الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

جمع القرآن

ذكر الشيخ غزلان فى كتابه (البيان فى مباحث القرآن) أن جمع الشيء فى اللغة هو :

استقصاؤه والإحاطة به. فجمع القرآن معناه :

استيعابه والإحاطة به. وذلك بطريقتين هما :

حفظه كله ، أو كتابته كله ، فالأولى فى الصدور ، والثانية فى السطور.

وقد وردت الروايات الصحيحة باستخدام لفظ (الجمع) فى التعبير عن الطريقتين : فقد روى عن أنس أنه سئل عمّن جمع القرآن فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : أتم حفظه. وقول عبد الله بن عمرو : جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة.

ومن الثانى : قول أبى بكر لزيد بن ثابت رضي الله عنه : (تتبع القرآن فاجمعه) أى اكتبه. وقد توفر للقرآن الجمع بنوعيه منذ أول عهده إلى الآن تحقيقا لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).

أوّلا : جمع القرآن بمعنى حفظه :

بدأ هذا الجمع من أول نزول القرآن ، وبالطبع كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول الحفاظ وسيدهم ، وقد تكفل الله ـ سبحانه وتعالى ـ بجمعه له فى صدره قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآيات الثلاث (٢). فكان يمليه ويقرأ به صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قيامه ، وكان يعارضه به جبريل فى كل عام مرة.

أما صحابته ـ رضى الله عنهم ـ فكانوا أهل حفظ ، وعربا خلصا ، لهم من صفاء القريحة ما ساعدهم على حفظه ، هذا بجانب حرصهم الشديد على القرآن ؛ لأنه معجزة الله الباهرة ، ومصدر الشريعة ، وحفظه وقراءته وتلاوته لها الثواب والأجر العظيم ، وقد وعد الله ـ سبحانه ـ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يكون الكتاب المنزل عليه لا يغسله الماء ، ففي صحيح مسلم فى كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها فيه :

«وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرأه نائما ويقظان». الحديث ؛ ولذا قال الحافظ ابن الجزرى : «إن الاعتماد فى نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب ، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة». (٣) ثم بيّن أن أهل الكتب السابقة لم تكن لهم نفس الخصيصة ،

٢٠١

فكل قراءتهم كانت من الكتب ، ولكن هذه الأمة تحفظ كتابها بحركاته وسكناته. ونقل عن أبى عبيد القاسم بن سلام أنه فى أول كتابه «القراءات» ذكر كثيرا من الصحابة الذين رويت عنهم القراءة. وذكر ابن الجزرى أن هذه الكثرة التى ذكرها أبو عبيد كانت على جهة المثال فقط لا الحصر. فلا شك أن عددا كبيرا من الصحابة كان يحفظ القرآن.

أما ما روى من أحاديث فى حصر من جمع القرآن فى أربعة هم : أبىّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد.

الحديث فى صحيح البخارى عن أنس (٤).

وفى رواية أخرى : استبدال أبىّ بأبى الدرداء ، وفى الرواية الثانية : حصر الجامعين بالنفى فى الأربعة فقال : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة. فقد ذهب بعض العلماء إلى اضطراب هذه الروايات وتضعيفها ، مع ملاحظة كونها موقوفة على الصحابى. وهذا ما مال إليه القاضى الباقلانى فى «الانتصار» ولكنه ذكر أوجها متكلفة فى تأويله.

ومن أمثل ما قيل فى توجيه روايتى أنس ، ما ذكره الحافظ ابن حجر وملخصه : أن أول الحديث كان فيه نوع تفاخر بين الأوس والخزرج ، فتفاخر الأوس بأربعة ، وتفاخر الخزرج بأربعة جمعوا القرآن. ثم ذكر أنه قد يراد هذا الحصر فى الخزرج فقط ، فلا ينفى ذلك عن غيرهم من الصحابة. ونقل احتمال التوجيه بأن أنسا اقتصر عليهم لتعلق غرضه بهم ، وحكم عليه بالبعد. ثم ذكر أن الظاهر من أحاديث كثيرة حفظ أبى بكر الصديق للقرآن فى حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قدّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة بالناس وكان قد قال : «يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله».

وذكر عن علىّ أنه جمع القرآن على ترتيب النزول بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعبد الله بن عمر ، وابن مسعود ، وسالم مولى أبى حذيفة روى عنهم جمعهم للقرآن. وقد ذكر ابن أبى داود فى كتاب «الشريعة» تميم بن أوس الدارى ، وعقبة بن عامر أنهما جمعاه. وعدّ معهم أبو عمرو الدانى : عمرو بن العاص ، وسعد بن عبادة ، وأم ورقة.

ثانيا : جمع القرآن بمعنى كتابته :

لكتابة القرآن ثلاثة عهود : أحدها : عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثانيها : عهد أبى بكر الصديق رضي الله عنه ، ثالثها : عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه.

(أ) عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وقعت الكتابة للقرآن رسميا وشخصيا ، فقد كتب القرآن بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على

٢٠٢

المستوى الرسمى بكتابة القرآن ، واتخذ كتابا للوحى ، وقد بوب البخارى بابا سماه (كاتب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم يذكر فيه إلّا زيد بن ثابت ، وذكر الحافظ أربعة عشر. وما يدلّ على الكتابة الرسمية ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس عن عثمان بن عفان قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يأتى عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذه فى السورة التى فيها كذا» (٥).

وما أخرجه الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : «كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نؤلف القرآن من الرقاع» (٦) الحديث. قال الحاكم : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى.

فهذان الحديثان فوق دلالتهما على الكتابة الرسمية يدلان على التوقيف فى ترتيب آيات السور.

وتأليف القرآن المقصود : جمعه وترتيبه كما صرح بذلك الحافظ فى «الفتح». (٧)

أما الكتابة على المستوى الشخصى ، فلا شك أن الصحابى الذى كان يعرف الكتابة كان يكتب لنفسه ، ويدلّ على وقوع تلك الكتابة حديث أبى سعيد عند مسلم فى (كتاب الزهد باب التثبت وحكم كتابة العلم) ، أن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تكتبوا عنى ، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه». وسواء كان النهى لعدم اختلاف الكتاب بالسنة ، أم كان النهى بخصوص كتابة السنة مع القرآن ، أم لتوجيه الهمة للقرآن وحده سواء علينا أكان هذا أم ذاك ، فإن الحديث صريح فى كتابة القرآن ، بل فيه حض عليه. فالكتابة على المستويين تمت ووقعت فى عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والسؤال : على أى شىء كانوا يكتبون؟

يقول زيد بن ثابت فى حديثه فى جمع القرآن : «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب ، واللخاف ، وصدور الرجال». وقد شرح الحافظ بعض هذه الألفاظ فذكر : أن العسب ـ بضمتين ثم موحدة ـ جمع عسيب ، وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون فى الطرف العريض. وقيل : العسيب طرف الجريدة العريض الذى لم ينبت عليه الخوص ، والذى ينبت عليه الخوص هو السعف.

ووقع فى رواية ابن عيينة عن ابن شهاب :

«القصب ، والعسب ، والكرانيف ، وجرائد النخل». ووقع فى رواية شعيب «من الرقاع جمع رقعة ، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد». وفى رواية عمار بن غزية : «وقطع الأديم» وفى رواية ابن أبى داود من طريق أبى داود الطيالسى عن إبراهيم بن سعد :

«والصحف».

٢٠٣

قوله : «واللخاف» بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وآخره فاء ، جمع لخفة ، بفتح اللام وسكون المعجمة ، ووقع فى رواية أبى داود الطيالسى فى روايته : هى «الحجارة الرقاق» وقال الخطابى : صفائح الحجارة الرقاق. قال الأصمعى : فيها عرض ودقة. وسيأتى للمصنف فى الأحكام عن أبى ثابت أحد شيوخه أنه فسره بالخزف ـ بفتح المعجمة والزاى ثم فاء ـ وهى الآنية التى تصنع من الطين المشوى ، ووقع فى رواية شعيب :

«والأكتاف» جمع كتف وهو العظم الذى للبعير أو الشاة ، كانوا إذا جف كتبوا فيه. وفى رواية عمارة «وكسر الأكتاف» ، وفى رواية ابن مجمع عن ابن شهاب عند ابن أبى داود «والأضلاع» ، وعنده من وجه آخر «والأقتاب» ـ بقاف ومثناة وآخره موحدة ـ جمع قتب ـ بفتحتين «وهو الخشب الذى يوضع على ظهر البعير ليركب عليه ، وعند ابن أبى داود أيضا فى «المصاحف» من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : «قام عمر فقال : من كان تلقى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من القرآن فليأت به.

وكانوا يكتبون ذلك فى الصحف والألواح والعسب». (٨) انتهى المقصود منه.

وترك الحافظ ـ رحمه‌الله ـ مما يستحق الشرح كلمتى «الكرانيف ، والقصب» ، أما الكرانيف : ففي اللسان : (الكرناف والكرناف «أى بكسر الكاف وضمها» ، أصول الكرب التى تبقى فى جذع السعف وما قطع من السعف فهو الكرب ـ الواحدة كرنافة ـ وفيه قول ابن سيده : الكرنافة والكرنوفة ـ أصل السعفة الغليظ الملتزق بجذع النخلة ، وقيل : الكرانيف :

أصول السعف الغلاظ العراض التى إذا يبست صارت أمثال الأكتاف. وفى حديث الزهرى : والقرآن فى الكرانيف ،

يعنى : أنه كان مكتوبا عليها قبل جمعه فى الصحف).

وأما القصب فإنما يصلح من معانيه هنا ما فى اللسان وغيره من كونه ثياب الكتان الرقاق الناعمة. فيحتمل أنهم كانوا يكتبون أيضا على قطع من قماش الكتان الرقيق الناعم.

كيف كانت كتابتهم؟ : لا نعرف للقوم كيفية معينة يومئذ فى الكتابة. كما لا نعرف هذه الكيفية فى كتابتهم للصحف البكرية.

والظاهر أنها كانت مماثلة أو عين الكيفية التى كتبوا بها المصاحف العثمانية ، فإن أحدا لم ينقل فرقا فى كيفية الكتابة بين العهود الثلاثة فيما أعلم.

الباعث على كتابة القرآن فى هذا العهد :

على الرغم من أن القرآن كان محفوظا بأكمله للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحفوظا بالتواتر عند أصحابه ، فقد كتب القرآن فى هذا العهد ، وذكر الشيخ غزلان لهذه الكتابة أسبابا ثلاثة :

٢٠٤

أحدها : المحافظة على النص القرآنى من أن يطرأ عليه تغير ؛ لأن الكتابة تظاهر الحفظ.

ثانيها : تمام العناية به وزيادة التوثق له فلا يكون لخوف الضياع عليه أدنى شائبة.

ثالثها : الفائدة العظيمة التى ظهرت بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند جمع القرآن فى العصر البكرى ، حيث كان للصحابة فى هذا الجمع مصدران اعتمدوا عليهما.

لما ذا لم يجمع النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن فى مصحف واحد؟ السؤال : لم لم يتحد نوع ما كتب عليه ليسهل الرجوع إليه؟ أول جواب على ذلك : أن فى عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على التيسير ورفع الحرج ؛ فمن ثم اختلف النوع ؛ لأن المهم هو سرعة التدوين والكتابة ، بخلاف ما كان عليه الأمر فى عهد الصديق أبى بكر.

وقد جلّى الجواب الشيخ غزلان فذكر : أن القرآن كان يتتابع نزوله ، فكان صعبا أن نجعله فى كتاب واحد ، وأن القرآن فى عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عرضة للنسخ ، وعليه يكون عرضة لتغيير الكتابة بعد الجمع والترتيب.

وكانت الآيات الكثيرة تنزل ثم يعلم الترتيب فلو وضعت فى مصحف واحد لكان فى المشقة ما فيه.

(ب) ما وقع من الجمع الكتابى فى عهد أبى بكر للقرآن :

قتل أثناء حروب الردة سبعون من حفاظ القرآن الكريم فى يوم اليمامة خاصة ، فخشى على القرآن أن يضيع منه شىء ، وخاصة أن ما كتب فى عهد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أشتاتا فيمكن أن يضيع منه شىء مع من مات ، فمن ثم كان الجمع فى العهد البكرى. فقد أخرج البخارى من صحيحه فى كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن عن زيد بن ثابت قال : «أرسل إلىّ أبو بكر الصديق بعد مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه : إن عمر أتانى فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإنى أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال عمر : هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك ، ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر. قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمرنى به من جمع القرآن قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : هو والله خير.

٢٠٥

فلم يزل أبو بكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدر أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ، حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبى بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه».

ويستفاد من هذا الحديث أمور :

أولها : إعطاء كل حال حكمها اللائق بها ؛ ولذا عملوا على جمع القرآن ؛ لأن الحال تغير عنه فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فخوفا من ضياع شىء من القرآن جمع أبو بكر الصديق القرآن بعد أن شرح الله صدره وصدر عمر وزيد بن ثابت لذلك.

ثانيها : اختيار الأكفاء فى المهام الصعبة كاختيار أبى بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن لتوفر العقل والأمانة والديانة والشباب فيه.

والممارسة والخبرة التى لها دخل عظيم فى إنجاح الأعمال.

ثالثها : الشعور عند العمل العظيم بالمسئولية الجسيمة.

رابعها : دفع شبهة كيف لم يجد زيد بن ثابت هاتين الآيتين ، وكيف اكتفى برجل واحد فى نقل قرآنيتهما؟

وقد دفع شيخنا غزلان هذه الشبهة بأن بدأ بذكر ما يجب مراعاته عند التعرض لهذه الشبهة :

١ ـ عدم إمكان أن يكون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّ أبا خزيمة لتبليغ هاتين الآيتين ؛ لأن القرآن لا يحل روايته بالمعنى ، فلا يمكن الاطمئنان إلى روايته بلفظه دون تغيير حرف منه إلا تبليغ جماعة كبيرة.

٢ ـ أن إجماع الصحابة على أن كتابتهما فى المصحف لا تكون برواية الواحد ؛ ولذا لا بدّ أن الصحابة كتبوهما بعد روايتهما عن جماعة كثيرة ، ويكون معنى كلام زيد : «لم أجدهما مع أحد غيره» دائرا بين أمرين : إما أن يكون مراده أنه لم يجدهما مكتوبتين عند أحد غير أبى خزيمة ، فهو انفراد بكتابتهما فقط.

وإما أن يكون مراده أنه انفرد بكتابتهما وحفظهما ، فلم يجدهما عند غير أبى خزيمة ، فظل أبو خزيمة لمّا علم ذلك يحدث بهما ويحدث بهما أيضا زيد بن ثابت ، حتى حفظها من لم يحفظها وتذكرها من نسيها حتى تواتر نقلها ، فتوفر شرط القرآنية لهاتين الآيتين فأثبتهما زيد فى المصحف.

٢٠٦

وقد نقل الحافظ أن هناك روايات عن الصحابة تكشف عن أن منهم من كانت معه هاتان الآيتان ، منها عن خزيمة بن ثابت ، وعثمان ، وأبى بن كعب ـ رضى الله عنهم (٩).

فأبو خزيمة لم ينفرد بتلقيهما ، بل تلقاهما الكثير. وقد ذهب إلى ذلك أيضا أبو حيان.

وأرى : أن نفى زيد بن ثابت لوجود الآيتين كان نفيا لوجودهما من كل وجه. ولكن من المعقول أن يكون زيد بن ثابت قد اقتصر فى بحثه على أهل المدينة ، ولا يعقل أنه ذهب لكل الأماكن لتقصى ذلك ، والصحابة فى المدينة كانوا قليلين. ونحن لا نوافق شيخنا غزلان فى افتراض ذهول الأكثرين مع اشتراطه فى أول الكلام أن يكون النقلة من حيث العدد ممن تحيل العادة عليهم النسيان.

وخلاصة القول : أن هاتين الآيتين توفر لهما من شروط النقل ما توفر لسائر آى القرآن. ولقد حققت الكتابة غايتها المقصودة.

والظاهر أن زيد بن ثابت لم ينفرد بمهمة الجمع وحده ، بل عاونه غيره كأبى بكر وعمر وأبى كما تفيده الروايات المتعددة كما ذكر الحافظ فى «الفتح». ولقد تم الجمع فى العهد البكرى على أمثل ما يكون فى الاحتياط والعناية اللائقين بجلال القرآن.

ولقد عرف الصحابة لأبى بكر الصديق فضله حتى قال فيه علىّ : «أعظم الناس فى المصاحف أجرا أبو بكر ، هو أول من جمع كتاب الله».

ومن أعظم فوائد الجمع فوق ما هو مقصود من حكمته الرئيسية الداعية إليه ، اتصال السند الكتابى بالأخذ عن الصحف التى كتبت بين يدى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتصال السند المتواتر فى الرواية والتلقى على الشيوخ.

(ج) الجمع العثمانى للقرآن :

إذا كان الجمع الكتابى فى الصحف للقرآن قد تمّ فى العصر البكرى ليكون مرجعا للحفاظ عند إرادة العودة إليه ، فقد كان الجمع العثمانى لغرض وداع آخر هو : تجريد جميع المصاحف والصحف مما ليس بقرآن كالدعوات المأثورة ، والتفسير ، وما نسخت تلاوته ، وحاشا أن يلبسوا على من بعدهم ، ولكن ذلك كان بغرض حفظ القرآن وذلك بعد تفرق الصحابة الذين تلقيت القراءات على أيديهم فى الأمصار ، وربما فسر صحابى لفظا غريبا أو معنى وألحقه تلامذته على مصاحفهم فوجدت فى المصاحف أشياء مذكورة ودعوات مثل دعاء الحفد والخلع ، حتى استفحل الأمر ، واتسع الخرق ؛ فرأى الخليفة الراشد عثمان تدارك هذا الأمر ، وجمع الناس على مصحف واحد جرده من كل هذه المصاحف ، ونفى عنه كل ما ليس بقرآن ، فى مصحف واحد يجرده من عين المصاحف البكرية التى لم يكن فيها إلا القرآن فحسب ، على ما أخرج البخارى رضي الله عنه فى جمع القرآن

٢٠٧

من «صحيحه» من حديث ابن شهاب ـ يعنى الزهرى أن أنس بن مالك حدثه «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازى أهل الشام فى فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها فى المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها فى المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف ، رد عثمان الصحف إلى حفصة ، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحف أن يحرق».

هذا هو الباعث على جمع عثمان للمصاحف فى مصحف واحد ، وليس كما قال بعضهم : من أن السبب فى الاختلاف كانت الأحرف السبعة. وقد فندنا هذه الدعوى فى مبحث الأحرف السبعة. ولا نريد أن نعيد استدلالا ، ولكن لو كانت الأحرف قد أخذ عثمان بحرف واحد منها فكيف وصلت القراءات إلينا بالتواتر. ودعوى أن هذا كله حرف قريش مكابرة. ولو كان كذلك لجمعهم على حرف واحد بدون اختلاف فى أدائه ، وإلا لكان بقاء القراءات مانعا من الوصول لدرء الخلاف على زعمهم ، والمصحف العثمانى كالمصحف البكرى فى جمعه للأحرف السبعة.

فخبرنى بربك إذا كان من القراءات التى تركها عثمان ما قد يختلف معناه اختلافا بينا عن القراءة الأخرى ، إلى حد يصل إلى عدم جواز اجتماع المعنيين أحيانا فى شىء واحد ؛ لكونهما نفيا وإثباتا مثلا ، وإنما تتفق القراءتان إذ ذاك من وجه آخر لا يقتضى التضاد ، وذلك كقراءة (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (١٠) بكسر اللام الأولى من (لتزول) وفتح الثانية على أن «إن» نافية نفت إزالة مكرهم للجبال ، وقرئت بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى على أن «إن» مخففة من الثقيلة واللام الأولى المفتوحة هى الفارقة بين «إن» النافية و «إن» المخففة المهملة. والمعنى على هذه القراءة : «إن مكرهم يزيل الجبال».

والقراءتان سبعيتان متواترتان بلا شبهة ومعناهما لا يمكن أن يجتمع فى شىء واحد كما ترى. وإن اتفقا من وجه آخر لا يقتضى التضاد ، بل تكون معه الآية على غاية من الاستقامة والسداد ، فيراد من الجبال على

٢٠٨

قراءة النفى أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودين الإسلام ، ويراد منها على قراءة الإثبات الجبال الحقيقية ـ والمسألة مبسوطة فى كتب التفسير وفى «النشر» لابن الجزرى.

نقول : إذا كان من القراءات ما قد يختلف فأيهما كان أدعى للخلاف على النحو الذى زعموا ، وأيهما كان أرفع له؟. أهو اختلاف المعنى البالغ هذا الحد. أم هو مجرد اختلاف الألفاظ المترادفة المتفقة المعنى تماما على ما زعموا فى المراد من الأحرف؟ أفيقع الخلاف بسبب تعدد تلك الألفاظ المترادفة ليرفعه عثمان بإبقاء واحد فقط من تلك الألفاظ؟ أم يقع بسبب مثل هذا الاختلاف البالغ فى المعنى ويكون أجدر بدرجات أن يرفع لأجله عثمان إحدى القراءتين؟. فإذا أبقى عثمان رضي الله عنه هاتين القراءتين جميعا ـ مع أن الأمر فيهما هو على الاختيار لأى منهما ـ فما ذاك إلا لكونه لا يستجيز ، بل لا يجرؤ هو ولا غيره حتى لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه على حذف شىء مما أنزله الله ولم يأذن برفعه. وهكذا كان رضى الأصحاب أيضا ، إذن ـ معالجة عثمان للخلاف هو على النحو الذى وصفنا من هذا الخلاف ، ودفعه ـ أعنى تجريد عثمان للمصحف ـ من كل ما ليس بقرآن ، وإحراق كل ما يشتمل مع القرآن على غيره من الصحف أو المصاحف ، أخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» بسند صحيح ـ كما قال الحافظ ـ من طريق سويد ابن غفلة قال : «قال علىّ : لا تقولوا فى عثمان إلا خيرا ، فو الله ما فعل الذى فعل فى المصاحف إلا عن ملأ منا ، قال : ما تقولون فى هذه القراءة ، فقد بلغنى أن بعضهم يقول : إن قراءتى خير من قراءتك ، وهذا يكاد أن يكون كفرا ، قلنا : فما ترى؟ قال : أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا : فنعم ما رأيت».

وهكذا تم لعثمان ما أراد من هذا الجمع بمرضاة من الصحابة.

مشكلة عرضت فى هذا الجمع شبيهة بأختها فى الجمع البكرى والحل هو نفس الحل :

أخرج البخارى فى سورة الأحزاب من كتاب التفسير عن زيد بن ثابت أنه قال : «لما نسخنا المصحف فى المصاحف ، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها ، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصارى الذى جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادته شهادة رجلين : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ). قال الحافظ فى «الفتح» :

«هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه ، لكن فيه إشكال ، لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده والقرآن إنما يثبت

٢٠٩

بالتواتر ، والذى يظهر فى الجواب أن الذى أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة لا فقد وجودها محفوظة ، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره ، و «يدل على هذا قوله فى حديث جمع القرآن : فأخذت أتتبعه من الرقاع والعسب».

كم مصحفا نسخ عثمان من الصحف البكرية؟ اختلف الناس فى عدد المصاحف التى نسخها عثمان من الصحف ، وأقل ما قيل فى العدد : أربعة ، وأكثر ما قيل تسعة ، والظاهر الذى يتفق مع طبيعة الأمور هو وفرة العدد ولا سيما مع قول أنس بن مالك فى حديث البخارى الذى نقلناه لك فى هذا الجمع :

«وأرسل إلى كل أفق بمصحف» ، فإنه صريح فى أن المصاحف كانت بعدد الأقطار التى انتشر فيها الإسلام ، وإنما كان هذا متفقا مع طبيعة الأمور لأن الغرض هو القضاء على خلاف المختلفين وجمع الكل على مصحف واحد ، ولا يتحقق هذا على الوجه الصحيح إلا بأن يرسل إلى كل أفق بمصحف كما قال أنس رضي الله عنه.

أين ذهبت الصحف البكرية؟ تبين من حديث زيد بن ثابت فى الجمع البكرى أن الصحف التى جمع فيها القرآن ظلت عند أبى بكر حتى مات ، ثم عند عمر حتى مات ، ثم عند حفصة. كما تبين من حديث أنس فى الجمع العثمانى أنهم لما نسخوا الصحف فى المصاحف ردها عثمان إلى حفصة. فبقيت عند حفصة طول حياتها دون أن تبالى ـ رضى الله عنها ـ بطلب مروان بن الحكم ـ الذى ولى المدينة بعد وفاة علىّ من قبل معاوية بعد أن آل الأمر إليه ـ المتكرر لتلك الصحف ، فلما ماتت أرسل إلى أخيها عبد الله ابن عمر بالعزيمة أن يرسل إليه بالصحف ففعل ، فشققها مروان ثم غسلها بعد ذلك ، أو حرقها ، أو فعل الأمرين على ما تفيده الروايات التى ذكر الحافظ فى «الفتح» فى هذا المقام.

والله أعلم.

أ. د. / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

الهوامش

__________________

(١) البيان فى مباحث القرآن : (ص ١٤٥) وما بعدها.

(٢) سورة القيامة : ١٧ ـ ١٩.

(٣) النشر فى القراءات العشر (ص ٦).

(٤) الجامع الصحيح (كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٥) انظر : فتح البارى : (ح ٩ ص ٢٢).

(٦) انظر : كتاب التفسير من المستدرك على الصحيحين تحت عنوان : جمع القرآن لم يكن مرة واحدة.

(٧) انظر : الفتح (ح ٩ ص ٣٩).

(٨) فتح البارى : (ح ٩ ص ١٤).

(٩) انظر : فتح البارى : (ح ٩ ص ١١ ـ ١٢).

(١٠) سورة إبراهيم ٤٦.

٢١٠

كتابة القرآن

لا يعرف بالضبط والتحديد الدقيق متى بدأت الكتابة عند العرب الذين هم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب كما وصفهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صحيح سننه ، بل وصفهم بذلك القرآن العظيم فى غير ما موضع منه ، وجميع الروايات التى يذكر الناس فى هذا المقام لا تقوم على قدم أو تعتمد على ساق ، والمهم أنه حين نزول القرآن كان من العرب من يكتبون ، حتى اتخذ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المؤمنين به كتابا للوحى ، أولهم : فى مكة ـ عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، وأولهم بالمدينة أبىّ بن كعب ، كما قال الحافظ فى «الفتح». ومن أبرزهم : زيد بن ثابت الذى قال أبو بكر فى حديث البخارى الذى نقلناه لك فى الجمع البكرى : «وقد كنت تكتب الوحى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

ولكون الكتابة عند العرب كانت محدثة وفى الأقلين منهم ، فإنهم حين كتبوا القرآن كتبوه على ما تيسر لهم من تعلم الخط ، ولم تكن هذه الصناعة محكمة لديهم إذ ذاك ، فخالفوا فى رسم القرآن أصل قاعدة الكتابة المعروفة الآن أحيانا أو فى الكثير من الأحيان ، فتارة كانت مخالفتهم بحذف ما حقه أن يثبت وأخرى بإثبات ما حقه أن يحذف ، وثالثة بإبدال حرف مكان آخر ، ورابعة بقطع الحرف عما بعده حينا ووصله به آخر ، والحرفان هما هما فى الموضعين أو المواضع ، إلى غير ذلك من المخالفات لقاعدة الكتابة.

ومن هنا فقد اختلف الناس فى رسم المصحف : أهو توقيفى واجب الاتباع بحيث تحرم مخالفته؟ ، وهو قول مالك وأحمد كما صرح به السيوطى فى «الإتقان» فى النوع الذى تحدث فيه عن مرسوم الخط. ولا حجة لأصحاب هذا المقام البتة ، فإنه لم يثبت أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم بكيفية مخصوصة فى الكتابة ، بل وكلّهم فى ذلك إلى ما يحسنون ويطيقون. وما زعم من نحو قوله لبعض كتابه فى كتابة بسم الله الرحمن الرحيم : «ألق الدواة وحرف القلم ، وأقم الباء ، وفرق السين ، ولا تقور الميم» فحديث خرافة من نقلته. وعلى الجملة فقد ضعف الحافظ ابن حجر فى شرحه لحديث عمرة القضاء من «الفتح» جميع الأحاديث الواردة فى تعلم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢١١

الكتابة (١) ، وما زعموا من تقرير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكتابه على هذا الرسم ، فيكون حجة على توقيفيته ، فخلط فاحش فى قواعد الأصول ، فإن التقرير إن كان لقول كان حجة على ما تضمنه ذلك القول ، فإن كان ما تضمنه القول واجبا كأن قال قائل أمام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

هذا واجب. فلم ينكره النبى عليه ، دل على وجوبه ، وإن كان حراما فكذلك إلى آخر ما تعرف من أقسام الحكم الشرعى. وإن كان التقرير على فعل لم يدل على أكثر من إباحة ذلك الفعل. فكيف لو كان الفعل مجرد صناعة كالكتابة هنا ، وقال الكثير من المحققين بعدم توقيفية هذا الرسم ، وأنه مجرد صناعة ، وتكليف المرء ما لا يحسنه فيها من التكليف بما لا يطاق ، ومن هؤلاء المحققين القاضى أبو بكر الباقلانى فى «الانتصار» وابن خلدون فى «مقدمته» والكرمانى فى «عجائبه» والنيسابورى فى مقدمة تفسيره ، وإليه مال الحافظ ابن كثير فى «فضائل القرآن» والعز بن عبد السلام حتى إن الأخير قال بحرمة اتباعه فى أيامه لما يؤدى إليه من اللبس على غير حافظ القرآن حين يقرأه من المصحف ، ومنهم الزركشى فى «البرهان» الذى فصل بين الخاصة والعامة ، فاستحب للخاصة اتباع هذا الرسم ، وللعامة كتابته على حسب القواعد المعروفة التى توافق حالهم (٢).

والتحقيق الذى لا محيد عنه لمنصف هو :

أن الرسم مجرد صناعة لا أثر فيها للتوقيف ، وما يذكر أصحاب هذا العلم من نكات اختيار الصحابة لكذا دون كذا فى هذا الرسم فسراب. وليت الناس ما شغلوا أنفسهم بهذا فضلا عن أن يجعلوا منه علما حيث لا مبنى لهذا العلم ولا أساس.

أ. د. / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

الهوامش

__________________

(١) فتح البارى ح ٧ ص ٥٠٤.

(٢) انظر : البرهان فى علوم القرآن ، للزركشى ح ١ ، ص ٣٧٩.

٢١٢

المصحف

نقطه وشكله

رسم المصحف أول ما رسم دون نقط أو شكل لسبب يسير جدا هو : أنه لم يكن شىء من ذلك معروفا فى الكتابة عندئذ ، وكانت سليقة العربى الخالص وفطرته النقية أمانا له من الالتباس والنطق بغير ما يصح فى العربية ، فلما اتسعت الفتوحات واختلط العرب بالعجم سرت اللكنة إلى ألسنة البعض وخفى ما كان بدهى الظهور ، فاحتاج الناس إلى ما يؤمنهم اللبس ولا سيما فى قراءة القرآن من المصحف. (١) ولسنا نعرف بالضبط والتحديد الدقيق متى تم هذا النقط والشكل ، ولا أول من وقع على يديه. قال السيوطى فيما ذكر من مسائل مرسوم الخط ، وفيه أيضا حكم النقط والشكل وحكم ما أضيف من غيرهما إلى المصاحف : (مسألة : اختلف فى نقط المصحف وشكله. ويقال : أول من فعل ذلك : أبو الأسود الدؤلى بأمر عبد الملك بن مروان ، وقيل : الحسن البصرى ويحيى بن يعمر ، وقيل : نصر بن عاصم الليثى. وأول من وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام الخليل. وقال قتادة : بدءوا فنقطوا ، ثم خمسوا ، ثم عشروا. وقال غيره : أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآى ، ثم الفواتح والخواتم. وقال يحيى بن أبى كثير : ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث فى المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآى. أخرجه ابن أبى داود. وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود ، قال : جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وأخرج عن النخعى أنه كره نقط المصاحف. وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير. وأخرج ابن أبى داود عن النخعى أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف ، وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا. وأخرج عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية ، فقال : امح هذا فإن ابن مسعود كان يكرهه. وأخرج عن أبى العالية أنه كان يكره الجمل فى المصحف ، وسورة كذا ، وفاتحة سورة كذا ، وقال مالك :

لا بأس بالنقط فى المصاحف التى يتعلم فيها الغلمان ، أما الأمهات فلا. وقال الحليمى ـ

٢١٣

تكره كتابة الأعشار والأخماس (٢) وأسماء السور وعدد الآيات فيه ، لقوله : «جردوا القرآن». وأما النقط فيجوز ، لأنه ليس له صورة فلا يتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا.

وإنما هى دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها. وقال البيهقى : من آداب القرآن : أن يفخم ، فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا تقرمط (٣) حروفه ، ولا يخلط به ما ليس منه ـ كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعانى الآيات.

وقد أخرج ابن أبى داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : لا بأس بنقط المصاحف.

وأخرج عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن أنه قال : لا بأس بشكله.

وقال النووى : نقط المصحف وشكله يستحب ؛ لأنه صيانة له من اللحن والتحريف.

وقال ابن مجاهد : ينبغى ألا يشكّل إلا ما يشكل. وقال الدانى : لا أستجيز النقط بالسواد ؛ لما فيه من التغيير لصورة الرسم ، ولا أستجيز جمع قراءات شتى فى مصحف واحد بألوان مختلفة ؛ لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم ، وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة ، والهمزات بالصفرة. وقال الجرجانى من أصحابنا فى «الشافعى» : من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره.

ثم قال السيوطى : «فائدة» : كان الشكل فى الصور الأول نقطا ، فالفتحة نقطة على أول الحرف ، والضمة على آخره ، والكسرة تحت أوله ، وعليه مشى الدانى. والذى اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف ، وهو الذى أخرجه الخليل ، وهو أكثر وأوضح ، وعليه العمل ، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف ، والكسر كذلك تحته ، والضم واو صغرى فوقه ، والتنوين زيادة مثلها ؛ فإن كان مظهرا ـ وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها ، وإلا جعلت بينهما ، وتكتب الألف المحذوفة والمبدل والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب «م» حمراء ، وقبل الحلق سكون ، وتعرى عند الإدغام والإخفاء ، ويسكن كل مسكن ، ويعرى المدغم ، ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء ، فيكتب عليها السكون نحو : «فرطت» ، ومطة الممدود لا تجاوزه. أه.

على أن الأمر قد صار بعد أمد محل تساهل شريطة أمن اللبس ، حتى كتب الناس فى مصاحفهم أسماء السور وعدد آيها ، وكونها مكية أو مدنية ، بل قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا ، والجزء إلى حزبين ، والحزب إلى أربعة أرباع ، وكل ذلك وضعوا له عناوين فى

٢١٤

المصاحف دون نكير من الأوساط العلمية ذات الشأن ما دام اللبس مأمونا والقرآن مميزا لا يختلط بشيء من تلك الإضافات.

أحكام أخرى تتعلق بالمصحف ذكرها صاحب «الإتقان» :

قال السيوطى ـ رحمه‌الله : «فصل فى آداب كتابته :» يستحب كتابة المصحف وتحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط دون مشقة ، وأما تعليقه فيكره. وكذا كتابته فى الشيء الصغير. أخرج أبو عبيد فى «فضائله» عن عمر أنه وجد مع رجل مصحفا قد كتبه بقلم دقيق ، فكره ذلك وضربه ، وقال :

عظموا كتاب الله.

وكان عمر إذا رأى مصحفا عظيما سرّ به.

وأخرج عبد الرزاق عن علىّ : أنه كان يكره أن تتخذ المصاحف صغارا وأخرج أبو عبيد عنه أنه كره أن يكتب القرآن فى الشيء الصغير.

وأخرج هو والبيهقى فى «الشّعب» عن أبى حكيم العبدى ، قال : مر بى علىّ وأنا أكتب مصحفا ، فقال : أجل قلمك ، فقضمت من قلمي قضمة ، ثم جعلت أكتب فقال : نعم ، هكذا نوره كما نوره الله. وأخرج البيهقى عن علىّ موقوفا ، قال : تنوق رجل فى «بسم الله الرحمن الرحيم» فغفر له. وأخرج أبو نعيم فى تاريخ «أصبهان» وابن أشتة فى «المصاحف» من طريق أبان ، عن أنس مرفوعا : «من كتب بسم الله الرحمن الرحيم مجودة غفر الله له». وأخرج ابن أشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله : إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم ، فليمد «الرحمن». وأخرج عن زيد بن ثابت : أنه كان يكره أن تكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ليس لها سين. وأخرج عن يزيد بن أبى حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب : «بسم الله» ولم يكتب لها سينا ، فضربه عمر ، فقيل له : فيم ضربك أمير المؤمنين؟

قال : ضربنى فى سين. وأخرج عن ابن سيرين : أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن ابن سيرين : أنه كره أن يكتب المصحف مشقا (٤) ؛ قيل : لم؟ قال : لأن فيه نقصا.

وتحرم كتابته بشيء نجس ، وأما بالذهب فهو حسن ، كما قاله الغزالى. وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس وأبى ذر وأبى الدرداء أنهم كرهوا ذلك. وأخرج عن ابن مسعود : أنه مر عليه مصحف زين بالذهب. فقال : إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق. قال أصحابنا : وتكره كتابته على الحيطان

٢١٥

والجدران وعلى السقوف أشد كراهة : لأنه يوطأ. وأخرج أبو عبيد عن عمر بن العزيز قال : (لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ).

وهل تجوز كتابته بقلم غير العربى (٥)؟ قال الزركشى : لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء.

قال : ويحتمل الجواز ، لأنه قد يحسنه من لا يقرأ بالعربية ، والأقرب المنع كما تحرم بغير لسان العرب ، ولقولهم : القلم أحد اللسانين.

والعرب لا تعرف قلما غير العربى ، وقد قال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) انتهى.

وقد كفانا الله هذا كله بما أتاح لنا من المطابع التى بلغت من الجودة مبلغا عظيما.

ثم قال السيوطى بعد مسألة النقط والشكل :

(فرع) : أخرج ابن أبى داود فى كتاب المصاحف عن ابن عباس ، أنه كره أخذ الأجرة على كتابة المصحف. وأخرج مثله عن أيوب السّختيانى ، وأخرج عن ابن عمر وابن مسعود أنهما كرها بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها ، وأخرج عن محمد ابن سيرين : أنه كره بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها ، وأخرج عن مجاهد وابن المسيب والحسن أنهم قالوا : لا بأس بالثلاثة. وأخرج عن سعيد بن جبير أنه سئل عن بيع المصاحف فقال : لا بأس ، إنما يأخذون أجور أيديهم. وأخرج عن ابن الحنفية أنه سئل عن بيع المصحف قال :

لا بأس ، إنما تبيع الورق.

وأخرج عن عبد الله بن شفيق قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشددون فى بيع المصاحف. وأخرج عن النخعى قال : المصحف لا يباع ولا يورث. وأخرج عن ابن المسيب : أنه كره بيع المصاحف ، وقال : أعن أخاك بالكتاب أو هب له. وأخرج عن عطاء عن ابن عباس ، قال : اشتر المصاحف ولا تبعها. وأخرج عن مجاهد أنه نهى عن بيع المصاحف ورخص فى شرائها.

وقد حصل من ذلك ثلاثة أقوال للسلف ثالثها : كراهة البيع دون الشراء ، وهو أصح الأوجه عندنا ، كما صححه فى «شرح المهذب» ، ونقله فى «زوائد الروضة» عن نص الشافعى ، قال الرافعى : وقد قيل : إن الثمن متوجه إلى الدفتين ، لأن كلام الله لا يباع ، وقيل : إنه بدل من أجرة النسخ. انتهى.

وقد تقدم إسناد القولين إلى ابن الحنفية وابن جبير ، وفيه قول ثالث : أنه بدل منهما معا. أخرج ابن أبى داود عن الشعبى ، قال : لا بأس ببيع المصاحف ، إنما يبيع الورق وعمل يديه. أ. ه. قلت : الصواب مع المجوزين.

ثم قال السيوطى : «فرع» : قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى «القواعد» : القيام

٢١٦

للمصحف بدعة لم تعهد فى الصدر الأول.

والصواب ما قاله النووى فى التبيان من استحباب ذلك لما فيه من التعظيم وعدم التهاون به.

ثم قال السيوطى : «فرع» : يستحب تقبيل المصحف ؛ لأن عكرمة بن أبى جهل ـ رضى الله عنه ـ كان يفعله. وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود. ذكره بعضهم ؛ ولأنه هدية من الله تعالى ، فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير. وعن أحمد ثلاث روايات :

الجواز ، والاستحباب ، والتوقف ، وإن كان فيه رفعة وإكرام لأنه لا يدخله قياس ، ولهذا قال عمر فى الحجر : لو لا أنى رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبلك ما قبلتك.

ثم قال السيوطى : «فرع» : يستحب تطييب المصحف ، وجعله على كرسى ، ويحرم توسده ، لأن فيه إذلالا وامتهانا. قال الزركشى : وكذا مد الرجلين إليه. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن سفيان ، أنه كره أن تعلق المصاحف. وأخرج عن الضحاك ، قال :

لا تتخذوا للحديث كراسى ككراسى المصاحف.

ثم قال السيوطى : (فرع) : يجوز تحليته بالفضة إكراما له على الصحيح ، أخرج البيهقى عن الوليد بن مسلم قال : سألت مالكا عن تفضيض المصاحف. فأخرج إلينا مصحفا فقال : حدثنى أبى عن جدى : أنهم جمعوا القرآن فى عهد عثمان ، وأنهم فضضوا المصاحف على هذا أو نحوه.

وأما بالذهب فالأصح جوازه للمرأة دون الرجل ، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف ، دون غلافه المنفصل عنه ، والأظهر التسوية.

ثم قال السيوطى : (فرع) : إذا احتيج إلى تعطيل بعض أوراق المصحف لبلى ونحوه ، فلا يجوز وضعها فى شق أو غيره ؛ لأنه قد يسقط ويوطأ ، ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقة الكلم ، وفى ذلك إزراء بالمكتوب. كذا قال الحليمى. قال : وله غسلها بالماء ؛ وإن أحرقها بالنار فلا بأس ؛ أحرق عثمان مصاحف كان فيها آيات وقراءات منسوخة ، ولم ينكر عليه. وذكر غيره أن الإحراق أولى من الغسل. لأن الغسالة قد تقع على الأرض. وجزم القاضى حسين فى «تعليقه» بامتناع الإحراق ، لأنه خلاف الاحترام ، والنووى بالكراهة.

وفي بعض كتب الحنفية : أن المصحف إذا بلى لا يحرق ، بل يحفر له فى الأرض ويدفن.

وفيه وقفة لتعرضه للوطء بالأقدام.

ثم قال السيوطى : (فرع) : روى ابن أبى داود عن ابن المسيب ، قال : لا يقول أحدكم :

٢١٧

مصيحف ولا مسيجد ؛ ما كان لله تعالى فهو عظيم.

ثم قال السيوطى : (فرع) : مذهبنا ومذهب جمهور العلماء تحريم مس المصحف للمحدث ، سواء كان أصغر أم أكبر ، لقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٦).

وحديث الترمذى وغيره : «لا يمس القرآن إلا طاهر».

ثم قال السيوطى : «خاتمة» روى ابن ماجة وغيره عن أنس مرفوعا : «سبع يجرى للعبد أجرهن بعد موته وهو فى قبره : من علّم علما ، أو أجرى نهرا ، أو حفر بئرا ، أو غرس نخلا ، أو بنى مسجدا ، أو ترك ولدا يستغفر له من بعد موته ، أو ورث مصحفا». والله أعلم.

أ. د. / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

(بعض مصادر هذا البحث مرتبة على حروف المعجم):

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن ، للسيوطى.

(٢) البرهان فى علوم القرآن ، للزركشى.

(٣) البيان فى مباحث من علوم القرآن ، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد المجيد غزلان.

(٤) تفسير النيسابورى بهامش تفسير الطبرى ، ط ١ مصطفى الحلبى.

(٥) الجامع الصحيح ، للبخارى.

(٦) صحيح مسلم.

(٧) فتح البارى بشرح صحيح البخارى ، للحافظ ابن حجر العسقلانى.

(٨) فضائل القرآن ، للحافظ ابن كثير.

(٩) المستدرك على الصحيحين ، لأبى عبد الله الحاكم.

(١٠) مقدمة ابن خلدون.

(١١) مناهل العرفان فى علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.

(١٢) الانتصار للقرآن ، للقاضى أبى بكر الباقلانى.

(١٣) النشر فى القراءات العشر ، لابن الجزرى.

الهوامش :

__________________

(١) انظر : البرهان فى علوم القرآن ، للزركشى ، ح ١ ، ص ٣٧٩.

(٢) الأعشار هى أن يكتبوا بعد كل عشر آيات كلمة عشر ، أو الرمز إليها بحرف «ع» ، ويسمى هذا العمل تعشيرا. والأخماس : أن يكتبوا بعد كل خمس آيات كلمة خمس ، أو الرمز إليها بحرف «خ» ، ويسمى هذا العمل تخميسا.

(٣) يقال : قرمط الكاتب فى الكتابة : جعلها دقيقة متقاربة الحروف والسطور. كما فى المعجم الوسيط.

(٤) فى المصباح : «ومشقت الكتاب مشقا ، من باب قتل : أسرعت فى فعله» أه. أى فهو يؤدى بما فيه من العجلة إلى إمكان وقوع نقص فى كلمة أو حرف ، وهذا هو ما قصده ابن سيرين رحمه‌الله فيما ذكر من علة كراهته.

(٥) يريد كتابة كلمات القرآن العربية بحروف غير عربية كاللاتينية فى هذه الأيام مثلا. أى مع نطقها بالعربية كما هى. فتنبه.

(٦) سورة الواقعة : ٧٩.

٢١٨

السور القرآنية

السورة لغة :

قال ابن منظور (١) : «والسورة : المنزلة ، والجمع سور ، والسورة من البناء : ما حسن وطال. وقال الجوهرى : والسور جمع سورة ، مثل بسرة وبسر ، وهى كل منزلة من البناء ، ومنه سورة القرآن ، لأنها منزلة بعد منزلة ، مقطوعة عن الأخرى ، والجمع سور ... ويجوز أن يجمع على سورات ، وسورات. وقال ابن سيدة :

سميت السورة من القرآن سورة لأنها درجة إلى غيرها ، ومن همزها جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة ، وأكثر القراء على ترك الهمزة فيها. من سؤرة المال ، ترك همزه لما كثر فى الكلام ...

وأنشد النابغة :

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب

معناه : أعطاك رفعة وشرفا ومنزلة.

وقال ابن فارس (٢) : «سور : السين والواو والراء أصل واحد يدل على علو وارتفاع ، من ذلك : سار يسور ، إذا غضب وثار ، وإنّ لغضبه لسورة ، والسّور جمع سورة كل منزلة من البناء».

السورة اصطلاحا : طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. يعنى بداية ونهاية (٣).

المناسبة بين المعنى اللغوى والاصطلاحى :

سميت جملة الآيات القرآنية ذات المطلع والمقطع سورة لكمالها وتمامها ، وشرفها وارتفاعها ، فإنها تحيط بآياتها إحاطة السور بالبناء ، وترتفع بقارئها وحافظها حيث الشرف فى الدنيا والآخرة.

مصدر معرفة تحديد السورة :

تحددت السورة القرآنية بفاتحتها وخاتمتها بتوقيف من الله تعالى ، وليس باجتهاد من بشر أيا كان ، وكان الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ يعرفون السورة الجديدة بنزول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، كما بين النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك من خلال قراءته.

يقول الزرقانى (٤) ـ رحمه‌الله ـ «ومرجع الطول والقصر والتوسط ، وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده لحكم سامية».

٢١٩

عدد سور القرآن :

يقول الإمام الزركشى : «واعلم أن عدد سور القرآن العظيم باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة ، كما هى فى المصحف العثمانى ، أولها الفاتحة وآخرها الناس.

وقال مجاهد : وثلاث عشرة ، بجعل الأنفال والتوبة سورة واحدة لاشتباه الطرفين وعدم البسملة.

ويرده تسمية النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا منهما (٥).

والأول هو المعتمد بإجماع الأمة ، ولا نزاع فيه.

أسماء السور

سر التسمية :

ذهب جل علماء علوم القرآن إلى أن تسمية سور القرآن الكريم إنما كانت على نسق تسمية العرب لقصائدهم ونحوها ، فيقول الإمام الزركشى : «ينبغى النظر فى وجه اختصاص كل سورة بما سميت به ، ولا شك أن العرب تراعى فى الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون فى الشيء من خلق أو صفة تخصه أو صفة تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى ، ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها ، وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز ، كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها ، وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء» (٦).

أقول : بل إن الأمر على خلاف ذلك ، ويعرف هذا بتدبر اسم السورة الذى عرفت به ، وتلمس المناسبة بينه وبين كل موضوع من موضوعات السورة ، فيبدو جليا أن أسماء السور لها أسرارها الحكيمة ، مما يدل على حكمة منزل القرآن ، ويشير إلى المناسبة اللطيفة بين اسم السورة وجميع موضوعاتها.

أما ما ذهبوا إليه من محاكاة عادة العرب فى تسميتهم ، فإنه يجعل الاسم عنوانا على موضوعه فقط لا على السورة كلها ، أو كما يقول أهل التصنيف : إنه يجعل الاسم أخص من المسمى.

فما معنى تخصيص سورة البقرة بهذا الاسم وقد ذكر فيها. على سبيل المثال ـ هاروت وماروت ، وتحويل القبلة ، والقصاص ، والصيام ، والإيلاء ، والرضاع ، والتحريم الصريح للربا كله ، وآية الدّين ، بما لم يذكر

٢٢٠