تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢)

____________________________________

[٤٠] (فَيَوْمَئِذٍ) تكرار لقوله سبحانه «فإذا» للتأكيد (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) عن ذنب أحد ، إلا نفسه ، وجيء بضمير مفرد ، لإفادة أن كل إنسان هو المسؤول عن نفسه فلا يتوهم أنه يمكنه الفرار وإلقاء الأجوبة على عاتق الغير ، كما أن الكبراء في الدنيا يفعلون كذلك ، يلقون أجوبة الأسئلة المحرجة على عاتق غيرهم (إِنْسٌ وَلا جَانٌ) فكل إنس يجيب عن نفسه وكل جني يجيب عن نفسه.

[٤١] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ هل تكذبان؟ وتخلّفان هذه المشكلة التي لا مفر منها وراء ظهوركم.

[٤٢] إنه بالإضافة إلى أنهم يسألون في موطن من مواطن القيامة عن أعمالهم ، إنهم يعرفون من ألوانهم (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) ووجوههم السود وأجسامهم الزرق ، فإن أجسامهم تكون كجسم من لفحه برد شديد ، وكآبتهم الظاهرة (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١) «زرقاء» (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٢) وإنما لم يذكر الصالحون ، لأن المقام لتهديد الكفار والعصاة (فَيُؤْخَذُ) كل مجرم (بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ظاهر الآية أنهم يجمع الملائكة بين ناصيتهم وأقدامهم لإلقائهم في جهنم.

[٤٣] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ لا تكذبوا حتى لا تقعوا في أمثال هذا العذاب الجسمي والإهانة النفسية.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٧.

(٢) القيامة : ٢٥.

٣٠١

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧)

____________________________________

[٤٤] ويقال لهم حينذاك (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي) كان (يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) في دار الدنيا فكانوا يقولون لا جنة ولا نار ، أرأيتم كيف وصلتم إليها ، ولم ينفعكم تكذيبكم بها في الخلاص منها.

[٤٥] والمجرمون في حركة دائمة فيها بين شدة العذاب والعطش وبين شرب الماء الذي هو في غاية الحرارة (يَطُوفُونَ) المجرمون ، والطواف هو الذهاب والمجيء (بَيْنَها) بين نيرانها (وَبَيْنَ) ماء (حَمِيمٍ) حار (آنٍ) من شدة الحرارة قد انتهى حره إلى آخر درجة.

[٤٦] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فهل لكم طاقة بهذا العذاب حتى تكفروا ، وتبتلوا به؟.

[٤٧] هذا حال المجرمين والمكذبين (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) موقف ربه ، أي يوم الحساب وإضافة «مقام» إلى «الرب» لبيان اختصاص الحكم هناك لله سبحانه ، لا إن المراد «قيام الله» كما ربما توهم ، أي خاف الله في الدنيا فآمن وعمل صالحا (جَنَّتانِ) جنة لجزاء عمله ، وأخرى زيادة وتفضلا ، كما قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (١) وقوله (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ) (٢).

[٤٨] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ لا تكذبوا بالآلاء حتى تنالوا هذا

__________________

(١) يونس : ٢٧.

(٢) الحديد : ٢٩.

٣٠٢

ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها

____________________________________

الثواب العظيم.

[٤٩] (ذَواتا أَفْنانٍ) كل جنة ذات ألوان من النعيم والثمار والحور والقصور.

[٥٠] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ لا تكذبوا حتى تنالوا هذا النعيم ذا الأفنان.

[٥١] (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) في كل جنة عين ، لها صفاء العين ، وجمالها ، ومنظر النهر الجاري.

[٥٢] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فبينما كان ينبغي أن يكون وراء كل مخوف وكل نعمة تصديق ، هؤلاء يكذبون ، وسيجزون جزاء تكذيبهم.

[٥٣] (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) صنفان شتوي وصيفي أو غريب ومألوف ، أو كبير وصغير ، أو رطب ويابس ، إلى غير ذلك ، كل ذلك للتفنن ومزيد النعمة.

[٥٤] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بنعمه الظاهرة أو بنعمه الباطنة؟ وهل نعمه قابلة للتكذيب؟

[٥٥] وهؤلاء أصحاب هذا النعيم تراهم في حال كونهم (مُتَّكِئِينَ) بحالة راحة واسترخاء (عَلى فُرُشٍ) جمع فراش (بَطائِنُها) البطانة مقابل

٣٠٣

مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩)

____________________________________

الظهارة (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) من ديباج ثخين ، يسبب الراحة ، فليس فراش ظاهر فقط ، حتى لا يستريح الإنسان عليه (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) أي الذي يجنى منهما وهو الثمر (دانٍ) متهدل على رؤوسهم يتمكن القاعد والنائم أن يناله بسهولة.

[٥٦] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ هل تكذبان بآلائه في الآخرة.

[٥٧] (فِيهِنَ) في تلك الفرش نساء (قاصِراتُ الطَّرْفِ) مقصورة أبصارهن على أزواجهن لا يردن غيرهم (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يمسهن ، لا بالجماع ولا بغير الجماع (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ) قبل أهل الجنة (وَلا جَانٌ) فزوجة الإنس لم يمسها إنس وزوجة الجن لم يمسها جن.

[٥٨] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ بآلائه التي تؤكل وتشرب أم بآلائه من جنس الزواج والاستمتاعات.

[٥٩] (كَأَنَّهُنَ) كأن تلك النساء (الْياقُوتُ) في حمرة الشفاه والوجنات (وَالْمَرْجانُ) في بياض الجسم والبشرة.

[٦٠] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فمن خلق مثل هذا الجمال الذي رأيتموه في الدنيا ، في الجملة ، وسيراه المؤمنون في الآخرة في كماله الرائع؟.

[٦١] ثم أن كل هذا الجزاء لمن أحسن في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح

٣٠٤

هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦)

____________________________________

و (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) أي إحسان المؤمنين (إِلَّا الْإِحْسانُ) إليهم في الآخرة بالثواب والنعيم؟ فإن البذرة تثمر الثمرة التي هي من جنسها.

[٦٢] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فهل هناك تكذيب بأن الإحسان يولّد الإحسان؟.

[٦٣] النعم التي ذكرناها إنما هي للسابقين المقربين (وَمِنْ دُونِهِما) أدون وأنزل من الجنتين المذكورتين (جَنَّتانِ) والظاهر أنهما لمن دون المقربين في الأعمال ، أي باقي المؤمنين.

[٦٤] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فهل يتساوى الأكثر طاعة والأقل طاعة؟

الأكثر طاعة في جنتين رفيعتين ، والأقل طاعة في جنتين أقل درجة ، فهل يكذب الإنسان بمثل هذا؟

[٦٥] (مُدْهامَّتانِ) من «دهم» بمعنى السواد أي أن الجنتين خضراوتان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة ، فلا يبس لهما.

[٦٦] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) هل تكذب بجمال ونضارة ما يمنحه الله للمطيعين الذين أكرمهم بإسكانهم دار كرامته؟

[٦٧] (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) فوارتان ، لا كمثل الجنتين السابقتين حيث العيون الجارية التي هي أجمل من مجرد النضاخة.

٣٠٥

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣)

____________________________________

[٦٨] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أليس في قدرة الله أن يجعل العين تنضخ؟

[٦٩] (فِيهِما فاكِهَةٌ) من بعض أقسام الفواكه (وَنَخْلٌ) للتمر (وَرُمَّانٌ) وهذا أقل مما في الجنتين السابقتين حيث فيهما من كل فاكهة زوجين.

[٧٠] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ألا يقدر سبحانه أن يعطي المؤمن أمثال هذا النعيم.

[٧١] (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) نساءهن خير من كل ناحية مثل «زيد عدل» «حسان» الوجوه وهن أقل من الحور القاصرات الطرف ، فالسابقات كأنهن اللؤلؤ والمرجان.

[٧٢] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن الله قادر على أن يجعل المرأة خيرا محضا وحسنة الوجه.

[٧٣] (حُورٌ) جمع حوراء ، كما تقدم وهن البيضاوات جسما (مَقْصُوراتٌ) محفوظات مخدرات (فِي الْخِيامِ) فأهل هاتين الجنتين ليس لهم قصور مثل أصحاب الجنتين السابقتين بل لهم خيام كخيام أهل البادية.

[٧٤] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أليست هذه النعمة مما يجب أن يشكر عليها ، عوض أن يكفر بها المكذبون؟

٣٠٦

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)

____________________________________

[٧٥] (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) لم يجامعهن (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) فهن باكرات.

[٧٦] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أليس الله بقادر على مثل ذلك.

[٧٧] في حال كون أصحاب هاتين الجنتين (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) جمع رفرفة وهي الوسادة (خُضْرٍ) خضراوات (وَعَبْقَرِيٍ) كل ثوب موشى يقال له عبقري ، ولعل على تلك الوسائل أثواب جميلة موشاة (حِسانٍ) تلك الرفرف والعبقري كلها حسناوات وهذه أقل مرتبة من فرش بطائنها من إستبرق.

[٧٨] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أليس مثل هذا جزاء الصالحين وإن كانوا بدرجة ثانية من الصلاح؟

[٧٩] (تَبارَكَ) من برك بمعنى الدوام والثبات (اسْمُ رَبِّكَ) ودوام الاسم كاشف عن دوام المسمى ، وفيه تلميح بالعظمة حيث لم يقل «تبارك ربك» (ذِي الْجَلالِ) أجل من الصفات السيئة التي لا تليق به (وَالْإِكْرامِ) فليس الله جليلا وجميلا لنفسه بل يكرم غيره ، وفيه تلميح إلى صفات الكمال ، إذ فاقد الشيء لا يعطيه فلو لم يكن كريما لم يتمكن من إكرام غيره ، والإكرام بأصل الخلق والإيجاد ، ثم بالقيام بشؤون الخلق ، ثم بجزائهم جزاء حسنا.

٣٠٧

(٥٦)

سورة الواقعة

مكية / آياتها (٩٧)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الواقعة» وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، وربما يقال إن بعض آياتها مدنية. ولما كان الكلام في آخر سورة الرحمن عن «المبدأ» ابتدأت هذه السورة بذكر «المعاد» وهما أساسان من الأسس الثلاث للعقيدة «بإضافة الرسالة».

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبدأ باسم الإله الذي إذا ذكر اسمه كان فيما اقترن به بركة وثبات ودوام ، فهو الذات الثابت الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، الرحمن بخلقه كل ما في الكون ، الرحيم الذي يرحم خلقه بالعناية والرعاية ، وليس كمن يبدأ بالخير ثم يقطع خيره.

٣٠٨

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨)

____________________________________

[٢] (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) إذا حدثت القيامة وجاءت وسميت بالواقعة لتحقق وقوعها.

[٣] (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) نفس (كاذِبَةٌ) فكلّ يصدق في ذلك اليوم صحته ، وإن كان جماعة ينكرونه في الدنيا ، وهذا كمال يقال إذا وقعت في السجن تصدق كلامي بأن ما تعمله الآن ليس من صلاحك.

[٤] وهذه الواقعة (خافِضَةٌ) تخفض وتنزل بالكفار والعصاة اللذين كانوا في الدنيا ، بنظر الناس في رفعة وسمو (رافِعَةٌ) ترفع المؤمنين المطيعين اللذين كانوا في دار الدنيا ، بنظر الناس في ذل وهوان.

[٥] ويكون ذلك فيما (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) تحركت تحركا شديدا بالزلازل التي هي من علائم الساعة.

[٦] (وَبُسَّتِ الْجِبالُ) فتتت وتحركت (بَسًّا) مفعول مطلق لبيان شدة التفتت والحركة.

[٧] (فَكانَتْ هَباءً) الهباء الذي يرى من الذرات في شعاع الشمس إذا دخل الشعاع في كوّة في غرفة مظلمة (مُنْبَثًّا) منتشرا.

[٨] (وَكُنْتُمْ) أيها البشر (أَزْواجاً) أصنافا (ثَلاثَةً) المقربون وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال.

[٩] فصنف أصحاب (الْمَيْمَنَةِ) أصحاب اليمن (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ)

٣٠٩

وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)

____________________________________

ما أعظم حالهم إذ هم في خير سعادة وبركة.

[١٠] (وَ) صنف (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أصحاب الشؤم وهم أهل النار (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) ما أعظم حالهم في العذاب ، مثل (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (١).

[١١] (وَ) صنف (السَّابِقُونَ) ولا حاجة إلى ذكر التهويل في حالهم ، كالصنفين السابقين فإنهم معروفون بأنهم (السَّابِقُونَ) يسبقون إلى الجنة بغير حساب.

[١٢] (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) إلى رضوان الله سبحانه ، مما لم يلحقهم أحد من المؤمنين ، وهم الأنبياء والأوصياء والأولياء.

لا يقال إن صفاء جوهر الأنبياء والأوصياء سبب إطاعتهم ، فأية فضيلة لهم ولو كان غيرهم خلق صافي الجوهر لكان كذلك؟ لأنه يقال بالإضافة إلى أن خلق عدم صافي الجوهر يوجب نقصا في الخلق ، وبخلا عن الفيض ، وكلاهما تمتنع على الله ، أنهم إنما صفي جوهرهم لأنهم أجابوا بالطاعة في عالم الذر ، بما لم يجب غيرهم بمثلهم فلو فرض تساويهم مع غيرهم ، لكنهم أجابوا بالطاعة ، فصفي جوهرهم ، فكان ذلك جزاء العمل لا اعتباطا ، ولذا ورد في دعاء الندبة «بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا ذلك وعلمت منهم الوفاء ، فقبلتهم

__________________

(١) طه : ٧٩.

٣١٠

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧)

____________________________________

وقربتهم» (١) والبحث طويل مكانه كتب الفلسفة الإسلامية.

[١٣] والمقربون (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) التي ملأت نعمة وفيرة بحيث لا مكان للشر فيها.

[١٤] (ثُلَّةٌ) أي جماعة كثيرة (مِنَ الْأَوَّلِينَ) الأمم السابقة من لدن آدم عليه‌السلام إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأن الأنبياء والأوصياء كانوا في هذه الفترة.

[١٥] (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ومن إليهم وهم أقل عددا من السابقين ، كما هو واضح.

[١٦] وهم (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير (مَوْضُونَةٍ) أي منسوجة بالذهب واللؤلؤ.

[١٧] (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) في حالة راحة واسترخاء (مُتَقابِلِينَ) بعضهم مقابل بعض للتحدث ومزيد السرور.

[١٨] (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) الطواف الذهاب والمجيء ، ولذا يقال طاف بالبيت ، ولا يلزم الدور ولذا يقال طاف بالصفا والمروة (وِلْدانٌ) أولاد كالخدم ، فالحور خادمات ، والولدان خدم (مُخَلَّدُونَ) باقون دائما على هيئتهم لا يهرمون ولا يموتون.

__________________

(١) مفاتيح الجنان : ث ٦٠٧.

٣١١

بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥)

____________________________________

[١٩] (بِأَكْوابٍ) جمع كوب إناء لا عروة له ولا خرطوم (وَأَبارِيقَ) جمع إبريق ما له عروة وإبريق (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الماء المعين وهو الزلال العذب الطعم ، ولعل المراد به الخمر بقرينة الآية الآتية.

[٢٠] (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) لا يأخذهم الصداع ، وهو وجع الرأس كما أن من يشرب الخمر في الدنيا يأخذه الصداع (وَلا يُنْزِفُونَ) لا يسكرون ، لأن من سكر فقد «نزف» أي سال عقله وخرج من رأسه.

[٢١] (وَ) يطوف عليهم الولدان ب (فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) يختارون.

[٢٢] (وَ) ب (لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) يريدون.

[٢٣] (وَحُورٌ عِينٌ) عطف على «ولدان» أي يطوف عليهم حور عين ، وكأن ذلك كناية عن تهيؤ الفراش لهم في كل وقت.

[٢٤] وهن (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) في الصفاء والنضارة فإن اللؤلؤ إذا لم يكنّ ولم يحفظ قلّ صفاؤه.

[٢٥] يعطي أهل الجنة كل ذلك (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أعمالهم التي عملوها في الدنيا.

[٢٦] (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنة (لَغْواً) أي كلاما لغوا (وَلا تَأْثِيماً) نسبة إلى الإثم ، فإن الأنبياء عليهم‌السلام والأولياء كانوا في الدنيا يسمعون

٣١٢

إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢)

____________________________________

اللغو من أقوامهم وينسبونهم إلى الإثم فيقال لهم ، إنهم آثمون لتركهم أديان قومهم واتخاذهم دينا جديدا ، لكن في الجنة لا شيء من هذين فقد ذهبت الأتعاب وصاروا في راحة ورفاه.

[٢٧] (إِلَّا) استثناء منقطع (قِيلاً) قولا (سَلاماً سَلاماً) هذا يدخل عليهم ويسلم ، وذاك يدخل ويسلم ، وهكذا.

[٢٨] (وَ) الصنف الثاني (أَصْحابُ الْيَمِينِ) الذين هم دون المقربين مرتبة ، وهم المؤمنون الصالحون (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) لا يتكلم حولهم من السعادة والرفاه الذين هم فيهما.

[٢٩] هم يعيشون في جنان نضرة (فِي سِدْرٍ) النبق (مَخْضُودٍ) قد خضد شوكة فلا شوك فيه.

[٣٠] (وَطَلْحٍ) شجر الموز (مَنْضُودٍ) قد نضد ورتب ثمره بعضه فوق بعض.

[٣١] (وَظِلٍ) لا شمس فيها تؤذيهم (مَمْدُودٍ) لا يزول كما يزول ظل الدنيا وتنسخه الشمس.

[٣٢] (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) دائم السكب ، لا ينقطع حتى يحتاجون إلى عناء تحصيله.

[٣٣] (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) وافرة مستمرة.

٣١٣

لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)

____________________________________

[٣٤] (لا مَقْطُوعَةٍ) كما في فواكه الدنيا حيث تكون في فصل دون فصل (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لا يمنع عن أخذها أحد ، فهي مباحة لكل أهل الجنة.

[٣٥] (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) نساء مرفوعات في الأخلاق والجمال كما يقال فلان إنسان رفيع ، وعبر عن النساء الحوريات بالفراش لافتراش الأزواج لهن.

[٣٦] (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ) ابتدأنا خلقهن (إِنْشاءً) بدون ولادة ، كما في نساء الدنيا.

[٣٧] (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) دائمات البكارة ليتلذذ الأزواج بهن أكثر ، وكذلك هن يتلذذن أكثر ، لأنه لا وجع لهن ، ولا صعوبة لأزواجهن في افتضاضهن.

[٣٨] (عُرُباً) جمع عروب بمعنى المحبة للزوج (أَتْراباً) جمع ترب بمعنى المتساويات مع أزواجهن في السن ، لا الصغيرة التي يرى الزوج منها عنتا ولا الكبيرة التي يكرهها زوجها لكبر سنها.

[٣٩] كل ذلك النعيم (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وهم المؤمنون من الأمم.

[٤٠] (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) جماعة كثيرة من الأمم السابقة.

[٤١] (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من أمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣١٤

وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا

____________________________________

[٤٢] (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) وهم الصنف الثالث من البشر والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) فهم في أهوال كثيرة ، حتى لا يمكن أن يتصور أحوالهم.

[٤٣] (فِي سَمُومٍ) نيران تنفذ إلى مسام الجلد (وَحَمِيمٍ) ماء متناه في الحرارة.

[٤٤] (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) دخان أسود فهم في النار ذات دخان لا يرون مكانا.

[٤٥] (لا بارِدٍ) كسائر الظلال (وَلا كَرِيمٍ) ولا نافع كما في دخان الدنيا إذ قد يمنع الدخان حر الشمس ونحوها.

[٤٦] ولماذا يذوقون هذا العذاب المؤلم؟ ل (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) في دار الدنيا (مُتْرَفِينَ) يعيشون في الترف وهو الانهماك في الملذات والشهوات.

[٤٧] (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ) لعهد الله أي نقضه (الْعَظِيمِ) وهو الشرك ، لأن الله أخذ الميثاق من كل البشر بأن يؤمنوا به ، ثم هؤلاء حنثوا عهد الله.

[٤٨] وبالإضافة إلى إنكارهم المبدأ (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا) الهمزة للاستفهام

٣١٥

مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤)

____________________________________

الإنكاري (مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) لحومنا (وَعِظاماً) ظهرت عظامنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) ليوم القيامة؟ فأنكروا المعاد أيضا.

[٤٩] (أَوَ) وهل (آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الذين صاروا ترابا يبعثون؟ «فالهمزة» للاستفهام و «الواو» للعطف على ضمير «مبعوثون».

[٥٠] (قُلْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم نعم يبعث الجميع (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) كلهم أجمع.

[٥١] (لَمَجْمُوعُونَ) تحت التراب (إِلى مِيقاتِ) وقت (يَوْمٍ مَعْلُومٍ) هو يوم القيامة ، حيث يبعث كلهم مرة واحدة.

[٥٢] (ثُمَ) بعد البعث (إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن طريق الثواب (الْمُكَذِّبُونَ) بالله وبرسوله وبالمعاد.

[٥٣] (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وهو شيء في غاية المرارة.

[٥٤] (فَمالِؤُنَ) تملؤون (مِنْهَا) من تلك الثمرة المرة (الْبُطُونَ) فإنهم لشدة جوعهم يأكلون منها إلى حد الامتلاء.

[٥٥] ثم يعطشون أشد العطش (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) على الزقوم (مِنَ) الماء (الْحَمِيمِ) الذي هو غاية في الحرارة.

٣١٦

فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠)

____________________________________

[٥٦] (فَشارِبُونَ) تكرار الفاء لبيان أنهم يشربون ويشربون (شُرْبَ الْهِيمِ) مثل شرب الإبل العطشان الذي هو في غاية العطش فإن الإبل الذي به «الهيام» وهو داء الاستسقاء ، يشرب من الماء الشيء الكثير جدا ، وهيم جمع أهيم وهيماء.

[٥٧] (هذا نُزُلُهُمْ) لنزل ما يعد للضيف (يَوْمَ الدِّينِ) في يوم القيامة.

[٥٨] وهذا جزاء تكذيبكم (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) فلما ذا لم تصدقوا بمن خلقكم ، ولا برسله ، ولا بما أخبر من بعثه؟.

[٥٩] وكيف تكذبون بالله وأنتم ترون أن كل ما حولكم هو من خلق الله؟

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) ما تقذفونه في الأرحام من النطف.

[٦٠] (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) تجعلونه بشرا سويا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) وإذا اعترفتم بأنكم لا تخلقونه فلم تكذبون بخالقه؟.

[٦١] ثم الموت الذي يأتيكم بغير إرادة منكم فهل أنتم سبب الموت أو الله؟

وإذا كان الله هو المقدر للموت فلما ذا تكفرون به (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) فكل إنسان يموت حسب تقدير الله وإرادته (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين تشبيه بأن يسبق إنسان إنسانا فلا يقدر المسبوق اللحاق بالسابق.

٣١٧

عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥)

____________________________________

[٦٢] (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) بأن نذهب بكم ونأتي غيركم ـ من مثلكم ـ مكانكم (وَنُنْشِئَكُمْ) نخلقكم خلقا جديدا (فِي ما) أي في صورة (لا تَعْلَمُونَ) لا تعلمونها كأن نجعلكم قردة أو خنازير أو غير ذلك.

[٦٣] (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) كيف أنشأناكم (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) فلما ذا لا تتذكرون أن من يقدر على الإنشاء أولا يقدر على الإنشاء ثانيا؟ فكيف تنكرون البعث؟.

[٦٤] ثم ليس خلقكم أنتم من الله فقط بل كل شيء هو من خلق الله (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) تبذرون حبّة لأجل الزراعة والثمر.

[٦٥] (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) تنبتونه (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)؟ ولا أحد يقدر أن يقول إنه هو الزارع للنبات كما أنه لا أحد يقدر أن يقول إن الزارع له هو الطبيعة ، فهل الطبيعة الجاهلة العاجزة تقدر على مثل هذا الشيء ، وإذا صدق الإنسان أن الله هو الزارع الذي يجعل من الأرض الميتة نباتا حيا ، سهل عنده أن يصدق أن الله قادر على إعادة الإنسان بعد موته.

[٦٦] (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) هشيما متحطما عوض أن ننمي النبات حتى نجعله شجرة ذات ثمرة فإذا فعلناه هشيما لظلتم (تَفَكَّهُونَ)

٣١٨

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢)

____________________________________

تتكلمون في مجالسكم ، من جهة التعجب والندم على ما أنفقتم في الأرض لأجل الزرع ، والمراد أنكم لا تقدرون أمام قدرة الله بجعله النبات هشيما إلا التكلم فقط.

[٦٧] (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ملزمون بغرامة ما أنفقنا.

[٦٨] (بَلْ) تقولون بالإضافة إلى غرامة ما أنفقنا (نَحْنُ) قوم (مَحْرُومُونَ) حرمنا من رزقنا.

[٦٩] (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) هو ماء عذب صالح للشرب.

[٧٠] (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) من السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) بقدرتنا؟

وهل هناك أحد يقول أنا أنزلت الماء؟.

[٧١] (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) مالحا يمجّه الطبع (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أمثال هذه النعم التي هي ضرورية لحياتكم ، ولو إنا ما أعطيناها لكم ، لم يكن لكم علاج في تحصيلها ، إلا التفكّر والتحسّر.

[٧٢] (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) تخرجونها من الخشب ونحوه.

[٧٣] (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) خلقتم شجرتها (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ)؟ وهل هناك أحد يقول إنه أنشأ شجرتها.

٣١٩

نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)

____________________________________

[٧٤] (نَحْنُ جَعَلْناها) النار (تَذْكِرَةً) تذكركم بنعمة الله ، وبنار الآخرة ، حتى تشكروه سبحانه على هذه النعمة ، وتخافوا من عذاب يوم القيامة (وَمَتاعاً) منفعة يتمتع بها الإنسان في طبخه وتدفئته وقضاء سائر حوائجه المحتاجة إلى النار (لِلْمُقْوِينَ) يقال أقويت منذ أيام أي لم آكل طعاما فالمقوين هم الذين يحتاجون إلى الطعام ، ولعله من حمل الضد على الضد ، حيث إن خالي البطن لا يقوى فحمل على من «يقوى» بأكله الطعام.

[٧٥] وإذ عرفت كثرة نعم الله عليك (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) نزهه عما لا يليق به ، والباء في «باسم» مثل اللام في «سبح لله» للتقوية (الْعَظِيمِ) صفة الرب.

[٧٦] وحيث فرغ عن إثبات الألوهية جاء دور إثبات الرسالة ، وذلك بسبب بيان أن القرآن من عند الله سبحانه (فَلا أُقْسِمُ) هذا صيغة تشير إلى الحلف ، ليكون للكلام قوة الحلف ، مع عدم الحلف احتراما للمحلف به ، ف «لا» نافية (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) إذ القوة الهائلة التي تحفظ النجوم الكبار ، والتي بعضها ستون مليون مرّة أكبر من الشمس ، الشمس التي هي أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرة ، إن تلك القوة من العظمة مما ينبغي أن يحلف بها.

[٧٧] (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ) لعلمتم أنه (عَظِيمٌ) بل خارج عظمته من

٣٢٠