تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩)

____________________________________

[٣٥] (وَلا يَحُضُ) أي لا يحث الناس ـ من باب الأمر بالمعروف ـ أو هو كناية عن منعه بنفسه ، لأن المانع لا يحث ، فأتى بالمسبب وأريد السبب (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي إطعام الفقراء ، الذين يجب الحض على إطعامهم لأنهم في معرض الهلكة.

[٣٦] (فَلَيْسَ لَهُ) هذا الكافر (الْيَوْمَ) أي في يوم القيامة (هاهُنا) في المحشر (حَمِيمٌ) صديق ينفعه.

[٣٧] (وَلا) له (طَعامٌ) يأكله (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) وهو صديد قيح أهل النار ، أي غسالتهم.

[٣٨] (لا يَأْكُلُهُ) أي لا يأكل الغسلين (إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الذين اخطأوا في الدنيا بالكفر والعصيان.

[٣٩] وبعد استعراض أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة يأتي السياق ، ليستدل على الرسالة وينفي مزاعم القوم حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) أيها البشر.

[٤٠] (وَ) ب (ما لا تُبْصِرُونَ) أي بالمشاهدات والمغيبات ، والإتيان ب «لا» للطيفة ، هي الحلف ، وإفادة أن الحلف لعظيم ، فإذا أردت أن تحلف ، وأردت أن تبين أن الحلف عظيم تقول «لا أقسم بحياتك إن الأمر كذا» فأنت لم تحلف مع الإلماع إلى الحلف ، وعلى هذا ف «لا» للنفي ، لا أنها زائدة.

٥٠١

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)

____________________________________

[٤١] ثم بين متعلق الحلف بقوله : (إِنَّهُ) أي إن القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) عند الله سبحانه ، فهو من قبله ، إذ الرسول لا يقول إلّا من عنده سبحانه.

[٤٢] (وَما هُوَ) أي ليس القرآن (بِقَوْلِ شاعِرٍ) فقد كانوا يقولون : إن محمدا شاعر والقرآن شعر (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي قليل إيمانكم ، أو يؤمن منكم بالرسول أشخاص قليلون ، وهذا للاستنكار والتقريع ، أي لم تكونون هكذا؟

[٤٣] (وَلا) القرآن (بِقَوْلِ كاهِنٍ) فقد كان بعضهم يقول : إن الرسول كاهن ، وأن القرآن كهانة ، والكاهن من له اتصال بالشياطين فيأتون إليه بأخبار ملفقة مسجعة باطلها أكثر من حقّها (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) فلا تتذكرون الحق المودوع في فطرتكم إلّا قليلا ، أو قليل منكم يتذكرون الحق.

[٤٤] إنه (تَنْزِيلٌ) أي منزل (مِنْ) عند (رَبِّ الْعالَمِينَ) على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٤٥] (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) أي افترى الرسول علينا (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) المكذوبة ، والتقوّل اختلاق القول ونسبته إلى من ليس منه.

[٤٦] (لَأَخَذْنا مِنْهُ) أي من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْيَمِينِ) أي بيمينه بأن

٥٠٢

ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)

____________________________________

قطعناها ، لأن من يفسد في الأرض جزاؤه أن تقطع يده. ولا يخفى أن هذا الكلام للإنكار على الكفار ، لأنه يمس ساحة قدس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا من قبيل (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (١) كما سبق الكلام فيه.

[٤٧] (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ) أي من الرسول (الْوَتِينَ) أي قطعنا عرق قلبه ، وهو كناية عن إهلاكه ، أو المعنى لأخذنا يده اليمنى لنقتله كما يفعل الجلاد بالمجرم يأخذ يده ليسهل قتله.

[٤٨] ولو كان كاذبا ، وفعلنا به ذلك (فَما مِنْكُمْ) أيها البشر (مِنْ أَحَدٍ) «من» زيادة لتعميم النفي (عَنْهُ) أي عن الرسول (حاجِزِينَ) أي لا يقدر أحد منكم أن يدفعنا ويحجز بيننا وبين الرسول حتى لا تحل به عقوبتنا.

[٤٩] (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ) مذكّر لما أودع في فطرتهم من التوحيد وسائر الأصول (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الآثام ، فإن الإنسان المحافظ للحدود الذي يتقي ويخاف الزلة يتذكر بالقرآن ، والتخصيص بهم لأنهم المنتفعون بالقرآن دون سواهم.

[٥٠] (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ) أيها الناس (مُكَذِّبِينَ) يكذبون بالله وبالرسول ، وبالمعاد ، وبالقرآن. وهذا تهديد لهم بأنهم سوف يحاسبون ويعذبون بسبب تكذيبهم.

__________________

(١) الأعراف : ١٥١.

٥٠٣

وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)

____________________________________

[٥١] (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) يوجب الحسرة عليهم يوم القيامة حيث لم يعملوا به مع أنه في متناول أيديهم.

[٥٢] (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي هذا القسم من اليقين وهو اليقين البالغ درجة راقية لمطابقته للواقع ، فإن هناك علم اليقين وهو ما يعلم بغير أن يشاهد ، وحق اليقين وهو ما يعلم ويشاهد ـ وقد سبق المثال بالنار لذلك ـ.

[٥٣] (فَسَبِّحْ) أي نزّه (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي سبح الله بذكر اسمه ، ولا تعر للكفار بالا ، بل امض في مسئوليتك ، والتنويه بذكره سبحانه على نحو التنزيه عن الصفات السيئة والشركاء ـ مما يزعمها الكفار والمشركون ـ.

٥٠٤

(٧٠)

سورة المعارج

مكية / آياتها (٤٥)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المعارج» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، إلّا مفتتحها فإنها مدنية وحيث ختمت سورة «الحاقة» بوعيد الكفار ، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

وقد كان سبب نزول مفتتح السورة على ما روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : لما نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا يوم غدير خم وقال «من كنت مولاه فعلي مولاه» طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحرث الفهري فقال : يا رسول الله أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام ـ أي عليا عليه‌السلام ـ فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله الذي لا إله إلّا هو إن هذا من الله. فولى النعمان بن الحرث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله فأنزل الله (سَأَلَ

٥٠٥

سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) (١).

أقول : وإلى هذا أشير بقوله سبحانه (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله ليكون شروعا مباركا موصولا بالخير ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم بإصلاح النواقص دينا ودنيا وآخرة ، فإن الرحمة في غيره سبحانه معنى في القلب يبعث على الخير ، وفيه سبحانه إعطاء الخير.

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ص ٣٨١.

(٢) الأنفال : ٣٣.

٥٠٦

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)

____________________________________

[٢] (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) يعني استدعى مستدع وطلب العذاب ، وقد عرفت أنه «الفهري» ، ومن المحتمل أن المراد به أعم منه ليشمل الكفار الذين كانوا يستعجلون بالعذاب ـ استهزاء ـ.

[٣] (لِلْكافِرينَ) أي أن ذلك العذاب للكافرين ، فهو واقع بهم سواء طلبوه أم لم يطلبوه (لَيْسَ لَهُ) أي لذلك العذاب (دافِعٌ) يدفعه.

[٤] (مِنَ اللهِ) فإن العذاب من قبله سبحانه (ذِي الْمَعارِجِ) جمع «معراج» وهو محل العروج والصعود ، ولعل المراد بها السماوات التي هي معارج للملائكة ولأرواح المؤمنين ، وهذا كناية عن علو شأنه سبحانه ، فإذا أراد شيئا لا بد وأن يقع.

[٥] ثم بين مقدار ارتفاع المعارج ، حتى لا يتوهم أن مقدار ارتفاعها كالمألوف في الأذهان من الارتفاعات القليلة (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) الذي هو أعظم الملائكة ، أو المراد أرواح المؤمنين (إِلَيْهِ) أي إلى المحل الذي جعله سبحانه مصدرا لأمره ومحلا لتشريفه ، كالبيت الحرام الذي جعله محلا لعنايته ـ فإنه سبحانه منزه عن المكان ـ (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) أي مقدار ذلك اليوم (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فطول ذلك اليوم ـ إذا سير فيه بالسير العادي ـ خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، وبمعرفة طول ذلك اليوم يعرف مقدار بعد محل تشريفاته سبحانه من الأرض.

٥٠٧

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ

____________________________________

ويحتمل في العبارة معنى آخر ، وهو أن العروج إلى محل تشريفاته إنما هو في يوم القيامة الذي مقداره خمسين ألف سنة ، فهو إما لبيان مقدار بعد محل التشريفات عن الأرض وإما لبيان مقدار ذلك اليوم ، وفي الأحاديث كلا المعنيين.

[٦] (فَاصْبِرْ) يا رسول الله (صَبْراً جَمِيلاً) لا جزع فيه ولا شكوى مما تقاسيه من الأتعاب وتكذيب الكفار.

[٧] (إِنَّهُمْ) أي الكفار (يَرَوْنَهُ) أي ذلك اليوم وهو يوم القيامة ـ بناء على المعنى الثاني ـ أو العذاب (بَعِيداً) ولذا يعملون بالكفر والمعاصي.

[٨] (وَنَراهُ) أي نعلمه نحن (قَرِيباً) فإن كل آت قريب ، وإن طال الأمد في مقاييس الناس.

[٩] ثم بين السياق وقت العذاب ، أو وقت ذلك اليوم (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي الصفر المذاب ، وكأنه للصب على الناس المجرمين.

[١٠] (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف المنفوش ، فإنها تطير في الجو هباء ، كما يطير الصوف.

[١١] (وَلا يَسْئَلُ) في ذلك اليوم (حَمِيمٌ) أي صديق (حَمِيماً) أي عن صديقه لشغل كل إنسان بنفسه.

[١٢] (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يرى بعض الأصدقاء بعضا ولكن لا يسألون عنهم

٥٠٨

يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦)

____________________________________

كيف أنتم؟ والفعل مجهول من باب التفعيل ، كأنه يحصل منهم الإبصار قهرا ، إشارة إلى أنهم لا يريدون أن يبصروا أصدقاءهم ، وإنما تقع عينهم عليهم بدون إرادة (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي يتمنى ويحب العاصي (لَوْ يَفْتَدِي) أي يعطي الفدية عن نفسه لينجيها (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) أي يوم القيامة (بِبَنِيهِ) بأن يدفع عوضه أولاده الذين هم أعز الناس عنده فينزل بهم العذاب دونه.

[١٣] (وَ) ب (صاحِبَتِهِ) أي يعطي زوجته للعذاب لينجو بنفسه (وَ) ب (أَخِيهِ) حتى ينجو.

[١٤] (وَ) يفتدي ب (فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) أي عشيرته ـ التي انفصل منهم بالولادة ـ التي كانت تؤوي ، أي تعطي المأوى لهذا الإنسان في الشدائد.

[١٥] (وَ) يفتدي ب (مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي يعطي بدله جميع الخلائق (ثُمَّ يُنْجِيهِ) ذلك الفداء عن العذاب.

[١٦] وهل يفيد الفداء ـ ولو فرضنا أنه تمكن من كل ذلك ـ؟ (كَلَّا) لا ينجيه شيء ولا يفيده الفداء (إِنَّها) أي نار جهنم (لَظى) أي لهب خالص ، والمعنى للمجرم اللهب فلا يفيده الفداء.

[١٧] في حال كونها (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي تنزع كثير الأطراف فلا تترك جلدا ولا لحما. «وشوى» الأكارع والأطراف ، وتسميتها بالشوى لأنها

٥٠٩

تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣)

____________________________________

تشوى بالنار.

[١٨] (تَدْعُوا) النار إلى نفسها ، بالالتهاب والالتهام (مَنْ أَدْبَرَ) عن الحق ، أي أعطاه دبره ليعرض عنه (وَتَوَلَّى) أي أعرض عن الدين.

[١٩] (وَجَمَعَ) المال (فَأَوْعى) أي أمسكه في الوعاء ـ كالصندوق ونحوه ـ فلم ينفقه في طاعة الله.

[٢٠] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) أي شديد الحرص ، من «الهلع» وهو الحرص.

[٢١] ثم بين سبحانه معنى الهلوع بقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي لامسة ونزل به شر من فقر ومرض وخوف وما أشبه (جَزُوعاً) أي كان كثير الجزع ، بدون أن يصبر وينتظر الفرج.

[٢٢] (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) أي لامسة ونزل به كالغنى والصحة والأمن والجاه (مَنُوعاً) أي كان كثير المنع لخيره عن الناس ولا يقوم بواجب الشكر من بذل ماله وجاهه ، والقيام في الخدمات بصحته وأمنه.

[٢٣] إن ذلك طبيعة الإنسان وفطرته التي ركبت فيه (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) الذين اتصلوا بالله سبحانه وارتفعوا عن مهاوي النفس ، بالصلاة ـ والإتيان بها لأنها تلازم الإيمان وسائر الصفات الحسنة ـ.

[٢٤] (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) يقيمونها باستمرار ، فإن إقامة

٥١٠

وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)

____________________________________

الصّلاة بصورة مستمرة توحي إلى النفس معاني الخير ، لما يحصل من الإيماء المكرر الموجب لتهذيب النفس كما قال في آية أخرى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) (١).

[٢٥] (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) وهو مقدار منه يعطيه للفقراء ، وقد ورد أن الحق المعلوم يراد به غير الزكاة مما يفرضه الرجل على نفسه فيخرجه من ماله في كل يوم أو في كل جمعة.

[٢٦] (لِلسَّائِلِ) الذي يسأل لافتقاره ومسكنته (وَالْمَحْرُومِ) وهو الفقير الذي حرم من الثروة ولا يسأل الناس لعفته.

[٢٧] (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يؤمنون بالقيامة الذي هو يوم الجزاء ـ إذ الدين بمعنى الجزاء ، كما قال «ولا أنت ديّاني فتخزوني» ـ ولعل الإتيان من باب التفعيل لإفادة كثرة تصديقهم بكل ما يقع في ذلك اليوم.

[٢٨] (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ) في الدنيا وفي الآخرة (مُشْفِقُونَ) أي خائفون ، من «أشفق» بمعنى خاف.

[٢٩] وإنما يخافون ف (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ) بالكفار والعاصين (غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا يؤمن حلوله ، فلا ينبغي لأحد أن يأمن منه فيتمادى في الكفر

__________________

(١) المؤمنون : ١٠.

٥١١

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣)

____________________________________

والعصيان اغترارا.

[٣٠] (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ) جمع «فرج» وهو القبل والدبر وسمي بذلك لانفراج وانشقاق فيهما (حافِظُونَ) فلا يستحلونها في المعاصي.

[٣١] (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي زوجاتهم ويعرف العكس بالتلازم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي إمائهم ، ونسب الملك إلى اليمين لأنها آلة اكتساب المال الموجبة لشراء الإماء ، والمتعة والتحليل داخلان في الأزواج أو الثاني داخل في ما ملكت أيمانهم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يلامون على استعمال فروجهم في هذا النوع الخاص من اللذة.

[٣٢] (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب اللذة في (وَراءَ ذلِكَ) الذي ذكر بأن استعمله في الحرام في زنى ولواط وسحق واستمناء (فَأُولئِكَ) المبتغون (هُمُ العادُونَ) الذين تعدوا الحق وحدود الشريعة ، المستحقون بذلك النكال والعذاب.

[٣٣] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) التي تودع عندهم (وَعَهْدِهِمْ) مع من عاهدوا (راعُونَ) فلا يخونون الأمانات ، ولا ينقضون العهود.

[٣٤] (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي يقومون بالشهادة التي تحمّلوها ، فإذا صار موقع أن يشهدوا شهدوا بالحق لا بالباطل ، ولا يهربون من

٥١٢

وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨)

____________________________________

الشهادة لخوف أو طمع.

[٣٥] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) وكأن المحافظة أداؤها بحدودها وآدابها ، «دائمون» الاستمرار عليها ، أو الآية السابقة في النوافل وهذه في الفرائض ، كما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

[٣٦] (أُولئِكَ) المؤمنون المتصفون بتلك الصفات (فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين تجنها الأشجار والقصور (مُكْرَمُونَ) أي يكرمهم الله سبحانه والملائكة ، فهم في نعمة مادية ومعنوية.

[٣٧] وبعد وضوح الحق (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ) يا رسول الله أي أيّ شيء لهم وما حملهم على أن يفعلوا ما فعلوا؟ (مُهْطِعِينَ) من «أهطع» إذا نظر ببصره إلى الشيء لا يزيله عنه ، ويكون ذلك عن حب أو عداوة ، والمراد هنا الثاني ، أي ما لهم ينظرون إليك شزرا نظر عداوة وشنآن؟

[٣٨] (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) أي من طرف يمينك وطرف شمالك (عِزِينَ) جمع «عزة» أي جماعات متفرقين عصبة عصبة ، فإن «عزة» بمعنى الجماعة ، وهذا هو الغالب في الناس إذا ظهر فيهم مصطلح أو مبدع ، فإنهم ينظرون إليه جماعات من كل صوب إذا كان في محل أو مر بمحل.

[٣٩] (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)؟

٥١٣

كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا

____________________________________

فما هذا الطمع السخيف بعد كفرهم وعنادهم؟ فكأنهم إذا أبغضوا الرسول ونظروا إليه نظرا شزرا توقعوا بذلك نيل رضى الله سبحانه ودخول جنته.

[٤٠] (كَلَّا) لا يدخلون الجنة ، ف (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) من نطفة قذرة ، وهل من أصله نطفة صالح لدخول الجنة بدون الإيمان والعمل الصالح؟ فإن الشيء إما بأصله أو بعمله ، وهؤلاء أصلهم نطفة قذرة ، وعملهم كفر وعصيان ، فلا صلوح لهم لدخول الجنان.

[٤١] (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) «لا» للنفي ، وهذا إلماع إلى حلف ، في صورة عدم الحلف ـ كما سبق ـ والمشارق باعتبار شروق الشمس في كل يوم من نقطة من الفلك ، وكذا المغارب بالنسبة إلى غروبها (إِنَّا لَقادِرُونَ).

[٤٢] (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي أن نهلكهم ونأتي بدلهم خيرا منهم أناسا يؤمنون ولا يعصون (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بأن يسبقنا الكفار في الهرب ، حتى نبقى وراءهم لا نلحق بهم فلا نتمكن من تعذيبهم كالحاكم الذي يبقى ويهرب منه المجرم فلا يتمكن من إنزال العقوبة به.

[٤٣] (فَذَرْهُمْ) أي دع يا رسول الله هؤلاء الكفار (يَخُوضُوا) في باطلهم ، وأصل الخوض الارتماس في الماء ، وشبه به الإنسان الذي

٥١٤

وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)

____________________________________

يتكلم ويعمل بالباطل ، كأنه خائض فيه (وَيَلْعَبُوا) أي يفعلوا فعل اللاعب الذي لا يريد غاية من عمله وإنما يقضي الوقت بذلك (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة.

[٤٤] ثم بين سبحانه ذلك اليوم بقوله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) جمع جدث وهو القبر (سِراعاً) أي مسرعين ، لشدة هولهم فإن الخائف يسرع في المشي ليجد مأمنا قبل أن ينزل به العذاب (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) جمع نصب كسقف جمع سقف ، وهو الصنم (يُوفِضُونَ) أي يسرعون ، فقد كانوا في الدنيا يسرعون إلى أصنامهم في مواسم شركهم وهناك كذلك يسرعون عند خروجهم من القبر.

[٤٥] في حال كونهم (خاشِعَةً) أي خاضعة ذليلة (أَبْصارُهُمْ) فإن أثر الذلة يظهر في العين لا يستطيعون مدّ بصرهم خوفا وفزعا (تَرْهَقُهُمْ) أي تغشاهم وتحيط بهم (ذِلَّةٌ) لأنهم قد علموا جرمهم وأنهم محكوم عليهم بالعذاب (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا فينكرونه والآن قد وصلوا إليه ووجدوا عذابه وهوله.

٥١٥

(٧١)

سورة نوح

مكية / آياتها (٢٩)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «نوح» وقصته وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أسلوب قصصي. وحيث ختمت سورة المعارج بوعيد الكفار ، افتتحت هذه السورة بذكر نوح عليه‌السلام وما لاقى من تكذيب قومه ـ تسلية للرسول وتخويفا للكفار ـ.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله ، ليكون عونا لنا في مهام الأمور ، وفي هذا الأمر الذي نشرع فيه ـ بصورة خاصة ـ الرحمن الرحيم ، الذي يتفضل بالرحم على من طلب منه الرحم وتسهيل الأمر.

٥١٦

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ

____________________________________

[٢] (إِنَّا أَرْسَلْنا) أي بعثنا (نُوحاً) رسولا (إِلى قَوْمِهِ) وأوحينا إليه (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) بأنهم إن تمادوا في الكفر والعصيان ابتلوا بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع مؤلم.

[٣] فامتثل نوح عليه‌السلام و (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) أنذركم وأخوفكم (مُبِينٌ) أي واضح ظاهر.

[٤] (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) فلا تكفروا به (وَاتَّقُوهُ) فلا تعصوه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من الشريعة ، وأصله «أطيعوني» حذف الياء تخفيفا وتنسيقا.

[٥] فإنكم إن عبدتموه واتقيتم (يَغْفِرْ) الله (لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي جنس ذنوبكم ، ف «من» للجنس (وَيُؤَخِّرْكُمْ) ، فلا يهلككم عاجلا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة قد سميت في كتابه ، في مقابل الكافر الذي يعذبه بعذاب الاستئصال (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الأجل الذي عينه الله (إِذا جاءَ) وقته (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا بالإيمان والتوبة قبل فوات الأوان (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لو كنتم عاملين بالأمور لعلمتم بذلك.

[٦] ودعا نوح قومه مدة مديدة بمثل تلك الإرشادات والنصائح ، لكن دعاءه لم يكن ينفع فيهم ، فتوجه إلى الله سبحانه داعيا (قالَ) نوح عليه‌السلام : يا

٥١٧

رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)

____________________________________

(رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) إلى الإيمان (لَيْلاً وَنَهاراً) أي في كل الأوقات.

[٧] (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) فإن دعوتي صارت سببا لأن يرص الكفار صفوفهم ، ويجاهروا بالكفر والطغيان والفرار من الحق.

[٨] (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان والطاعة (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) ذنوبهم إن آمنوا وأطاعوا (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) حتى لا يسمعوا كلامي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي غطوا بها وجوههم ورؤوسهم لئلا يروني (وَأَصَرُّوا) أي داموا على كفرهم وطغيانهم (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي تكبروا وأنفوا عن قبول الحق ، وكأن الإتيان بصيغة الاستفعال لإفادة أنهم طلبوا الكبر ، وإن لم يكونوا كبراء حقيقة.

[٩] (ثُمَ) لترتيب الكلام لا لترتيب المطلب في الخارج (إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي جهرا بأعلى صوتي.

[١٠] (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) إعلانا بالدعوة (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي علانية وسرا ، والمراد الدعوة بكل وجه محتمل ، والجهر قسم من الإعلان ـ فليس في ذكر الإعلان بعد الإجهار تكرارا.

٥١٨

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)

____________________________________

[١١] (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا) أيها القوم (رَبَّكُمْ) أي اطلبوا غفرانه بالإيمان والطاعة (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) كثير المغفرة لمن استغفر.

[١٢] فإن استغفرتم (يُرْسِلِ) الله (السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي كثيرة الدرور بالمطر ، قيل إن الغيث قد منع عنهم حتى ابتلوا بالقحط ولذا رغبهم نوح عليه‌السلام في ذلك.

[١٣] (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثر أموالكم وأولادكم الذكور (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين ، بسبب المطر والأموال (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) تسقون جناتكم ، فإن المطر إذا كثر اختزن في الأرض ثم تفجر من العيون وجرى منها.

[١٤] (ما لَكُمْ) يا معاشر الكفار (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي لا تعظمون الله تعالى ، فإن «الوقار» بمعنى العظمة ، والرجاء هو الطمع في شيء مرغوب ، فإن من لا يعرف عظمة شخص لا يرجوه ، فكأنه قال : ما لكم لا ترجون الله ، إذ لا تعترفون له بالوقار والعظمة؟

[١٥] (وَ) الحال أنكم ترون آثار عظمته في أنفسكم ، إذ (قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) جمع «طور» فقد انتقلتم من حال إلى حال حتى وصلتم إلى هذا الحال الذي أنتم فيه ، أو المراد خلقكم مختلفين ، فكل واحد

٥١٩

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)

____________________________________

يختلف عن الآخر مما يدل على كمال القدرة.

[١٦] إن آثار عظمة الله سبحانه كما هي ظاهرة في أنفسكم كذلك هي ظاهرة في الكون (أَلَمْ تَرَوْا) أيها الكفار (كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ) فإن علم الفلك معترف بوجود سبع مدارات للكواكب السيارة (طِباقاً) أي بعضها فوق الآخر؟

[١٧] (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ) أي في تلك السماوات ، ويجوز الإتيان بضمير غير العاقل مفردا وجمعا (نُوراً) ينير الظلام بأشعته (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي مصباحا يشع ضياؤها حتى تنير الأكوان.

[١٨] (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ) أيها البشر (مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) فإن الإنسان ينبت من الأرض كما أن النبات ينبت منها ، ولكن الفرق هو أن الأرض تتحول إلى النبات ، والنبات يأكله الإنسان فيصير منيا ثم إنسانا والنبات ينبت ابتداء ، وفي الحقيقة أن الإنسان نبات الأرض المتحرك ، كما أن النبات نباتها الساكن.

[١٩] (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي في الأرض ، فالميت لا يلبث أن يبلى ويكون ترابا كما كان سابقا (وَيُخْرِجُكُمْ) من الأرض لدى البعث في يوم القيامة (إِخْراجاً) وإنما ذكر المصدر تأكيدا لبيان أنه كائن لا محالة.

[٢٠] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) مبسوطة لتتمكنوا من المشي عليها

٥٢٠