الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

موضع آخر (٢٤) هذه ناحية ، أما الأخرى ، فقد قال الخطابى : إن الأسلوب الأدبى يعتمد على ثلاثة أشياء : لفظ حامل ، ومعنى قائم به ، ورباط له ، فإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا ، وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه ، أما المعانى فلا خفاء على ذى عقل ، أنها هى التى تشهد لها العقول بالتقدم فى أبوابها ، والترقى إلى أعلى درجات الفضل نحو نعوتها وصفاتها ، وقد توجد هذه الصفات على التفرق فى أنواع الكلام ، أما أن تكون مجموعة فى نوع واحد منه فلم توجد إلا فى كلام العليم القدير ، فتفهّم الآن واعلم أن القرآن صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن مضمون التأليف مضمنا أصح المعانى. وهذا ما بسطه الخطابى إلى أن قال : (٢٥)

«أما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لحام الألفاظ ، وزمام المعانى ، وبها تنتظم أجزاء الكلام ، ويلتئم بعضه فوق بعض ، فتقوم له صورة فى النفس يتشكل بها البيان».

وذلك قول يحدد نظرية النظم ، كما أتى بها عبد القاهر فى (دلائل الإعجاز) تحديدا تتضح به المعالم المتفرقة فى أشتات من قول الجاحظ ومن تلاه ، ولئن أعوزنا أن نثبت اطلاع عبد القاهر على ما كتب الخطابى ، فذلك لا يمنع القول باهتداء الخطابى إلى أصل قوى من أصول الإعجاز ، نهضت عليه صروح أقامها المخالفون ، بعد أن وضع ثابت الأساس ، وقد وجّهت بعض الاعتراضات المغرضة إلى النصوص التعبيرية فى القرآن فنهض الخطابى للرد عليها ، وأفرد لها جزءا من رسالته ، شأنه فى ذلك شأن ابن قتيبة فى (تأويل مشكل القرآن) ، ولكنه توسع عنه فى التعبير لأن تأخره الزمنى أتاح له ما لم يتح لسابقه.

فمما توجهت الشبهة به إلى اللفظ ، وقوف المعترضين عند قوله تعالى : (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ). (٢٦) زاعما أن كلمة افترس أصح من كلمة «أكل» إذ أن الافتراس خاص بالسباع ، أما الأكل فيعم كل آكل من الحيوان والإنسان ، وهو اعتراض تردد أيام الجاحظ ، وأجاب عنه بألمعيته المشهورة ، وجاء الخطابى فأدلى بدلوه فى الدلاء حين قال :

«إن الافتراس معناه فى فعل السبع ، القتل فحسب ، وأصل الفرس دق العنق ، والقوم إنما ادعوا على الذئب أكله أكلا ، إذ أتى على

٦٦١

جميع أعضائه ، فلم يترك مفصلا ولا عظما ، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إياهم بأثر باق يشهد بصحة ما ذكروه ، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة ، والفرس لا يعطى تمام المعنى ، فلم يصلح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل» (٢٧). وأخذ الخطابى يؤيد قوله بشعر العرب وحديث الرسول مما تكفى الإشارة إليه ، وأمثلة كثيرة دفع الاعتراض عنها الخطابى دفعا قويا ، وبخاصة ما ذكره فى باب التشبيه عن اعتراض المعترض لموضع التشبيه فى قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٢٨) فقد ذكر ثلاثة ردود قالها المفسرون من قبل. ولكنه جلاها أحسن تجلية ، فنكتفى بالإشارة بها ، منتقلين إلى رده على اعتراض من قال فى قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) (٢٩) أن دخول الباء على كلمة إلحاد لا يفيد جديدا ، فرد الخطابى قائلا : إن الباء زائدة ـ يعنى زيادة إعراب فقط لا زيادة معنى كما هو معروف.

والباء قد تزاد فى مواضع من الكلام ، واستشهد بأبيات تدل على الزيادة ، وكان عليه أن يذكر المراد من هذه الزيادة فى تقوية المعنى ، ولا يكتفى بالمنحى الإعرابى ، فالباء هنا تدل على القصد والتعمد وسبق التصميم مما يجعل صاحب الإلحاد مندفعا بجرأة وسطوة ، وكأن الأمر قد شغل عليه نفسه ، وجعله كل مراده ومبتغاه ، هذا ما كان على الخطابى أن يشير إليه ، ولعله تركه لفطنة القارئ ، ولكن كيف؟ وهو فى مجال الدحض والتفنيد؟

الباقلانى :

أول كتاب مستقل بالإعجاز وصل إلينا هو كتاب (إعجاز القرآن) للباقلانى المتوفى سنة ٤٠٣ ه‍ وهو عالم متكلم نظار ، له مجالس مناظرة وجدل تدل على موهبة قوية فى الحوار ، وكتابه عن الإعجاز يقدم صورا من جدله العلمى ، بدأه بذكر الملاحدة وما خاضوا فيه من جدل حول كتاب الله اضطره للرد عليهم ، ونقد الجاحظ بأنه لم يأت بشيء جديد فى كتابه (نظم القرآن) حيث ردد أقوال المتكلمين من قبله ، ثم أنحى باللوم على من قالوا : إن الإعجاز بالصّرفة. فاهما من الصّرفة ما فهمه الكثرة من العلماء دون ما أشرنا إليه من قبل ، ويرجع بالإعجاز إلى أشياء منها إخباره بالغيب ، وما وقع من قصص الأنبياء السابقين مما روته الكتب السابقة ، مع أن رسول الله كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب ، وقد فاته أن بعض القصص النبوية لم تأت بها الكتب السابقة مثل قصص صالح وهود ومائدة عيسى فمن أين جاء بها الرسول إن لم تكن من عند الله؟! ثم ركز على الركن

٦٦٢

الأكبر من الإعجاز وهو بلاغته الساطعة ، إذ جاء القرآن ببديع النظم متناهيا فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عن الإتيان بمثله ، وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف «أن الباقلانى متأثر بالجاحظ فيما ذهب إليه من أن مرجع الإعجاز إلى نظم القرآن المخالف لأساليب العرب نثرا وشعرا ، كما أنه متأثر بالرمانى فيما ذهب إليه من أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقات البلاغة» (٣٠) ـ وقد أشرنا لذلك من قبل ، كما أن المؤلف تحدث عن اطّراد البلاغة فى القرآن دون تفاوت ولا تباين بخلاف كلام الفصحاء الذى يوجد فيه التفاوت والاختلاف ، وقد فرق بين الفاصلة والسجع بما كان موضع نقاش للدارسين من بعده ، وألمّ بفنون البديع من المطابقة والتكافؤ والجناس والاعتراض والتذييل ، وانتهى إلى أن الوقوف على الإعجاز لا يتأتى إلا لمن عرف وجوه البلاغة العربية وتكونت لديه ملكة يقيس بها الجودة والرداءة فى الكلام فيستطيع أن يفرق بين الشعراء والأدباء فرقا دقيقا بما وهبه الله من هذه الملكة ، وفى حديثه عن التفاوت يعرض قصائد لامرئ القيس والبحترى عرضا مسهبا ليظهر تفوق القرآن عليها. ويخيل إلىّ أنه لم ينته إلى الصواب فى ذلك. لأن المقارنة لا تقوم على وجهها الأصيل إلا إذا اتحد الموضوع فى غرضه ، ولا يوجد اتحاد بين الكتاب المبين وما تعرض له الشعراء من الأغراض ، ولست أنكر تفوق الأسلوب القرآنى على هذه القصائد وغيرها ، وإنما أنكر أن تكون هذه الموازنة دقيقة فى اتجاهها النقدى.

وأكبر ما اهتدى إليه الباقلانى هو نقده لمن قال إن فنون البديع تدل على وجوه الإعجاز ، إذ لا قيمة لهذه الفنون وحدها دون ملكة قوية تكون هى الحكم فى الترجيح ، وللباقلانى فى كتابه الكبير مواقف ممتازة فى التحليل الأدبى ، ومواقف أخرى تعجله السرعة عن الإتمام بما يشفى حاجة القارئ وسنمثل لكل من الاتجاهين ، فهو قد وفّق حين مثل بقول الله عزوجل : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٣١) حيث قال : «وجه الوقوف على شرف هذا الكلام أن تتأمل موقع قوله : «همت كل أمة برسولهم ليأخذوه» فهل تقع فى الحسن موقع قوله ليأخذوه كلمة ، وهل تقوم مقامه فى الجزالة لفظة ، لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه أو ليرجموه أو لينفوه أو ليطردوه أو ليهلكوه أو ليذلوه ونحو هذا ما كان ذلك بعيدا ولا بارعا ... فإن كنت

٦٦٣

تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التى عددناها عليك أو غيرها لا تقف بك على عرضنا من هذا الكتاب ، فلا سبيل إلى الوقوف على تصاريف الخطاب ، فافزع إلى التقليد ، وإن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (غافر : ٥) ثم ذكر عقبها العذاب فى الآخرة ، وأتلاها تلو العذاب فى الدنيا على الإحكام الذى رأيت» (٣٢).

فالباقلانى هنا يعلل ويحلل ويسلك سلك أهل مذهبه الكلامى فى الأخذ والرد ، وكنا نود أن يسلك هذا المسلك فى كل ما يمثل به من الآيات ، ولكن نشاطه يفتر حين يمتد به القول دون راحة ذهنية ـ كما أعلّل ذلك ـ فلا تكاد تخرج منه بطائل ، وأمثل لذلك بما استشهد به من قول الله : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٣) حيث قال :

انظر إلى هذه الكلمات الأربع التى ألف بينها واحتج بها على ظهور قدرته ، ونفاذ أمره ، أليست كل كلمة منها فى نفسها غرة ، وبمفردها درة ، وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر ، ونفاذ القهر ، ويتجلى فى بهجة القدرة ، ويتحلى بخالصة العزة ، ويجمع السلامة إلى الرصانة ، والسلاقة إلى المتانة ، والرونق الصافى ، والبهاء الضافى» (٣٤) فهذا القول وشبيهه مما تركته للاختصار يمكن أن يقال تعليقا لآيات كثيرة تماثلها دون فارق ، والمفسر المحلل لا يلجأ للعبارات العامة فى نص يحلله ، لقد كان عليه أن يبين موقع الحسن فى كل كلمة تنفرد بنفسها بدل أن يطلق القول إطلاقا ، وإذا اتسع له الأمد لتفضيل كلمة (ليأخذوه) فى النص السابق ، فلما ذا لم يقف وقفاته البارعة عند كلمات «فالق» أو «سكنا» أو «حسبانا» ، وإنصافا للرجل أذكر إصابته الدقيقة فى تحليل بعض السور القرآنية نسبيا تحليلا متكاملا كما صنع بسورتى غافر والنمل ، وأجزاء طويلة من سورة فصلت ، إذ أخذ يعرض آيات السورة الواحدة متنقلا بين معانيها ، ومحاولا الربط بين أجزائها وهو اتجاه شامل يتعدى الكلمة فى الآية والآية فى الآيات إلى بناء السورة جميعها ، حيث تنهض عملا أدبيا مستقلا فى ذاته.

وقد كان الباقلانى موفقا حين ذكر طائفة من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخطبه ورسائله ، ليثبت الفارق الواضح بين قوله عليه‌السلام ، وما جاء فى كتاب الله من الإعجاز ، وهو اتجاه سديد ، لأنه يدحض حجة من نسبوا القرآن إلى رسول الله من الملاحدة مرددين قول المشركين من قبل : إنه افتراه ، ولو نشاء لقلنا مثل هذا. فلو كان القرآن مفترى من الرسول لتشابه الحديث مع الكتاب فى

٦٦٤

بيانهما الأدبى ، كما أنهم حين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا لم يكونوا صادقين إذ لو استطاعوا القول المماثل لقالوه ، وقد جاء الباقلانى فى ذلك بما يصلح أن يكون توجيها سديدا لتأليف كتاب يبين خصائص الإعجاز القرآنى والإبداع المحمدى.

وقد تحدث بعض الدارسين عن موقف الباقلانى من السجع القرآنى ، إذ نفاه نفيا تاما لأنه فى رأيه قد يكون زيادة اللفظ دون حاجة إليه ، وهذا ما يتنزه عنه القرآن ، مع أن القائلين بالسجع فى القرآن ، يذهبون إلى أنه السجع المحكم الذى لا يكون به زيادة ما ، فالجهة منفكة كما يقول المناطقة.

الشريفان :

وأقصد بهما الشريفين الرضى والمرتضى ، وهما أخوان بارعان تحدثا عن الإعجاز القرآنى كثيرا ، فأفاضا فى ذكر أسبابه ، وتعدد فنونه ، ولكنهما يختلفان منهجا ، فالرضى شاعر أديب يعتمد على الذوق الحساس ، والبيان الطلق ، والمرتضى يشاركه الشعر والأدب ، ولكنه نظار متكلم يعتمد على دفع الحجة ، ومعارضة الخصم ، وترتيب الأدلة ، فهما يمثلان فى تفسير الإعجاز مذهبين مختلفين ، ويتركان للدارس مجالا فسيحا للموازنة والتحليل ، ولا أدرى كيف سكت كثير من الدارسين عن إيضاح مقامهما فى دنيا الإعجاز البيانى ، وكتبهما ذائعة مشتهرة ، ولعلى بذلك أدعو إلى دراستهما من يريد أن يضيف الجديد.

وفى مجال التمثيل لوجهة الشريف المرتضى فى التفسير العلمى لبعض الآيات الكريمة ، أنقل عن (أماليه) ما ذكره فى تأويل قوله تعالى (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٥) مقابلا ذلك بقول الله عزوجل فى موضع آخر (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) (٣٦) مشيرا إلى أن الثعبان فى الآية الأولى هو الحية العظيمة الخلقة ، والجان فى الآية الثانية هو الصغير من الحيات ، فكيف يجتمع الصغر والكبر فى شىء واحد؟ وللإجابة عن ذلك قال المرتضى (٣٧) عدة ردود نذكر منها : أن الآيتين ليستا حديثا عن قصة واحدة بل هناك حالتان مختلفتان ، إذ أن الحال التى جعلت العصا فيها بصفة الجان ، كانت فى ابتداء النبوة قبل أن يذهب موسى إلى فرعون ، والحالة الثانية التى صارت فيها العصا ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة ، فلا اعتراض. ثم يرى المرتضى أن الظن يذهب إلى أن الموقف واحد ، وليس بموقفين ، مع أن الله قد حسم الأمر حين قال : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ) (٣٨) فدلّ على

٦٦٥

اختلاف الموقف ، ولكنه من باب إرخاء العنان للمجادلة ، على طريقة المتكلمين. تابع النظر فقال : وعلى افتراض اتحاد الموقف ، فإن الله تعالى شبه العصا بالثعبان فى الآية الأولى لعظم الخلقة ، وكبر الجسم ، وهول المنظر ، وشبهها فى الآية الثانية بالجان لسرعة الحركة والنشاط والخفة ، فاجتمع لها نشاط الصغير وسرعة حركته مع هول الكبير وروعة منظره ، وهذا أبهر فى باب الإعجاز ، وأبلغ فى خرق العادة ولا تناقض معه لأن وجه الشبه مختلف فى الآيتين ، ولا يجب أن يكون المشبه مماثلا للمشبه به فى كل الوجوه بل يحوز من الصفات ما يدل على شىء جامع لا على كل متفق. وكأن المرتضى فى نقاشه الجدلى لم يكتف بالرأيين السابقين بل عمد إلى رأى ثالث خلاصته أن المراد فى الآية بالجان هو أحد الجن لا الحية الصغيرة ، فكأنه تعالى أخبر بأن العصا صارت ثعبانا فى الخلقة ، وعظم الجسم ، وكانت مع ذلك كأحد الجن فى هول المنظر والإفزاع ، فكأن وجه الشبه المختلف قد كان سبب ما يظهر من الاختلاف ، وقد يجوز أن تكون العصا قد ظهرت أولا بصفة الجان ثم انقلبت إلى صفة الثعبان وهو رأى رابع ساقه المرتضى ، وأعقبه بأن هذا التأويل يجعل الحكم متفقا فى الاثنين ، وهو ما يبطل اعتراض المعترض. على هذا النحو من التفريع والتشقيق وتوهم الاعتراض ثم الإجابة عليه بعدة وجوه ، سار الشريف المرتضى فيما تعرض له من تخريج الآيات الموهمة للاعتراض.

أما الشريف الرضى فى كتبه البيانية فقد خالف هذا المنحى فلا تهمه أن يتتبع الردود لينقضها ، بل يهمه الشرح البيانى المشرق لآيات الإعجاز القرآنى ، وقد يرد على قول سابق دون أن يشير إلى اسم صاحبه. ولكنه يقول فى اقتضاب : «فبطل قول من قال» ، وقد تعقب الرمانى فى آيات كثيرة ، وأبدى ما يخالف وجهة نظره ، وهذا فى أدب النقد الملتزم دون تجريح نعهده لدى بعض الدارسين.

كما أن الشريف الرضى قد تتبع فى كتابه (تلخيص البيان فى مجاز القرآن) سور الكتاب العزيز ، سورة سورة ، إلا بعض القصار التى خلت من صور البيان واعتمدت على الحجة المقنعة ، والإلزام المفحم ، وأضرب المثل لما عقب به على قول الله عزوجل : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (٣٩).

قال : (٤٠) هذه استعارة ، والمراد بها أنهم تفرقوا فى الأهواء ، واختلفوا فى الآراء ، وتقسمتهم المذاهب ، وتشعبت بهم الولائج ، ومع ذلك فجميعهم راجع إلى الله سبحانه وتعالى على أحد وجهين : إما أن يكون ذلك

٦٦٦

رجوعا فى الدنيا فيكون المعنى أنهم وإن اختلفوا فى الاعتقادات صائرون إلى الإقرار بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خالقهم ورازقهم ومصرفهم ومدبرهم ، أو يكون ذلك رجوعا فى الآخرة فيكون المعنى أنهم راجعون إلى الدار التى جعلها الله ـ تعالى ـ مجال الجزاء على الأعمال ، وموفى الثواب والعقاب ، وإلى حيث لا يحكم فيهم ولا يملك أمرهم إلا الله ـ سبحانه وتعالى ، وشبّه تخالفهم فى المذاهب ، وتفرقهم فى الطرائق ـ مع أن أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ـ بقوم كانت بينهم وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق وشذب تلك الوصائل ، فصاروا أصنافا مختلفين.

فهذا تحليل أدبى يبعد بالكتاب عن جفاف المنطق الصارم ، وله أمثاله ، بل ما يزيد عنه كثيرا ، لأنى لو نقلت النصوص التامة لتعليقاته الأدبية البارعة لضاق نطاق القول ، وحسبى أن ألفت إلى ما تعرض له فى مثل قول الله :

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٤١) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٢) وقوله : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) (٤٣) فقد سبق إلى تحليل كان ابن بجدته ، ودل على صدق استشفاف ، ولطافة اتجاه ، وأذكر أنى وضحت ذلك تماما فيما كتبته عنه تحت عنوان (منحى الشريف الرضى) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) ومنه اقتبست ما جاء عن الشريفين ـ رحمهما‌الله.

عبد القاهر ودلائل الإعجاز :

نشأ عبد القاهر نحويا إذ تعمق فى مسائل النحو تعمقا لم يصل إليه من سبقه ، وقد رأى أن النحو قد حيد به عن الطريق الأمثل حين قصره بعض دارسيه على ضبط أواخر الكلمات ، وما يخصها من إعراب وبناء ، مع أنه فى رسالته الحقيقية علم يؤدى إلى المعرفة الصحيحة لتركيب الجمل وبناء الأساليب ، وبالوقوف على ذلك يتسنى للدارس أن يعرف بلاغة الأسلوب ، ومن هنا كان الأسلوب القرآنى وهو أرفع نماذج الأدب العربى موضع التحليل البيانى المفضى إلى تأكيد الإعجاز ، وقد اطلع على ما قاله سابقوه ، وأفاد منه ليقيم على أساسه ما عرف بقضية النظم ، وجعل فى خطواته الأولى يتساءل عن الكلمات المفردة هل هى سر الإعجاز؟ ونفى ذلك لأن الكلمات المفردة شائعة لجميع الكتّاب ،

٦٦٧

ومعانيها لا تزيد ولا تنقص ، فلا بد أن يكون هناك سرّ آخر ، وتساءل عن تركيب الحركات والسكنات فى الجملة القرآنية ، فنفى أن يكون ذلك هو السر المنشود ، فإذا لم تكن المقاطع والفواصل سر الإعجاز فإن ما تضمنه كثيرا من الاستعارات وأوجه البيان لا يقدم هذا السر أيضا ، ووالى البحث نافيا كل احتمال لا يثبت للنقاش حتى اهتدى إلى أن السر فى نظم القرآن ، وليس النظم شيئا عن غير توخى معانى النحو وأحكامه ، وذلك ما قام عليه كتابه (دلائل الإعجاز) ، وقد قال فى تقرير ذلك :

«اعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم فى الكلمة ولا ترتيب ، حتى يعلق بعضها ببعض ، ويبنى بعضها على بعض ، وتجعل هذه بسبب من تلك ، وهذا ما لا يجهله عاقل ، ولا يخفى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك ، فبنا إلى التعليق فيها والبناء ، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ؛ ما معناه وما محصوله؟

وإذا نظرنا فى ذلك علمنا ألا محصول لها غير أن تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر ، أو تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا أو مفعولا ، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثانى صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه أو تجىء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثانى صفة أو حالا أو تمييزا ، أو تتوخى فى كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك ... وعلى هذا يكون القياس» (٤٤) وإذن فنظم الكلام وفق قواعد النحو هو مدار الإبداع فى التركيب ، والألفاظ لا تتفاضل باعتبارها ألفاظا مجردة إنما تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لجاراتها ، وفضل مؤانستها لأخواتها ، وهل قالوا لفظة متمكنة ، وفى غيرها قلقة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكين عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم.

ويزداد هذا المعنى وضوحا بالتمثيل فقد عمد الجرجانى إلى قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٥) فشرح الآية الكريمة وجلاها تجلية زاهية حين قال :

«إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها ، وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهى فى مكانها من الآية قل (ابلعى) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها ، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها ، وكيف بالشك فى ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة أن نوديت

٦٦٨

الأرض ثم أمرت ، ثم أن كان النداء بيا دون أى نحو يا أيتها الأرض ، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال : ابلعى الماء ، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها ، ثم أن قيل «وغيض الماء» فجاء الفعل على صيغة فعل ، الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر ، وقدرة قادر ، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقول الله :

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) ، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة ، والدلالة على عظم الشأن ، ثم مقابلة «قيل» بقيل فى الفاتحة ، أفترى لشىء من هذه الخصائص ، التى تملؤك بالإعجاز روعة ، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من كل أقطارها ، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت «مسموع ، وحروف تتوالى فى المنطق ، أم كل ذلك لما بين معانى الألفاظ من الاتساق العجيب». (٤٦)

والكتاب ملىء بالشواهد الباهرة فى قضايا الأسلوب القرآنى من ذكر وحذف ، وتقديم وتأخير ، ووصل وفصل ، مما كان بذرة قوية لعلم المعانى ، ولو سلك المتأخرون سبيل عبد القاهر فى هذا الاستشفاف الباهر لأراحوا من

عناء كثير ، ونتبع المثال السابق بمثال آخر ساقه الجرجانى فى تحليل قوله تعالى عن موسى عليه‌السلام مع إيضاح ما فى النص الكريم من حذف للمفعول به أيضا مما يدل على نباهة فكر ، ودقة ذوق :

قال تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ). (٤٧)

قال عبد القاهر : «إن أردت أن تزداد تبينا لهذا الأصل أعنى وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ، ولا يدخلها شوب ، فانظر إلى الآية ففيها حذف مفعول فى أربعة مواضع ، إذ المعنى وجد عليه أمة من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم ، وامرأتين تذودان غنمهما ، وقالتا لا نسقى غنمنا ، فسقى لهما غنمهما ، ثم إنه لا يخفى على ذى بصر أنه ليس فى ذلك كله إلا أن يترك ذكره ، ويؤتى بالفعل مطلقا ، وما ذاك إلا أن الغرض فى أن يعلم أنه كان من الناس فى تلك الحال سقى ، ومن المرأتين ذود ، وأنهما قالتا : لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء ، وأنه كان من موسى عليه‌السلام من بعد ذلك سقى ، فأما ما كان من المسقى أغنما أم إبلا أم غير ذلك ، فخارج عن الغرض وموهم لخلافه ، وذلك إنه لو قيل : وجد من دونهما امرأتين تذودان غنمهما جاز أنه لم ينكر الذود من

٦٦٩

غنم ، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود ، كما أنك إذا قلت : مالك تمنع أخاك؟

كنت منكرا المنع لا من حيث هو منع ، بل من حيث هو منع أخ ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول فى هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت ، إلا لأن فى حذفه وترك ذكره فائدة جليلة ، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه». (٤٨)

هذا التحليل لا يملكه إلا باحث ذوّاق مثل عبد القاهر ، وقد جاء بعده من حاولوا أن ينهجوا فى الحديث عن أبواب المعانى من حذف وذكر وتقديم وتأخير وغيرها ، لكنهم لم يرزقوا موهبته ، فكتبوا كثيرا مما اعترض عليه ، هذه ناحية.

ـ أما الناحية الثانية فإن الاهتمام بالآية والآيتين كلمات وحروفا ؛ دون نظر إلى الموضوع جميعه ، والارتباط الوثيق بين الآيات المتصلة ؛ جعل النظر جزئيا لا كليّا ، وقد آن لنا أن ننظر إلى النص باعتباره وحدة متماسكة دون أن نقتصر على الجملة والجملتين ، والآية والآيتين.

ـ وأبرز من اهتدى إلى طريقة الجرجانى هو : الزمخشرى فى (كشافه) مع الفرق بين أسلوب الأديب وترسّله عند عبد القاهر ، وأسلوب العالم ودقّته ـ ولا أقول كزازته ـ عند الزمخشرى ، على نحو ما سأشير إليه الآن.

الزمخشرى :

إذا كان عبد القاهر قد اختار من آيات الكتاب المبين ما يكشف عن منحاه البيانى ، ويخدم قضية الإعجاز التى سمّى كتابه بها ، فإن الزمخشرى قد فسّر القرآن كله آية آية ليسير فى ضوء عبد القاهر وإن لم يعترف بذلك فلم يذكر اسمه صريحا بين أسماء من حشرهم فى مقدمة الكتاب ، وقد اكتفى بإشارة بعيدة إلى بيت شعر قاله ، والعجب أن يشير إليه شاعرا دون أن يشير إليه فاتحا أهم ميادين البيان! وهذا يتطلب التعليل ..

نعرف أن الزمخشرى كان معتزليّا ، وقد بذل جهده فى تعضيد مذهبه ، حين تعرض لتفسير الآيات المتصلة بعلم الكلام وقد مثّلت لذلك فيما كتبته عنه فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) وأرى من ضيق المقام أن أتجاوز ذلك إلى نقول تدلّ على حسن ذوقه ، وقوة استشفافه البيانى مع ما تدل عليه من منهجه الأسلوبى إذ جعل التقرير البيانى فى هيئة سؤال وجواب كأن يقول فإن قلت ... ، قلت. وهى طريقة لا ينفسح معها مجال الإشباع الأدبى ، كما اتسع أمام عبد القاهر.

ومما نختاره من دلائل نفاذه فى التفسير البيانى ، ما ذكره فى تأويل قول الله عزوجل :

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها

٦٧٠

فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (٤٩) حيث قال :

«الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا ، وهذا لا يكون فيبقى أن يكون مجازا ، ووجه المجاز ، أنه صبّ عليهم النعمة صبّا ، فجعلوها ذريعة للمعاصى وإتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه. وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ، ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشر. وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول. وهو كلمة العذاب فدمّرهم» (٥٠).

ثم يكر الزمخشرى على رأى ذائع فينقضه بقوله : «هلّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا» قلت : إن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه ، وذلك أن الأمر به حذف لأن فسقوا يدل عليه ، وهو كلام مستفيض ، يقال : أمرته فقام وأمرته فقرأ ، فلا يفهم منه إلا أن المراد به قيام وقراءة ، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب» (٥١) ، ثم يفيض المفسر الكبير فيما يؤيد رأيه ؛ ذاكرا من الأمثلة ما يدل على مهارة واقتدار ، فإن كان طابع المنطق يطغى على عبارته ، ولو تجاوز هذا الطابع الجدلى الصارم لكان كلامه نمطا من التفسير البيانى يقارب نمط الشريف وعبد القاهر ، فيخرج من هذه الحدود إلى فضاء فسيح ، وإذا كان الزمخشرى لم ينس نصيب النحو فيما تصدّى له من تفسير آيات الكتاب المبين فإن نصيب البيان قد تجلى بوضوح سافر فى أكثر ما كتب ؛ مما يكشف لبعض الدقائق الخافية فى أسرار التأويل ، وأمثّل لذلك بما ذكره فى تفسير قول الله عزوجل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٥٢).

قال : اقشعرّ الجلد إذا تقبّض تقبّضا شديدا ، وتركيبه من حروف القشع ، وهو الأديم اليابس مضموما إليه حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيّا ودالا على معنى زائد يقال :

اقشعر جلده من الخوف ، وقفّ شعره وهو مثل فى شدة التخويف ، فيجوز أن يريد به الله تعالى التمثيل تصويرا لإفراط خشيتهم.

وأن يريد به التحقيق» (٥٣) ، ولم أجد من خص كلمة قشع بهذا التحليل قبل الزمخشرى ، وهو مما يدل على شدة إحساسه بمعانى الحروف قبل إحساسه بمعانى الكلمات.

ونظير ذلك ما ذكره من الفرق بين مرضع ومرضعة عند تفسيره لقول الله عزوجل :

٦٧١

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) (٥٤) حيث قال :

«فإن قلت : لم قيل مرضعة دون مرضع ، قلت : المرضعة التى هى فى حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبىّ ، والمرضع التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع فى حال وصفها به ، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه ، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة» (٥٥).

ومن دقائق ما التفت إليه الزمخشرى ما ذكره عن تفسير قول الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (٥٦). حيث قال :

«فإن قلت : أى فرق بين (وظنوا أن حصونهم تمنعهم) وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت :

فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ، ومنعها إياهم ، وفى تصيير ضميرهم اسما وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم ، أو يطمع فى منازلتهم ، وليس ذلك فى قوله : «وظنوا أن حصونهم تمنعهم». (٥٧)

هذه لفتات أدبية رائعة تصور إحساس الزمخشرى بالإعجاز القرآنى فى كل منحى من مناحيه ، كلمة أو جملة أو تقديما أو تأخيرا ، وقد ظهرت مؤلفات خاصة بتفسير الكشاف وضحت هذه المعانى بما لا مزيد عنه ، ولو امتد هذا الإحساس الأدبى لدى الذين نقلوا عنه من المفسرين ، لواصلوا السير على نمطه ، ولكن كلّ ميسر لما خلق له.

وحسبه أنه أعطى فأجزل العطاء.

تراجع :

كان انتهاء القرن الخامس الهجرى مؤذنا بتراجع ملموس فى النشاط الابتكارى بالدراسات العلمية والإبداع الأدبى معا ، وقد شمل ذلك دراسات الإعجاز القرآنى حيث لم تعد مدّا متواصلا يحفل بالجديد ، بل وقفت إلى ما انتهى إليه السابقون ، وزادت عليه أن غمرتها الخصائص المنطقية ، وكان الفخر الرازى أول من انتقل بها من مجالها البيانى إلى تقسيمات المناطقة ، حين ألف كتابه (نهاية الإعجاز فى دراية الإيجاز) ، فاستعان بالمنطق فى تشعيب المسائل وتفريعها ، والإحاطة بالأصول والفروع غير ملتفت إلى جمال النص وروعة الأسلوب ، بل أصبحت القواعد الجافة ، مجال تأملاته وموضع اهتمامه ، وكأنه يكتب عن فلسفة ومنطق ونحو وصرف لا عن بيان

٦٧٢

وذوق وفن ، وهذا أيضا نهجه فى التفسير الشهير الذى حاز الصيت البعيد ، إذ حفل بثمار الثقافة الإسلامية فى عصره منطقا وأصولا وفلسفة وتوحيدا وجدلا لتكون هذه الثمار أدوات لتوجيه الاعتراض ودفعه ، فتحول التفسير إلى دائرة معارف علمية. ثم جاء البيضاوى فاقتبس منه طريقته مع إيجاز بالغ دعا كثيرا من المؤلفين إلى كتابة الحواشى على تفسيره ليذكروا أكثر ما قرره الرازى! وهكذا لم يجد الإعجاز من أصحاب الذوق البيانى فى هذا الخضم المتسع من يأخذ بناصره ؛ لأن السكاكى قد تصدر للتأليف فى علوم اللسان ومنها علم البلاغة فقعّد القواعد ، واهتم بالفروع ، وقد قرأ كتاب عبد القاهر وانتفع به ، ولكنه لم يمض فى منحاه الأسلوبى ، بل جعل ما بسطه الجرجانى مقننا فى تعريفات وأقسام جنت على النص الأدبى ، وقد ظهر فى هذا العصر من استطاع أن يتجافى طريقة الرازى فى الشرح البيانى وهو ابن أبى الأصبع ت ٦٥٤ ه‍ حيث قصر كتابه الكبير «بديع القرآن» على ما استحسنه من مظاهر الألوان البلاغية من استعارة وتشبيه ومجاز وطباق وتجنيس وتورية وكناية وتعريض واختراع أسماء أخرى لم تكن من قبل حتى عدّ من ألوان البديع مائة وتسعة كان من الممكن أن تتداخل فلا تتسع إلى هذا الأمد ، وقد كان ابن أبى الأصبع أديبا شاعرا ولكنه نشأ فى عصر التقليد فلم ينج من أوهاقه ، وكانت ضروب البديع مهوى الشعراء والباحثين فى النقد الأدبى فاختصها باحتفاله وجعل من آيات الذكر الحكيم مجالا لتطبيقها على هذا النحو الفسيح حتى عد هذه المحسنات مع ما يتصل بها من فنون المجاز والكناية والتشبيه والاستعارة من دلائل الإعجاز القرآنى ، ومن أبرز سماته.

ومن المدهش أنه ذكر فى مقدمة كتابه :

إعجاز القرآن للباقلانى ودلائل الإعجاز لعبد القاهر وتفسير الكشاف وغيرها من الكتب التى خالفت نهجه فى التأليف ، ونقل منها فى أكثر من موضع ، واستراح إلى مضمونها ولم يمنعه ذلك من الإغراق فى التماس البديعيات والمحسنات التماسا مفرطا قد يدعو إلى الملال ، وكان الأحرى به وقد درس كتب السابقين من هؤلاء الأفذاذ ألا يتنكب طريقهم المتزن؟ فى تناول ألوان البيان.

على أنه قليلا ما كان يسمح لخاطره بالتعبير المتسع فى تحليل بعض الآيات فيأتى بما كنا نود أن يستمر عليه فى التأليف ، ومن ذلك ما كتبه عن قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٥٨) حيث قال ـ بتصرف قليل :

٦٧٣

«فانظر إلى غرابة هذا التمثيل الذى تضمن الإفراط فى المبالغة مع كونها جارية على الحق خارجة مخرج الصدق وذلك حين اقتصر سبحانه على ذكر أضعف المخلوقات ، وأقلها سلبا لما تسلبه ، وتعجيز كلّ من دونه ـ سبحانه ـ كائنا من كان عن خلق مثله مع التضافر والاجتماع ، ثم نزل فى التمثيل عن رتبة الخلق إلى استنقاذ النزر التّفه الذى يسلبه هذا الخلق الضعيف على ضعفه ، فتنقّل فى النزول فى التمثيل على ما تقتضيه البلاغة على هذا الترتيب فى البيان ، فنزل بهم إلى استنقاذ ما يسلبه هذا المخلوق الضعيف ، ليريهم عجزهم فتستيقنه نفوسهم وإن لم تقر به ألسنتهم ، فجاء بما يقضى الظاهر أنه أيسر الخلق وهو فى الحقيقة مثله فى العسر ، ولم يسمع مثل هذا التمثيل فى بابه لأحد قبل نزول القرآن العزيز» (٥٩).

فهذا التحليل رصين فى موضوعه ، قلق فى صياغته إذا قورنت بصياغة الشريف الرضى وعبد القاهر ، ولكنه يسير فى طريقهما فحسب وليته واصل المسير.

ولا ننكر ما امتلأت به كتب المتأخرين مثل الزركشى والسيوطى والبقاعى من أحاديث متناثرة عن الإعجاز القرآنى ؛ بل إن السيوطى ألف كتابا مستقلا عن الإعجاز ولكنه ترديد لما يقال ونسج على منوال مشتهر لم يضف جديدا. حتى ليجوز لنا أن نقول : إن العصر المملوكى والعصر العثمانى لم يأت من علمائهما من حاول اللحاق بالسابقين طرافة ومنهجا واستشفافا حتى جاء العصر الحديث ، فنفح القراء بما يروق ويفيد ، وما كتبه الأندلسيون فى تفسير الكتاب ، مثل ابن عطية وابن العربى ، جيد فى بابه ، ولكنه لا يضيف الجديد.

أ. د / محمد رجب البيومى

٦٧٤

الهوامش :

__________________

(١) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى ص ١٥ ط الدار المصرية اللبنانية للنشر سنة ٢٠٠٠ م.

(٢) إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى ـ الطبعة السادسة سنة ١٩٥٦ مطبعة الاستقلال ص ١٦١.

(٣) رسائل الجاحظ ج (٣) ص ٢٨٧ تحقيق عبد السلام هارون ـ مكتبة الخانجى سنة ١٩٧٩ م.

(٤) كتاب الحيوان ج ٣ ص ٨٦ تحقيق عبد السلام هارون ط ٣ سنة ١٩٦٩.

(٥) رسائل الجاحظ ج (٣) ص ٢٢٩.

(٦) ـ

(٦) رسائل الجاحظ ج (٧) ص ٢٧٣.

(٧) سورة الأنفال : ٣١.

(٨) رسائل الجاحظ ج (٣) ص ٢٧٥.

(٩) خطوات التفسير البيانى للقرآن الكريم للدكتور محمد رجب البيومى ص ٧٩ وما بعدها (سلسلة البحوث الإسلامية) ديسمبر سنة ١٩٧١ ، وقد استعنت به فى إيراد هذه الشواهد ، وما توصلت إليه هنا من النتائج.

(١٠) البيان والتبيين ج (١) ص ٣٣ تحقيق السندوبى.

(١١) سورة الصافات : ٦٥.

(١٢) الحيوان ج ٦ ص ٢١٣.

(١٣) سورة الزمر : ٧٣.

(١٤) ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص ٧٠ ط ١ دار المعارف بتحقيق الأستاذين محمد خلف الله ، ومحمد زغلول سلام.

(١٥) سورة البقرة : ١٧٩.

(١٦) سورة الملك ٧ ، ٨.

(١٧) سورة الفرقان : ١٢.

(١٨) سورة الكهف : ١١.

(١٩) ثلاث رسائل فى الإعجاز ص ٨٠.

(٢٠) سورة الأنبياء ١٨.

(٢١) ثلاث رسائل فى الإعجاز ص ٨٢.

(٢٢) ثلاث رسائل ص ٢١.

(٢٣) ثلاث رسائل ص ٢٣.

(٢٤) البيان القرآنى ص ٣٠ وما بعدها.

(٢٥) ثلاث رسائل ص ٣٣.

(٢٦) سورة يوسف آية : ١٧.

(٢٧) ثلاث رسائل ص ٣٧.

(٢٨) سورة الأنفال آية : ٥.

(٢٩) سورة الحج : ٢٥.

(٣٠) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف ص ١٠٩ ـ دار المعارف طبعة سنة ١٩٦٥ م.

(٣١) سورة غافر : ٥ ، ٦.

(٣٢) إعجاز القرآن للباقلانى ص ٢٢٤ تحقيق الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجى ط (١) صبيح.

(٣٣) سورة الأنعام : ٩٦.

(٣٤) إعجاز القرآن ص ٢١٤.

(٣٥) سورة الأعراف : ١٠٧.

(٣٦) سورة القصص : ٣١.

(٣٧) أمالي المرتضى ـ طبعة أولى ـ ج (١) ص ١٨.

(٣٨) سورة القصص : ٣٢.

(٣٩) سورة الأنبياء : ٩٣.

(٤٠) تلخيص البيان : تحقيق الأستاذ محمد عبد الغنى حسن ص ٢٣٢ ط أولى.

(٤١) سورة البقرة : (٢٥٧).

(٤٢) سورة البقرة : ١٧٤.

(٤٣) سورة الصافات : ٤٨.

(٤٤) دلائل الإعجاز ص ٤٤ ـ الطبعة الرابعة من دار المنار سنة ١٣٦٧ بتحقيق السيد محمد رشيد رضا.

(٤٥) سورة هود : ٤٤.

(٤٦) دلائل الإعجاز ص ٣٧.

(٤٧) سورة القصص : ٢٣ ، ٢٤.

(٤٨) دلائل الإعجاز ص ١٢٥.

(٤٩) سورة الإسراء : ١٦.

(٥٠) تفسير الكشاف ـ الطبعة الأولى ، طبعة مصطفى محمد سنة ١٣٥٤ ه‍ ، فى سورة الإسراء.

(٥١) الكشاف الموضع السابق رقما وسورة.

(٥٢) سورة الزمر : ٢٣.

(٥٣) تفسير الكشاف ، الزمر.

(٥٤) سورة الحج : ٢.

(٥٥) تفسير الكشاف ، سورة الحج.

(٥٦) سورة الحشر : ٢.

(٥٧) تفسير الكشاف ، الحشر.

(٥٨) سورة الحج : ٧٣.

(٥٩) بديع القرآن. لابن أبى الأصبع ، ص ٣٤٠ ـ الطبعة الأولى ـ بتحقيق الدكتور حفنى شرف.

٦٧٥

الإعجاز المعاصر

مقدمة :

إذا كان القرآن الكريم كتاب الزمن كله ، لا كتاب عصر واحد ، فإن كلّ جيل يأتى لا بدّ أن ينتفع بثقافة عصره المتطورة ، وأن تكون هذه الثقافة مفتاحا لباب جديد من القول ، ولذلك يظلّ حديث الإعجاز ممتدا فى كل عصر ثقافى ، وهو يجود ويعلو حين ترتفع ثقافة العصر ، ويرقّ وينحل حين تنخفض هذه الثقافة كما أشرت من قبل إلى عصر المماليك وما تلاه.

وإذا كان هذا العصر قد هجم علينا بثقافاته المتعددة ، ورقيّه الفكرى المحلّق ، فإنّ المجال قد اتسع به لحديث عن الإعجاز لم يلمّ به السابقون من قبل ، وقد تنوّع هذا الحديث إلى علوم شتى ، ولكنّا هنا نقتصر على الإعجاز البيانى وحده ، ومعلوم أن الذين كتبوا من المعاصرين عن الإعجاز البيانى لا يلم به حصر دقيق. ففي كلّ بلد إسلامى يوجد من يتحدث عن الإعجاز بمنحاه الخاص ، وفيهم من وفّقه الله فأتى بالرائع المفيد ، ومن كبا به حظّه من المعرفة ، فلم يأت بغير الضئيل المنقود إذ أقحم نفسه فى ميدان ليس من فرسانه ، وسبيلى الآن أن أختار بعض النابهين من المتحدثين عن الإعجاز ، مكتفيا ببعض عن بعض كيلا يطول الحديث ، وسأتحدث عنهم مراعيا ناحية السبق الزمنى للكاتب ، لنحفظ له حقّه فى الريادة والتوجيه.

محمد فريد وجدى

علم من أعلام الفكر الإسلامى ، وحسبه أنه ألّف وحده دائرة معارف القرن العشرين ، وقد قرأ ما كتبه السابقون عن الإعجاز ، فوجد أنّ الكاتبين قد وفّوا المقام فى الناحية البلاغية المعروفة فى اصطلاحاتها العلمية ، ولكنّ ذلك لا يكفى ، فإن للبلاغة تأثيرا على الشعور الإنسانى يتطلب إيضاح أثرها فى النفس القارئة ، وكلام البشر يظهر ذا رونق فى القراءة الأولى والثانية فإذا تتابعت القراءة مرات فقد تأثيره كثيرا ، وكاد يملّه القارئ.

أما القرآن فقد انفرد بميزة خاصة هى

٦٧٦

حلاوة تأثيره مع التكرار وكلّ من حفظ القرآن حفظا لا يمل ترديده ، وفى كل قراءة يزداد وثوقا واطمئنانا ، فوجب علينا أن نتحدث عن الإعجاز من هذه الناحية ، ما سببه ..؟ ولما ذا خالف القرآن كلّ ما يكتب ، إذ انفرد بهذا التأثير غير المملول.

لقد راجع الأستاذ فريد وجدى التأثير القرآنى لشىء واحد هو أنه روح من عند الله ، والروح لا تفقد تأثيرها فهى الموجّهة لكلّ شىء تحل به ، وإذا كانت روح القرآن من عند الله فلا يمكن أن تماثلها روح مقال آخر.

وهذا هو السبب فى انقطاع الإنس والجنّ عن محاكاته.

يقول الأستاذ محمد فريد وجدى ملخّصا :

لا نشك فى أنّ القرآن فصيح من ناحية ألفاظه ومعانيه ، وقد أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الحكمة. كما بهر الفلاسفة ، وألزم الحجة كل ضال ، وهو هدى وشفاء لما فى الصدور ، وكلّ هذه صفات جليلة تؤثر فى العقل والشعور ، والعواطف والميول فتتحكم فيها تحكما آسرا ، ولكنّ وراء ذلك كله شيئا واحدا هو الروح الإلهية التى تصل من النفس الإنسانية إلى حيث لا يصل بإزائها كلام آخر ، فهى تحلّق فى آفاق لا يرتفع إليها فكر ، ولا تجول بخاطر ، وهذه الروحانية تظهر عند ما تكون آية من آيات القرآن جاءت على سبيل الاستشهاد وسط كلام سابق ولاحق ، فإنك ترى الآية الكريمة تتجلّى بين السطور ، وكأنّها الشمس فى رائعة النهار ، مهما كانت درجة الكاتب ، وعلو منزلته فى البيان. (١)

وإذن فقد جعل الباحث الكبير روحانية القرآن سرّ إعجازه ، يردّ بذلك على من يجعلون أساليب القرآن البلاغية من خصائص الإعجاز لأنّ هذه الأساليب من ذكر وحذف وتقديم وتأخير وفصل وصل موجود فى الأساليب البشرية ، وليست لها هذا السطو الآخذ للنفوس ، هذا ما قاله الرجل ويمكننا أن نقول إن هذه الأساليب البيانية هى صاحبة التأثير الروحى ، لأن القرآن قد استعملها استعمالا لم يتفق لسواه ، فكانت بهذا الوهج الجاذب مصدر الإعجاز ، وإذن فتكون المسألة قريبة بين من يقولون بتأثير الأساليب ، وبين الأستاذ وجدى حيث يقول بأن الروح وحدها هى سرّ الإعجاز.

هذا وإذا كان الروح القرآنى سرّا من أسرار الله ، فلا يكفى فى تعليل الإعجاز أن نقف عند القول به وحده ، بل لا بدّ أن نحلّل ما

٦٧٧

أوحى به هذا الروح المرتفع من بيان لندرك بعض أسراره أما الاتجاه إلى المعنى الكلى دون تحليل لخصائص الكلمات والجمل والسياق فقد لا يكفى فى إرواء غلّة الدارس ، وإطفاء عطشه حين يحاول أن يقف على سرّ هذا النمط الرفيع من البيان ، ولعل الأستاذ وجدى يذهب إلى أن الخوض فى معرفة أسرار التركيب البيانى للقرآن قد ينتهى ببعض الدراسين إلى محاكاة هذا النّمط ما دامت أسراره البيانية قد عرفت بخصائصها البلاغية ، وهذا كلام برّاق فى ظاهره ولكنّنا عند التمحيص نعرف أن إدراك السرّ البيانىّ بخصائصه الفنية لا يعنى القدرة على محاكاته ، فالناقد الأديب قد يدرك جمال القصيدة الشعرية ويعرف موضع التأثير بها ، ويشتدّ إعجابه حتى يرتّلها ترتيلا ، ولكنه يعجز عن محاكاتها ، ولو كان إدراك السرّ الجمالى فى البيان كافيا لاحتذائه والإتيان بمثله ، لوجدنا أساتذة البلاغة جميعا من كبار الأدباء ، ولكنّ الكثيرين منهم لا يتجاوزون الناحية العلمية فإذا انطلقوا إلى الإبداع كبا بهم اليراع.

ومع هذا فإن اتجاه الأستاذ فريد وجدى إلى الحكم لسيطرة الروح الإلهى وحدها على مناحى البيان ، وعدّها سرّ الإعجاز قد دفع كثيرا من القائلين من بعده إلى مناح ترتكز على ما قاله ، إذ أضافوا إلى ما دبّجوه ما يشهدونه من روعة التأثير المنفرد بجاذبيته عن كلّ تأثير بشرى ، ولا نقول بتوارد الخواطر فى المسائل العلمية إذا كانت ذات منطق يرتكز على التحليل ، إذ ربما وقع التوارد فى الخواطر الأدبية أمّا الاتجاهات العلمية فستكون فى أصلها بذرة جيدة يبذرها السابق ويتعهّدها اللاحق بالرىّ والتشذيب حتى تستوى على سوقها شجرة فينانة ، ولكل من السابق واللاحق نصيبه الموفق فى مجال البحث ، فللأول اهتداؤه للفكرة ، وللثانى بسطها وتفريعها على نحو قد تبدو به جديدة قشيبة ، على أن العقول قد تتلاقى فى إثبات بعض الحقائق ولكن على ندرة هى إلى الاستثناء

أقرب ، وليست هكذا دائما.

مصطفى صادق الرافعى

الرافعى ـ رحمه‌الله ـ أوّل من أخرج كتابا مستقلا فى الإعجاز القرآنى من المعاصرين ، فمنذ أن كتب السيوطى كتابه عن الإعجاز والمكان فارغ ينتظر من يملؤه على وجه شامل مستوعب يضيف الجديد مما يشبع رغبة

٦٧٨

القارئ المعاصر ، وقد تصدّر الكتاب ببحوث تتّجه وجهة الأدب الإبداعى ، ولكنّها لا تدخل فى صميم المنهج العلمى ، وأول صور الإعجاز ما كتبه الرافعى تحت عنوان (آداب القرآن) إذ جعل الأخلاق القرآنية والمسائل التشريعية ، والتربية السلوكية إحدى وجوه الإعجاز ، والسابقون من أمثال الباقلانى وعبد الجبار وعبد القاهر ممّن خصوا الإعجاز بأبواب مستقلة جعلوا الأسلوب البيانى وحده مدار الارتكاز فى قضية الإعجاز أما الرافعى فافتتح بهذا الفصل موضوعا جديدا مؤكدا أن قواعد الأخلاق قد وجدت من القرآن الركيزة المتبنية لعلم السلوك الإنسانى ، فى أسلوب بيانى يجب أن يلتفت إليه معنى ومبنى ، وقد قال بصدد ذلك : «وما فرّط المسلمون فى آداب هذا القرآن إلّا منذ فرّطوا فى لغته ، فأصبحوا لا يفهمون بيانه ، وبالتالى لا يدركون آدابه» (٢).

ثم أخذ يعرض آراء السابقين فى الإعجاز ، وقد حمل على المتكلمين حملة لا أرى معه الحقّ فيها ، فإذا كانت الشّبه التى تحدّت عنها المتكلمون قد فقدت مضمونها فى هذا العصر ، فقد كانت من قبل ذات نقد هادم ، فإذا كرّ عليها المتكلمون بالنسف المبيد فقد قاموا بواجب يشكرون عليه ، كما رفض القول بالصّرفة على المعنى الشائع العام ، وهو مرفوض بداهة وقد سبقت الإشارة إلى المعنى الدقيق فى هذا الاتجاه.

وحين تحدّث الرافعى عن الإعجاز الأسلوبى ذكر أنّ العرب حين ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا أن ألفاظه هى الألفاظ التى يتداولونها ، ولكنّ طريقة نظم هذه الألفاظ ووجوه تركيبها ونسق حروفها فى كلماتها ، ونسق الكلمات فى الجمل كلّها جديدة فى بابها ، فأحسّوا بعجزهم عن احتوائها ، ورأوا أن أسلوب القرآن جنس من الكلام غير ما هم فيه ، ولا سبيل إلى محاكاته ، إذ هو وجه الكمال اللغوى الذى تشرئب إليه أرواحهم (٣).

أما التكرار فى البيان القرآنى فقد خاض فى تعليله كثير من البلغاء ولكنّ الرافعى أتى بالجديد حين ذكر أن التكرار مألوف عند العرب ؛ ولكنّه فى النسق القرآنى غير مألوف ، إذ أنّ المعنى يتردّد بصور ، كلّ صورة منها غير الأخرى وهم عاجزون عن محاكاة الصورة الواحدة فما بالهم بالصّور المتعددة ، فكأنّ الرافعى يريد أن يقول لهؤلاء إن القرآن يأتى بالمعنى ويتحداهم أن يأتوا بمثله ، فيدركهم

٦٧٩

العجز ، فيأتى بالمعنى نفسه فى صورة أخرى جديدة ، فيدهش السامعون لهذا التكرار الطريف ، مع أنّه تكرار. وقد خفى هذا المراد على الملاحدة ومن لا نفاذ لهم فى أسرار العربية ، فزعموا المزاعم السخيفة مع أنّهم وأشباههم قد عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله.

وخلص الرافعى إلى تحليل الأسلوب القرآنى ، فحصر جهات النظم فى ثلاث. هى الحروف والكلمات والجمل ، وخصّ كل جهة بفصل شاف مشفوع بالأدلة الكاشفة ، والجديد بها أكثر من أن يحصر. وقد باهى الرافعى بما اهتدى إليه ، ولم يلتفت ناقدوه إلى ما اختاره من أمثلة لم تكن من مختارات سابقيه ، ممّا يجعلنى أؤكد أن كتاب الرافعى هو الثانى فى بابه بعد كتاب «دلائل الإعجاز» لأن الكتابين اجتمعا فى خاصية واحدة ، لم يشركهما فيها مشارك ، وهى روعة البيان الأسلوبى وتدفق التحليل.

ومن الجديد الذى اهتدى إليه الرافعى من بارع الأفكار المضيئة فى أفق الإعجاز نستشهد بهذه السطور : «.. كل من يبحث فى تاريخ العرب وآدابهم ، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة ، وتأتى حكمة الأشياء ، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام العربى وتاريخه ، إنما كان توطيدا له ، وتهيئة لظهوره ، وتناهيا إليه ودربة لإصلاحهم به ، وليس فى الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل الجزيرة ، فما كان فيهم كالبيان آنق منظرا وأبدع مظهرا ، وأمدّ سببا إلى النفس ، وأردّ عليها بالعافية ، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى فى أرضهم فرعا ، وأقوم فى سمائهم شرعا ، وأوفر فى أنفسهم ريعا ، وأكثر فى سوقهم شراء وبيعا ، وهذا موضع عجيب للتأمل ، ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده ، وإطالة الفكر وترداده ، وأىّ شىء فى تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهى بمعجزة لغوية ، وتأتى بها على أكمل الوجوه وأحسنها ، ثم يكون الدين والعلم والسياسة ، وسائر مقومات هذه الأمة مما تنطوى عليه المعجزة ، فتخرج به للدهر أمة كان عملها فى الأمم صورة من تلك المعجزة» (٤).

وهذا الوجه من النشأة اللغوية للأمة العربية قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراه الرافعى إعجازا للقرآن الكريم ، إذ نشأ فى أمّة هذه مقدرتها اللغوية لتكون قادرة على استيعابه ، وهى فى الوقت نفسه عاجزة عن الإتيان بمثله ، وأنا أرى أن هذه النشأة ليست

٦٨٠