الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

هذا الجمال التوقيعى فى لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن ، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب. فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟

ثم يقول ـ أيضا ـ فإذا ما اقتربت بأذنك قليلا قليلا ، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة. فاجأتك منه لذة أخرى فى نظم تلك الحروف ورصفها ، وترتيب أوضاعها فيما بينها : هذا ينقر وذاك يصفر ، وثالث يهمس ، ورابع يجهر ، وآخر ينزلق عليه النّفس ، وآخر يحتبس عنده النفس ، وهلمّ جرّا ، فترى المجال اللغوى ماثلا أمامك فى مجموعة مختلفة مؤتلفة ، لا كركرة ولا ثرثرة ، ولا رخاوة ولا معاظلة ، ولا تناكر ولا تنافر ، وهكذا ترى كلاما ليس بالحضرى الفاتر ، ولا بالبدوى الخشن ، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها ، برقة الحاضرة وسلاستها ، وقدر فيه الأمران تقديرا لا يبغى بعضهما على بعض. فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلاستهما ، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل عندها تلتقى أذواقهم ، وعليها تأتلف قلوبهم (٢).

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

المصادر والمراجع :

__________________

(١) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص ١٨١ لمصطفى صادق الرافعى طبعة مكتبة الإيمان للنشر والتوزيع بالمنصورة ـ الأولى ١٤١٧ ه‍ ١٩٩٧ م.

(٢) النبأ العظيم نظرات جديدة فى القرآن ص ١٠١ ـ ١٠٤ بتصرف طبعة دار المنار الرابعة ١٣٩٧ ه‍ ١٩٧٧ م.

٤٤١

الاستماع عند التلاوة

ومن إجلال القرآن وتعظيمه الاستماع له والإنصات عند تلاوته ، لقول الله تعالى :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (سورة الأعراف آية ٢٠٤) ، والمعنى : وإذا قرئ القرآن الذى ذكرت خصائصه ومزاياه عليكم فاستمعوا له بتدبر وخشوع ، واصغوا إليه أسماعكم وكل جوارحكم لتفهموا معانيه ، وتفقهوا توجيهاته ، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضى تعظيما له ، وإكبارا لشأنه ، لكى تفوزوا برحمة الله ورضاه.

ولقد كان جماعة من السلف يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرءوا وهم يستمعون ، وهذا متفق على استحبابه ، وهو عادة الأخيار والمتعبدين وعباد الله الصالحين ، وهو سنة ثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقد صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ علىّ القرآن». فقلت : يا رسول الله اقرأ عليك ، وعليك أنزل؟ قال : «إنى أحب أن أسمعه من غيرى». فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (آية ٤١) ، قال : «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (١).

وبعض العلماء يحمل القراءة فى الآية على القراءة خلف الإمام فى الصلاة ، أى : أن على المؤتم أن يستمع إلى قراءة الإمام بتدبر وخشوع ، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام مسلم فى صحيحه من حديث أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا» (٢). وبعضهم يجعل الآية عامة فى وجوب الاستماع إلى قراءة القرآن بتدبر وإنصات وخشوع فى الصلاة وفى غيرها ، وحملوا الأحاديث التى أوردها أصحاب الرأى الأول على العموم ـ أيضا.

والذى نراه أن الآية تأمر بوجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن فى الصلاة وفى غيرها ، لأن تعاليم الإسلام وآدابه تقتضى منا أن نستمع إلى القرآن الكريم بتدبر وإنصات وخشوع ليؤثر تأثيره الشافى فى القلوب ،

٤٤٢

وليقودها إلى الطاعة والتقوى فتنال المغفرة والرحمة. وصدق الله العظيم القائل : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (سورة الأنفال آيات من ٢ ـ ٤).

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

المصادر والمراجع :

__________________

(١) الحديث : أخرجه البخارى فى صحيحه ، كتاب فضائل القرآن ، باب قول المقرئ للقارئ : حسبك. حديث رقم ٥٠٥٠ ، انظر فتح البارى ٨ / ٧١٢.

ورواه مسلم فى صحيحه حديث رقم ٨٠٠ ، وأبو داود رقم ٣٦٦٨ ، والترمذى رقم ٣٠٢٥.

(٢) الحديث : أخرجه مسلم فى صحيحه فى كتاب الصلاة ، باب التشهد فى الصلاة ٢ / ١٤ ، ١٥.

٤٤٣

الاقتباس من القرآن

الاقتباس : هو تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بأن لا يقال فيه : قال الله تعالى ونحوه ، فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا ، وقد اشتهر عن المالكية تحريمه وتشديد النكير على فاعله. وأما الشافعية فلم يتعرض له الأقدمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس فى عصورهم ، واستعمال الشعراء له قديما وحديثا.

وقد تعرض له جماعة من المتأخرين ، فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه ، واستدل له بما ورد عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله فى الصلاة وغيرها «وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» (١) وقوله : «اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عنى الدين وأغننى من الفقر» (٢).

وفى سياق كلام لأبى بكر الصديق رضي الله عنه :

«وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون» (٣) وفى آخر حديث لابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ : «قد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة» (٤).

قال السيوطى : «وهذا كله إنما يدل على جوازه فى الشعر وبينهما فرق. فإن القاضى أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه فى الشعر مكروه ، وفى النثر جائز. واستعمله أيضا فى النثر القاضى عياض فى مواضع من خطبة الشفاء. وقال الشريف إسماعيل ابن المقرى اليمنى صاحب مختصر الروضة فى شرح بديعته ما كان منه فى الخطب ، والمواعظ ، ومدحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وصحبه ، ولو فى النظم فهو مقبول ، وغيره مردود. ثم قال :

والاقتباس ثلاثة أقسام : مقبول ، ومباح ، ومردود. فالأول : ما كان فى الخطب والمواعظ والعهود ، والثانى : ما كان فى الغزل ، والرسائل والقصص. والثالث : على ضربين :

أحدهما ما نسبه الله إلى نفسه ، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بنى مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله : «إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم» (٥). والآخر : تضمين آية فى معنى هزل ، ونعوذ بالله من ذلك كقوله :

٤٤٤

أرخى إلى عشاقه طرفه

هيهات هيهات لما توعدون (إ) ٦

وردفه ينطق من خلفه

لمثل هذا فليعمل العاملون (إ) ٧

قال السيوطى : وهذا التقسيم حسن جدا وبه أقول (٨).

أ. د. السيد إسماعيل على سليمان

المصادر والمراجع :

__________________

(١) هذا مقتبس من سورة الأنعام آية ٧٩.

(٢) هذا مقتبس من سورة الأنعام آية ٩٦.

(٣) هذا مقتبس من سورة الشعراء آية ٢٢٧.

(٤) هذا مقتبس من سورة الأحزاب آية ٢١.

(٥) هذا مقتبس من سورة الغاشية آية ٢٥ ، ٢٦.

(٦) هذا مقتبس من سورة المؤمنون آية ٣٦.

(٧) هذا مقتبس من سورة الصافات آية ٦١.

(٨) انظر : الإتقان فى علوم القرآن ١ / ١٤٧ ، ١٤٨.

٤٤٥

بلاغة القرآن

الخبر

الخبر فى اللغة الإعلام ، ومعانيه تدور حول اكتساب المعرفة من مصادرها (١).

أما معنى الخبر فى اصطلاح البلاغيين فهو :

القول الذى يحمل الصدق والكذب لذاته (٢) ، أى دون النظر إلى قائله.

أو هو الكلام الذى له نسبة خارجية يراد مطابقتها أو عدم مطابقتها.

والأول تعريف القدماء. والثانى يجرى كثيرا على ألسنة المحدثين ، وفى كتاباتهم.

والخبر له ثلاث نسب ، تظهر من تحليل العبارة الآتية ، إذا قال قائل : رأيت الهلال الليلة هذه الجملة الخبرية لها نسب ثلاث.

الأولى : النسبة الكلامية ، وهى :

الإخبار برؤية الهلال ، وثبوت رؤيته لحظة فى الأفق.

الثانية : نسبة ذهنية ، وهى تخيّل السامع لهذا الكلام الهلال مرئيا فى الأفق.

الثالثة : النسبة الخارجية. وهى كون الهلال مكث لحظة فى الأفق بعد غروب الشمس ، فإن كانت هذه النسبة واقعية فعلا فالخبر صادق ، لتطابق النسبة واقعية فعلا فالخبر صادق ، لتطابق النسبة الخارجية مع النسبة الكلامية.

وإن كان الهلال لم يثبت له رؤية ، فالخبر كاذب ، لأنه لم يطابق الواقع. وهذا هو معنى عبارة المحدثين أن الخبر ما كان له نسبة خارجية (يعنى خارج الذهن) فإن أراد المتكلم بكلامه مطابقتها فيكون صادقا ، أو عدم مطابقتها فيكون كاذبا (٣).

والخبر هو شطر اللغة ، والشطر الثانى هو الإنشاء وفيهما تنحصر أساليب الأداء اللغوى ، وليس لهما ثالث. وكلاهما وارد بكثرة فى القرآن الكريم ، بل كل ما فى القرآن ، وكل ما فى سوى القرآن لا يخرج عن أسلوبى الخبر والإنشاء ، وسيأتى الحديث عنه. والبلاغيون يجمعون على أن وظيفة الخبر التى أرادها منه واضعو اللغة محصورة فى أمرين.

الأول : أطلقوا عليه مصطلح «فائدة الخبر» ومعناها أن المتكلم يفيد بخبره المخاطب بالخبر معنى جديدا لم يكن له به علم قبل سماعه الخبر. وهذا هو الأصل فى

٤٤٦

أغراض الخبر ، ومثلوا لهذا بعبارات كثيرة ، أغلبها أمثلة مصنوعة ، مثل : جاء «زيد» خطابا لمن لا يعلم بمجيء زيد.

ومن أمثلة فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٤).

هذه الآية أفادت لأول مرة أن الله أنزل القرآن فى ليلة القدر ، ولم يكن لدى المخاطبين علم بهذا قبل نزول هذه الآية.

أما الغرض الثانى من الخبر ، فيطلق عليه البلاغيون مصطلح «لازم الفائدة» وضابط هذه الوظيفة :

أن يكون المخاطب عالما بمضمون الخبر ، ويكون غرض المتكلم إعلام المخاطب بأنه ـ أى المتكلم ـ عالم بمضمون الخبر مثله ، كقولك لمن يعلم أنه خالدا حضر من سفره :

خالد حضر. فأنت لا تريد إعلامه بحضور خالد ، لأنك تعلم أنه يعلم بحضوره وإنما تريد أنك أنت عالم بحضور خالد كما يعلم هو به ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى حاكيا ما قاله يعقوب عليه‌السلام لبنيه :

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٥).

يعقوب عليه‌السلام لم يرد أن يخبر بنيه بأن أنفسهم سوّلت لهم أمر التخلص من يوسف ؛ لأنهم كانوا يعلمون بهذا التسويل أكثر منه.

وإنما أراد أن يخبرهم أنه عالم بما حدث معهم لأخيهم يوسف.

ففائدة الخبر ، ولازم فائدته هما الدلالتان اللتان أرادهما واضعو اللغة من الخبر وهما دلالتان حقيقيتان وضعيتان .. كدلالة : السيف والرمح على آلتى القتال المعروفتين.

وفى القرآن الكريم ـ كما فى اللغة بوجه عام ـ استعمالات لأخبار لا تكاد تحصى فى معان أخرى مجازية ، غير فائدة الخبر ، ولازم فائدته ، تحمل معانى كثيرة يقتضيها المقام فى أغراض شتى.

ومن ذلك قوله تعالى :

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) (٦) لم ترد امرأة عمران أن تخبر الله بما لا يعلم فى قولها (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) فالخبر هنا لم يستعمل فى الإعلام بفائدة الخبر ، ولا فى لازم فائدة الخبر ، بل خرج إلى معنى مجازى هو إظهار التحسر على إنجابها أنثى ، وكانت تطمع أن تلد ذكرا ليكون خادما فى بيت المقدس الذى لم يكن يقوم بالخدمة فيه إلا الذكور.

ولم ترد أن تخبر الله عزوجل بما لم لا يعلم فى قولها. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) بل إن الخبر هنا خرج عن الإعلام بفائدة الخبر ،

٤٤٧

وعن لازم الفائدة ، إلى معنى مجازى هو التلطف فى الدعاء والاستعاذة بالله أن يحفظ المولودة وذريتها من الشيطان الرجيم.

ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى فى شأن اليهود ، (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) ـ يعنى الموت ـ (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧).

خرج الخبر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) عن الإعلام بفائدة الخبر ولازمها إلى معنى آخر مجازى ، هو التهديد والوعيد لأن علمه ـ سبحانه ـ بالظالمين يقتضى عقابه إياهم على ظلمهم.

ومنه قوله تعالى حكاية عما قاله فرعون لموسى عليه‌السلام : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) (٨).

لم يرد إعلام موسى عليه‌السلام بما فعل حين قتل المصرى. وإنما أراد لومه وانكساره بين يديه ، وهو معنى مجازى خارج عن الإعلام بفائدة الخبر ، ولازم فائدته.

د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) المصباح المنير والمعاجم اللغوية ـ مادة خبر.

(٢) بقية الإيضاح (٢٩) ت ـ الشيخ عبد المتعال الصعيدى.

(٣) المصدر نفسه والموضح.

(٤) المصدر (١).

(٥) يوسف (١٩).

(٦) آل عمران (٣٦).

(٧) الجمعة (٧).

(٨) الشعراء (١٩).

٤٤٨

الإنشاء

الإنشاء لغة : الإيجاد والتكوين ، يقال :

فلان أنشأ قصيدة أى ألفها بعد أن لم تكن (١).

أما فى اصطلاح البلاغيين فالإنشاء هو الكلام الذى يطلب به أمر لم يكن موجودا وقت النطق بالكلام. وهو عندهم ما ليس له نسبة خارجة وقت النطق بالكلام الإنشائى ، يراد مطابقتها أو عدم مطابقتها. وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب : لأن مضمونه لا يقع ـ أن وقع ـ إلا بعد النطق بطلبه. وقد يجاب الطلب أو لا يجاب ولذلك فإن الإنشاء ليس له إلا نسبتان من النسب الثلاث التى تقدمت فى مبحث الخبر ، بل له نسبتان فقط :

* النسبة الكلامية.

* النسبة الذهنية. وقد يعبر عنها بالنسبة العقلية ، توضيح هذا فى تحليل العبارة الآتية :

إذا قال قائل لآخر : «أعرنى كتابك». هذه الجملة إنشائية طلب بها أمر لم يكن موجودا ساعة النطق بها والنسبة الكلامية فيها هى :

طلب المتكلم استعارة كتاب المخاطب.

أما النسبة الذهنية (العقلية) فهى التصور الذهنى لعملية إعارة الكتاب ، سواء تحققت الإعارة أو لم تتحقق.

هاتان النسبتان يشترك فيهما الخبر والإنشاء وينفرد الخبر بالنسبة الخارجية (الواقعية) ولو فرضا لا تحقيقا ، إذا كان الخبر غير صادق (٢) والإنشاء هو شطر اللغة الثانى بعد الخبر.

ويتكوّن الكلام الإنشائى من عدة أساليب فرعية ، هى :

* الأمر.* النهى.

* الاستفهام.* النداء.

* التمنى.* الرجاء.

والأصل فى الأمر أن يكون للوجوب ، أى وجوب إيجاد شىء لم يكن له وجود ساعة النطق بفعل الأمر. مثل قوله تعالى :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) (٣)

مضمون الأمر (وَقاتِلُوا) هو الوجوب والأصل فى النهى أن يكون لطلب الكف عن شىء على وجه الجزم ، ومثله قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) (٤).

٤٤٩

والأصل فى الاستفهام أن يكون لإعلام المستفهم أمرا هو يجهله. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم :

(أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) (٥).

والأصل فى النداء أن يكون لطلب الإقبال المادى الحسى ومثاله فى القرآن الكريم قول الله لموسى عليه‌السلام : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) (٦).

والأصل فى التمنى أن يكون لطلب المستحيل أو ما فيه عسر ، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عما يقوله الكافر يوم القيامة : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٧).

والأصل فى الرجاء أن يكون لطلب الممكن المحبوب. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه‌السلام لأهله :

(إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) (٨).

هذا هو الأصل فى استعمال هذه الأساليب اللغوية لكن بلاغة القرآن المعجز استعملتها فى معان مجازية أخرى يضيق المقام عن ذكرها ، وقد كتبت فيها مجلدات دون الإحاطة بها (٩).

وما لا يدرك كله لا يترك كله لذلك نكتفى بأمثلة يسيرة من الأربعة أساليب المذكورة.

فالأمر والنهى يستعملان فى ما يقرب من خمسة وعشرين معنى مجازيا.

كالتعجيز المستعمل فيه الأمر فى قوله تعالى مخاطبا منكرى البعث :

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) (١٠).

والإهانة فى قوله تعالى :

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (١١).

والإرشاد المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى :

(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) (١٢).

والدعاء المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى :

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (١٣).

والالتماس المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى حكاية عن قول هارون لموسى عليهما‌السلام :

(يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (١٤).

وغير ذلك كثير وكثير ، استعمل فيه (القرآن) أسلوبى الأمر والنهى فى معان

٤٥٠

مجازية ، مفعمة بالإيحاءات البيانية ، لإقرار الحق وإظهاره ، ودحض الباطل والتنفير منه.

وأكثر الأساليب الإنشائية خروجا عن معانيها اللغوية إلى معان مجازية فى القرآن الكريم هو الاستفهام ، وقد ورد منه أكثر من ١٢٦٠ صورة ، فى القرآن الكريم وكان له شأن عظيم فى نصرة الحق وتجليته ، ودحر الباطل ومحوه ، والمعانى المجازية التى خرج إليها لا تكاد تحصى ، وصوره فى القرآن قسمان.

قسم صادر عن الله عزوجل ، غير محكى عن غيره. وهذا القسم كل صوره مجازية ؛ لأن الله قد أحاط بكل شىء علما ، فهو منزه عن أن يستفهم طالبا فهم ما لم يفهمه.

وقسم صادر عن غيره وحكاه القرآن.

وهذا القسم لا تكاد ترى فيه استفهاما حقيقيا إلا نادرا.

ومن صور الاستفهام الصادرة عن الله ما يأتى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١٥). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو إظهار فضل الله وتكريمه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١٦). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو : الأمر ، أى : انتهوا.

(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) (١٧).

والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو : التقرير.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (١٨). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو : التعجيز وإقامة الحجة لله على العباد.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٩). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الحث والترغيب.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (٢٠). والمعنى المجازى الذى خرج هو إيناس موسى عليه‌السلام.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢١).

والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الإنكار على المخاطب.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٢). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التسوية.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٢٣).

والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التقرير والإنكار معا بحسب جملتى الاستفهام.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) (٢٤).

والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التعجيب.

٤٥١

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (٢٥). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التهويل. الخ.

أما النداء فهو من الأساليب الإنشائية الكثيرة الشيوع فى القرآن الكريم. وله ما للاستفهام من دور جليل الشأن فى أداءات البلاغة القرآنية ، وقل أن تجد فيه نداء غير مستعمل فى المعانى المجازية ، التى يقتضيها المقام.

وقد بلغت الأصناف التى نوديت فى القرآن أكثر من خمسة عشر صنفا شملت العاقل وغير العاقل.

ومن نداءات العاقل فى القرآن الكريم :

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) وهو أشرف نداءات القرآن الكريم ومثله (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ثم مناداة الرسل المفردة (يا إِبْراهِيمُ) ـ (يا نُوحُ) ـ (يا عِيسى).

ويلى هذا النداء فى الشرف :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ (يا عِبادِيَ)

ومن نداء غير العاقل فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(يا جِبالُ ..) (٢٦)

(يا أَرْضُ ... يا سَماءُ) (٢٧)

(يا أَيُّهَا النَّمْلُ) (٢٨)

والمنادى فى القرآن الكريم باعتبار لفظه أربعة مجموعات (٢٩) :

الأولى : نداء أفراد ، مثل : يا آدم ، يا إبراهيم ، يا موسى.

الثانية : نداء مثنى ، وهو نادر ، مثل : يا صاحبى السجن.

الثالثة : نداء جماعات مخصوصة ، مثل :

يا قوم ـ يا أيها الذين آمنوا ، يا أيها الملأ ، يا أيها الذين هادوا.

الرابعة : نداء جماعات عامة شاملة ، مثل :

يا أيها الناس ، يا بنى آدم.

ولكل مجموعة من هذه المجموعات الأربعة غرض خاص يناسب نداءها فى دقة وإحكام.

فمثلا (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يأتى عقب ندائها أمر عام يشمل جميع أفراد المنادى. كما جاء فى مطلع سورة «النساء»

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) لأن المخاطبين بالنداء ـ هنا ـ ينطبق عليهم هذا الوصف أعنى الخلق من نفس واحدة.

وكذلك ما جاء فى مطلع سورة الحج : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا

٤٥٢

أَرْضَعَتْ) فالناس كلهم مطالبون بتقوى الله (التكليف) وهم كلهم سيرون أهوال القيامة أما نداء الذين آمنوا فلا يأتى بعده إلا أمر خاص بالإيمان ، وتابع له. مثل قوله تعالى فى مطلع سورة «الحجرات»

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

فالتزام الأدب والإذعان بين يدى الله ورسوله أمر خاص بالمؤمنين.

ونداءات القرآن ، وبخاصة ما كان صادرا عن الله عزوجل ، خرجت إلى معنى مجازى غير طلب الإقبال المادى الحسى. وهذا هو مكمن البلاغة فى نداءات القرآن الكريم.

فمثلا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) المراد منه الإقبال الذهنى المعنوى. لتنفرغ أنفس المنادين من كل الشواغل لتلقى ما يتلى عليها فتعيه أكمل وعى. وهكذا كل معانى القرآن الكريم من نداءات.

د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) اللسان والمعاجم اللغوية. مادة : نشأ.

(٢) البلاغة الواضحة (مبحث الخبر) حامد عونى وبقية الإيضاح.

(٣) البقرة (١٩٠).

(٤) آل عمران (١٣٠).

(٥) الأنبياء (٦٢).

(٦) القصص (٣١).

(٧) النبأ (٤٠).

(٨) طه (١٠).

(٩) التفسير البلاغى للاستفهام فى القرآن الحكيم. مكتبة وهبة.

(١٠) الإسراء (٤٩).

(١١) الدخان (٤٩).

(١٢) البقرة (٢٨٢).

(١٣) البقرة (٢٨٦).

(١٤) طه (٩٤).

(١٥) الشرح (١).

(١٦) المائدة (٩١).

(١٧) يونس (٣٢).

(١٨) التكوير (٢٦).

(١٩) القمر (١٧).

(٢٠) طه (١٧).

(٢١) البقرة (٢٥٥).

(٢٢) البقرة (٦).

(٢٣) الصافات (٦٢).

(٢٤) الفرقان (٤٥).

(٢٥) الفيل (١).

(٢٦) سبأ (١٠).

(٢٧) هود (٤٤).

(٢٨) النمل (١٨).

(٢٩) عبد المتعال الصعيدى.

٤٥٣

الإطناب

من معانى الإطناب فى اللغة : الإكثار والتطويل ، والمبالغة فيما أخذ فيه المرء ، ومثله الإسهاب. أما اصطلاح علماء المعانى ، فإن ما قالوه فى الإطناب لا يخرج عن معانيه فى اللغة ، التى تدور حول كثرة الكلام باعتبار المقام الوارد فيه الكلام ، والمعانى التى تراد منه ، لا مجردا عن هذه القيود.

فالإطناب ـ عموما ـ المبالغة فى النطق والوصف ، مدحا كان أو ذما ، وأطنب فى الكلام بالغ فيه وأطنب فى الوصف إذا بالغ واجتهد.

وأطنب فى الكلام أيضا إذا أبعد. وأطنب الإبل إذا اتبع بعضها بعضا (١).

والإطناب فى الاصطلاح البلاغى له اعتبارات وخصوصيات تميزه عن مفهوم الإطناب بالمعنى اللغوى العام.

فالمعنى اللغوى يعتمد على مقياس الزمن الذى يستغرقه الكلام طولا وقصرا. أما فى الاصطلاح البلاغى فإن منزع الإطناب يحصل من المقارنة بين الكلام وبين المعانى المرادة منه ، سواء طال زمن الكلام أو لم يطل.

لذلك فإنهم فرّعوا على تعريفهم للإطناب صورا ذوات خصوصيات دقيقة ، ومعايير فنية محددة أما تعريف الإطناب عندهم ، فقد عرفه الإمام أبو يعقوب السكاكى بقوله : «هو تأدية المعنى بأكثر من متعارف الأوساط» (٢).

ويقصد ب «متعارف الأوساط» الحديث اليومى الذى يجرى بين الناس فى تعاملاتهم ، وهو عنده لا يمدح ولا يذم (٣).

وفى الواقع نجد الإطناب أحد أوصاف ثلاثة للكلام عموما :

فهو إما أن يكون اللفظ مساويا لمعناه وإما أن يكون اللفظ ناقصا عن معناه غير مخل وإما أن يكون اللفظ زائدا على معناه لفائدة وعرفه ابن الأثير ممثلا له فقال.

«هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة (٤)» وقال : إن الإطناب يكون بالحقيقة ، ويكون بالمجاز ، مثل :

«ذقته بفمى» فإن كلمة «بفمى» إطناب لأن الإذاقة لا تكون إلا بالفم.

وأما الزيادة (الإطناب) بالمجاز فكقوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٥).

لم يبين ابن الأثير جهة التجوز التى حصل

٤٥٤

بها الإطناب ولعله أراد أن الاستدراك فى (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أن (فِي الصُّدُورِ) إطناب ، لأن المعروف أن القلوب لا تكون إلا فى الصدور ، فإن كان أراد هذا فقد جانبه الصواب ؛ لأن هذه العبارة لا مجاز فيها.

وإن أراد إثبات عمى القلوب ، فهو مجاز حقا ، ولكن الجملة الاستدراكية ، هذه ليست إطنابا ، لأنها أدت معنى جديدا كل الجدة.

ومن صور الإطناب فى القرآن الكريم قوله تعالى : (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) (٦).

جاءت هذه العبارة جوابا عن سؤال الله موسى عليه‌السلام ـ وهو أعلم ـ : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) وقد تحقق الجواب بقوله :

(هِيَ عَصايَ) وكان يكفى أن يقول (عَصايَ) بدون ذكر (هِيَ) وبدون ذكر (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى).

وبلاغة هذا الإطناب أن موسى عليه‌السلام زادت رغبته فى التمتع بحديثه مع الله عزوجل.

ومن صور الإطناب فى القرآن الكريم ـ كذلك قوله تعالى :

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧).

لأن كلمة (الْمُسْتَقِيمَ) كافية فى بيان المراد فجاء ما بعدها إطنابا ، وبلاغة هذا الإطناب شدة الرغبة فى مقام المناجاة والدعاء فى حضرة الله عزوجل ، والتلذذ بخطابه.

هذا. والإطناب جنس عام فى بابه. تندرج تحته صور عدة ، لكل صورة منها اسم خاص بها ، وضوابط تميزها عن نظيراتها ، ومعان بلاغية يقصدها البلغاء منها ومقامات تقتضى استخدام تلك الصور صورة صورة.

يأتى الحديث عنها تباعا فى الآتى.

أ. د. / عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ، ترتيب القاموس ، مادة : طنب.

(٢) مفتاح العلوم (١٣٢).

(٣) شرح التلخيص (٢ / ١٥٩) وما بعدها.

* الطول (٢٨٢).

* الأطول (٢ / ٣٢).

* التلخيص (٢٠٩).

(٤) المثل السائر (٢ / ١٢٨ / ١٥٩).

(٥) الحج (٤٦).

(٦) طه (١٨).

(٧) فاتحة ، الكتاب (٦ ـ ٧).

٤٥٥

التّتميم

التتميم فن بديعى ، وصورة من صور الإطناب كالاعتراض ، والتذييل والإيغال ، ومعناه فى اللغة زيادة الناقص ليكون تاما (١).

أما فى اصطلاح البلاغيين فله عدة تعريفات وضوابط وقد سماه قدامة بن جعفر ب «التمام (٢)» وسماه الحاتمى وآخرون ب «التتميم (٣)» وهو ما عليه جمهور البلاغيين (٤).

وسماه أبو هلال العسكرى : التتميم والتكميل ، وغيره من البلاغيين لا يخلطون بين التتميم والتكميل ، بل لكل منهما معنى خاص به.

ثم عرفه قائلا : وهو أن توفّى المعنى حقه ، وتعطيه نصيبه من الصحة. ثم لا تغادر معنى فيه تمامه ألا تورده ، أو لفظا يكون فيه توكيده ألا تذكره» وعرفه ابن أبى الأصبع فقال (٥) :

«أن تأتى فى الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه فى ذاته ، أو فى صفاته.

وإن كان من الموزون نقص وزنه مع معناه ، فيكون الإتيان بها ـ أى بالكلمة المسماة تتميما ـ لتتميم الوزن والمعنى معا» (٦).

وقد أخذ هذا التعريف وعدّله ابن حجة الحموى فى القرن الثامن الهجرى فقال :

التتميم هو «الإتيان فى النظم والنثر بكلمة ، إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه ، وهو على ضربين :

ضرب فى المعانى ، وضرب فى الألفاظ.

فالذى فى المعانى هو تتميم المعنى.

والذى فى الألفاظ هو تتميم الوزن ، والمراد هنا تتميم المعنى. ويجيء ـ أى التتميم عموما ـ للمبالغة والاحتياط كقول طرفة :

فسقى ديارك ـ غير مفسدها ـ

صوب الغمام وديمة تهمى» (إ) ٧

فالتتميم يرد فى النثر والشعر معا.

وموضعه فى هذا البيت هو عبارة (غير مفسدها) وهى جملة حالية المراد منها الدعاء.

ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (٨).

«فقوله (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) تتميم ، وقوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) تتميم ثان وبهذين التتميمين تم الكلام وجرى على الصحة» (٩).

٤٥٦

ومنه قوله تعالى :

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (١٠)

فقوله تعالى (عَلى حُبِّهِ) «هو تتميم للمبالغة التى تعجز عنها قدرة المخلوقين» (١١).

والضمير فى (حُبِّهِ) يجوز عوده على الطعام ، أى يطعمون الطعام مع شدة اشتهائهم إياه. وحاجتهم إليه لما بهم من جوع.

ويجوز عوده على «الله» عزوجل ، أى يطعمون الطعام لا رياء وإنما على حب الله عزوجل. ويرجح هذا قوله بعد الآية المتقدمة.

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) ومن التتميم فى القرآن الكريم قوله تعالى : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) (١٢).

فقوله تعالى : (وَما كانَ مُنْتَصِراً) تتميم ؛ لأن ما قبله إعلام بأن المتحدث عنه مقطوع عنه سبب النصر من خارج نفسه ، وهذا لا يمنع أن يكون هو قادرا على نصر نفسه ، فلما قال : (وَما كانَ مُنْتَصِراً) تم المعنى المراد من جهتين :

الأولى : نفى نصر الأعوان.

الثانية : نفى نصر نفسه.

إذن ، فلا هو منصور بأعوانه ، ولا منصور قطعا سواء كان له أعوان ، أو لم يكن.

ومنه قوله تعالى :

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ..) (١٣)

فكل من : يمشون بها ـ يبطشون بها ـ يبصرون بها ـ يسمعون بها .. من صور التتميم ، لأن المراد من الاستفهام فى المواضع الأربعة النفى ، أى لا أرجل لهم ، ولا أيدى لهم ، ولا أعين لهم ، ولا آذان لهم ، ونفى وظائف هذه الأعضاء وإن كان مفهوما من نفى الأعضاء ، فإن ذكر ما يختص بكل عضو منها تمم المعنى وحسّنه.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

المصادر والمراجع :

__________________

(١) اللسان ، وترتيب القاموس ، مادة : تم.

(٢) نقد الشعر (٤٩).

(٣) حلية المحاضرة (١ / ١٥٣).

* المطول (٢٩٦).

* الأطول (٢ / ٤٧).

(٤) شروح التلخيص (٣ / ٢٣٥) مطبعة السعادة القاهرة ١٣٤٣ ه‍.

* معترك الأقران (١ / ٢٦٩) دار الفكر العربى ـ القاهرة.

(٥) الصناعتين (٣٠٨) مطبعة محمود بك الآستانة ١٣٧٧ ه‍.

(٦) بديع القرآن المجيد (٤٥) دار نهضة مصر ـ القاهرة ط أولى (١٩١٩ ه‍).

(٧) خزانة الأدب (١ / ٢٧١) ط. أولى. دار ومكتبة الهلال بيروت ١٩٨٧ م.

(٨) النحل (٩٧).

(٩) بديع القرآن (٤٦).

(١٠) الإنسان (٨).

(١١) خزانة الأدب (٢٧٣).

(١٢) الكهف (٤٣).

(١٣) الأعراف (١٩٥).

٤٥٧

التّذييل

الذيل فى اللغة هو آخر الشيء ، مأخوذ من ذيل أو ذنب الحيوانات ذوات الأربع ، والحشرات الزاحفة ، وذيّل فلان ثوبه ، أى طوّله وجعل له ذيلا (١).

أما تعريفه فى اصطلاح علماء المعانى ، فقد قال فيه أبو هلال العسكرى :

«للتذييل فى الكلام موقع جليل ، ومكان شريف خطير لأن الحق يزداد به انشراحا ، والمقصد اتضاحا وقال بعض البلغاء للبلاغة ثلاثة مواضع :

الإشارة والتذييل والمساواة ... فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه ، ويؤكد عند من فهمه ... وينبغى أن يستعمل فى المواطن الجامعة ، والمواقف الحافلة لأن تلك المواطن تجمع البطىء الفهم ، والبعيد الذهن ، والثاقب القريحة ، والجيد الخاطر.

فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد ، تأكد عند الذهن اللقن (الذكى) وصح للكليل البليد» (٢).

وذكر ابن حجة الحموى تعريفا للتذييل ارتضاه البلاغيون من قبله ومن بعده ، وهو :

«أن يذيّل الناظم أو الناثر كلاما بعد تمامه وحسن السكوت عليه ، بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا ، وتجرى مجرى المثل بزيادة التحقيق؟؟ (٣).

يعنى أن التذييل صورة من صور الإطناب لأنه يفيد تقرير معنى ما قبله وتزيده وضوحا وموقف البلاغيين ـ عموما ـ لم يختلف عما ذكره الحموى من مفهوم التذييل (٤).

والتذييل كثير الورود فى القرآن الكريم ، فى فواصل الآيات ، التى هى معاقد المعانى فيها.

وكان البلاغيون قد قسموا التذييل قسمين :

أحدهما ما يجرى مجرى المثل.

والثانى ، ما لا يجرى مجرى المثل ، وكلاهما ورد فى القرآن الكريم.

فمن القسم الأول قوله تعالى :

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٥).

فالجملة الأخيرة (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) هى التذييل. فيها تقرير وتوكيد لمعنى الكلام الذى قبلها. وهى جارية مجرى

٤٥٨

المثل. ومعنى جريانها مجرى المثل ، أنه يصح ذكرها فى المقام الذى يستدعيها ، دون افتقارها إلى الاعتماد على ذكر ما قبلها.

ومنه قوله تعالى :

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٦) فجملة (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) تزييل مؤكد ومقرر لمعنى ما قبلها (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) وهو جار مجرى المثل السائر ، فيقال : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ـ دون أن يفتقر إلى ما قبله.

وقد يأتى التذييل فى القرآن الكريم فى غير الفواصل ومنه قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧) فى هذه الآية تذييلان :

الأول : وقع فى درج الكلام لا فى الفاصلة ، وهو (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ).

والثانى : وقع فى الفاصلة (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفى كلا التذييلين تقرير لمعنى ما تقدم عليه ، وتوكيد له.

ومن التذييل فى القرآن الكريم قوله تعالى :

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٨).

لأن فى الآية الأولى (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) حكما عاما شاملا لزوال كل البشر ، فجاءت الآية الثانية :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مؤكدة لذلك المعنى ، ومقررة له. وهى ليست فاصلة بل هى آية قائمة بذاتها. فمجيء التذييل فى الفواصل أغلب لا مطرد.

وهو تذييل جار مجرى المثل ، لصحة ترديده دون الافتقار إلى ما قبله.

ومن التذييل غير الجارى مجرى المثل قوله تعالى : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) (٩).

فقوله (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) تذييل غير جار مجرى المثل ، مؤكد لمعنى (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) ومقررة له وهو كثير فى فواصل الآيات.

أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى

الهوامش :

__________________

(١) اللسان ، وترتيب القاموس ، مادة : ذيل.

(٢) الصناعتين (٢٩٤).

(٣) خزانة الأدب (١ / ٢٤٢).

* المطول (٢٩٤).* الأطول (٢ / ٤٥).* شرح عقود الجمال (٧٤).

(٤) شروح التلخيص (٣ / ٢٣٥).

(٥) الإسراء (٨١).

(٦) سبأ (١٧).

(٧) التوبة (١١١).

(٨) الأنبياء (٣٤).

(٩) الأنبياء (٧٤).

٤٥٩

التّكرار

التكرار فى اللغة تدور معانيه حول الإعادة ، ويكون فى الأفعال كتكرار الزيارة ونحوها ، ويكون فى الأقوال وهو إعادة الكلمة ، أو الكلام مرتين أو أكثر ، وهو المقصود لنا هنا ؛ لأن التكرار فن يمارسه المتكلمون كثيرا فإذا دعت إليه حاجة ، كان حسنا مقبولا ، وإذا لم تدع إليه حاجة ، ولم يفد فائدة جديدة كان عيبا مذموما وهو من الأساليب الشائعة فى اللغة العربية ، وفى غيرها من اللغات.

وقد عرّفه الفرّاء العالم اللغوى بقوله :

«والكلمة قد تكررها العرب على التغليظ والتخويف (١)» وسماه أبو عبيدة مجاز التكرار (٢).

وعرض له الإمام الخطابى فقال :

«تكرار الكلام على ضربين :

مذموم وهو ما كان مستغنيا عنه ، غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفد من الكلام الأول ، لأنه حينئذ يكون فضلا ـ يعنى فضلة ـ من القول ولغوا ، وليس فى القرآن شىء من هذا النوع.

والضرب الآخر ـ يعنى الممدوح ـ ما كان بخلاف هذه الصفة ، فإن ترك التكرار فى الموضع الذى يقتضيه وتدعو الحاجة إليه ، فيه إخلال بالبلاغة ، مثل تكلف الزيادة فى وقت الحاجة إلى الحذف والاختصار ، وإنما ، يحسن فى الأمور المهمة ، التى قد تعظم العناية بها ، ويخاف بتركه وقوع الغلط والنسيان فيها ، والاستهانة بقدرها» (٣).

وهو من الأساليب التربوية ، لأن الكلام إذا تكرر تقرر فى الذهن.

وقد ورد التكرار فى القرآن الكريم بكثرة لخدمة المعانى وتوكيدها ، ولوروده فى القرآن دواع بلاغية متفاوتة ، ومزايا فنية آسرة. وله صور يأتى فيها منها :

* تكرار الأداة مثل «إن» و «ثم»

* تكرار الكلمة ، مثل «أولئك».

* تكرار الجملة ، مثل (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ).

* تكرار الأوامر والنواهى ، فى العبادات والمعاملات وغيرهما.

* تكرار القصة (٤).

٤٦٠