الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) (٣)

وموطن الحذف فى الآية هو : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) والأداة المحذوفة هى «فى» قبل (أَنْ) وبعد (تَرْغَبُونَ).

لأن فعل الرغبة يعدّى ب «فى» إذا كانت الرغبة مطلوبة ، ويعدّى ب «عن» إذا كان المقام مقام زهد فى الرغبة ومقام إعراض عنها.

يقال رغبت فى كذا ، أى أحببته ، ورغبت عن كذا ، إذا أعرضت عنه وزهدت فيه.

أما الداعى البلاغى لحذف الأداة هنا ، وهى «فى» فهو الرمز إلى شدة رغبتهم فى نكاح يتامى النساء المتحدث عنهن فى هذه الآية.

وقد أشير بهذا الحذف إلى أنهم يرغبون فى سرعة الوصول إلى نكاحهن بدون أية عوائق تعترض طريقهم إليه.

وحذف «فى» يرمز إلى هذه الدلالة البالغة اللطافة.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) يوسف (٨٥).

(٢) الدر المصون للسمين الحلبى (٦ / ٥٤٦).

(٣) النساء (١٢٧).

٤٨١

الإيجاز بحذف الكلمة المفردة

وهذه هى الدرجة الثالثة صعودا فى صور الإيجاز بالحذف ، وضابطها أن المحذوف فيها كلمة مفردة : اسما أو فعلا ، ليست حرفا من بنية الكلمة ، ولا أداة لها دلالة فى الجملة.

ولهذه الصور ورود ملحوظ فى كلام العرب ، وفى القرآن الكريم.

فمن وروده فى كلام العرب قول ابن مطروح :

لا انتهى ، لا انثنى ، لا ارعوى

ما دمت فى قيد الحياة ، ولا إذا

أى : ولا إذا مت ، فحذف الفعل «مت» وهي كلمة مفردة (١) والذى دل عليها قوله قبلها «فى قيد الحياة» أما الداعى إلى حذفها فهو استقامة الوزن الشعري أما فى القرآن الكريم فمن أمثلة هذا النوع من الإيجاز قوله تعالى :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) (٢) وموطن الإيجاز فى الآية هو :

(اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) لأن الفاء فى (فَانْفَجَرَتْ) عاطفة على محذوف ، والتقدير : فضرب فانفجرت (٣).

وذلك لأن الله جعل ضرب الحجر بالعصى سببا فى تحقيق رغبة موسى لسقى قومه.

وانفجار الماء من الحجر اثنتى عشرة عينا دليل قاطع على حصول الضرب ، لأنه لو لم يضرب الحجر بعصاه ـ كما أمره الله ، لم يحصلوا على الماء.

هذا هو دليل الحذف ، وهو التلازم الطبيعى بين الطرفين :

الضرب وانفجار الماء ؛ لأنهما سبب ومسبب. أما الداعى البلاغى لحذف ضرب فهو إظهار كمال النعمة على بنى إسرائيل (قوم موسى الذين استسقى لهم الله عزوجل ، حتى لكأن الماء تفجر بدون ضرب.

ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (٤) ففي الآية إيجاز بحذف كلمة مفردة بين (الْعِجْلَ) وبين (سَيَنالُهُمْ

٤٨٢

غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) والتقدير : اتخذوا العجل إلها (٥).

ودليل الحذف فيها أن مطلق اتخاذ العجل لا يستوجب غضب الله وإذلاله إياهم ، فقد يكون اتخاذه للأكل وهذا حلال لا معصية فيه ، فتعين أن يكون اتخاذهم العجل معبودا من دون الله ؛ لذلك استحقوا هذا الوعيد الشديد ....

أما الداعى البلاغى الذى اقتضى هذا الحذف فهو ذو دلالة عميقة ولطيفة ، حاصلها أن اتخاذ العجل إلها ينبغى أن لا يكون عقيدة قوم ، وألا يكون معمولا للاتخاذ حتى فى مجرد اللفظ ، فحذفه من الكلام رمز لطيف على استبعاده من الوجود.

ومن مواضع هذا الإيجاز فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦).

فى الآية الكريمة موضعان للإيجاز بحذف الكلمة المفردة ، يظهران من التقدير الآتى :

خلطوا عملا صالحا بسيئ ، وآخر سيئا بصالح ودليل الحذف هنا عطف (وَآخَرَ سَيِّئاً) على (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً) إذ ليس المقصود أنهم خلطوا عملا بآخر سيئ ، بل المراد أن لهم عملين :

* عمل صالح خلطوه بسيئ أقل منه ، وعمل سيئ خلطوه بقليل من الصلاح ولو كان المراد المعنى الأول لقيل : خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ. فدل العطف على المحذوف فى الموضعين.

أما الداعى البلاغى للحذف فى الموضعين فلتحقيق فضيلة الإيجاز ، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ ، فى أكثر ما يمكن من المعانى. وفى ذلك يقول ابن مالك فى ألفيته :

وحذف ما يعلم جائز كما

تقول زيد بعد من عندكما

ومن هذا النوع من الإيجاز فى كتابه العزيز قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٧) ففي الآية الكريمة إيجاز بحذف كلمة «البرد» بعد كلمة (الْحَرَّ) والتقدير : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر والبرد (٨).

ودليل الحذف أن هذه السرابيل فى الواقع تحمى الناس من الحر والبرد معا ، وإنما أوتر

٤٨٣

ذكر الحر على البرد لأن الحر أكثر إيلاما من البرد ، ولأن البرد يمكن الاحتياط منه بخلاف الحر.

والبلاغيون يسمون هذا النوع من الإيجاز ب «الاكتفاء» وعرفوه بقولهم :

«هو أن يقتضى المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر لنكتة» (٩).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) خزانة الأدب (٢ / ٢٨٢).

(٢) البقرة (٦٠).

(٣) الكشاف (١ / ٢٨٤).

(٤) الأعراف (١٥٢).

(٥) أنوار الربيع (٣ / ٧٢).

(٦) التوبة (١٠٢).

(٧) النحل (٨١).

(٨) أنوار الربيع (٣ / ٧٢).

(٩) أنوار الربيع (٣ / ٧١).

٤٨٤

الإيجاز بحذف التّراكيب

هذا النوع من الإيجاز هو أعلى درجاته وصوره ؛ لأن المحذوف فيه أكثر من الجملة ، الواحدة ، فقد يكون المحذوف جملتين أو ثلاثا أو أكثر.

وله حد أدنى ، وهو حذف جملتين ، وأما حده الأعلى فغير منضبط فى عدد معين من الجمل أو التركيب ، وبعض البلاغيين يسمى صور الجمل التى يعتريها الحذف أنها جمل ذكرها غير مفيد ؛ لأن معناها يدرك وهى محذوفة فيكون ذكرها غير محتاج إليه (١).

وهذا النوع من الإيجاز له ورود مستفيض فى القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى :

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢). القائل : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) هو مريم رضى الله عنها حين بشرها الملك بعيسى عليه‌السلام ، وقد اشتملت هذه الآية على إيجاز بالحذف ، كان المحذوف فيه جملتين.

لأن قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) تعليل معلله محذوف ، أو سبب مسببه محذوف والتقدير :

«فعلنا هذا وقدرناه لنجعله آية للناس.

ودليل الحذف هو ذكر السبب ، وهو يقتضى مسببا ؛ لأن بين السبب والمسبب تلازما فى الوجود ، وذكر أحدهما يدل على الآخر المحذوف.

أما الداعى البلاغى ، فهو ـ كما تقدم مرات ـ إحكام العبارة ونفى الفضول عنها ومن ذلك قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) (٣). فى الآية إيجاز بحذف أكثر من جملة ، والتقدير :

«لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل (٤).

والدليل على هذا الحذف هو قوله تعالى :

(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) فحذف من الأول ، لدلالة الثانى عليه والبلاغيون يسمون هذا الحذف :

«الاحتباك» وله صورة أخرى ، وهى : أن يكون الحذف من الأول لدلالة الثانى عليه (٥) وفى

٤٨٥

الآية دليل آخر على هذا الحذف ، ولفت الذهن إليه : وهو الفعل (لا يَسْتَوِي) فى صدر الآية ، لأنه يستدعى طرفين بينهما تفاوت ليتحقق نفى المساواة بينهما. وليس فى صدر الآية إلا طرف واحد موصوف بصفات الكمال. وهذا يقتضى حضور الطرف الثانى فى الذهن ليستقيم الكلام ويحسن السكوت عليه.

والداعى البلاغى لهذا الحذف هو تهذيب العبارة لأن المعنى الذى يدركه الفهم إدراكا قويا مع حذف الألفاظ الدالة عليه ، يكون فى ذكرها فضول يتنزه عنه البيان الحكيم.

ومنه كذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٦). وفى هذه الآية حذوفات ، والتقدير : «والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القربات الخالصة لوجه الله تعالى ، ويخافون أن ترد عليهم صدقاتهم» أو المحذوف هو : «يخافون أن ترد عليهم صدقاتهم ، أن ترد عليهم جميع قرباتهم التى قدموها طامعين فى قبول الله لها ، وإثابتهم عليها» ودليل هذه الحذوفات هو قوله تعالى :

(قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) لأن الوجل الحاصل فى القلوب ليس من نفس الطاعات المرجو بها وجه الله ، وإنما من بوارها وكسادها وردّ الله إياها.

أما السر البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز وتكثير المعانى مع قلة الألفاظ المستعملة فيها.

وفى الإيجاز عموما ميزة لا تنفك أبدا ، بل هى ملازمة له ملازمة الروح للجسد النامى بالحياة وهى اختصار الزمن فى النطق ، واختصار المساحة فى الورق.

وقد بلغ الحذف قدرا كبيرا لم نعهده من قبل ، وذلك فى قوله تعالى : (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) (٧).

والإيجاز بالحذف ـ هنا ـ موطنه قبل قوله تعالى حكاية عن ملك مصر فى عصر يوسف عليه‌السلام : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) لأن الآيات المذكورة قبله كلام قاله يوسف عليه‌السلام للفتى الذى أرسله الملك إلى يوسف ، ليعبر له رؤياه ، ولم يكن الملك حاضرا حين قال يوسف عليه‌السلام لرسول الملك هذا الكلام. ولكن الذى حدث ـ لا محالة ـ أن الفتى لما رجع من عند يوسف عليه‌السلام أبلغ الملك وحاشيته ما قاله له يوسف ، بدءا من قوله : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً)

٤٨٦

إلى قوله : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) يعنى أن هذه الآيات كررت أو قيلت مرتين :

* مرة قالها يوسف لرسول الملك.

* ومرة قالها رسول الملك للملك.

لكن النظم القرآنى الحكيم اكتفى بذكرها عن يوسف لرسول الملك. وحذف ذكرها على لسان رسول الملك للملك مع حذوفات أخري تتعلق بهذا المقام.

وتقدير الكلام مع الاختصار هو الآتى :

«ثم عاد رسول الملك من عند يوسف بعد أن سمع منه ما قال ودخل على الملك وحاشيته فقص عليهم ما قاله يوسف ....» وبعد أن فرغ من إبلاغ ما قاله يوسف صدقه الملك وحاشيته وأبدى الملك إعجابه بما قال يوسف ثم قال (ائْتُونِي بِهِ) هذا كله محذوف ؛ لأنه مفهوم من الفجوات التى تخللت الكلام. وهذا يسمى فى الأدب المسرحى الحديث «قص المناظر» التى تترك ليملأ العقل فجوات الفراغ التى بين ثنايا الكلام أما الآيات التى طوى ذكرها فعدد جملها أو تراكيبها اثنا عشر تركيبا ، هى :

قال ـ تزرعون ـ حصدتم ـ ذروه ـ تأكلون ـ يأتى ـ يأكلن ـ قدمتم ـ تحصنون ـ يأتى ـ يغاث ـ يعصرون.

أما عدد الكلمات التى تتكون منها هذه التراكيب ولواحقها فهى أكثر من أربعين كلمة ودليل هذا الحذف أمران :

* عمل العقل فى ملء الفراغات البدهية.

* ذكر ما قاله يوسف دل على ما حكاه رسول الملك للملك.

أما الداعى البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز مع تجنب العبث فى البيان ، ودفع الملل لدى السامع ، لو أعيدت الآيات مرة أخرى بلا فصل طويل.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) معجم المصطلحات البلاغية (١ / ٣٥٨).

(٢) مريم (٢٠ ـ ٢١).

(٣) الحديد (١٠).

(٤) الكشاف (٤ / ٦٢).

(٥) ينظر مصطلح الاحتباك الآتى بعد قليل.

(٦) المؤمنون (٦٠).

(٧) يوسف (٤٧ ـ ٥٠).

٤٨٧

الإيجاز بحذف الجملة

وهذه هى الدرجة الرابعة من صور الإيجاز بالحذف ، بعد حذف الحرف الواحد من بنية الكلمة ، وحذف الكلمة الواحدة من الجملة ، أو التركيب الواحد ، والذى عنيناه بحذف «الأداة» ثم حذف الكلمة غير الأداة ، اسما أو فعلا.

والصورة الرابعة ، أو النوع الرابع من الإيجاز بالحذف هو حذف التركيب الواحد من الكلام ، نعنى حذف الجملة : اسمية كانت أو فعلية.

وهذا النوع من الإيجاز شائع فى الأساليب العربية فى الشعر ، وفى النثر ، وفى القرآن الكريم ، ومن أمثلته الكثيرة فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) (١) ففي هذه الآية الكريمة إيجاز بحذف تركيب مكون من الفعل والفاعل ، وتقدير الكلام قبل الحذف : ب احذروا (٢).

وهو فعل أمر ، وفاعله واو الجماعة «وكلاهما قد اعتراه الحذف كما ترى.

ودليل الحذف فى الآية بقاء المفعول به منصوبا وهو : (ناقَةَ اللهِ) فناقة الله مفعول به منصوب بالفتحة كما ترى ، وليس فى الآية لفظ يصلح أن يكون هو عامل النصب فى (ناقَةَ) بل العامل محذوف. وأن ذلك المحذوف هو : احذروا أو اتركوا أو ذروا وأما الداعى البلاغى لهذا الحذف ، فوق تحقيق فضيلة الإيجاز ، فهو سرعة الوصول إلى المطلوب ، وهو صون حرمة الناقة وما قدّر الله لها من رزق ، وفى إضافة (ناقَةَ) إلى اسم الجلالة تعظيم لحرمتها ؛ لأنها ليست مجرد ناقة ، بل هى آية من آيات الله المخصوصة بالرعاية والعناية.

ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) (٣). وفى هذه الآية إيجاز بحذف التركيب الواحد (جملة فعلية) موطنه بين قوله تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا)

٤٨٨

وقوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وتقدير المحذوف هو «قلنا لهم» (٤).

ودليل الحذف ـ هنا ـ هو سياق الكلام ، لأن قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) فيه التفات إلى الخطاب من الغيبة ، ففي صدر الآية كان الكلام حديثا عن مشهد من مشاهد يوم القيامة ، وهو عرض العباد على الله وكان الحديث عنهم بطريق الغيبة (وَعُرِضُوا) ثم التفت من هذه (الغيبة) إلى خطابهم : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) فلزم تقدير محذوف بين الغيبة والخطاب وهو : قلنا لهم ، أو : نقول لهم.

والتركيب المحذوف هنا جملة فعلية.

أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية ، فهو إحكام النظم بحذف فضول الكلام ؛ لأن التحول فيها من الغيبة قرينة قوية على إدراك التركيب المحذوف ، لأنه لا يستقيم النظم إلا بتقدير التركيب المحذوف ، الذى قد اقتضاه طرفا الكلام ، وأرشدا إليه حتى لكأنه مذكور فى الكلام صراحة.

ومن الإيجاز بحذف التركيب الواحد ، أو الجملة فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥).

وموطن الحذف فى الآية بين قوله تعالى :

(فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وتقدير المحذوف هو :

«ألستم ظالمين» (٦) ـ وهو جملة اسمية ودليل الحذف هو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأن الآية مسوقة مساق الإنذار والتهديد ، وتعقيب الكلام ينفى هداية الله القوم الظالمين تلويح لهم بأنهم ظالمون بكفرهم بكتاب الله. وليس فى الآية ذكر لقوم ظالمين ينسحب عليهم هذا الوعيد ، فدل ذلك على أن المخاطبين هم المعنيون بهذا الوعيد إن لم يوقنوا بما أنزل الله على خاتم رسله.

أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية ، فهو القصد إلى لين الخطاب فى الدعوة ، وتجنب تيئيس المخاطبين من رحمة الله ، فلم يواجههم بأنهم هم الظالمون وأخرج الكلام مخرج العموم ، حتى لكأن الظالم هو غير المخاطبين.

وفى ترك المواجهة لهم بأنهم هم الظالمون ، الذين لا يهديهم الله إفساح المجال لهم ، لمن أراد أن يؤمن منهم ، ولا نزاع فى أن بعضهم آمن واهتدى بعد فتح مكة المكرمة. فتأمل

٤٨٩

الأسرار الرائعة ، التى ترتبت على هذا الحذف فى هذه الآية.

ومنه قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) (٧). موطن الإيجاز فى الآية بعد :

(وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وتقدير المحذوف هو : «فعدتهن كذلك» وهى جملة اسمية من مبتدأ وخبر ، ودليل الحذف هو العطف على (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) لأن العطف يشرك المعطوف فى إعراب المعطوف عليه وحكمه.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) الشمس (١٣).

(٢) تفسير البيضاوى (٢ / ٦٠٠).

(٣) الكهف (٤٨).

(٤) فتح القدير للإمام الشوكانى (٣ / ٣٤٦).

(٥) الأحقاف (١٠).

(٦) معجم المصطلحات البلاغية (١ / ٣٥٤).

(٧) الطلاق (٤).

٤٩٠

الاحتباك

الاحتباك لغة : هو شد الإزار ، وكل شىء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته ، والحبك الشد والإحكام (١) وقد يستعمل الحبك بمعنى الزينة ، وبها فسروا قوله تعالى :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٢).

أما فى الاصطلاح البلاغى ، فقد بين الإمام جلال الدين السيوطى الصلة بينه وبين المعنى اللغوى فقال :

«ومأخذ هذه التسمية من الحبك ، الذى معناه : الشد والإحكام ، وتحسين أثر الصنعة فى الثوب. فحبك الثوب سدّ ما بين خطوطه من الفرج ... بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق.

وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف فى الكلام شبّهت بالفرج بين الخيوط. فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر فى نظمه وحبكه ، فوضع المحذوف مواضعه ، كان حابكا له ، مانعا من خلل يطرقه ، فسدّ بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق».

ثم عرفه باسم «الاحتباك» وقال : «إنه من ألطف الأنواع وأبدعها» (٣).

وسماه الإمام الزركشى : الحذف :

المقابلى. وعرّفه فقال : «هو أن يجتمع فى الكلام متقابلان ، فيحذف من واحد منهما مقابله (فى الآخر) لدلالة الآخر عليه» (٤) ومن أمثلته فى القرآن الصور الآتية.

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٥)

والمعنى : فإن افتريته فعلىّ إجرامى وأنتم برآء منه ، أى من إجرامى ، وعليكم إجرامكم وأنا برىء منه. فقد حذف من الثانى «وأنا برىء» أى من إجرامكم لدلالة الأول عليه.

وقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) والمعنى : الله أحق أن ترضوه ، ورسوله أحق أن ترضوه.

فحذف من الأول (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) لدلالة الثانى عليه الواقع خبرا عن «رسوله» وهو : (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ).

٤٩١

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (٦) والمعنى : إن الله يصلى على النبى ، وملائكته يصلون على النبى ، فحذف من الأول (إِنَّ اللهَ) الفعل (يصلى) لدلالة الثانى (يصلون) عليه.

وقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٧).

وبلاغة هذا الفن «الاحتباك» هى إحكام العبارة وسلامتها من الخلل ، مع قلة الألفاظ وكثرة المعانى التى تدل عليها. والبلاغة الإيجاز ، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ فى أكثر ما يمكن من المعانى (٨).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) لسان العرب ، مادة : حبك.

(٢) الذاريات (٧) وانظر تفسير الإمام البيضاوى (٢ / ٤٣٧).

(٣) الإتقان فى علوم القرآن (٢ / ٢٢) وشرح عقود الجمان (١٣٣) ومعترك الأقران فى إعجاز القرآن (١ / ٣٢٣).

(٤) البرهان فى علوم القرآن (٣ / ١٢٩).

(٥) هود (٣٥).

(٦) الأحزاب (٥٦).

(٧) الرعد (٣٩).

(٨) النبأ العظيم ـ نظرات جديدة فى القرآن (١١١) د. محمد عبد الله دراز.

٤٩٢

إيجاز القصر

هو القسم الثانى من قسمى الإيجاز ، بعد الإيجاز بالحذف وصوره الخمس التى تقدمت.

والفرق بينهما أن الإيجاز بالحذف يلحظ فيه حذف حرف من بنية الكلمة ، أو أداة من أدوات المعانى ، أو كلمة مفردة (اسم أو فعل) من تركيب مفيد (جملة تامة) (اسمية أو فعلية) من مجموع كلام ، أو يكون المحذوف جملتين فأكثر ، مع وجود دليل قوى على المحذوف.

أما إيجاز القصر فلا يلحظ فيه شىء محذوف أبدا وإنما يلحظ فيه أن المعانى المشعة منه أكثر من الألفاظ التى استعملت فيها.

فمثلا قولنا : «اسأل أهل القرية» كلام مساو لفظه لمعناه ، فإذا قارناه بقوله تعالى :

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) كان إيجازا بالحذف ، والمحذوف هو كلمة «أهل» وهو مفعول به ل (سْئَلِ) ومضاف إلى (الْقَرْيَةَ) ودليل الحذف فيه هو حكم العقل ، الذى يمنع توجيه السؤال إلى القرية باعتبارها مكانا وأرضا وأبنية وإنما الذى يوجه إليه السؤال عقلا هو أهل القرية فإيجاز الحذف ، وإيجاز القصر يشتركان فى أن معانى كل منهما أكثر من الألفاظ المستعملة فيها ، ويفترقان فى أن إيجاز الحذف يلحظ فيه ألفاظ محذوفة ، أما إيجاز القصر فلا يلحظ فيه ألفاظ محذوفة ، يمكن ذكرها فى جمله أو تراكيبه.

وكان الجاحظ أول من أشار إليه فى قوله :

«الكلام الذى قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه» (٢) ذكر هذه العبارة فى وصف مسهب لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم جاء العلماء من بعده واعتبروا هذه العبارة تعريفا لفن الإيجاز بالقصر ومنه قوله تعالى :

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) (٣) على اعتبار أن هاتين الكلمتين قد جمعتا نفى جميع عيوب خمر أهل الدنيا.

وقوله تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٤) على اعتبار أن هاتين الكلمتين قد جمعتا نفى جميع العيوب ثم قال : «درجت الأرض من العرب والعجم على إيثار الإيجاز وحمد الاختصار وذم الإكثار والتطويل والتكرار وكل ما فضل ـ أى زاد ـ على المقدار» (٥)

ويرى ابن الأثير أن التنبه إلى هذا النوع من الإيجاز عسر لأنه يحتاج إلى فضل تأمل (٦).

٤٩٣

وقول الله تعالى : (الْقِصاصِ حَياةٌ) (٧) والقول المأثور عن العرب «القتل أنفى للقتل» وفى كل منهما إيجاز قصر ، وبينوا الوجوه التى سما بها قول القرآن على قول العرب ، فى الآتى :

فأولا : عدد حروف قول القرآن عشرة أحرف. وعدد حروف القول المأثور عن العرب أربعة عشر حرفا.

وثانيا : القول القرآنى فيه تصريح بالمطلوب ، وهو الحياة ، أما قول العرب فقد خلا من التصريح.

وثالثا : تنكير «حياة» فى القول القرآنى يفيد إما التعظيم ، وإما النوعية الخاصة ، أى حياة آمنة وقد خلا قول العرب منه.

ورابعا : القول القرآنى مطرد عام ، أما قول العرب ففيه قصور وعجز ؛ فليس كل قتل يكون محققا لسلامة الأرواح. بل منها ما يكون سببا فى تفشى القتل ، وهو الأخذ بالثأر. والقتل والعدوان أما القول القرآنى فنص على أن القتل هنا هو القصاص الذى يقوم به ولى الأمر ، وفيه ـ فعلا ـ حسم لمادة الشر.

وخامسا : القول القرآنى خلا من عيب التكرار ، أما قول العرب فقد تكرر فيه القتل مرتين.

وسادسا : استغناء القول القرآنى عن تقدير محذوف يتم به المعنى. أما قول العرب فلا بد من تقدير محذوف فيه هكذا :

القتل أنفى للقتل من تركه.

وسابعا : القول القرآنى جمع بين القصاص بمعنى القتل ، وبين الحياة. وفى هذا محسّن بديعى لطيف المورد ، أما قول العرب فقد عرى من هذا التحسين.

وثامنا : القول القرآنى جعل «القصاص» منبعا ومصدرا للحياة كاشتمال الظرف على المظروف فيه. أما قول العرب فقد خلا من هذه الاعتبارات اللطيفة الآسرة (٨).

ولهذا الإيجاز قيمة عليا عند البلاغيين وخبراء الأساليب فقد وصفوه ـ أعنى الإيجاز فى آية القصاص المتقدمة ، بأنه :

«الذى فاق كل كلام ، وهو أعلى طبقات الإيجاز» (٩)

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) يوسف (٨٢).

(٢) البيان والتبيين (٢ / ١٩).

(٣) الواقعة (١٩).

(٤) الواقعة (٢٢).

(٥) رسالة من البلاغة والإيجاز (٢٢) ـ رسائل الجاحظ (٤ / ١٥٦).

(٦) المثل السائر (٢ / ٧٨).

(٧) البقرة (١٧٩).

(٨) المثل السائر (٢ / ١٢٥) ـ والصناعتين لأبى هلال العسكرى (١٧٥) ـ ونهاية الإيجاز للفخر الرازى (١٤٥) ـ وبديع القرآن (١٩٢) ـ والإيضاح (١٨٢).

(٩) نهاية الإرب للنويرى (٧ / ٥) ـ شروح التلخيص (٣ / ١٨٢) ـ الطول للسعد (٢٨٦) ـ معترك الأقران للسيوطى (١ / ٢٩٥) ـ الجامع الكبير لابن الأثير (١٤٢).

٤٩٤

الفواصل

الفواصل جمع فاصلة ، والفصل لغة هو البت والقطع يقال فصلت كذا عن كذا : يعنى قطعته عنه (١) والفاصلة والفواصل مصطلح خاص بنظم القرآن الكريم ، وسمة من سمات بلاغته وبيانه. ومعنى الفاصلة فى اصطلاح علماء علوم القرآن هى الكلمة الأخيرة فى الآية ، مثل القافية التى هى الكلمة الأخيرة فى بيت الشعر ، ومثل السجع وهو الكلمة الأخيرة فى الجملة ، من الكلام المنثور لأن الكلام : إما شعر (ونهايات جمله أو أبياته هى القوافى) وإما غير شعر ، وهو قسمان :

* القرآن ، ونهايات آياته فواصل.

* الكلام النثرى سواء كان نثرا فنيا كالقصة والرواية والأقصوصة أو غير فنى ونهايات جمله قد تكون سجعا إذا اتفقت جملتان فأكثر فى الحرف الأخير من الكلمة الأخيرة فيهما وقد تكون ليست سجعا إذا كانت كلمات الجمل الأخيرة فيه غير متفقة فى الحروف الأخيرة من آخر الكلمات فى الجمل التى تقع فى الآخر غير متجانسة.

وتسمية الكلمات الأخيرة فى نهايات الآيات القرآنية «فواصل» مأخوذة من قوله تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) (٢) وقد تكررت هذه العبارة مرات فى آيات الكتاب العزيز ، وقد عرف علماء علوم القرآن الفاصلة القرآنية فقالوا :

الفاصلة القرآنية «هى كلمة آخر الآية كقافية الشعر ، وقرينة السجع» (٣).

وقال أبو عمرو الدانى : «كلمة آخر الجملة» (٤) ، يقصد أن الفاصلة هى آخر كلمة فى الآية.

وقد يطلقون على هذه الفواصل مصطلح :

رءوس الآيات ، وهذا المصطلح أخص من الفاصلة ، لأنهم قد يتسامحون فى إطلاق الفاصلة على جملة فى درج الآية ، مثل قوله تعالى :

(ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) (٥) وهى ليست رأس آية (٦) والفواصل القرآنية هى مجامع بلاغة القرآن ومعاقد معانيه. والنظر إليها ودراستها يسفر عن عدة خصائص فى إعجازه ونظمه.

ومن ذلك : فهى من جهة تتيح استراحة لقارئ القرآن الكريم حيث يسكت قليلا عند نهاية كل آية قبل أن يأخذ فى تلاوة الآية التى

٤٩٥

بعدها ، وهى من جهة ثانية تحدد نهايات الآيات وبداياتها وتميز بين الآيات ؛ لأن من سنن تلاوة القرآن وأدائه الأمثل ، هو الوقوف عند رأس كل آية إلا فى مواضع قليلة فى القرآن الكريم ، فيحسن وصل الآية بما بعدها. وهى من جهة ثالثة تمكن قارئ القرآن الكريم من حسن الأداء ، وتتيح للسامع فرصة حسن المتابعة لما يتلى مع تذوق المعانى وتدبرها.

ومن جهة رابعة تؤدى الفواصل القرآنية دورا عظيم الشأن فى انسجام الإيقاع الصوتى مما أضفى على القرآن خاصية فريدة فى نوعها ، وهى انفراده بإيقاع صوتى شجى يستولى على القلوب ، ويستقطب العقول ، ويأسر الأسماع بحلاوة وعذوبة وقعه.

ومن أجل هذا اختصت كلمات الفواصل القرآنية بالأمور الآتية :

* ختمها ـ فى الغالب ـ بحروف المد واللين ، وإلحاق الميم والنون بها ، ووظيفته التمكن من التطريب ، قال سيبويه :

«إنهم ـ أى العرب ـ يلحقون الألف والياء والنون يريدون مد الصوت ، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا» (٧). وهذا الجمال الإيقاعى فى القرآن لا يخفى على أحد (٨).

إن الحروف التى تقع بها الفواصل إما متماثلة وإما متقاربة ، ولا تخرج الفواصل عن هذين النوعين فمثال التماثل قوله تعالى :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)).

ومثال التقارب قوله تعالى :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)).

فالتماثل فى الكوثر وقع بحرف «الراء» والتقارب فى «الفاتحة» وقع بين النون والميم.

* إنها تتقدم عليها ألفاظ ، تمهد لها ، وتعظم من وقعها فى السمع. وتلك الألفاظ سماها الأقدمون رد الأعجاز على الصدور ، وسماها المحدثون ب «التصدير».

* التكرار فى بعض الفواصل ، كما فى سور : الرحمن ، القمر ، والمرسلات. لكن هذا التكرار ليس مقصورا على هذه الوظيفة الصوتية ، بل هو لها ولخدمة المعانى المرادة من الفواصل وما يتقدمها. وللعلماء نظر خاص فى بناء الفواصل ، نتج عنه تقسيم الفواصل عدة أقسام ، نذكر منها :

٤٩٦

* الفواصل المتوازية ، وضابطها أن تتفق الفاصلتان فى الوزن الصرفى ، وفى الحروف ، مثل قوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (٩).

* والمطرف أن تتفق الفاصلتان فى الحروف دون الوزن مثل قوله تعالى :

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٠). فالفاصلة الأولى على «مفعولة». أما الفاصلة الثانية فعلى وزنى «فعال» و «أفعال».

* الفواصل المتوازية ، وضابطها أن يراعى فى كلتا الفاصلتين الوزن الصرفى ، دون الاتفاق فى الحروف مثل قوله تعالى :

(وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١١) الوزن واحد «مفعولة» أما الحرفان فهما مختلفان وهما : الفاء والثاء.

ويلاحظ أن الفواصل القرآنية فى الآيات القصيرة تكون كلمة معمولة نحويا لعامل فى الآية قبلها ، أو معطوفة على كلمة فيها ، أو توضيحا لكلمة ، أو مضافا إليها كلمة ، مثال ذلك :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧) ففي الآية الأولى جاءت (بِالدِّينِ) متعلقة ب (يُكَذِّبُ) وفى الآية الثانية جاءت الفاصلة (الْيَتِيمَ) مفعولا به للفعل (يَدُعُ) وفى الآية الثالثة جاءت الفاصلة (الْمِسْكِينِ) مضافا إليها (طَعامِ) وفى الآية الرابعة جاءت الفاصلة (لِلْمُصَلِّينَ) خبرا ل (فَوَيْلٌ) كما جاءت (ساهُونَ) خبرا عن (الَّذِينَ) فى الآية الخامسة ، وكذلك (يُراؤُنَ) فى الآية السادسة. أما (الْماعُونَ) فى الآية السابعة ، فجاءت مفعولا به ل (يَمْنَعُونَ) وهكذا كل فواصل الآيات القصيرة فى القرآن كله.

أما الآيات الطويلة فتأتى فاصلتها فى جملة مستقلة ، مثل : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٢).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ومعاجم اللغة ، مادة : فصل.

(٢) فصلت (٢).

(٣) البرهان فى علوم القرآن (١ / ٥٣).

(٤) المصدر نفسه.

(٥) الكهف (٦٤).

(٦) البرهان (١ / ٥٣).

(٧) الكتاب (٢ / ٢٩٨).

(٨) النبأ العظيم (٨٠).

(٩) الغاشية (١٣ ـ ١٤).

(١٠) نوح (١٣ ـ ١٤).

(١١) الغاشية (١٥ ـ ١٦).

(١٢) البقرة (١٦).

٤٩٧

الفصل

الفصل فى اللغة القطع والتنحية والتفريق بين الأشياء (١) أما عند البلاغيين فهو فن من فنون علم المعانى خاص بالعلاقات بين بعض الجمل ، وله نظير يقابله فى الدرس البلاغى هو «الوصل» وتعتمد فكرتا الفصل والوصل على عطف جملة ، على أخرى ب «الواو» خاصة من دون حروف العطف الأخرى ، كالفاء وثم وبل ، أو ترك هذا العطف.

وقد عرفهما البلاغيون تعريفا واحدا جامعا بين الفصل والوصل ، فقالوا.

«الوصل هو عطف جملة على أخرى بالواو ، والفصل هو ترك ذلك العطف» (٢).

وكان الإمام عبد القاهر الجرجانى هو أول من أفاض فى الحديث عن هذا الفن ، ووضع دقائق أصوله وفروعه ولم يترك لمن جاء بعده كبير مجال فيه ، إلا بعض إضافات خفيفة لا تخرج عن الأصول التى وضعها هو رحمه‌الله (٣) ثم نهج الإمام السكاكى منهج الإمام عبد القاهر فى هذا الدرس (٤) وتابعهما الخطيب القزوينى (٥).

ثم شراح تلخيصه من بعده (٦).

وهذا البحث (الفصل) خاص بالجمل التى ليس لها محل من الإعراب ، مثل الجملة الابتدائية ، وجملة صلة الموصول ، و

الجملة الواقعة جوابا لشرط غير جازم.

ويجب فصل الجملة الثانية عن الأولى فى الحالات الآتية ، التى وضع البلاغيون لها ضوابط على النحو التالى :

كمال الانقطاع : فكل جملتين بينهما كمال الانقطاع يجب فصل الثانية منهما عن الأولى ، فلا تعطف عليها بالواو ، لأن الواو يقتضى العطف بها أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه تناسب ، ولا تناسب مع كمال الانقطاع.

ويتحقق كمال الانقطاع بين الجملتين إذا اختلفتا فى الخبرية والإنشائية لفظا ومعنى أو معنى فقط. وقد مثل البلاغيون لهذه العلاقة من غير القرآن بقول الشاعر :

وقال رائدهم ارسوا نزاولها

فكل حتف امرئ يجرى بمقدار (إ) ٧

والشاهد فيه فصل جملة «نزاولها» ؛ لأنها جملة خبرية لفظا ومعنى ، عن جملة «ارسوا» ؛ لأنها جملة إنشائية لفظا ومعنى.

٤٩٨

أما الاختلاف بين الجملتين فى الخبرية معنى فحسب ، فقد مثلوا له بقولهم.

«مات فلان رحمه‌الله» فالجملة الأولى «مات فلان» خبرية لفظا ومعنى والجملة الثانية «رحمه‌الله» خبرية لفظا إنشائية معنى ، لأنها فى قوة «اللهم ارحمه»

أما فى القرآن الكريم فمن أمثلته قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٨). فقد فصلت جملة (إِنَّ شانِئَكَ) عن جملة (وَانْحَرْ) لأن الأولى إنشائية لفظا ومعنى. والثانية خبرية لفظا ومعنى ، فبين الجملتين كمال الانقطاع كما ترى.

ومثلهما قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) (٩).

فصلت جملة (قُلْ بَلى وَرَبِّي) عما قبلها (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لأن الأولى خبرية لفظا ومعنى ، والثانية إنشائية لفظا ومعنى. فبين الجملتين كمال الانقطاع وهذا كثير جدا فى القرآن الكريم ، ويأتى على صورتين.

* أن تكون الأولى إنشائية والثانية خبرية ، كما تقدم فى سورة «الكوثر».

* أن تكون الأولى خبرية ، والثانية إنشائية ، كما فى سورة «سبأ».

هذا هو كمال الانقطاع الموجب لفصل الجملة الثانية عن الأولى والفصل هو ترك العطف بالواو خاصة كما تقدم.

* كمال الاتصال : ويتحقق كمال الاتصال بين الجملتين بعدة اعتبارات.

الأول : أن تنزّل الجملة الثانية منزلة البدل من الجملة الأولى ، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٠)

فصلت جملة (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) عن جملة (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) لأن الجملة الثانية نزلت منزلة البدل مما قبلها. لأن معنى الجملتين واحد ، غير أن معنى الأولى مجمل ، ومعنى الثانية مفصل ، فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى.

ويلاحظ أن جملة (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) وما عطف عليها منزّلة منزلة بدل البعض من الكل ، لأن إمداد الله للعباد أعم من الأنعام والبنين ، والجنات والعيون.

والداعى البلاغى لهذا الإبدال هو إظهار الامتنان على المخاطبين ، بذكر النعم مجملة فى الآية الأولى ، ومفصلة بعض التفصيل فى الآية الثانية والثالثة.

وقد تكون الثانية منزلة من الأولى منزلة بدل الاشتمال ومثاله قوله تعالى :

٤٩٩

(قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (١١).

فصلت جملة (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) عن جملة (قالَ يا قَوْمِ) لأن بين الجملتين كمال الاتصال ، لأن الأولى مشتملة على معنى الثانية ، لأن المرسلين لا يسألون الناس أجرا على تبليغ الرسالة.

أو تكون الجملة الثانية بدل كل من كل ، ويمكن التمثيل له من القرآن الكريم بقوله تعالى :

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٢).

لأن ما فى الجملتين الثانية والثالثة ، هو الذى قاله الأولون ففصلت جملة (قالُوا أَإِذا مِتْنا) عن جملة (بَلْ قالُوا) لما بين الجملتين من كمال الاتصال ؛ لتنزيل الثانية من الأولى منزلة بدل الكل من الكل.

ويلاحظ أن الجملة الثانية المفصولة فى كل ما تقدم أكثر وضوحا من الجملة الأولى.

هذا فى جمل كمال الاتصال دون كمال الانقطاع.

وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الثانية منزلة ، التوكيد مما قبلها ، معنويا ولفظيا. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى :

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (١٣).

فقوله تعالى (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) توكيد لجملة (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) لأنها تؤكد نفى التأثير فى من تليت عليه آيات الله. فبين الجملتين كمال الاتصال ؛ لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد المعنوى مما قبلها ، لذلك فصلت عنها ولم تعطف عليها.

كما فصلت جملة (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) عن جملة (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) لأن بينهما كمال الاتصال ، لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد مما قبلها.

* وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الجملة الثانية منزلة عطف البيان مما قبلها (مفسرة) ومثاله فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (١٤).

فصلت جملة (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) عن جملة (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) لأن الجملة ، الثانية نزّلت منزلة عطف البيان عما قبلها ، (جملة تفسيرية) فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى.

ومثلها قوله تعالى :

٥٠٠