الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

ولم يخل موضع واحد من مواضع التكرار فى القرآن الكريم من فائدة عظيمة ، وسر بلاغى من أجله كان التكرار ، من ذلك :

* تأكيد الإنذار فى قوله تعالى :

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥).

* تأكيد الإنكار ، مثل قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقد تكررت هذه العبارة فى سورة (الرَّحْمنُ) واحدة وثلاثين مرة ، بعد تعديد نعم الله على الثقلين الإنس والجن ومع كثرة تكرارها تجد لها حلاوة فى السمع ، ووقعا فى النفس ، وحياة فى القلب.

* تأكيد التعجيب من صنع الله عزوجل بالمكذبين الضالين فى قوله عزوجل :

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٦).

* تأكيد التنبيه وزيادته ، كما فى قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) (٧).

كرر (يا قَوْمِ) مؤكدا لهم هدايته إليهم سبيل الرشاد وقد تضمن هذا التكرار الإشارة إلى فناء الدنيا وفناء ما فيها من لذائذ ومشتهيات.

وقد يكرر اللفظ لطول الكلام مع زيادة التوكيد كما فى قوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٨).

فقد تكرر فى هذه الآية العبارات الآتية :

(إِنَّ رَبَّكَ) وقد تقدمت فى صدر الآية.

(بَعْدِها) وقد تقدم عليها قوله (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) وأفاد هذا التكرار فائدتين :

الأولى : تكرار التأكيد ، ومن دواعى التأكيد مقامات الوعد والضمان.

الثانية : طول الفصل بين «إن» واسمها ، وبين خبرها ، وهو (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

* وقد يأتى التكرار لتفظيع وتهويل ما اقترفه المتحدث عنهم ، كما فى قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (٩).

هذا التكرار المتواصل فى الآية ، فيه تفظيع لما كان يقترفه المنافقون من التذبذب بين الإيمان والكفر ، ثم إيثارهم الكفر على الإيمان فى عاقبة أمرهم فى الحياة الدنيا.

٤٦١

أما التكرار فى القصة القرآنية فأسراره البلاغية لا تحصر ، ويكفى أن نشير إلى ملامح عامة جاء التكرار فى إطارها.

فأولا : لم تكرر قصة فى موضعين أو أكثر على نمط واحد قط.

وثانيا : يتراوح تكرار القصة القرآنية بين الطول والقصر.

وثالثا : كل صورة ترد عليها القصة المكررة تحمل جديدا فى الصياغة والمعنى لم يرد فى غيرها.

ورابعا : كل نمط من أنماط التكرار مناسب للمقام الذى ورد فيه.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) معانى القرآن الكريم للفراء (٣ / ٢٨٧) وينظر (١ / ١٧٧).

(٢) مجاز القرآن (١ / ١٢).

(٣) بيان إعجاز القرآن الكريم (٤٧) ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ط : دار المعارف ـ القاهرة. الطبعة الرابعة.

(٤) خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (القسم الأول) مكتبة وهبة ـ القاهرة.

(٥) التكاثر (٣ ـ ٤).

(٦) القمر (١٦).

(٧) غافر (٣٨ ـ ٣٩).

(٨) النحل (١١٩).

(٩) النساء (١٣٧).

٤٦٢

التّكميل

التكميل صورة أخرى من صور الإطناب ، قريب الشبه بالإيغال والتتميم ، ولقرب التشابه بينها يمكن أن يصلح مثال واحد للاستشهاد على كل منها.

والتكميل لغة زيادة الشيء حتى يبلغ النهاية ، والكامل ضد الناقص وفوق التام.

فالشىء يكون ناقصا ، ثم يصير بعد النقص تاما ، ثم يصير كاملا بحيث لا يقبل الزيادة (١).

أما تعريف التكميل فى اصطلاح البلاغيين ، فتتعدد عباراته ويتقارب أو يتوحد معناه ، ومن تلك التعريفات عرّفه الباقلانى فقال :

«ومن البديع التكميل والتتميم ، وهو أن يؤتى بالمعنى الذى بدأ به بجميع المعانى المصححة المتممة لصحته المكملة لجودته من غير أن يخل ببعضها ، ولا أن يغادر شيئا منها» (٢).

وقال التبريزى :

«التكميل أن يذكر الشاعر المعنى ، فلا يدع من الأحوال التى تتم بها صحته ، وتكمل شيئا إلا أتى به (٣)» أما ابن أبى الأصبع فعرفه بقوله :

«أن يأتى المتكلم أو الشاعر بمعنى من معانى المدح أو غيره من فنون الشعر وأغراضه ، ثم يرى مدحه والاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل فيكمله بمعنى آخر» (٤) وقال الخطيب القزوينى :

«الإطناب بالتكميل أو الاحتراس هو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه ...» (٥) وهذا التعريف هو أوجز هذه التعريفات وأحكمها وقد قسم فيه التكميل قسمين ، فقال :

«وهو ضربان : ضرب يتوسط الكلام كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الربيع وديمة تهمى

وضرب يقع فى آخر الكلام ، كقوله تعالى :

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٦).

ثم قال مبينا موضع التكميل :

٤٦٣

«فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لفهم أن ذلتهم لضعف ، فلما قال :

(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) علم أنها تواضع منهم لهم. ومن أمثلته فى القرآن الكريم ، ولم يذكرها الخطيب قوله تعالى :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٧).

وهذا عكس الأول. لأن فيه استدراكا من ضعف أما هذا ففيه استدراك من قسوة ، لأنه لو لم يذكر (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) لوقع فى بعض النفوس وهم أنهم قساة فى التعامل. ولكن لما قال : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) علم أن مبعث شدتهم هو عدم موالاتهم لأهل الكفر وبخاصة أن الكفار فى عصر نزول القرآن كانوا شديدى القسوة على المؤمنين ، فعاملهم المؤمنون بالمثل.

ويجوز أن يكون التكميل هو الأول ، فيكون من الاستدراك من الضعف ، يعنى أنهم يستعملون الشدة فى مواضع الشدة ، ويستعملون اللين فى مواضع اللين.

وقال ابن أبى الأصبع : «ومن أحسن ما جاء فى هذا الباب وأنصعه قوله تعالى :

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (٨).

قال : «فإن المعنى قد تم عند قوله :

(ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لكن يبقى على ظاهر الآية إشكال من جهة أن الضعيف إذا سمع قوله بعد حكاية التكذيب لنبيه أمر نبيه أن يقول : إن ربهم ذو رحمة واسعة ، مقتصرا على ذلك ، يتوهم أن رحمته لسعتها ربما شملت من كذب نبيه ، فاحترس من هذا الاحتمال ، بما جاء به مكملا للمدح بالانتقام من الأعداء ، كما يمدح ـ يعنى الله ـ بالرحمة للأولياء فقال :

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فجعل الوعيد للمكذبين ، بعد تقديم الوعد للمصدقين ، فإن البلاغة توجب أن تكون الرحمة الموصوفة بالسعة للمحسنين ليقابل ذلك قوله :

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (٩)

وهذا توجيه سديد ، وفهم ثاقب لدقائق كتاب الله العزيز ، وروائع أسراره.

وبمثل هذا التوجيه السديد وجّه المؤلف قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) (١٠) قال :

فإن التكميل أتى فى هذه الآية بعد صحة التقسيم لأن الكذب .. على قسمين :

قسم مطلق ، وقسم مقيد ، فالمطلق قوله

٤٦٤

تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) والمقيد قوله تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) .. ثم المقيد أيضا على قسمين فى هذه الآية :

قسم كذب الكاذب فيه على الله سبحانه ، وقسم كذب الكاذب فيه على نفسه :

فالأول (أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) والثانى قوله (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) ولو وقع الاقتصار على قوله (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) لكان المعنى المراد تاما ..

لكن الله كمله بقوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) (١١).

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) اللسان ، وترتيب القاموس ، مادة : كمل.

(٢) إعجاز القرآن الكريم (١٦٠) طبعة قديمة.

(٣) الوافى (٣٧٤).

(٤) بديع القرآن (١٥١).

(٥) الإيضاح (٢٠٢) طبعة قديمة.

(٦) المائدة (٥٤).

(٧) الفتح (٢٩).

(٨) الأنعام (١٤٧).

(٩) بديع القرآن (١٤٤).

(١٠) الأنعام (٩٣).

(١١) بديع القرآن (١٤٥).

٤٦٥

الاعتراض

من معانى الاعتراض فى اللغة الإعاقة والدفع ، يقال اعترضه وعرض له : وقف فى طريقه ، ومنعه من التقدم ، وأعرض عنه :

انصرف عنه ، وعرّضه : جعله عرضة لكذا ، واعترض كذا : حال دونه (١).

وقد أكثر الأدباء والنقاد فى تعريفه ، وفى تحديد معناه. وأوردوا فيه ما لم يوردوه فى فنون القول :

فبعضهم يسميه التفاتا. قال الحاتمى عن الالتفات : وقد سماه قوم الاعتراض (٢).

ونحا ابن رشيق هذا المنحى (٣).

أما ابن المعتز فكان أقرب القدماء إلى تحديد هذا المعنى إذ قال :

«ومن محاسن الكلام والشعر أيضا :

اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه ، ثم يعود إليه فيتمه فى بيت واحد» (٤).

واستشهد عليه ببيت كثير عزة :

لو أن الباخلين ـ وأنت منهم ـ

رأوك تعلموا منك المطالا

والاعتراض فى بيت كثير حصل بجملة :

«وأنت منهم» حيث جاءت معترضة بين كلامين متصلين معنى ، وهما :

لو وأن واسمها ، ثم جواب لو ، وخبر أن.

وأصل الكلام : لو أن البخلاء رأوك تعلموا منك البخل والمراد من هذا الاعتراض العتاب والشكوى من الحبيبة إليها.

وفى القرن السادس الهجرى حسم الخطيب القزوينى الأمر فوضع للاعتراض تعريفا جامعا مانعا ، قال فيه :

«هو أن يؤتى فى أثناء الكلام ، أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر ، لا محل لها من الإعراب لنكتة» (٥) وتابعه عليه من جاء بعده من البلاغيين ، ومنهم شراح التلخيص (٦).

والاعتراض من الفنون البلاغية التى كثر ورودها فى القرآن الكريم ، وأريد منه معان غاية فى الروعة والإحكام.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً

٤٦٦

فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٧).

فجملة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) من كلام الله الخالص لا من كلامه المحكى عن امرأة عمران. وهى جملة اعتراضية ، وسرها البلاغى الذى جىء بها من أجله دفع توهم غير المراد ، حتى لا يقع فى فهم أحد أن قول امرأت عمران :

(رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) إخبار منها لله بأمر هو لا يعلمه ـ حاش لله ـ بل إنها تعتذر إلى الله وتتحسر على عدم استطاعتها الوفاء بنذرها ؛ لأنها نذرت أن تهب ما فى بطنها لخدمة بيت المقدس والذى يصلح لتأدية هذه الخدمة الذكور دون الإناث.

وقوله عزوجل :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (٨).

أصل الكلام هنا : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ... وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ولو لم تأت الجملة الاعتراضية بين (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وبين (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) لتوهم متوهم ، أو لادّعى متزندق أن الله ـ سبحانه كذّب قول المنافقين أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله. وأن فى هذا نفى أن يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا من عند الله.

ولدفع ذلك التوهم ، وقطع طرق ادعاء المتزندقين جىء بهذه الجملة الاعتراضية (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) وقد تحول بها قول الله تعالى :

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) إلى فضح هؤلاء المنافقين ، وأنهم يقولون بألسنتهم ما لم تعتقده قلوبهم.

أى هم كاذبون فى شهادتهم ، لا من حيث أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس رسولا من عند الله ـ ولكن من حيث أنهم لا يؤمنون بهذه الرسالة ، التى أثبتها الله لمحمد بأقطع البراهين (٩).

وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ

٤٦٧

سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (١٠) فقوله :

(سُبْحانَهُ) ـ اعتراض بين المعطوف عليه :

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) وبين المعطوف :

(وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ).

والمراد من هذا الاعتراض بلاغة هو تنزيه الله عزوجل عما نسبوه إليه اتباعا لأهوائهم وزيغ قلوبهم.

أ. د. / عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ، وترتيب القاموس لطاهر الزاوى ، مادة : عرض.

(٢) حلية المحاضرة (١ / ١٥٧).

(٣) العمدة لابن رشيق (٢ / ٥٤).

(٤) البديع لابن المعتز (٥٩).

(٥) التلخيص (١١٦).

* البرهان فى علوم القرآن الكريم (٣ / ٥٦)

(٦) الطراز (٢ / ١٦٧).

* عروس الأفراح ، لبهاء الدين السبكى (٣ / ٢٣٧).

* المطول (٢٩٦).

(٧) آل عمران (٣٥ ـ ٣٦).

(٨) المنافقون (١).

(٩) الكشاف (٤ / ١٠٧).

(١٠) النحل (٥٧).

٤٦٨

الاستقصاء

الاستقصاء لغة : التتبع والإبعاد ، وقصى فلان بعد. واستقصيت الأمر تتبعته حتى نهايته (١) والاستقصاء فى اصطلاح البلاغيين :

أن يتناول الشاعر (أو المتكلم) معنى فيستقصيه إلى أن لا يترك فيه شيئا لأحد يقوله من بعده (٢).

وتحدث عنه الإمام عبد القاهر الجرجانى ، ومثّل له بكلامين من شعر ابن المعتز معناهما العام واحد ، إلا أن أحدهما استقصى كل ما يمكن أن يقال فى هذا المقام أما الثانى فقد خلا من الاستقصاء ، وترك لقائل آخر فيه مقالا (٣).

وليس الاستقصاء خاصا بالشعر ، ولا بكلام الناس بل ورد منه نماذج كثيرة فى كتاب الله العزيز ذكر منها البلاغيون قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٤).

ففي هذه الآية ضروب وألوان من الاستقصاء ، هذا بيانها.

«وذلك أنه سبحانه بعد قوله (جَنَّةٌ) التى لو اقتصر على ذكرها لكان كافيا ، لم يقف عند ذلك حتى قال فى تفسيرها (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) لأن لفظة الجنة تطلق على أى شجر ساتر بظل ورقه الأرض فإذا قال (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) كان مصاب ربها «صاحبها» بها أعظم. ثم لم يقف عند ذلك. حتى قال سبحانه (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) متمما لوصفها بذلك.

ثم كمل وصفها بأن قال عزوجل : (فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) لأن وصفها بالنخيل والأعناب لا يكون به وصفا كاملا. فأتى بكل ما يكون فى الجنان ليشتد الأسف على إفسادها.

ثم قال فى وصف صاحب الجنة (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) ثم استقصى المعنى فى ذلك بما يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ) حتى وصف الذرية بالضعف ، ثم ذكر استئصال تلك الجنة التى ليس لهذا

٤٦٩

الذى أصابه الكبر ، وليس لذريته الضعفاء غيرها بالهلاك في أسرع وقت ، حيث قال :

(فَأَصابَها إِعْصارٌ) ... ولم يقتصر على ذلك الإعصار ... فقال (فِيهِ نارٌ) ثم لم يقف عند ذلك حتى أخبر سبحانه باحتراقها ؛ لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا تفى باحتراقها لما فى الجنة من الأنهار ورطوبة الأشجار ، فاحترس بقوله (فَاحْتَرَقَتْ) وهذا أحسن استقصاء وقع فى كلام ، وأتمه وأكمله» (٥).

ومن صور الاستقصاء فى القرآن الكريم ، ولم يذكره الأقدمون قوله تعالى :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦).

فقد استقصت هذه الآية كل صفات الجلال والكمال والجمال لله عزوجل.

وبلاغة الاستقصاء فى شموله للمعانى التى يقتضيها المقام والاستئثار بها ، وسد كل فجوة يمكن أن تدع مقالا للاحقين. فهو الكلمة الأخيرة فى موضوعه.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) لسان العرب مادة : قصا.

(٢) تحرير التحبير (٥٤٠) وبديع القرآن المجيد (٢٤٧).

(٣) أسرار البلاغة (١٥٢ ـ ١٥٣) ت : محمد رشيد رضا.

(٤) البقرة (٢٦٦).

(٥) بديع القرآن المجيد (٢٤٩ ـ ٢٥٠) ومعجم المصطلحات البلاغية (١٩٤) د. أحمد مطلوب.

(٦) آل عمران (٢٦).

٤٧٠

الإيضاح

ومن الإطناب فن يقال له الإيضاح ، والإيضاح والتوضيح لغة : الكشف والإبانة ـ ورفع الغموض يقال : وضح الشيء وضوحا إذا ظهر وانكشف ، وأوضحه ووضحه. أبانه وأظهره ، وأزال ما به من غموض (١). ومنه :

الضحى ؛ لأنه أول النهار بعد ذهاب الليل.

أما تعريف الإيضاح بلاغة ، فقد عرفه ابن أبى الأصبع بقوله :

«هو أن يذكر المتكلم كلاما فى ظاهره لبس ، ثم يوضحه فى بقية كلامه» (٢).

وتناقل البلاغيون عن ابن أبى الأصبع هذا التعريف كابن مالك (٣). والنويرى (٤) ، والعلوى (٥) ، والحموى (٦) ، والسيوطى (٧) ، والمدنى (٨).

وفرق ابن أبى الأصبع بين التفسير ، وبين الإيضاح بأن التفسير البديعى هو تفصيل المجمل مثل :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

أما الإيضاح فخاص برفع ما يظهر فى الكلام من لبس وإشكال فيه لفتا للذهن عند سماع الكلام.

والإيضاح ورد فى كتاب الله العزيز مرات ، وكان له دلالات حكيمة ، اقتضاها المقام ، فمن ذلك قوله تعالى :

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (٩).

هذه الآية تتحدث عن نعيم أهل الجنة وطعامهم وأنهم يقولون كلما يرزقون طعاما.

(هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ).

لكن كلامهم هذا الذى حكاه الله عنهم يثير فى نفس السامع تساؤلا فحواه :

هل طعام أهل الجنة نوع واحد يتناولونه فى كل وجبة لا يتغير؟ ومتعة الطعام فى تنوعه لا فى توحده؟!

ولكن لما قال عزوجل :

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ارتفع ذلك التساؤل لأن هذه العبارة أفادت أن طعام أهل الجنة متنوع مختلف لكنه متشابه ، فوضح الأمر ؛ لذلك كان قوله سبحانه.

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) إيضاحا ؛ لأنه رفع الإشكال الذى ثار فى الذهن من قولهم :

٤٧١

(هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) وهذا ملمح دقيق لطيف كما ترى.

ومن الإيضاح فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٠).

هذا خطاب من الله لليهود وقت كان القرآن ينزل. وهو وقت خلا من أنبياء الله عزوجل إلا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

كما أن اليهود الذين خاطبهم القرآن فى عصر النزول لم يقتلوا نبيا ، وإنما الذى قتل الأنبياء هم آباؤهم الأقدمون.

لذلك كان فى قوله تعالى :

(فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) إشكال ، حاصله أن اليهود فى عصر الرسالة المحمدية لم يكن منهم قتل للأنبياء وإن كان منهم كفر برسالة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولكن لما قال الله عقب هذا (مِنْ قَبْلُ) زال الإشكال واستقام التاريخ على سوقه وظهر أن الذى كان يقتل الأنبياء هم يهود الأمس لا يهود عصر نزول القرآن. وإنما واجه الله بهذه الجريمة غير فاعليها المباشرين ، وهم يهود عصر الرسالة المحمدية ، لأنهم راضون بما فعل أسلافهم ، فصاروا مثلهم فى اقتراف هذه الجريمة النكراء.

ومن الإيضاح فى القرآن الكريم قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١١).

لأن فى قوله تعالى (وَأُولِي الْأَمْرِ) إشكالا ، لأنه يشمل كل ولاة الأمر ، وإن كانوا من غير المؤمنين. وهذا لم يؤذن به فى الإسلام. فلما قال عزوجل (مِنْكُمْ) ارتفع الإشكال ، وحصرت ولاية الأمر فى المؤمنين دون غيرهم من أولياء الأمر والسلاطين.

إذن معنى قوله (مِنْكُمْ) إيضاح كاشف لحقيقة المراد.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) اللسان ومعاجم اللغة ، مادة : وضح.

(٢) بديع القرآن (٢٥٩) وتحرير التحبير (٥٥٩).

(٣) المصباح (٩)

(٤) نهاية الأرب (٧ / ١١٩).

(٥) الطراز (٣ / ١٠١).

(٦) خزانة الأدب (٢ / ٣٨٣).

(٧) شرح عقود الجمان (١٤٠).

(٨) أنوار الربيع (٦ / ٣١).

(٩) البقرة (٢٥).

(١٠) البقرة (٩١).

(١١) النساء (٥٩).

٤٧٢

الإيغال

الإيغال فى اللغة السير حتى النهاية ، حسيا كان أو معنويا ، ومن معانيه المبالغة فى الطلب حتى لا يترك شيئا يمكن الوصول إليه (١).

وأصله : الإوغال ؛ لأنه من أوغل يوغل.

سكنت الواو بعد كسر فقلبت ياء ، كأوحى إيحاء ، وأوعز إيعازا. ومعناه الاصطلاحى عند البلاغيين مطابق لمعناه عند اللغويين ، وقد مهد الأصمعى لإبراز هذا المعنى فكان سابقا فيه غير مسبوق ، ولكنه لم يسمه بهذا الاسم (الإيغال) مع حومه حول معناه :

فقد ذكر قدامة بن جعفر أن أبا العباس محمد بن يزيد المبرد قال :

«حدثنى التوزى قال :

«قلت للأصمعى : من أشعر الناس؟

قال : من يأتى إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا أو إلى الكبير فيجعله بلفظه خسيسا ، أو ينقضى كلامه قبل القافية ، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى قال : قلت : نحو من؟ قال : نحو ذى الرمة حيث قال :

قف العيس فى أطلال مية فاسأل

رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل

فتم كلامه قبل «المسلسل» ثم قال :

المسلسل فأفاد شيئا ـ يعنى معنى جديدا.

ثم قال :

أظن الذى يجدى عليك سؤالها

دموعا كتبديد الجمان المفصّل

فتم كلامه ، ثم احتاج إلى القافية ، فقال :

«المفصّل» فزاد شيئا» (٢).

ثم عرّفه قدامة بقوله : «الإيغال هو أن يأتى الشاعر بالمعنى فى البيت تاما ، من غير أن يكون للقافية فى ما ذكره صنع ، ثم يأتى بها ـ يعنى القافية ـ لحاجة الشعر إليها ليكون شعرا. فيزيد بمعناها فى تجويد ما ذكره فى البيت» (٣).

ومثّل له بقول امرئ القيس :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذى لم يثقب

٤٧٣

يريد أن الإيغال فى زيادة (لم يثقب) لأن المعنى تم بدونها ـ فزاد فيه شيئا.

وعرّفه أبو هلال نحو هذا التعريف ، ذاكرا ما ذكره قدامة عن التوزى عن الأصمعى (٤).

أما ابن أبى الأصبع فقال :

«هو أن يستوفى معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه ، ثم يأتى بالمقطع فيزيد معنى آخر ، يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا وحسنا» (٥).

ومن أمثلة الإيغال فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٦) فإن قوله تعالى (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) إيغال أتى بعد تمام المعنى فى قوله (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) فزاد به معنى ، وهو إثبات توليهم مدبرين حال الدعاء.

وفى ذلك توكيد لنفى الفهم عنهم من جهتين :

الأولى : الصمم الذى فى آذانهم.

الثانية : كونهم ولّوا فارين معرضين عن الداعى وكل جهة من الجهتين وافية بنفى الفهم عنهم.

ومن صور الإيغال فى القرآن الكريم قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٧) لأن قوله تعالى (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) إيغال بعد قوله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) لأن أحسنية حكم الله لا يدركها إلا المؤمنون الموقنون.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) لسان العرب ، وترتيب القاموس ، مادة وغل.

(٢) نقد الشعر (١٩٤).

(٣) نفس المصدر.

(٤) الصناعتين (٣٠١).

(٥) بديع القرآن (٩٢).

(٦) النمل (٨٠).

(٧) المائدة (٥٠).

٤٧٤

الإيجاز

الإيجاز من أدق الأساليب وأكثرها حكمة ، وأملئها بلاغة ، وأوسعها خبرة ، وأغزرها معنى ، وهو شطر البلاغة ، أو هو كل البلاغة كما يرى قوم من خبراء الأساليب ، وصيارف الكلام.

ومعنى الإيجاز فى اللغة يدور حول الإقلال والاختصار من أوجز بمعنى اختصر ، وأصله الإوجاز ، سكنت الواو بعد كسر فقلبت ياء ، والكلام الوجيز هو الخفيف ، أو المختصر (١).

أما الإيجاز فى اصطلاح البلاغيين فيدور حول قلة الألفاظ مع كثرة المعانى ، وكل تعريفاته فى علم المعانى تستهدف هذا الغرض.

فالإيجاز عند البلاغيين أحد أقسام الكلام الثلاثة وهى :

الإطناب بأنواعه ، والمساواة ، ثم الإيجاز ، ولكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة مقام يقتضيه ، وحال تستدعيه ، وإيقاع كل قسم في مقامه هو البلاغة وليس من البلاغة الإيجاز فى مقام الإطناب ، ولا الإطناب فى مقام الإيجاز ، ولا هما فى مقام المساواة ولا المساواة فى مقام أحدهما.

ولذلك قال أبو هلال العسكرى :

إن الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى جميع الكلام ولكل نوع منه ، ولكل واحد منهما موضعه. فالحاجة إلى الإيجاز فى موضعه ، كالحاجة إلى الإطناب فى مكانه. فمن أزال التدبير فى ذلك عن وجهته واستعمل الإطناب فى موضع الإيجاز ، واستعمل الإيجاز فى موضع الإطناب أخطأ» (٢).

وسماه الرمانى فقال :

«الإيجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف» (٣).

وتابعه ابن رشيق ولم يزد عليه (٤).

وسماه ابن سنان الخفاجى ب «الإشارة» وعرّفه بقوله :

«هو أن يكون المعنى زائدا على اللفظ» (٥).

وقال الرازى :

«الإيجاز العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من غير إخلال» (٦).

وقال الزملكانى :

«هو إثبات المعانى المتكثرة باللفظ القليل» (٧).

٤٧٥

أما الخطيب القزوينى فقد عرف الإيجاز بقوله :

«تأدية المعنى الكثير فى لفظ قليل» (٨).

هذه التعريفات كلها ، وغيرها كثير ، لم تخرج عما أجملناه من قبل من أن الإيجاز فى الكلام : هو الدلالة على المعانى الكثيرة بألفاظ أقل منها ، بشرط عدم الإخلال فى تأدية المعنى المراد.

والإيجاز ، لما يحمل من دقائق وأسرار ، كثر وروده فى القرآن الكريم ، كثرة مستفيضة ، ولم تخل منه آية ، أو سورة من آيات القرآن الكريم ، حتى فى المواضع التى اصطلح على وسمها بالإطناب أو المساواة تشتمّ فيها رائحة الإيجاز ، لذلك نرى بعض الدارسين المحدثين يذهب إلى أن القرآن كله إيجاز ، يستوى فى ذلك مواضع إطنابه ، ومواضع مساواته ، وأن كل معنى مصور على سبيل القصد ، غير مائل فيه إلى الإسراف (٩).

وهذا نموذج توضيحى لفكرة الإيجاز فى كتاب الله العزيز (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) (١٠) هذه الآيات تحكى مشاهد من قصة يوسف عليه‌السلام فى مصر. وقد شاع الإيجاز فى مواطن فيها نكتفى بذكر ما يأتى منها :

* حذف (أرى) فى (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) حيث لم يقل : وأرى سبع سنبلات.

واكتفى بذكر «واو العطف» فيها.

* حذف كلمة سبع فى قوله (وَأُخَرَ يابِساتٍ) حيث لم يقل : وسبع أخر يابسات.

مع ملاحظة حذف الفعل «أرى» مع حذف (سبع).

* حذف المسند إليه (المبتدأ) فى (قالُوا أَضْغاثُ) والتقدير : قالوا هذه الرؤيا أضغاث أحلام ، مع ملاحظة حذف جملة ، الرؤيا مع حذف المسند إليه.

* حذف المتعلق بالفعل (فَأَرْسِلُونِ) والتقدير : أرسلونى إلى يوسف فى السجن وهو فتى عالم بتفسير الأحاديث.

* حذف إذن الملك وأعوانه له بالذهاب إلى يوسف عليه‌السلام والتقدير : فأذنوا له وأرسلوه إلى يوسف فى السجن.

٤٧٦

* حذف الكلام الآتى :

فذهب إلى يوسف فى السجن ، فاستأذن الحراس فى الدخول عليه ، وأخبرهم بالمهمة التى أذن له فيها الملك وأعوانه فاستوثقوا من صدق ما قال فأذنوا له بالدخول على يوسف فدخل ثم قال ليوسف. (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)

والذى يدل على هذا الكلام الكثير المحذوف هو طرفا الكلام المذكوران وهما :

(فَأَرْسِلُونِ)

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)

لأن بين هذين الطرفين تلازما طبيعيا فى الوجود الخارجى ؛ لأنهم لو لم يأذنوا له ويرسلوه ما حدث قوله ليوسف عليه‌السلام.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ)

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) معاجم اللغة ، مادة : ووجز.

(٢) الصناعتين (١٩٠).

(٣) النكت فى إعجاز القرآن (٧٠).

(٤) العمدة (١ / ٢٥٠).

(٥) سر الفصاحة (٢٤٣).

(٦) نهاية الإيجاز (١٤٥).

(٧) التبيان (١١٠).

(٨) التلخيص (١٠٦).

(٩) هو الدكتور محمد عبد الله دراز فى النبأ العظيم (١١١).

(١٠) يوسف (٤٣ ـ ٤٦).

٤٧٧

الإيجاز بالحذف

أجمع البلاغيون على تقسيم الإيجاز قسمين :

الأول : إيجاز الحذف ، والثانى : إيجاز القصر.

وضابط إيجاز الحذف ـ عموما ـ عندهم ، هو أن يكون فى الكلام لفظ ما محذوفا حذفا ظاهرا بحيث يدركه الناظر فى الكلام ، وهو على درجات :

* أن يكون المحذوف حرفا من بنية الكلمة كالألف والياء.

* أن يكون المحذوف أداة من أدوات المعانى مثل فى ولا.

* أن يكون المحذوف كلمة مفردة اسما كانت أو فعلا.

* أن يكون المحذوف جملة اسمية أو فعلية.

* أن يكون المحذوف أكثر من جملة ، مهما طال الكلام المحذوف.

ووضعوا للحذف شرطين لازمين :

أحدهما : أن يدعو إليه داع بلاغى يجعل الحذف أبلغ من الذكر.

الثانى : أن يكون فى الكلام بعد الحذف دليل يدل على المحذوف (١).

فإذا تخلف الشرط الأول سموا الحذف اعتباطا ، أى خاليا من الحكمة. وإن وجد الشرط الثانى.

وإذا تخلف الشرط الثانى وحده سموا الحذف إجحافا أى ظلما وقع على الكلام وإن وجد الشرط الأول.

وإذا تخلف الشرطان معا سقط الكلام عن درجة البلاغة وصار نوعا من الهذيان.

ـ فحذف الحرف من بنية الكلمة يكثر فى القرآن الكريم فى ثلاثة أحرف :

هى الواو ، والألف ، والياء (٢) ، وهذا يتضح من النماذج الآتية :

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (٣).

حذف «الواو» من الفعل (يَدْعُ) لغير علة صرفية أو نحوية والذى اقتضى حذفه هو الرمز إلى جهل الإنسان وسرعة دعائه طمعا فى الخير ، وهو جاهل بعواقب الأمور (٤) والبلاغيون يسمون حذف الحرف من بنية الكلمة ب «الاقتطاع (٥)» ومنه قوله تعالى :

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٦)

فحذف «الواو» فى الآية لم يكن لعلة صرفية أو نحوية وإنما حذف رمزا إلى معنى

٤٧٨

لطيف ، وهو أن هذا الدعاء أمر غيبى الآن ، ولن يكون إلا يوم القيامة (٧).

أما حذف «الألف» من بنية الكلمة لغير علة صرفية أو نحوية فمنه قوله تعالى :

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (٨).

حذف .. الألف» من كلمة اسم والذى اقتضى حذفه الرمز إلى أن المضاف إليه أعظم الأسماء ومبدأ كل شىء ، وهو الله عزوجل ويشترط لحذفه شروط.

ـ أن يكون مضافا إلى اسم الجلالة «الله» دون غيره من أسماء الله وصفاته ، مثلك رب ، فقد جاء معه مذكورا فى نحو : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩).

ـ أن يكون مجرورا بحرف «الباء»

وكذلك حذف «الألف» فى قوله تعالى فى كل اسم أعجمى رمزا إلى أعجمية هذا الاسم مثل «إبراهيم» و «إسحاق» و «إسماعيل» حيث وردت فى كتاب الله العزيز وحذف «الياء» من كلمة «هادى» فى قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) (١٠).

وفى قوله تعالى : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) (١١) حذف «الياء» من (هادى) رمز به إلى أن فعل الهداية فى القلوب أمر يختص به الله دون غيره. أما فى «اتبعن» فحذف «الياء» رمزا إلى الهداية المعنوية غير الحسية. هذا الحذف (حذف الحرف فى بنية الكلمة) كثير جدا فى القرآن الكريم ، وهو إحدى خصوصيات الرسم العثمانى للمصحف الشريف ، واهتمام البلاغيين بهذا النوع من الإيجاز ـ وهو أول صور الإيجاز لقلة المحذوف من الكلمة الواحدة المفردة فيه ـ قليل ، أما اهتمام الباحثين فى «علوم القرآن» فقد بلغ أقصى مدى.

فأبو عمرو الدانى كتب فيه فصولا مطولة ، أحصى فيها مواضع هذا الحذف كلمة كلمة ، فى سور القرآن كله ، لكنه وقف عند حد الإحصاء ، ولم يعلل لما ذا كان الحذف إلا نادرا. وذلك فى كتابه «المقنع فى رسم مصاحف الأمصار» وأبو العباس أحمد بن محمد الأزدى المراكشى المعروف بابن البناء ، المتوفى عام ٧٢١ ه‍ وضع فى الكشف عن أسرار حذف الحروف وزيادتها فى كلمات القرآن كتابا سماه (عنوان الدليل فى مرسوم خط التنزيل) أبدع فيه وأمتع. وعنه أخذ الإمام بدر الدين الزركشى فى كتابه «البرهان فى علوم القرآن. وكذلك الإمام جلال الدين السيوطى فى كتابه المعروف ب «الإتقان فى علوم القرآن»

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) شروح التلخيص (٢ / باب الحذف).

(٢) البرهان فى علوم القرآن.

(٣) الإسراء (١١).

(٤) البرهان (١ / ٢٩٨).

(٥) الصاحبى (٢٨٨) لابن فارس.

(٦) القمر (٦).

(٧) البرهان (٣٨٨).

(٨) هود (٤١).

(٩) الواقعة (٧٤).

(١٠) الروم (٥٣).

(١١) آل عمران (٢٠).

٤٧٩

الإيجاز بحذف الأداة

الإيجاز بحذف الأداة يأتى فى الدرجة الثانية لصور الإيجاز بالحذف ، بعد الإيجاز بحذف أحد حروف الكلمة ؛ لأننا نسير هنا مع الإيجاز سيرة تصاعدية.

والمراد بالأداة التى يترتب على حذفها نوع ما من الإيجاز هى أحرف المعانى ، التى تؤدى معنى فى الجملة ولا تستقل هى بدلالة محددة مفيدة ، والأدوات العاملة فى غيرها من الأسماء والأفعال ، وفى عبارة أشمل ، ما لا يظهر له معنى يحسن السكوت عليه إلا بعد انتظامها فى الجمل والتراكيب.

ومن الإيجاز بحذف الأداة فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (١)

ففي هذه الآية إيجاز بحذف الأداة ، وهى «لا» النافية قبل الفعل (تَفْتَؤُا) وهو جواب القسم (تَاللهِ) ويدل على حذفها أمران : ـ

الأول : أنه لو كان (تَفْتَؤُا) مثبتا لوجب اقترانه بلام الابتداء ونون التوكيد (٢). ولقيل فيه : (لتفتأنّ) فخلوه من لام الابتداء والتوكيد بالنون دليل على أنه منفى ، ونفيه حاصل ب «لا» المحذوفة.

الثانى : أن زال وتفتأ وبرح وانفك لا تعمل عمل «كان» إلا باعتمادها على النفى ، وأم الباب فيه هى «لا» ومثله فى حذف هذه الأداة «لا» قول امرئ القيس ، حين أمرته امرأة كان يهواها وهو فى زيارة لها فأمرته بالخروج خشية الفضيحة ، فقال لها :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطّعوا رأسى لديك وأوصالى

أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية الكريمة ، فهو ضيق المقام عند جلساء يعقوب عليه‌السلام ، من كثرة ذكره ليوسف عليه‌السلام ، والشعور بالضيق سبب من أسباب الحذف واختصار الكلام.

أما الداعى للحذف فى بيت امرئ القيس ، فهو كما ترى تحرى استقامة الوزن الشعرى أولا ثم ضيق المقام ثانيا.

ومن الإيجاز بحذف الأداة فى القرآن الكريم قوله تعالى :

٤٨٠