الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

فالأول : هو حبيب النجار ، الذى قال الله فيه (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).

والثانى : هو أبو الغلامين اليتيمين ؛ فقد وصفه الله بالصلاح فقال : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً).

فالقرية تطلق أحيانا على المدينة ، والمدينة تطلق أحيانا على القرية بهذا الاعتبار ، وهو أسلوب قرآنى تميز به القرآن عن كلام الناس.

(ح) (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الزخرف : ٣١.

هما مكة والطائف كما قال أكثر المفسرين ، ويعنون بالرجلين : الوليد بن المغيرة من مكة ، وعروة بن مسعود من الطائف.

أو هما عتبة بن ربيعة من مكة ، وعمير بن عمرو بن مسعود من الطائف ، أو غيرهم ممن يعظمونهم فى أنفسهم.

(ط) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) النجم : ٥٣.

يعنى : مدائن قوم لوط ، وهى التى أشار الله إليها بقوله فى سورة الحاقة (وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) آية : ٩.

قال قتادة : (إنما سمّيت قرى قوم لوط «مؤتفكات» لأنها ائتفكت بهم ، أى انقلبت).

وذكر الطبرى عن محمد بن كعب القرظى قال : (خمس قريات صعبة ، وصعرة ، وعمرة ، ودوما ، وسدوم ، وهى القرية العظمى). (٩)

(ك) (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) النمل : ١٨.

زعم بعض القصاصين أن هذا الوادى بأرض الشام ، بل زعموا أن اسم النملة حرس ، ووصفوها بأوصاف خيالية ، وما كان أغناهم عن ذلك لو نزهوا كتاب الله عن ذكر ما طواه الله عنا.

قال ابن كثير فى «تفسيره» عند هذه الآية :

ومن قال من المفسرين إن هذا الوادى كان بأرض الشام أو بغيره ، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها.

(ل) (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) الأعراف : ١٤٣.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) الأعراف : ١٧١.

٦٢١

الجبل فى الموضعين هو الطور ، يدل على ذلك قوله تعالى فى سورة البقرة ٦٣ : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

(١٤)

ومما أبهمه الله فى كتابه من الأزمنة :

(أ) (الحين) فى قوله تعالى فى سورة إبراهيم : ٢٥ (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها).

وفى قوله ـ جل شأنه ـ فى سورة الروم :

١٧. (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ).

وقوله فى سورة ص ٣ : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

وقوله فى سورة الإنسان : ١ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً).

قال الراغب فى «مفرداته» (١٠) : (الحين :

وقت بلوغ الشيء وحصوله ، وهو مبهم المعنى ، ويتخصّص بالمضاف إليه ، نحو قوله تعالى :

(وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ، ومن قال : حين (يعنى بغير إضافة) ؛ فيأتى على أوجه :

للأجل ، نحو : (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) ، وللسّنة نحو قوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ، وللساعة نحو : (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) وللزمان المطلق ، نحو : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) ـ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ).

وإنما فسر ذلك بحسب ما وجد ....

ويقال : عاملته محاينة حينا وحينا ، وأحينت بالمكان أقمت به حينا ، وحان حين كذا أى قرب أوانه ، وحيّنت الشيء جعلت له حينا ، والحين عبّر به عن حين الموت). أه.

(ب) أخبر الله ـ عزوجل ـ فى آيات كثيرة أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ، ولا ندرى هل هذه الأيام الستة كأيامنا هذه أم هى أيام أطول من ذلك بكثير ، فهذا الإبهام يفسره ـ جل وعلا ـ بقوله :

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الحج : ٤٧.

وهذا التشبيه فى الآية ـ أيضا ـ فيه إبهام لأنه أمر تقديرى تقريبى يرضى فضولنا إلى حد ما.

وهذا الإبهام يدعونا إلى التفويض فى مثل هذه الأمور ؛ لأنها لا تخضع لعقولنا ، ولكنها مع ذلك تفتح لنا أبوابا واسعة للتأمل والنظر فى هذا الكون الفسيح ؛ لنعرف الأطوار التى مر بها ، والأحوال التى لابسته منذ بدأ.

والله ـ عزوجل ـ يقول : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) العنكبوت : ٢٠

٦٢٢

(ج) وقد أبهم الله الليلة التى أنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة فى السماء الدنيا جملة واحدة.

فقال ـ جل وعلا ـ فى سورة الدخان ٣ :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)

ثم زادها إيضاحا فقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) إلى آخر السورة.

ثم أخبرنا أنها فى شهر رمضان بقوله فى سورة البقرة ١٨٥ : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).

ومع ذلك ظلت الليلة مبهمة ، هل هى فى أوائل شهر رمضان أم فى وسطه ، أم فى أواخره ، وأى ليلة هى على وجه التحديد. وقد وردت أحاديث تفيد أنها فى الوتر من العشر الأواخر من رمضان.

وهذا الإبهام يحملنا على تحريها فى العشر الأواخر كلها ، بل يحملنا على الاجتهاد فى العبادة من أول الشهر إلى آخره ، فكان هذا الإبهام خيرا لنا فى دنيانا وآخرتنا.

(١٥)

وقد أبهم الله ما ورد فى كتابه من الدواب لأنه لا يتعلق بوصفها فائدة.

والبحث عن أوصافها وأنواعها ، وغير ذلك مما يتعلق بها لا طائل تحته ، وذلك مثل ناقة صالح وهدهد سليمان ، والنملة التى قالت :

(يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) وحمار عزير أو غيره ، وكلب أصحاب الكهف ، وغير ذلك.

والقرآن الكريم كتاب هداية ومنهج حياة ، وليس فيه من وراء ذلك مطلب ؛ لهذا أبهم ما لا يتعلق بإظهاره فائدة ، ولم يكلفنا الله بالبحث عنه لما فى ذلك من شغل القلب بما لا ينبغى أن يشغل به ، ومضيعة الوقت فيما لا طائل تحته.

أ. د / محمد بكر إسماعيل

الهوامش :

__________________

(١) انظر البرهان فى علوم القرآن. للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى تحقيق / محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار الفكر ج ١ ص ١٥٦ وما بعدها.

(٢) الإتقان فى علوم القرآن. للحافظ جلال الدين السيوطى تحقيق / محمد أبو الفضل إبراهيم ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ج ٤ ص ١٠٤.

(٣) انظر مقاصد التشريع الحكيم فى سورتى الطلاق والتحريم للدكتور / محمد بكر إسماعيل.

(٤) انظر تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين ، أبى الفداء إسماعيل بن كثير ، مطبعة الاستقامة ج ٢ ص ٣٨.

(٥) انظر الإتقان للسيوطى ج ٤ ص ١٠٦.

(٦) راجع ابن كثير ج ١ ص ١٨٧.

(٧) الإتقان للسيوطى ج ٤ ص ١٠٥.

(٨) انظر ابن كثير ج ٣ ص ٤٨٣.

(٩) انظر الجامع لأحكام القرآن ، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى ط دار الكاتب العربى سنة ١٣٨٧ ه‍ ١٩٦٧ م. ج ١٨ ص ٢٦٢. وراجع تاريخ الطبرى ص ٣٤٣ من القسم الأول ط أوروبا.

(١٠) انظر ص ١٣٨ ط مصطفى البابى الحلبى ١٣٨١ ه‍ ـ ١٩٦١ م.

٦٢٣

موهم الاختلاف والتناقض

(١)

هذا باب عقده علماء التفسير ؛ ليدفعوا عن القرآن شبها ترد على أذهان بعض من لا خبرة لهم بأساليبه ومقاصده وأصول تفسيره.

وهذه الشّبهة التى عملوا جاهدين على تفنيدها ودحضها ـ بالحجة القاطعة والبرهان الساطع ـ هى مجرد خواطر ترد على الأذهان ثم لا تجد لها فى القرآن مكانا تستقر فيه ؛ فتزول من تلقاء نفسها ، أو بعد شىء من التدبر ، أو بسؤال أهل العلم ؛ فلا يبق لها أثر ، لأنها من قبيل الوهم.

والوهم ـ كما تقول كتب اللغة : ما يقع فى الذهن من الخاطر ؛ يقال : وهم فلان : ذهب وهمه إلى الشيء وهو يريد سواه.

والقرآن الكريم كتاب أحكمت آياته إحكاما لا يقبل التناقض بحال ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والتناقض فى القول : هو الاختلاف والتعارض

والنقيضان فى الكلام : (ما لا يصح أحدهما مع الآخر ، نحو : هو كذا وليس بكذا فى شىء واحد وحال واحدة) (١).

قال أبو بكر الصيرفى فى شرح «رسالة الشافعى» : (جماع الاختلاف والتناقض : أن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض.

وإنما التناقض فى اللفظ : ما ضاده من كل جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء ، ولن يوجد فى الكتاب ولا فى السنة شىء من ذلك أبدا ؛ وإنما يوجد فيه النسخ فى وقتين ، بأن يوجب حكما ثم يحلّه ، وهذا لا تناقض فيه.

وتناقض الكلام لا يكون إلا فى إثبات ما نفى ، أو نفى ما أثبت ، بحيث يشترك المثبت والمنفى فى الاسم والحدث والزمان والأفعال والحقيقة ؛ فلو كان الاسم حقيقة فى أحدهما وفى الآخر مستعارا ، ونفى أحدهما وأثبت الآخر ـ لم يعدّ تناقضا.

هذا كله فى الأسماء ، وأما المعانى ـ وهو باب القياس ، فكلّ من أوجد علة وحررها

٦٢٤

وأوجب بها حكما من الأحكام ، ثم ادعى تلك العلة بعينها فيما يأباه الحكم ، فقد تناقض) (٢).

(٢)[اسباب توهم التعارض]

وقد ذكر العلماء لتوهم التعارض أسبابا ترجع فى جملتها إلى ما يأتى :

الأول : وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى :

(أ) فقد أخبر الله ـ عزوجل ـ أنه خلق آدم من تراب. فقال (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) الآية : ٥٩ من آل عمران.

وأخبر أنه خلقه من طين ، فقال : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) الآية : ٧ من سورة السجدة.

وأخبر أنه خلقه من صلصال من حمأ مسنون ، فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الحجر : ٢٦.

وأخبر أنه من صلصال كالفخار ، كما جاء فى سورة الرحمن.

فهذه أطوار خلقه بداية من التراب إلى الصلصال الذى يشبه الفخار ، ذكر كل طور فى الموضع الذى يناسبه فى السياق والمضمون والنظم وغير ذلك من المناحى البلاغية.

فالجمع بين ما ورد فى هذه الآيات وما يماثلها ممكن وبالتالى لا يكون بينها تعارض.

(ب) وأخبر ـ جل شأنه ـ عن عصا موسى حين ألقاها بخبرين يتوهم متوهم أنهما متعارضان ، وذلك فى قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الشعراء ٣٢.

وقوله جل شأنه : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الآية : ٣١ من سورة القصص.

(والجان : الصغير من الحيات ، والثعبان :

الكبير منها ؛ وذلك لأن خلقها كخلق الثعبان العظيم ، واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفّته) (٣). قاله الزركشى فى «البرهان» ، ونقله عنه السيوطى فى «الإتقان».

يضاف إلى هذين الخبرين خبر آخر جاء فى سورة طه : (٢٠). قال ـ جل شأنه :

(فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى).

فهذه الأخبار الثلاثة تدل على أطوار العصا فى تقلّبها ؛ فهى فى أول أمرها بدت للناظرين حية صغيرة دقيقة ، ثم تورّمت وتضاعف جرمها حتى صارت ثعبانا ، فلا تعارض إذن فى هذه الأخبار.

الثانى من الأسباب : اختلاف الموضوع أو الموضع :

٦٢٥

(أ) كقوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الأعراف : ٦ ، وقوله جل شأنه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) الصافات ٢٤. مع قوله جل وعلا : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) المؤمنون : ١٠١ ، وقوله سبحانه : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) الرحمن : ٣٩.

فباعتبار الموضوع يكون المعنى فى الآية الأولى : فلنسألنهم عن التوحيد وتصديق الرسل ، ولنسألن المرسلين عن أحوال أممهم معهم فى شأن ما جاءوا به من ربهم.

ويكون المعنى فى الآية الثانية : إنهم مسئولون عما كانوا يعبدون ، وهذا المعنى قريب من الأول ؛ لأنه يستلزم سؤالهم عن أحوالهم مع المرسلين الذين دعوهم إلى التوحيد الخالص فأعرضوا وكذبوا.

وأما الثالثة فمعناها : لا يتساءلون بالأرحام كما كانوا يفعلون فى الدنيا.

وأما الرابعة فمعناها : أنهم لا يسألون عن ذنوبهم ؛ لأن الله حفظها عليهم ، وكتبتها عليهم الملائكة ؛ فهى كقوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (الآية : ٧٨ سورة القصص) هذا باعتبار الموضوع.

أما باعتبار الموضع ، فهم فى موضع يسألون وفى موضع لا يسألون ؛ فيوم القيامة طويل ـ كان مقداره فى علم الله خمسين ألف سنة ؛ فإنهم حين يعرضون يسألون ويحاسبون ، فإذا انتهى الحساب ذهب فريق إلى الجنة وذهب فريق إلى السعير.

وقيل : (إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ ، والمنفى سؤال المعذرة وبيان الحجة) قاله السيوطى فى «الإتقان» ، وهو يرجع إلى اختلاف الموضوع والموضع معا.

فالله ـ عزوجل ـ لا يسألهم سؤال إخبار ؛ فهو أعلم بهم من أنفسهم ؛ فتعين أن يكون السؤال نوعا من التعذيب.

وهذا السؤال له موضع أو مواضع يكون فيها مثبتا ومواضع أخرى يكون منفيا :

(ب) مثل قوله تعالى فى سورة البقرة آية ١٧٤ : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مع قوله ـ سبحانه ـ فى سورة الحجر : ٩٢ ـ ٩٣ :

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) فالمنفى كلام التلطف والإكرام ، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة.

الثالث من الأسباب : اختلاف جهتى الفعل :

(أ) كقوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الآية ٧ من سورة الأنفال.

٦٢٦

فإنه يبدو لغير المتأمل أن فى هذا اجتماع الضدين ، والجمع بين الضدين محال.

والجواب : أن الجمع بين الضدين باعتبارين مختلفين جائز.

فقد أضاف الله تعالى القتل إليهم والرمى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جهة الكسب والمباشرة ، ونفاه عنهم وعنه باعتبار التأثير.

(أى : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم ، ولكن الله قتلهم بنصركم وتسلطكم عليهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم. وما رميت تلك الرمية التى نتج عنها هذه الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة). أفاده أبو السعود فى تفسيره. (٤)

(ب) ومثله قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة : ٢٩ ، وقوله سبحانه : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) مع قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) النازعات : ٢٧ ـ ٣٠.

فهذه الآيات تبدو لمن لا علم له بأساليب البيان فى القرآن أنها متعارضة ، مع أن الجمع بينها ممكن فنقول :

إن الله ـ عزوجل ـ بيّن لنا فى آية البقرة أنه خلق الأرض وما فيها إجمالا ، ثم خلق سبع سماوات لم يبين لنا كيف بناها وكيف أغطش ليلها وأخرج ضحاها ؛ بناء على ما تقدم نزوله فى سورتى فصلت والنازعات.

وبين لنا فى سورة فصلت أنه خلق الأرض فى يومين وجعل لها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها فى يومين آخرين بالإضافة إلى اليومين الأولين فيصير مجموع الأيام أربعة ، ثم بيّن أنه استوى إلى السماء وهى دخان فقضاهن سبع سماوات فى يومين.

وبذلك يزول بعض الإشكال ، ويبقى بعضه ، وهو ما يتعلق بالجمع بين هذه الآيات وآيات النازعات.

والجواب أن يقال : إن الله ـ تعالى ـ خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا فى يومين ،

٦٢٧

ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسى والأنهار وغير ذلك ، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء ، يدل لهذا أنه قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ولم يقل خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها).

وقد نسب هذا القول لابن عباس رضى الله عنهما وغيره ، وبهذا يزول ما تبقى من الإشكال ، والحمد لله.

الرابع من الأسباب : الاختلاف فى الحقيقة والمجاز :

(أ) كما فى قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) الآية ٥١ الأعراف ، وقوله سبحانه : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) الآية ٦٧ من سورة التوبة ، وقوله ـ جل شأنه : (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) الآية ١٢٦ من سورة طه ، وقوله تبارك اسمه :

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) الآية ٣٤ من سورة الجاثية. فإنه لا يتعارض مع قوله عز جاهه :

(لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) الآية ٥٢ من سورة طه ، وقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) الآية ٦٤ من سورة مريم. لأن معنى :

«فاليوم ننساهم» ونحوه : نتركهم فى العذاب محرومين من كل خير.

(ب) ومثله قوله تعالى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) الآية : ٢ من سورة الحج.

أى : سكارى من الأهوال مجازا لا من الشراب حقيقة.

الخامس من الأسباب : أن يأتى الكلام محتملا لوجهين فيحمل كل وجه على اعتبار يناسبه ولا يتناقض مع غيره :

(أ) كقوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) الآية ٢٢ من سورة ق ، مع قوله تعالى :

(خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) الآية ٤٥ من سورة الشورى.

فيحمل البصر فى الآية على العلم لا على النظر بالعين ، ويدل على ذلك قوله فى الآية :

(فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) فبذلك التأويل يزول الإشكال.

(ب) ومثله قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد : ٢٨ ، مع قوله ـ عزوجل :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال : ٢.

فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة ، وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند

٦٢٨

خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك.

وقد جمع بينهما فى قوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) الآية ٢٣ من سورة الزمر ، فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به ، فانتفى عنهم الشك (٥). أه.

هذه هى أهم الأسباب التى تؤدى إلى توهم التعارض بين بعض النصوص القرآنية.

وقد عرفنا طريقة الجمع بين ما يبدو لغير المتأمل أنه متعارض ، وذكرنا قول الصيرفى فى هذا.

ونضيف إليه ما قاله أبو إسحاق الإسفرايينى فى تعذر الجمع ؛ تتمة للفائدة.

قال ـ رحمه‌الله : (إذا تعارضت الآى ، وتعذر فيها الترتيب والجمع ؛ طلب التاريخ وترك المتقدم منها بالمتأخر ، ويكون ذلك نسخا له ، وإن لم يوجد التاريخ وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل به. ولا يوجد فى القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين). (٦) أه.

(٣)

وخلاصة هذا البحث : أن من تدبّر فى كتاب الله ـ تعالى ـ وكان مزوّدا بالعلم ونور البصيرة ـ لن يجد فيه تناقضا ولا اختلافا أبدا.

يقول الله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وفى دعوة القرآن إلى تدبره تكريم للإنسان وتنبيه له إلى الوظيفة التى خلق من أجلها ، وشهادة له من الله ـ تبارك وتعالى ـ على قدرته فى استقبال ما يراه وما يسمعه بفكر لو استعمله بحق لعرف قدر نفسه ، وأدرك الحكمة من خلقه ، واستوعب الدرس من كتاب ربه ، وعلم علم اليقين أن هذا القرآن كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد نزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحضرة رجال كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا أو مطعنا ، وهم أصحاب ملكات قوية فى الفصاحة والبيان ، وقد تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا كل العجز ؛ فدل ذلك على أن غيرهم أعجز ، فلا يدّعى مدّع أن فى هذا القرآن شيئا ما من التناقض. فمن فعل فقد سفه نفسه وفقد حسه وتولى كبره.

٦٢٩

ومن الإنصاف للحق أن الإنسان إذا سوّلت له نفسه أن شيئا فى القرآن يثير تساؤلا ، أن يعمل عقله مستعينا بعقل غيره إن لم يسعفه عقله ، ثم يعيد النظر مرة بعد مرة متجردا من المذهبية والتقليد والهوى ؛ فإنه سيؤمن إيمانا لا يخالجه شك بهذه الحقيقة التى استقرت فى قلب كل منصف وإن لم يكن مسلما ؛ فالحق واحد لا يتعدد ولا يتناقض ولا يختلف عليه اثنان على مر الزمان.

وقد صنف فى هذا الباب رجال نبغوا فى العلوم الشرعية واللغوية ، ونالت مصنفاتهم شهرة وقبولا عند أهل العلم قديما وحديثا ، وأرى من الخير أن أذكر هنا ما تيسر لى الاطلاع عليه منها :

(أ) «الرد على الملحدين فى تشابه القرآن» تأليف الإمام محمد بن المستنير بن أحمد ، أبو على الشهير بقطرب المتوفى سنة (٢٠٦ ه‍ ٨٢١ م) ذكره الزركشى فى «البرهان».

(ب) «تأويل مشكل القرآن» تأليف أبى محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (٢١٣ ـ ٢٧٦ ه‍ ٨٢٨ ـ ٨٨٩ م) شرحه ونشره السيد أحمد صقرط الثانية (١٣٩٣ ه‍ ١٩٧٣ م) بدار التراث بالقاهرة.

وقد جمع ابن مطرف الكنانى بين كتابيه :

مشكل القرآن وغريبه فى كتاب واحد من جزءين أسماه : «القرطين». طبعته مكتبة الخانجى بالقاهرة ، الطبعة الأولى سنة :

١٣٥٥ ه‍ ، وهو أيسر للباحث المبتدئ فى تناول ما يريده ؛ لأن ابن مطرف رتبه على السور بخلاف ترتيب المؤلف.

وقد خطأه فى ذلك السيد أحمد صقر وعاب عليه سوء صنيعه فى مقدمة تحقيقه لكتاب التأويل.

(ج) «تنزيه القرآن عن المطاعن» لقاضى القضاة : عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذانى ت (٤١٥ ه‍ ١٠٢٥ م).

طبعته دار النهضة الحديثة ـ بيروت ـ لبنان.

(د) «الأنموذج الجليل فى أسئلة وأجوبة من غرائب آى التنزيل» للإمام زين الدين : محمد ابن أبى بكر بن عبد القادر بن عبد المحسن الرازى الحنفى ـ ت (٦٦٦ ه‍ ـ ١٢٦٨ م).

طبعته شركة مصطفى البابى الحلبى بتحقيق الشيخ إبراهيم عطوة عوض ، تحت عنوان : «مسائل الرازى وأجوبتها من غرائب آى التنزيل». وصدرت طبعته الأولى سنة :

(١٣٨١ ه‍ ١٩٦١ م). وقد نشره الأزهر تباعا فى أجزاء صغيرة هدية على مجلته الغراء بعنوانه الذى اختاره له المؤلف ، بداية من شهر المحرم (١٤١٠ ه‍ ١٩٨٩ م) إلى رجب من العام نفسه ، توفر على مراجعته لجنة من محررى المجلة.

٦٣٠

(ه) «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» تأليف : محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكنى الشنقيطى (١٣٢٥ ـ ١٣٩٣ ه‍ ١٩٠٧ ـ ١٩٧٣ م) الناشر مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.

(و) «فتح الرحمن بكشف ما يلتبس فى القرآن» تأليف قاضى القضاة شيخ الإسلام أبى يحيى : زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصارى (٨٢٣ ـ ٩٢٦ ه‍ ١٤٢٠ ـ ١٥٢٠ م). حققه وقدم له وعلق عليه ، وتقدم به إلى كلية أصول الدين بالقاهرة لنيل درجة التخصص (الماجستير) فى التفسير وعلوم القرآن ـ عبد السميع محمد أحمد حسنين ، ثم طبع فى مكتبة الرياض الحديثة بالمملكة العربية السعودية عام ١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ م.

ومن المفيد فى هذا الموضوع الرجوع إلى كتب التفسير بالمعقول والمنقول ، ومن أهمها :

ـ «جامع البيان عن تأويل آى القرآن» ، لابن جرير الطبرى.

ـ «مفاتيح الغيب» لفخر الدين الرازى.

ـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ، لعبد الله ابن عمر البيضاوى.

ـ «الجامع لأحكام القرآن» ، للقرطبى.

ـ «تفسير القرآن العظيم» ، لابن كثير.

أ. د / محمد بكر إسماعيل

الهوامش :

__________________

(١) انظر المفردات للراغب مادة (نقض).

(٢) راجع البرهان فى علوم القرآن ج ٢ ص ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) البرهان ج ٢ ص ٥٥ ، والإتقان ج ٣ ص ٩٤.

(٤) المجلد الثانى ص ٤٧٧.

(٥) البرهان ج ٢ ص ٦٢.

(٦) المرجع السابق ج ٢ ص ٤٨.

٦٣١

النسخ فى القرآن

(١) [معانى النسخ فى اللغة]

معانى النسخ فى اللغة تدور حول : الرفع والإزالة ، والنقل والتبديل والتحويل (١).

يقال : نسخت الشمس الظّلّ أى : أزالته ورفعته ؛ فإن الظل لا يبقى فى ذلك المكان بعد وجود الشمس فيه.

ويقال : نسخت الكتاب ، أى نقلت مثل ذلك المكتوب إلى محل آخر.

وقد استعمل القرآن الكريم مادة النسخ فى هذه المعانى وما يماثلها.

أما الرفع والإزالة فقد جاء فى قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة : ١٠٦. وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحج : ٥٢.

وأما النقل فقد جاء فى قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية : ٢٩.

أى : ننقله بعناية ودقة ، ونثبته فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وأما التبديل والتحويل فقد جاء فى قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) النحل : ١٠١.

(٢) [اختلاف العلماء فى تعريف النسخ]

وقد اختلف علماء الفقه والأصول فى تعريف النسخ اختلافا كثيرا ، نختار أهمها وأولاها بالقبول :

(أ) عرفه السمرقندى فى كتابه «ميزان الأصول» (٢) بقوله : (هو بيان انتهاء الحكم الشرعى المطلق ـ الذى فى تقدير أوهامنا استمراره لولاه ـ بطريق التراخى) أه.

(ب) وعرفه الآمدى فى كتابه : «الإحكام فى أصول الأحكام» (٣) فقال : (هو عبارة عن خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعى سابق). أه.

(ج) والتعريف الأشهر والأيسر أن يقال فيه : هو رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر عنه.

٦٣٢

فهذا التعريف قد أخرج تخصيص العام ، وتقييد المطلق بالاستثناء أو بالصفة أو بالحال أو بالزمان أو بالمكان ، وغير ذلك من أنواع التخصيص والتقييد.

ومعنى رفع الحكم الشرعى : قطع تعلقه بأفعال المكلفين لا رفعه هو ؛ فإنه أمر واقع ، والواقع لا يرتفع.

والحكم الشرعى : هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين إما على سبيل الطلب أو الكف أو التخيير. وإما على سبيل كون الشيء سببا أو شرطا أو مانعا ، أو صحيحا أو فاسدا.

والدليل الشرعى : هو وحى الله مطلقا متلوا أو غير متلو ، فيشمل الكتاب والسنة.

وهذا التعريف أراه جامعا لأركانه وشروطه ، مانعا من دخول الغير فيهما.

وبسط ذلك فى الكتب المطولة.

(٣) [استدلال جمهور العلماء على جواز النسخ]

واستدل جمهور العلماء على جواز النسخ بالعقل والنقل والتاريخ.

أما العقل فلا يمنع جوازه ؛ لأنه لا يترتب على وقوعه محال.

والواقع التاريخى ـ أيضا ـ يؤكد وقوع النسخ بنوعيه : نسخ الشرائع السابقة بالإسلام ، ونسخ الحكم فى شريعة الإسلام بحكم آخر متأخر عنه ، والوقوع خير شاهد على الجواز. وقد اعتمد المجوّزون له على ثلاث آيات من القرآن الكريم :

الأولى : قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة : ١٠٦.

الثانية : قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الرعد : ٣٩.

الثالث : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) النحل : ١٠١.

فإذا قرأت أكثر كتب المفسرين ، وجدتهم يحملون النسخ فى آيتى البقرة والنحل على نسخ الحكم ، ووجدت بعضهم يحمله على نسخ الحكم والتلاوة.

أما آية الرعد ، فقد حملها أكثرهم على نسخ الشرائع ، فكل شريعة تنسخ الأخرى ، وشريعتنا ناسخة لجميعها ، بمعنى ، أنها نسخت كثيرا من الأحكام الجزئية التى لا تتفق مع مصالحنا الدنيوية والأخروية.

فالشريعة السماوية لا تنسخ الأصول العامة ولا القواعد الكلية ؛ لأنها متفقة عليها ، لا تختلف فيها شريعة عن أخرى.

٦٣٣

على أن المحو والإثبات فى الآية يتناول كل ما من شأنه أن يمحى ، وكل ما من شأنه أن يثبت ؛ فيدخل فيها نسخ الأحكام الجزئية فى شريعتنا بمقتضى هذا العموم.

لهذا جعلها كثير من العلماء من أدلة الجواز.

(٤) [امور لا بدّ منه فى تحقيق النسخ]

(ولعلك تدرك مما سبق أنه لا بدّ فى تحقيق النسخ من أمور أربعة :

أولها : أن يكون المنسوخ حكما شرعيا.

ثانيها : أن يكون دليل رفع الحكم دليلا شرعيا.

ثالثها : أن يكون هذا الدليل الرافع متراخيا عن دليل الحكم الأول غير متصل به ، كاتصال القيد بالمقيد والتأقيت بالمؤقت.

رابعها : أن يكون بين ذينك الدليلين تعارض حقيقى.

تلك أربعة لا بدّ منها لتحقق النسخ باتفاق جمهرة الباحثين ، وثمة شروط اختلفوا فى شرطيتها : منها أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة ، ومنها كون النسخ مشتملا على بدل للحكم المنسوخ ، ومنها كون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهى والمضيّق للموسّع ، ومنها كون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه) (٤) أه.

(٥) [موقع النسخ]

ولا يقع النسخ إلا فى الأحكام الشرعية العملية الثابتة بالنص غير المؤقتة بوقت ؛ لأنها تنتهى بوقتها المحدد لها ، ولا فى الأحكام المنصوص على تأبيدها ؛ لأن النسخ فيها يتناقض مع التأبيد بشرط أن يكون التأبيد منصوصا عليه.

ولا يلحق القواعد الكلية التى تندرج تحتها الفروع الجزئية ؛ لأن هذه القواعد مقاييس تبنى عليها الأحكام.

ولا نسخ فى الأمور الاعتقادية المتعلقة بذات الله ـ تعالى ـ وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

ولا نسخ فى الأصول الأخلاقية ؛ لأنها من الأمور المتفق عليها فى الشرائع السماوية.

ولا نسخ فى أصول العبادات والمعاملات ؛ لأن الشرائع كلها لا تخلو منها وهى متفقة فيها.

ولا يدخل النسخ الخبر الصريح الذى ليس بمعنى الطلب ، كالقصص والوعد والوعيد.

(٦) [طرق معرفة الناسخ والمنسوخ]

والطرق التى يعرف بها الناسخ والمنسوخ كثيرة ، ينبغى أن نعلم قبل أن نذكرها إجمالا أن النسخ يتضمن رفع حكم تقرر من جهة

٦٣٤

الشارع وإثبات حكم ، ومثل هذا لا يحل لمسلم أن يقول فيه إلا بيقين.

فمن قال فى شىء : إنه منسوخ ؛ فقد أوجب ألا يطاع هذا الأمر الصادر عن الله أو عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجوز أن نسقط طاعة أمرنا بها الله ـ تعالى ـ ورسوله إلا ببرهان.

وفى هذا يقول ابن الحصار : (إنما يرجع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن صحابى يقول : آية كذا نسخت كذا.

وقال : ولا يعتمد فى النسخ قول عوام المفسرين ، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح.

ثم قال : والناس فى هذا بين طرفى نقيض ؛ فمن قائل : لا يقبل فى النسخ أخبار الآحاد العدول ، ومن متساهل يكتفى فيه بقول مفسر أو مجتهد ، والصواب : خلاف قولهما) (٥).

وتوضيح ذلك : أنه لا سبيل إلى معرفة نسخ آية أو حديث بغير أحد وجوه ثلاثة :

الوجه الأول : النص الصريح الصحيح بأن هذا الأمر ناسخ لكذا ، أو أمر صريح بترك الأمر الأول.

مثاله : قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) البقرة : ١٤٣.

ثم قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

فهذا دليل واضح على أن القبلة التى كانت قبل هذه منسوخة.

ومثل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة :١٨٧.

فهذا النص صريح فى نسخ النهى عن الوطء فى ليل رمضان على رأى من قال بالنسخ.

الوجه الثانى : إجماع الأمة بلا خلاف يعتد به على أن أمر كذا منسوخ.

ومن المعلوم أن الإجماع يستند دائما إلى دليل.

الوجه الثالث : تعارض الأدلة المتساوية تعارضا تاما مع معرفة الأمر المتقدم زمنا من المتأخر ، وتفصيل المسألة : أن النصين إما أن يتعارضا من جميع الوجوه ، أو من وجه دون وجه ، فإن تعارضا من وجه دون وجه جمع بينهما. وإن تعارضا من جميع الوجوه فإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا ، أو كان أحدهما

٦٣٥

أقوى من الآخر فى الثبوت عمل بالأقوى ، وأهمل الآخر.

وإن تعارضا من جميع الوجوه ، وتكافئا فى الثبوت وعلم الأمر المتقدم منهما والمتأخر صرنا إلى النسخ.

أما إن تعارضا من جميع الوجوه ، وتكافئا فى الثبوت ، ولم يعلم المتقدم والمتأخر فلا يصار إلى النسخ بالاجتهاد ؛ بل يجب التوقف عنهما أو التخير بينهما.

وعلى هذا فلا يعتمد على : (الاجتهاد من غير دليل ، ولا على أقوال المفسرين من غير سند ، ولا على مجرد التعارض الظاهرى بين النصوص ، ولا على ثبوت أحد النصين فى المصحف بعد الآخر ؛ لأنه ليس على ترتيب النزول) (٦).

(هذا كله إذا لم يمكن الجمع بين النصين بوجه من وجوه التخصيص والتأويل ، وإلا وجب الجمع ؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال دليل وإهدار آخر ، ولأن الأصل فى الأحكام بقاؤها وعدم نسخها فلا ينبغى أن يترك استصحاب هذا الأصل إلا بدليل بيّن) (٧).

(٧) [اقسام النسخ]

وقسم بعض العلماء النسخ أقساما متعددة باعتبارات مختلفة ، نذكر بعضها بإيجاز فنقول كما قالوا :

(أ) ينقسم النسخ باعتبار التلاوة والحكم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : ما نسخت تلاوته وبقى حكمه :

فقد روى أنه كان فى سورة النور آية ثم نسخت تلاوتها وبقى حكمها وهى : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله».

وروى أن عمر قال : «لو لا أن يقول الناس زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها بيدى».

وقد أنكر كثير من العلماء هذا الضرب لعدم فهمهم الحكمة منه ؛ ولضعف دليله لأنه من قبيل أحاديث الآحاد التى يتطرق إليها الاحتمال فيسقط به الاستدلال.

وقد بالغ الدكتور مصطفى زيد فى إنكار هذا الضرب بالطعن فى صحة النصوص الواردة فى ذلك فقال فيما قال : (أما الآثار التى يحتجون له بها .. وهى تنحصر فى آيتى رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا ، وتحريم الرضعات الخمس ـ فمعظمها مروى عن عمر وعائشة رضى الله عنهما ، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما ، بالرغم من ورودها فى الكتب الصحاح ؛ فإن صحة السند لا تعنى فى كل الأحوال سلامة المتن.

على أنه قد ورد فى الرواية عن عمر قوله بشأن حد الرجم فيما زعموا : «ولو لا أن

٦٣٦

يقال : زاد عمر فى المصحف لكتبتها» وهو كلام يوهم أنه لم ينسخ لفظا أيضا مع أنهم يقولون : إنها منسوخة اللفظ باقية الحكم.

كذلك ورد نص الآية فى الروايات التى أوردته بعبارات مختلفة ، فواحدة منها تذكر قيد الزنا بعد ذكر الشيخ والشيخة ، وواحدة لا تذكره ، وثالثة تذكر عبارة «نكالا من الله» ورابعة لا تذكرها.

وما هكذا تكون نصوص الآيات القرآنية ولو نسخ لفظها.

وفى بعض هذه الروايات جاءت بعض العبارات التى لا تتفق ومكانة عمر ولا عائشة مما يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسها على المسلمين (٨).

الثانى من الأقسام : ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته :

وهو كثير فى الكتاب والسنة ، ومن أجله صنفت الكتب ، ولا سيما إذا أخذنا فى اعتبارنا مفهومه الواسع المنسوب إلى الصحابة وكثير من التابعين ؛ إذ أدخلوا فيه تخصيص العام وتقييد المطلق كما سيأتى بيانه فيما بعد.

(وقد أنكر قوم هذا الضرب بدعوى أن التلاوة والحكم متلازمان ، فلا يصح رفع أحدهما مع بقاء الآخر ، ورفع الحكم بجعل التلاوة خالية من الفائدة فلا يجوز.

ثم إن نسخ الحكم مع بقاء التلاوة .. يوهم بقاء الحكم ؛ فيعرض المكلف للجهل والخلط فى الشريعة والأحكام.

وردّ على هذه الشبهة برد دعوى التلازم ، فالآية بعد نسخ حكمها لا تكون خالية من الفائدة ، بل معناها قائم عطل العمل به دليل آخر ؛ وفى ثبوتها تذكير بنعمة الله ـ تعالى ـ إذا كان الحكم المنسوخ أشد ، واختبار بالانصياع والتسليم إذا كان الحكم المنسوخ أخف ، ثم فى تلاوتها تعبد وأجر.

أما شبهة إيهام بقاء الحكم ، وتعريض المكلف للجهل والخلط فهى مردودة بأن النسخ لا يصار إليه إلا بدليل معلوم

للمكلف ، وإذا علم الدليل الناسخ زال الجهل وبعد احتمال الخلط فى الأحكام) (٩).

والثالث من الأقسام : نسخ الحكم والتلاوة معا :

قال الزركشى فى «البرهان» (١٠) : (فلا تجوز قراءته ولا العمل به ، كآية التحريم بعشر رضعات فنسخن بخمس ؛ قالت عائشة ـ رضى الله عنها : «كان مما أنزل عشر رضعات معلومات ، فنسخن بخمس معلومات ، فتوفّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى مما يقرأ من القرآن» (١١).

وقد تكلموا فى قولها : «وهى مما يقرأ» فإن ظاهره بقاء التلاوة ؛ وليس كذلك ، فمنهم

٦٣٧

من أجاب بأن المراد قارب الوفاة ، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتوفى وبعض الناس يقرؤها.

وقال أبو موسى الأشعرىّ : «نزلت ثم رفعت».

وجعل الواحدى من هذا ما روى عن أبى بكر رضي الله عنه قال : «كنا نقرأ : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر». وفيه نظر.

وحكى القاضى أبو بكر فى «الانتصار» عن قوم إنكار هذا القسم ؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها.

وقال أبو بكر الرازى : نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه فى المصحف ، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التى ذكرها فى قوله :

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) الأعلى : ١٨ ـ ١٩.

ولا يعرف اليوم منها شىء ، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا توفّى لا يكون متلوا فى القرآن ؛ أو يموت وهو متلوّ موجود فى الرسم ، ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم ، وغير جائز نسخ شىء من القرآن بعد وفاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وقال السمرقندى فى «ميزان الأصول» (١٢) :

(أما الجواز فإن نسخ التلاوة ـ هو صرف القلوب عن حفظ القرآن الدال على كلام الله تعالى ـ فجائز أن ينتهى الحكم لانتهاء المصلحة وتنسى التلاوة.

أما عين كلام الله تعالى : فلا يتصور عليه النسخ ؛ فإنه قديم. قال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلَّا ما شاءَ اللهُ) الأعلى : ٦.

ولكن هذا فى حال جواز النسخ ، وهو حال حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأما بعد وفاته ـ فلا ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه هو الحافظ لهذا القرآن بقوله :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أى نحفظه منزلا لا يلحقه تغيير ولا تبديل ؛ صيانة للدين الحق إلى آخر الدهر.

(٨) وينقسم النسخ. أيضا. إلى قسمين : نسخ ببدل ، ونسخ بغير بدل.

أما القسم الأول : فلا خلاف فيه بين العلماء ، وأمثلته كثيرة سيأتيك كثير منها إلى جانب ما قد مضى ذكره.

ومعناه : أن الشارع الحكيم إذا نسخ حكما أبدله بحكم أخف منه أو أثقل منه ، أو مساو له ؛ لحكمة نعلمها أو لا نعلمها.

٦٣٨

أما النسخ إلى غير بدل فقد وقع فيه الخلاف بين الأصوليين ، فمنهم من منعه ، ومنهم من أجازه.

ومن المانعين له الشافعى رضي الله عنه ، وهو أول من وضع علم الأصول على الراجح من أقوال المؤرخين.

فقد قال فى «الرسالة» (١٣) : (وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض ، كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة ، وكل منسوخ فى كتاب وسنة هكذا).

ومن المجوزين له : الآمدى فهو يقرر فى كتاب «الإحكام» (١٤) أن مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل خلافا لمن شذ منهم.

واستدل على وقوعه بأدلة كثيرة ، وضرب لذلك أمثلة من القرآن ، منها :

(أ) قوله تعالى فى سورة المجادلة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) آية : ١٢.

ثم نسخ حكمها فى الآية التى بعدها ، دون أن يأتى بتكليف آخر يحل محل التكليف الأول ، وذلك فى قوله جل شأنه : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) آية : ١٣.

(ب) ونسخ الله الاعتداد بحول كامل فى حقّ المتوفّى عنها زوجها ، بقوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة : ٢٤٠.

وقد كانت أربعة أشهر وعشرا ، كما فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) البقرة آية : ٢٣٤.

(ج) ونسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة فى القتال فقال : جل شأنه أولا : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الأنفال : ٦٥.

ثم قال بعدها مباشرة : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

إلى آخر ما قال.

(د) ونحن إذا نظرنا إلى خلاف العلماء حول النسخ إلى غير بدل وجدناه فى الحقيقة

٦٣٩

خلافا حول مفهوم البدل نفسه ، لا حول اشتراطه ، فإن مفهوم البدل ومعناه العام يشمل أمرين : الرد إلى ما كان قبل شرع الحكم المنسوخ وهو البراءة الأصلية ، أو الإباحة.

ونقل الحكم المنسوخ إلى حكم آخر ، فكلاهما يسمى بدلا ، فلا إشكال إذن ولا خلاف ؛ لأن رد الحكم إلى الإباحة هو نسخ إلى بدل ؛ لأن الإباحة نوع من أنواع الخطاب.

(٩)

وينقسم النسخ من جهة أخرى إلى ثلاثة أقسام :

الأول : نسخ الأثقل بالأخف ، وهو الغالب والكثير.

والثانى : نسخ الحكم بحكم آخر مساو له.

كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) البقرة : ١٤٤.

والثالث : نسخ الأخف بالأثقل ، وهو قليل.

كنسخ حبس الزوانى بالجلد والرجم ، ولا شك أن الضرب بالحجارة حتى الموت أثقل من الحبس.

ومنع بعض العلماء هذا النوع بدعوى أن الله يريد بنا اليسر فى تشريعاته كلها ، كما قال جل شأنه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

وقال عز من قائل : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ).

والجواب عن هذه الشبهة أن العسر واليسر والخفة والثقل من الأمور الإضافية ، فما من أمر خفيف إلا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخف منه ، وما من أمر ثقيل إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه ، وكل ما أمر الله ـ تعالى ـ به يسر لنا إذ فوقه ما هو عسير وعسير ، وكل ما نقلنا إليه من أحكام تخفيف علينا بالنسبة لما فى علمه من مشاق ، ولو أن المقصود التخفيف المطلق ، واليسر المطلق لكانت ركعة واحدة فى الصلاة مثلا أخف بكثير مما هى عليه ، ثم إنه قد وقع النسخ بالأشد فلا سبيل إلى إنكاره ومنعه.

(١٠)

قال السيوطى فى «الإتقان» : (قال بعضهم :سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام :

قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ ، وهو ثلاث وأربعون : سورة الفاتحة ، ويوسف ، ويس ، والحجرات ، والرحمن ، والحديد ، والصف ، والجمعة ، والتحريم ، والملك ، والحاقة ، ونوح ، والجن ، والمرسلات ، وعم ،

٦٤٠