود.

أما المثل الثانى فهو آية «الكهف» التى تقدم ذكرها آنفا. وفيها دخلت أداة التشبيه على

٥٢٧

«الماء» هكذا (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ).

أما المثل الثالث فهو فى سورة «الحديد» (٨) وهو قوله تعالى :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ..).

أداة التشبيه فى هذا التمثيل هى «الكاف» أما «مثل» فهو المشبه به ، وهو مضاف إلى (غَيْثٍ) وغيث أول عنصر ذكر فى بيان عناصر التشبيه بعد المشبه به. فصار كأن الأداة دخلت عليه مباشرة ، وذلك لأن الماء هو السبب فى التمثيلات الثلاثة.

وكذلك قوله تعالى فى وصف أحبار اليهود وغبائهم :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ..) (٩).

كان «الحمار» أول عنصر يذكر من عناصر الصورة لأن المثل مضروب لغباء الأحبار ، والحمار هو أكثر الأغبياء غباء ، لذلك قدم ، ولم يقل : كمثل أسفار يحملها الحمار؟

وكذلك قوله تعالى فى تمثيل مضاعفة الأجر للمنفقين أموالهم فى سبيل الله.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ..) (١٠).

كانت «الحبة» أول عناصر الصورة ؛ لأنها سبب فى ما بعدها وما بعدها مسبب عنها.

وهذا ملحوظ جدير بالاعتبار فى بلاغة القرآن الكريم ، وقليل من يلتفت إليه من الدارسين ، قدماء ومحدثين (١١).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) المصباح المنير والمعاجم اللغوية ، مادة : مثل.

(٢) العمدة لابن رشيق (٣٠).

(٣) أمثال القرآن (٥٩ ـ ٦٠) دكتور عبد الرحمن الميدانى الطبعة الثانية (١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م) دمشق ـ دار القلم.

(٤) الروم (٢٨).

(٥) البقرة (٢٦٤).

(٦) الكهف (٤٥).

(٧) يونس (٢٤).

(٨) الحديد (٢٠).

(٩) الجمعة (٥).

(١٠) البقرة (٢٦١).

(١١) انظر خصائص التعبير فى القرآن الكريم (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة القاهرة.

٥٢٨

المجاز المرسل

الإرسال فى اللغة الإطلاق وترك التقييد (١) والمجاز المرسل قسم قائم برأسه من المجاز اللغوى والقسم الآخر هو الاستعارة. والفرق بينهما أن الاستعارة مجاز لغوى علاقته المشابهة.

أما المجاز المرسل فهو مجاز لغوى علاقته ليست المشابهة بل له علاقات أخرى كالكلية والجزئية. (٢)

وسمى مرسلا لأنه لم يقيد بعلاقة واحدة كما هو الشأن فى الاستعارة ، بل تتوارد عليه علاقات كثيرة تتعدى العشر علاقات (٣).

والراجح أن أول من أشار إلى تسميته ب «المرسل» هو الإمام عبد القاهر الجرجانى ، فقد قال وهو يتحدث عن فكرة علاقات هذا النوع من المجاز ، إن المكان لا يسمى مجلسا إلا إذا لوحظ جلوس القوم فيه «وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه بل على وجه وقوع الشيء على ما يتصل به. وتكثر ملابسته إياه ، وأى شىء يكون بين القوم ومكانهم الذى يجتمعون فيه ، إلا أنه لا يعتد بمثل هذا ، فإن ذلك قد يتفق حيث ترسل العبارة» (٤).

فالإشارة إلى تسميته المجاز المرسل تكمن فى قوله «حيث ترسل العبارة» ، وكان الإمام يقصد فعلا بهذا الحديث ما سمى فى ما بعد بالمجاز المرسل ؛ لأنه ذكر الكثير من أمثلته وعلاقاته بعد التمهيد له ، ثم أخذ عنه البلاغيون هذه الأمثلة ، وتحليلاتها عند حديثهم عن المجاز المرسل فى صورته النهائية.

وقد سماه ابن الزملكانى والزركشى «المجاز الإفرادى» (٥) وسماه السيوطى «المجاز فى المفرد» وقال : ويسمى المجاز اللغوى (٦)

وهاك أمثلة له مع بيان علاقاته من خلالها.

* الكلية : من علاقات المجاز المرسل الكلية ، ومن ذلك فى القرآن الكريم :

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) (٧).

المجاز فى قوله (أَصابِعَهُمْ) لأن المراد الأنامل أو أطراف الأصابع ، فالعلاقة هى الكلية ، حيث أطلق الكل (الأصابع) وأراد الجزء (أطراف الأصابع).

* الجزئية : ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) والمجاز فى قوله (رَقَبَةٍ) حيث أطلق الجزء (رَقَبَةٍ) وأراد الكل (العبد أو الأمة) وحين تكون العلاقة (الجزئية) فإنه يشترط فى الجزء أن تكون له زيادة اختصاص بالمعنى المراد وقد تحققت هذه الخصوصية فى (رَقَبَةٍ) لأن الرقيق شبيه بالمربوط من عنقه فى قبضة مالكه.

٥٢٩

* اعتبار ما كان : مثل قوله تعالى :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) أى الذين كانوا يتامى قبل أن يبلغوا سن الرشاد. أما عند بلوغهم سن الرشاد ، فهم ليسوا يتامى ، والسر البلاغى فى هذا المجاز حث أوصياء اليتامى على المبادرة على دفع أموال من كانوا أوصياء عليهم ، فور بلوغهم راشدين ، حتى لكأنهم سلموا لهم أموالهم وهم يتامى.

* اعتبار ما سيكون : ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى :

(إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) (٨) والخمر لا يعصر ؛ لأنه معصور فعلا ، لكن المعنى : أرانى أعصر عنبا يصير خمرا. فالعلاقة اعتبار ما سيكون ، والسر البلاغى فى هذا المجاز الإسراع إلى التنفير من الخمر ، فهو مجاز مرسل علاقته اعتبار ما سيكون.

* السببية ؛ ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) (٩) أى ماء هو سبب الرزق. فقد طوى السبب ، وأريد المسبب والسر البلاغى فى هذا المجاز هو إظهار الامتنان على العباد.

* الآلية ، ومن علاقات المجاز المرسل الآلية والآلة هى التى تستعمل فى إيجاد الحدث ومن هذا النوع فى القرآن الكريم قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (١٠).

والمجاز المرسل فى كلمة (بِلِسانِ) حيث أريد منها : اللغة ، و (بِلِسانِ قَوْمِهِ) معناها :

لغة قومه. والذى سوّغ استعمال اللسان فى معنى اللغة ، أن اللسان هو آلة أو أداة اللغة فالعلاقة فى هذا المجاز هى الآلية. وقد ظل استخدام اللسان بمعنى اللغة ، حتى منتصف القرن الثامن الهجرى. وما يزال يستخدم فى هذا المعنى.

* المكانية : ومن علاقات المجاز المرسل علاقة المحل أو المكان. بأن يطلق المحل أو المكان ، ويراد الحالّون فيه. ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) (١١) والسماء والأرض ليستا من العقلاء حتى تبكيا ، والمعنى : فما بكى عليهم أهل السموات ، يعنى الملائكة ، ولا أهل الأرض ، يعنى الناس ، ففي السموات والأرض مجاز مرسل علاقته المكانية أو المحلية.

والمجاز المرسل كثير الورود فى القرآن الكريم ، وله علاقات أخرى غير ما تقدم (١٢).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان والمعاجم اللغوية ، مادة : رسل.

(٢) حاشية الدسوقى ضمن شروح التلخيص (٤ / ٢٩).

(٣) الإيضاح (٢٧٠).

(٤) أسرار البلاغة (٣٥٠).

(٥) البرهان الكاشف (١٠٢) والبرهان فى علوم القرآن (٢ / ٢٥٨).

(٦) معترك الأقران (٢ / ٢٤٨).

(٧) البقرة (١٩).

(٨) يوسف (٣٦).

(٩) غافر (١٣).

(١٠) إبراهيم (٤).

(١١) الدخان (٢٩).

(١٢) شروح التلخيص (٤ / ٢٩).

٥٣٠

الاستعارة

الاستعارة لغة : مأخوذة من العارية ، وهى نقل منفعة شىء مملوك لشخص إلى غير مالكه ، مع بقاء الملكية لمالك ذلك الشيء.

كإعارة الدابة ، أو الدار أو الكتاب لمن هو فى حاجة إلى منافع هذه الأشياء.

والعارية والإعارة ما تداوله الناس بينهم.

واستعار فلان كذا طلب إعارته إياه. والسين والتاء فيها مزيدتان للطلب (١).

أما الاستعارة فى اصطلاح البلاغيين ، فكان أول من أشار إليها هو أبو عمرو بن العلاء. فقد ذكر قول ذى الرمة.

أقامت به حتى ذوى العود فى الثرى

وساق الثريا فى ملاءته الفجر

وعلق عليه قائلا :

«ولا أعلم قولا أحسن من قوله : وساق الثريا فى ملاءته الفجر «فصيّر للفجر ملاءة ، ولا ملاءة له ، وإنما استعار هذه اللفظة ، وهو من عجيب الاستعارات» (٢) ثم أخذ البلاغيون من بعده يوسعون دائرة البحث فيها ، ويحاولون وضع تعريفات لها.

وكان أول من وضع تعريفا للاستعارة هو الجاحظ فقال :

«الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه» (٣) وعرفها ابن قتيبة فقال :

«والعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة ، إذا كان المسمى بها بسبب من الآخر أو مجاورا أو مشاكلا» (٤) وعرفها ثعلب فقال :

«هى أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه» (٥).

وعرفها ابن المعتز بقوله : «استعارة الكلمة ، لشىء لم يعرف بها من شىء عرف بها» (٦).

وكل ما تقدم غير واف فى ضبط الاستعارة وتحديد مفهومها تحديدا واضحا جامعا مانعا.

ثم بدأت مرحلة أخرى عرّفت فيها الاستعارة تعريفات جديدة ، من ذلك تعريف القاضى على بن عبد العزيز الجرجانى ، إذ

٥٣١

قال «الاستعارة ما اكتفى فيها بالاسم المستعار عن الأصل ونقلت العبارة فجعلت فى مكان غيرها ، وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له المستعار منه ، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة ، ولا يتبين فى أحدهما إعراض عن الآخر» (٧).

ويلاحظ أن فى هذا التعريف طولا ، والتعريفات يستحسن فيها الإيجاز.

وعرفها الرمانى تعريفا مختصرا قال فيه :

«الاستعارة تعليق العبارة على ما وضعت له فى أصل اللغة على جهة النقل للإبانة» (٨).

وجاء الخطيب القزوينى فعرّف الاستعارة فى إيجاز شديد ، هو قوله :

«الاستعارة هى ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له» (٩).

فالنور ـ إذا أستعير للحجة البالغة ـ علاقة المشبه بالمشبه به هى تشبيه معنى النور المستعار للحجة بالمعنى اللغوى الوضعى الذى أراده واضع اللغة ، من كلمة «النور» الحسى الذى يرى بالبصر.

وقد لاحظ متأخرو البلاغيين قصورا فى كل التعريفات التى تقدمت ؛ وهذا حملهم على وضع تعريف واف للاستعارة فقالوا :

«الاستعارة : هى اللفظ المستعمل فى غير ما وضع له ، لعلاقة المشابهة ، مع قرينة مانعة ، من إرادة المعنى الوضعى» (١٠).

أو «استعمال اللفظ فى غير ما وضع له ، لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعى» (١٠).

ويسمون التعريف الأول : التعريف بالمعنى الاسمى والثانى : التعريف بالمعنى المصدرى.

هذا التعريف هو الشائع الآن فى مصنفات البلاغيين المعاصرين ، والجارى على ألسنتهم وهو تعريف واف جامع مانع ، خال من جميع المؤاخذات ، يشتمل على العناصر الفنية للاستعارة ، وهى :

* نقل اللفظ المستعار من معناه الوضعى إلى معناه الاستعارى.

* العلاقة بين المعنيين الوضعى والاستعارى.

* القرينة التى تمنع من إرادة المعنى اللغوى الوضعى فقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) (١١) فيه استعارة النور للهدى المعنوى الذى جاء به الإسلام فالنور مستعار ، والهدى مستعار له. والعلاقة وتسمى «الجامع» هى الكشف والإظهار فى كل من النور والهدى أما القرينة المانعة من إرادة

٥٣٢

المعنى الحقيقى للنور الحسى فهى قوله تعالى : «أنزل معه» لأن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجئ بنور حسى يدرك بالأبصار ، بل بنور معنوى يدرك بالعقول والقلوب.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (١٢)

فيه استعارة التوفية «الموت» للإنامة «النوم» والجامع بين المستعار له والمستعار منه هو فقد الوعى والحركة فى كل منهما.

أما القرينة فهى «بالليل» لأنه وقت النوم ، أما الموت الحقيقى فلا وقت له ، لأنه يأتى ليلا ونهارا فى أى لحظة فيهما.

هذا هو مفهوم الاستعارة بوجه عام.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) لسان العرب ، مادة : عور.

(٢) حلية المحاضرة (١ / ١٣٦) الخاتمى.

(٣) البيان والتبيين ـ الجاحظ (١ / ١٥٣ / ٢٨٤).

(٤) تأويل مشكل القرآن (١٠٢).

(٥) قواعد الشعر (٤٧).

(٦) البديع (٢).

(٧) الوساطة بين المتنبى وخصومه (٤١).

(٨) النكت فى إعجاز القرآن (٧٩) ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن.

(٩) الإيضاح (٥ / ٣٧) شرح د. / محمد عبد المنعم خفاجى.

(١٠)

(١٠) البلاغة الواضحة (٤. مبحث الاستعارة) حامد عونى.

(١١) الأعراف (١٥٧).

(١٢) الأنعام (٦٠).

٥٣٣

الاستعارة التّصريحيّة

التصريح لغة : الإبانة والإظهار ، ضد الغموض والإخفاء (١) أما فى الاصطلاح البلاغى فهى .. ما صرّح فيها بلفظ المشبه به دون المشبه .. (٢)

أو هى كما قال السكاكى : «أن يكون الطرف المذكور من طرفى التشبيه هو المشبه به» (٣).

وأساس هذا التقسيم للاستعارة إلى تصريحية وغيرها هو قولهم :

«الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه» وطرفا التشبيه هما : المشبه والمشبه به. وعلى هذا قالوا : إن الاستعارة التصريحية هى ما كان المذكور فيها من طرفى التشبيه هو المشبه به ، والمحذوف هو المشبه ، وهذا موضع إجماع عند البلاغيين (٤).

فهى عندهم «أن تعتمد نفس التشبيه ، وهو أن يشترك شيئان فى وصف ، وأحدهما أنقص من الآخر ، فيعطى الناقص اسم الزائد ، مبالغة فى تحقيق ذلك الوصف كقولك : رأيت أسدا ، وأنت تعنى رجلا شجاعا ، وغنت لنا ظبية ، وأنت تريد امرأة» (٥).

وقد حفل القرآن الكريم بصور لا حصر لها من الاستعارة التصريحية. ومن ذلك قوله تعالى :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٦) أى من الضلال إلى الهدى. استعير لفظ «الظلمات» للضلال ، لتشابههما فى عدم اهتداء صاحبهما ، وكذلك استعير لفظ «النور» للإيمان لتشابههما فى الهداية» (٧).

وهما استعارتان تصريحيتان ؛ لأن كلا من الظلمات والنور هما المشبه به ، وهو المذكور فى الكلام. أما المشبه ، وهما : الضلال والإيمان فقد حذفا من الكلام.

والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للظلمات والنور حالية تفهم من المقام ، إذ ليس المراد أن يخرجهم من ظلام حسى ، إلى نور حسى. بدليل قوله تعالى فى عجز الآية :

(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)

وفى الصراط هنا استعارة تصريحية ؛ لأن المراد منه دين الله عزوجل. شبه بالصراط وهو الطريق الحسى ، تصويرا للمعنوى المدرك

٥٣٤

بالعقول بالحسى المدرك بالبصر ، اعتناء بشأنه ومبالغة فى إظهاره.

وقوله تعالى :

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (٨) فيه استعارة فى قوله (طَغَى) استعارة الطغيان ، وهو من صفات العقلاء ، لزيادة الماء وخروجه عن مجراه وغمره الأرض على جانبى مجراه.

والعلاقة بين الطغيان الحقيقى ، وهو الظلم ، وبين المعنى الاستعارى ، وهو كثرة الماء وفيضانه على جانبى مجراه هو مجاوزة الحد المعهود فى كل منهما (٩) والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للطغيان وهو : الظلم هى الفاعل (الْماءُ) لأن الماء ليس عاقلا ولا مكلفا حتى يوصف بالظلم والطغيان وبلاغة الاستعارة هى الإيضاح والإيجاز وهذا وصف عام فى كل استعارة.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) لسان العرب مادة : صرح.

(٢) معجم المصطلحات البلاغية (١ / ١٥٥).

(٣) مفتاح العلوم (١٧٦).

(٤) شروح التلخيص (٤ / ٤٥) وما بعدها.

(٥) حسن التوسل (١٣٤) الحلبى.

(٦) إبراهيم (١).

(٧) معجم المصطلحات البلاغية (١ / ١٥٥).

(٨) الحاقة (١١).

(٩) حاشية الشهاب على البيضاوى (٨ / ٢٣٦).

٥٣٥

الاستعارة الأصليّة

الاستعارة الأصلية فى اصطلاح البلاغيين هي التى تكون فى أسماء الأجناس غير المشتقة (الجامدة) وقد أوضح الإمام السكاكى معناها فقال :

«أن يكون المستعار اسم جنسى ، كرجل وقيام وقعود ، ووجه كونها أصلية أن الاستعارة مبناها على تشبيه المستعار له بالمستعار منه» (١).

يقصد أن يتم هذا التشبيه الاستعارى بلا واسطة بين المستعار له «المشبه» والمستعار منه (المشبه به) كما سيأتى فى الاستعارة «التبعية» وقد اتفق جمهور البلاغيين على هذا الضابط الذى ذكره السكاكى للاستعارة الأصلية (٢). وحصر متأخروهم وقوع الاستعارة الأصلية فى هذين النوعين ، وهما :

* أسماء الأعيان (الذوات الحسية) الجامدة ، كأسد.

* ثم المصادر الجامدة ، مثل : الكرم ـ الحلم ـ الصيام ـ النطق.

وورود الاستعارة الأصلية فى القرآن مستفيض جدا ، ومنها قوله تعالى :

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

استعار الظلمات للضلال والجهل والكفر ، وكل من المستعار ، وهو الظلمات ، والمستعار له ، وهو الضلال ، اسمان جامدان غير مشتقين ، وهما من أسماء المعانى التى تدرك بالعقل. فالاستعارة ـ إذن ـ أصلية ، لجريانها فى الأسماء الجامدة.

والأمر المشترك بينهما ، ويسمى «الجامع» (٣) هو الحيرة والارتباك فى كل منهما. والقرينة المانعة ، من إرادة المعنى الحقيقى للظلمات حالية تفهم من المقام ثم استعارة «النور» للإيمان ، على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ؛ لأن كلا من «النور» وهو المستعار ، و «الإيمان» وهو المستعار له اسمان جامدان غير مشتقين ، والجامع بينهما هو الهداية والاطمئنان. والقرينة حالية كذلك.

وهاتان الاستعارتان تفيدان المبالغة فى وصف الضلال بالظلمات ، وفى وصف الإيمان بالنور.

٥٣٦

والأولى تفيد التنفير والترهيب من الضلال وبشاعته.

والثانية تفيد الترغيب فى الإيمان وآثاره الطيبة.

ومن الاستعارة التصريحية الأصلية قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) هذا حديث عن منزلة القرآن عند الله.

والاستعارة التصريحية الأصلية فى كلمة «أم» وأم الكتاب أصل الكتاب. فاستعار «الأم» للأصل «وهو أبلغ لأن الأم أجمع وأظهر فى ما يرد إليه مما ينشأ عنه».

والاستعارة ـ هنا ـ تصريحية لذكر المشبه به فيها ، وأصلية لأن الاسم المستعار فيها اسم جنس جامد غير مشتق ، والقرينة هى إضافة «أم» إلى الكتاب ؛ لأن الكتاب لا أم له ولد منها.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) مفتاح العلوم (١٧٦ / ١٧٩).

(٢) ينظر : المصباح لابن ابن مالك (٦٥) وعروس الأفراح لبهاء الدين السبكى. ضمن شروح التلخيص (٤ / ١٠٨)

والمطول لسعد الدين (٣٧٦).

والأطول لعصام الدين (٢ / ١٢٦).

ومعترك الأقران لجلال الدين السيوطى (١ / ٢٨٠) والإيضاح للخطيب القزوينى (٥ / ٨٧) شرح د / محمد عبد المنعم خفاجى.

(٣) والنكت فى إعجاز القرآن (٨٧٠) للرمانى ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن.

٥٣٧

الاستعارة التّبعيّة

الاستعارة التبعية فى اصطلاح البيانيين هى ما كان اللفظ المستعار فيها واحدا من الفصائل الثلاث الآتية :

* الأفعال : ماضية كانت أو مضارعة أو أمرا.

* الصفات المشتقة : مثل اسمى الفاعل والمفعول.

* الحروف ؛ مثل فى وعلى واللام.

وهى عكس الاستعارة الأصلية ، وكلتاهما تصريحيتان وهما قسمان للاستعارة التصريحية وقد عرف الإمام السكاكى الاستعارة التبعية فقال :

«ما تقع فى غير أسماء الأجناس كالأفعال والصفات المشتقة ، وكالحروف» (١).

وقال ابن بن مالك :

«هى ما تقع فى الأفعال والصفات والحروف ؛ لأنها لا توصف فلا تحتمل الاستعارة بنفسها ، وإنما المحتمل لها فى الأفعال والصفات مصادرها. وفى الحروف متعلقات معانيها. فتقع الاستعارة هناك ، ثم تسرى فى هذه الأشياء» (٢).

يريد أن يقول : إن الأفعال والصفات لا تصلح فى ذاتها لوقوع الاستعارة فيها ؛ فالاستعارة تجرى أولا فى مصادر الأفعال والصفات أصالة. ثم تسرى من المصادر إلى الأفعال والصفات وكذلك الحروف مثل فى وعلى ، لا توصف. فلا تصلح لأن تكون استعارة على جهة الأصالة. بل تقع الاستعارة فى متعلق معناها الكلى ، كالظرفية المطلقة فى حرف الجر «فى» والاستعلاء الكلى فى حرف الجر «على» تم تسرى الاستعارة منهما إلى الحرف.

ولذلك سميت استعارة تبعية ، لأنها وقعت تابعة لوقوعها فى مصادر الأفعال والصفات المشتقة ، وفى متعلق معانى الحروف الكلية.

ويوضح الخطيب القزوينى فكرة أن الأفعال والصفات والحروف لا تصلح لوقوع الاستعارة فيها مباشرة ، فيقول : «وذلك لأن الاستعارة تعتمد التشبيه ، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا ، وإنما يصلح للموصوفية

٥٣٨

الحقائق كما فى «جسم أبيض» و «بياض صاف» دون معانى الأفعال والصفات المشتقة منها ـ أى من الأفعال ـ والحروف» (٣) ومن أمثلتها فى القرآن الكريم :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (٤)

ففي قوله «أتى» استعارة تبعية فى زمن الفعل لها شبه الإتيان فى المستقبل «يأتى» بالإتيان فى الماضى «أتى» على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ثم اشتق من «الإتيان» (أَتى) بمعنى يأتى ، والجامع بين الإتيان فى الماضى والإتيان فى المستقبل هو تحقق الوقوع فى كل منها.

فقد جرت الاستعارة أولا فى المصدر «الإتيان» ثم سرت إلى الفعل ، وهذا معنى «التبعية» فى هذه الاستعارة أما قرينة الاستعارة المانعة من المعنى الحقيقى ، وهو الإتيان فى الماضى فهى قوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) لأن النهى عن الاستعجال يكون فى ما يأتى مستقبلا ، لا فى ما أتى ماضيا.

وقوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) (٥) فيه استعارتان تبعيتان :

الأولى فى زمن الفعل (تَرَكْنا) بمعنى :

نترك ، لأنه سيكون يوم القيامة.

وقد شبّه فيها الترك فى المستقبل بالترك فى الماضى ، والجامع بينهما تحقق الوقوع فى كل منهما ، والقرينة حالية تفهم من المقام.

والثانية فى معنى الفعل (يَمُوجُ) شبه الاضطراب الشديد فى حركة الناس يوم القيامة بالاضطراب الشديد فى حركة موج البحر ، وهما مصدران. ثم سرى التشبيه من المصدر الاضطراب الشديد إلى الفعل (يَمُوجُ) بمعنى يضطرب اضطرابا شديدا.

والقرينة حالية تفهم من المقام كذلك ، لأن التموج من خصائص الماء لا الناس.

أما الاستعارة التبعية فى الصفات المشتقة فمنها قوله تعالى :

(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (٦)

فى (مُبْصِرَةً) هنا استعارة جرت فى اسم الفاعل ، يعنى : مضيئة ، ومبصرة أبلغ من مضيئة ؛ لأنها أظهر فى مقام النعمة (٧).

شبهت الإضاءة بالإبصار ، وهما مصدران ، ثم سرى التشبيه من المصدر (الإبصار) إلى الصفة (مبصرة) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للإبصار ، كون النهار زمنا لا يوصف بالإبصار ـ كما يوصف به الأحياء.

والاستعارة التبعية فى الحرف مثل قوله تعالى حكاية عن قول فرعون للسحرة :

٥٣٩

(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (٨)

استعار متعلق الحرف (فى) الكلى ، وهو مطلق الظرفية لمتعلق الحرف (على) وهو مطلق الاستعلاء. ثم سرى التشبيه إلى معنى الحرفين ، فاستعيرت (فى) ل (على) لتفيد هذه الاستعارة المبالغة فى تصوير المعنى المراد حتى لكأن فرعون من شدة غيظه على إيمان السحرة لم يكتف بإلصاقهم بجذوع النخل ، وإنما غرس أجسادهم فيها غرسا.

والاستعارة التبعية فى معنى الفعل كثيرة الورود فى القرآن الكريم. يليها الاستعارة فى زمن الفعل ، ثم فى الحروف (٩).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) مفتاح (١٧٩) للإمام السكاكى.

(٢) المصباح (٦٥) لبدر الدين ابن بن مالك.

(٣) الإيضاح (٥ / ٨٨) للخطيب القزوينى.

(٤) النحل (١).

(٥) الكهف (٩٩).

(٦) الإسراء (١٢).

(٧) النكت فى إعجاز القرآن (٨٨) للرمانى.

(٨) طه (٧١).

(٩) الفرق بين الاستعارة فى معنى الفعل وفى زمن الفعل أن معنى الفعل فى الأولى هو الذى تغير من الحقيقة إلى المجاز ، أما زمنه ماضيا أو مضارعا أو أمرا فيظل كما هو.

أما فى زمن الفعل فإن معنى الفعل يظل كما هو حقيقة لغوية لا مجاز فيه. وزمنه هو الذى تغير من المضارع إلى الماضى ، أو من الماضى إلى المضارع.

٥٤٠