تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١)

____________________________________

طوق فهم البشر وإدراكهم.

[٧٨] (إِنَّهُ) الشيء المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) له كرامة الوحي وهو يكفي لإصلاح المعاش والمعاد.

[٧٩] (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مكتوب في لوح محفوظ عند الله أنزله الله على رسوله لهداية البشر إلى يوم القيامة.

[٨٠] (لا يَمَسُّهُ) لا يمس ذلك الكتاب المكنون (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الملائكة فإذا كان شأنه هناك في العالم الأعلى مثل هذا الشأن ، فاللازم تقديره حق قدره في هذا العالم ، وهذا حسب ظاهر الآية ، وما ورد في تفسيرها بطون أو تأويل أو ما أشبه (١) ، ولا منافاة بين الجميع ، كما ذكرناه في كتاب «حول القرآن الحكيم» (٢).

[٨١] وهو (تَنْزِيلٌ) أي منزل ، فهو من قبيل «زيد عدل» (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أنزله لصالح الكون إلى الأبد.

[٨٢] (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) الشيء الحادث الذي هو القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) متهاونون؟ كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه تهاونا ، وأصله استعمال الدهن للين الجسم.

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٧٧ ص ٢٥٥.

(٢) موسوعة الفقه : ج ٩٨.

٣٢١

وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦)

____________________________________

[٨٣] (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي سبب رزقكم ، أطلق عليها الرزق بعلاقة السبب والمسبب (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تكذيبكم لهذا القرآن الموصوف بالصفات السابقة ، لأنهم كانوا يرون أن استمرار رزقهم إنما هو بالتجافي عن القرآن والتكذيب له ، كما يقال «جعل فلان رزقه الزنى» أي جعله ممر رزقه.

[٨٤] نعم سترون جزاء تكذيبكم عند ما يأتيكم الموت ولا علاج لكم في دفعه (فَلَوْ لا) فهلا (إِذا بَلَغَتِ) النفس (الْحُلْقُومَ) لأن النفس تخرج من الرجل إلى الحلقوم ، ثم إلى الرأس ، وذكر الحلقوم من جهة شعور الإنسان بالموت مع بقاء مشاعره في الرأس مدركا لهول الموت.

[٨٥] (وَأَنْتُمْ) أيها الحاضرون حول المحتضر (حِينَئِذٍ) حين وصلت روحه إلى الحلقوم (تَنْظُرُونَ) وهو وأنتم في غاية إلى عدم موته ، ورجوعه إلى الحياة.

[٨٦] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) لأن علمنا وقدرتنا نافذتان إلى أعماقه ، وأنتم لستم كذلك (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أنتم قربنا.

[٨٧] (فَلَوْ لا) تكرار ، لأجل ارتباط الجواب ب «لو لا (إِذا بَلَغَتِ ...)

(إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم.

٣٢٢

تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ ص ادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢)

____________________________________

[٨٨] (تَرْجِعُونَها) ترجعون النفس إلى كل الجسد ، كما كان سابقا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إنكاركم لله وقدرته ، فإذا لم يكن إله ـ كما زعمتم ـ ولم يكن أمر الكون بيده ، فلما ذا لا تقدرون أنتم على إنجاز أحب شيء إلى قلوبكم من إرجاع الروح إلى ميتكم العزيز ، أليس كل ذلك دليلا على وجود إله قدير بيده كل شيء.

[٨٩] ثم يبين الله سبحانه مصير هذا المحتضر (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهو القسم الأول من «الأزواج الثلاثة» المذكورين في أول السورة.

[٩٠] (فَرَوْحٌ) فله راحة (وَرَيْحانٌ) الريحان المشموم كناية عن حضور مشتهياته الطيبة (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) جنة ذات نعمة.

[٩١] (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) وهو القسم الثاني من أهل الجنة لكنهم دون المقربين.

[٩٢] (فَسَلامٌ لَكَ) يا صاحب اليمين ، سلامة لك في آخرتك وأنت تكون (مِنْ) جملة (أَصْحابِ الْيَمِينِ) كما يقال «السلام عليك من شهيد في سبيل الله» فإن «من» بيان ل «كاف» الخطاب.

[٩٣] (وَأَمَّا إِنْ كانَ) المحتضر (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) بالله ورسوله والمعاد (الضَّالِّينَ) عن طريق الهداية ، «هم أصحاب الشمال» فهو ضال في

٣٢٣

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)

____________________________________

نفسه مكذب للحق.

[٩٤] (فَنُزُلٌ) هو ما يعد للضيف (مِنْ حَمِيمٍ) من ماء حار شديد الحرارة.

[٩٥] (وَتَصْلِيَةُ) يقال صلاة إذا أوصله (جَحِيمٍ) هي من أسماء جهنم.

[٩٦] (إِنَّ هذا) الذي ذكرناه من جزاء الأقسام الثلاثة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) الحق المطابق للواقع ، الذي هو يقيني أي من شأنه ذلك وإن أنكره كثير ، مثل «لا ريب فيه» أي ليس هو محل الريب وإن ارتاب فيه الكثير ، وهذا أحد الأقسام الثلاثة التي ينقسم اليقين إليها.

فالأول : علم اليقين ، كما إذا علمت بأن النار حارة.

والثاني : حق اليقين ، كما إذا رأيت النار.

والثالث : عين اليقين ، كما إذا أدخلت يدك في النار وذقت حرارتها.

[٩٧] وإذا علمت بما تقدم (فَسَبِّحْ) يا رسول الله (بِاسْمِ رَبِّكَ) نزهه عما لا يليق به (الْعَظِيمِ) صفة الرب ، وقد تقدم بعض الكلام فيه في آية شبيهة بها ، فباعتبار أن التسبيح للذات يأتي بلا حرف جر ، وباعتبار أن التسبيح ملصق بالاسم يتعدى بالباء ، وباعتبار أن التسبيح لله يتعدى باللام.

٣٢٤

(٥٧)

سورة الحديد

مدنية / آياتها (٣٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحديد» وهي كسائر السور المدنية مشتملة على قضايا الشريعة. ولما ختمت سورة الواقعة بتسبيح الله ابتدأت هذه السور بذلك أيضا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبدأ باسم الله فإنه المبدأ حقيقة ، ونبدأ باسمه ليطابق الكلام الواقع وهو الرحمن بالكل يخلقهم من العدم إلى الوجود برحمته ، ورحيم بالكل يعطي كل مخلوق حسب ما يستحق مما ينميه ويكمله.

٣٢٥

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ

____________________________________

[٢] (سَبَّحَ لِلَّهِ) نزهه عما لا يليق به ، وقد تقدم في آخر الواقعة ، وجه تعدي التسبيح باللام (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قد سبق وجه جمع السماوات وإفراد الأرض ، وتسبيح كل شيء إما بلسانه ، وإن كنا لا نفهم ألسنة غير الإنسان من المخلوقات ، وإما بدلالته على علم الله وقدرته وصفاته وغير ذلك ، إذ حتى الشعرة الواحدة دليل على الذات وعلى كل الصفات العقلية الثابتة عقلا له سبحانه (وَهُوَ) تعالى (الْعَزِيزُ) له العزّة والرفعة وعزّة ما سواه إنما تكون به تعالى (الْحَكِيمُ) يضع الأشياء موضعها ، ولحكمته خلق الكون ، ولعزته سبح له كل ما في الكون.

[٣] (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بل هو وحده المالك الحقيقي ، أما سواه فملكه استعارة ومجاز (يُحْيِي) التراب إلى النبات والحيوان والإنسان ، كما يحيي الإنسان والحيوان بعد موتهما (وَيُمِيتُ) الثلاثة بعد حياتها في دار الدنيا ، كما يميت الحيوانات على الأكثر في الآخرة ، حتى أن الكافر إذا رأى ذلك قال : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١) (وَهُوَ) سبحانه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بشرط أن يكون لذلك الشيء أهلية تعليق القدرة ، كما بحث حول ذلك في كتب الفلسفة الإسلامية.

[٤] (هُوَ الْأَوَّلُ) قبل كل شيء (وَالْآخِرُ) بعد كل شيء ، ولا منافاة لعدم انتهاء الجنة والنار إذ يصدق البعدية بالنسبة إلى الحال الحاضرة ، فإن الكل يهلك إلى وجهه (وَالظَّاهِرُ) بآثاره لدى كل ذي عقل (وَالْباطِنُ)

__________________

(١) النبأ : ٤١.

٣٢٦

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)

____________________________________

الخفي بحقيقته لا يعلم حقيقته إلا هو تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم كل شيء ، كما أنه يقدر على كل شيء ـ كما تقدم في الآية السابقة ـ.

[٥] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) اليوم قطعة من الزمان ولعل المراد ستة مليارات من السنوات فقد ثبت في بعض تحقيقات العلم الحديث خلقهما في مثل هذه المدة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استولى على عرش الإرادة إذ قبل ذلك كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فالاستواء على العرش كناية عن التصرف في الكون ، فهو مثل قول الشاعر :

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأعباء الخلافة كاهله

هذا «الاستيلاء» من ناحية القدرة أما من ناحية العلم فإنه سبحانه (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) يدخل (فِي الْأَرْضِ) كالبذر والميت (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالنبات والحيوان الذي يخلق تحت الأرض ثم يخرج منها (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالمطر (وَما يَعْرُجُ فِيها) يصعد إليها كالدخان والأبخرة (وَهُوَ مَعَكُمْ) علما وقدرة إذ علمه نافذ فينا وقدرته محيطة بنا (أَيْنَ ما كُنْتُمْ) في بر أو بحر في نور أم ظلام في عراء أو بناء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يراكم ، والبصر غير العلم كما هو واضح فإن علمنا

٣٢٧

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ

____________________________________

بالشيء ولا نراه ، غير أن نعلم به ونراه ، أما كيفية رؤية الله فهي مجهولة مثل كيفية علمه وسائر الأمور المرتبطة بذاته تعالى.

[٦] (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أعاد ذكره لأن الآية السابقة كانت كالاستدلال لذلك ، بخلاف ما ذكره سبحانه أولا ، حيث إنه لم يتقدم له استدلال ـ في هذه السورة ـ (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فإذا أراد الإنسان شيئا فإن قدره سبحانه صار وإلا لم يصر كما أن الموظفين إذا أرادوا شيئا أرجع إلى الرئيس إن قبله صار وإلا لم يصر ، وهذا كناية عن أن الإرادة النهائية له تعالى.

[٧] (يُولِجُ) يدخل الله (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يأخذ الليل مكان النهار ، إذا طال الليل ، أو المراد أن عمودا من الظلام يدخل في ضوء النهار ثم ينتشر الظلام إلى أن يأخذ الأفق ، فإن من يلاحظ الكرة الأرضية والشمس يعلم أن ظل الأرض كالعامود الذي يخترق نور الشمس (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) فيه الاحتمالان السابقان ، ولذا يرى نور النهار أول الفجر كالخيط في طرف المشرق ، ثم يتوسع حتى يشمل النور الأفق (وَهُوَ) سبحانه (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) «الذات» الحقيقة ، وكأنه كناية عما في الصدور ، لا بد وأن يكون محيطا به عالما بما فيه.

[٨] (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أيها الكفار ، أو عمّقوا إيمانكم أيها المؤمنون (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ) استخلفكم وجعلكم خلفاء لمن

٣٢٨

فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ

____________________________________

قبلكم (فِيهِ) في ذلك المال ، إذ كان المال لغيرنا ثم صار لنا وهكذا جيلا بعد جيل كل جيل خليفة سابقه ، كناية عن أن المال ليس لكم ، وإنما كان لغيركم ثم يكون من بعدكم لغيركم أيضا فإن الذين (آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) من أموالهم (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) في الدنيا بالرفاه والسعادة وفي الآخرة بجنة عرضها السماوات والأرض.

[٩] (وَما لَكُمْ) أيّ شيء لكم إذن (لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ)؟ فهل لكم فائدة من عدم إيمانكم (وَ) الحال إن (الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ويقيم لكم الحجج والآيات (وَقَدْ أَخَذَ) الله (مِيثاقَكُمْ) عهدكم الغليظ في عالم الذر ، وأودع فيكم الفطرة التي تدل على صحة ما جاء به الرسول إذ يجد كل إنسان في نفسه قبول الحق وليس هذا إلا أن شيئا مودع فيه يلجؤه إلى الاعتراف باطنا سواء اعترف ظاهرا أم لا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لشيء ما ، فإن تنبيه الرسول ودلالة العقول من أقوى موجبات الإيمان ، وهذا مثل ما يقال «إن كنت تفهم فافهم أن الشيء الفلاني ينفعك».

[١٠] و (هُوَ) الله (الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات (لِيُخْرِجَكُمْ) أيها البشر (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر والجهل (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان والعلم ، فإن الكفر والجهل يسببان عدم رؤية الإنسان للحقائق ، كما أن الظلام يسبب عدم رؤية الإنسان

٣٢٩

وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)

____________________________________

للأشياء (وَإِنَّ اللهَ) الواو للحال ، أو العطف (بِكُمْ) أيها البشر (لَرَؤُفٌ) الرأفة يقال للعطف قبل ظهوره أو دقة الرحمة (رَحِيمٌ) عطف يظهر أثره أو مطلق الرحمة.

[١١] (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا) أيّ شيء لكم من عدم إنفاقكم (فِي سَبِيلِ اللهِ) في طريقه المؤدية إلى رضوانه (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإذا لم تنفقوا يبقى المال وتموتون ، ولم تستفيدوا منه في تحصيل الدرجات العالية ، فإن كل من في السماوات ومن في الأرض يموتون وتبقى أموالهم وما كان في أيديهم لله وحده (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) فتح مكة (وَقاتَلَ) قبل الفتح ، حيث الإسلام غريب وبحاجة شديدة إلى المقاتلين وإلى المال ، ومن أنفق وقاتل بعد فتح مكة حيث أعز الله الإسلام ، وذهب الخوف من المسلمين ، وكثرت الغنائم ، وحذف هذا الشق لوضوحه (أُولئِكَ) المنفقون المقاتلون قبل الفتح (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) الفتح (وَقاتَلُوا) بعد الفتح (وَكُلًّا) من المنفق والمقاتل قبلا ، وبعدا (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي المثوبة الحسنى وهذا الكلام لئلّا يزعم تساويهما لا لبيان تبرير المتقاعس قبلا ، إذ المتقاعس له وزر (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

٣٣٠

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

فيجازيكم حسب أعمالكم.

[١٢] ثم إن الذي يعطي ماله في سبيل الله فهو قرض يسترجع أكثر منه في دنياه وآخرته ، أما الآخرة فالمثوبة ، وأما الدنيا فلأن الإنفاق يوجب تقدم الاجتماع ، والاجتماع المتقدم يرتفع أفراده أكثر ، وبذلك يكون مالهم أكثر ، ولذا قال سبحانه (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (١) (مَنْ ذَا) الشخص (الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) مقابل القرض السيئ الذي لا إخلاص له أو كان لأجل تحصيل الربا بالزيادة (فَيُضاعِفَهُ) الله (لَهُ) لأن الله يجعل كل حسنة أضعافا ثم يردها على صاحبها (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فإن الأجر لأصل القرض «بالإضافة إلى ما يضاف إليه من الزيادة» كريم في نفسه يرجع إلى صاحبه مع الإكرام له.

[١٣] وتلك المضاعفة والأجر إنما هو في (يَوْمَ) القيامة حيث (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ) مثلا نورهم عمود له امتداد ميل ، فإذا تحركوا تحرك النور ، فكأنه يسعى (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) فإن لهم نورا من هذين الجانبين ، ولعل ما كان من بين أيديهم للمقربين ، وما كان بأيمانهم لأصحاب اليمين ، ليكون علامة لمنزلتهم ، أو لأن صحائفهم تعطى من طرف اليمين من الأمام ، ويقال لهم (بُشْراكُمُ) بشارة لكم (الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من

__________________

(١) البقرة : ٢٧٧.

٣٣١

خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)

____________________________________

تحت أشجارها ، في حال كونهم (خالِدِينَ فِيها) أبدا (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ) النجاح (الْعَظِيمُ) الذي ليس مثله فوز.

[١٤] وذلك في (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وهم يعيشون في ظلام شديد (انْظُرُونا) انظروا إلينا حيث يتوجه عمود نوركم إلى جانبنا ل (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) حتى نرى طريقنا ونتعرف إلى أوضاع بدننا ، لأن الإنسان في الظلام لا يرى طريقه ، ولا يتعرف على أوضاع جسده ، وإنما ذكرت الآية المنافقين ، ولم تذكر الكفار ، لأن الكفار في مكان آخر ، وإنما يحشر جميع من كان ظاهره الإيمان في مكان واحد ، ثم يميّزون (قِيلَ) لهم في جوابهم (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الدنيا (فَالْتَمِسُوا) فحصّلوا هناك (نُوراً) كناية عن أن النور إنما يحصل في الدنيا لا في الآخرة.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) بحائط يكون فاصلا بينهما (لَهُ بابٌ) لمرور الملائكة أو لأجل أن يميز المؤمن من المنافق ، حيث كانا قبلا مختلطين فمن كان في طرف المؤمنين من المنافقين أخرج من الباب إلى المنافقين ، وبالعكس (باطِنُهُ) حيث المؤمنون (فِيهِ الرَّحْمَةُ) وسمي باطنا لأنه المكان الأحسن المحفوظ كباطن حائط الدار (وَظاهِرُهُ) طرف المنافقين (مِنْ قِبَلِهِ) من جهته (الْعَذابُ).

٣٣٢

يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)

____________________________________

[١٥] وحين ذاك (يُنادُونَهُمْ) ينادي المنافقون المؤمنين (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في دار الدنيا نعمل الأعمال الصالحة معا فكيف صرتم أنتم في رحمة ونحن في العذاب؟ (قالُوا) المؤمنون (بَلى) كنتم معنا في الظاهر (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي حرفتم أنفسكم عن الحق بسبب نفاقكم وعصيانكم (وَتَرَبَّصْتُمْ) في إطاعة أوامر الله ، فلم تسارعوا إليها كما سارع المؤمنون فإن من عادة المنافق أن لا يدخل في جهاد ولا خير ، وإنما يقول : دعنا نرى ماذا تكون العاقبة (وَارْتَبْتُمْ) شككتم في الدين (وَغَرَّتْكُمُ) خدعتكم (الْأَمانِيُ) جمع أمنية ، مثل «أغاني جمع أغنية» فإن المنافق لا يجاهد رجاء أن لا يصادف بأذى ، ولا ينفق رجاء أن يزيد تجارته ، ولا يحضر الخير رجاء أن يقدم عمله الدنيوي وهكذا (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) تقدم دينه ولم يكن لكم نصيب في ذلك (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ) خدعكم بالاستهانة بأمر الله (الْغَرُورُ) الشيطان الذي هو كثير الخدعة.

[١٦] (فَالْيَوْمَ) في يوم الحساب (لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) فداء في مقابل أن تخلصوا من نار جهنم (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذ في الآخرة لا ينفع إلا الإيمان والعمل الصالح (مَأْواكُمُ النَّارُ) محلكم الذي تأوون إليه نار جهنم (هِيَ مَوْلاكُمْ) أولى بكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إنه مصير سيء.

٣٣٣

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

____________________________________

[١٧] وإذا عرف الفرق بين المؤمن حقيقة والمؤمن صورة «المنافق واقعا» ف (أَلَمْ يَأْنِ) ألم يصل الآن أي الوقت (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) فتكون قلوبهم مصدقة لما لفظوا بألسنتهم من الشهادتين (وَ) ل (ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) فيقبلوا قلبا كلما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم إذا آمنتم أيها المنافقون قلبا ، وأنتم أيها المؤمنون ظاهرا وباطنا ، اعلموا إن من شرط الإيمان المنجي البقاء على الإيمان وعدم الانحراف (وَلا يَكُونُوا) أولئك المؤمنون (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) كتاب موسى عليه‌السلام وغيره من الأنبياء (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الزمن (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) لم تكن لها شفافية ولين قلوب المعاصرين للأنبياء ، في عصر الرسالة ، حيث كانوا يخضعون لأوامر الله سبحانه ، لما لهم من لين وطهارة وشفافية (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خرجوا عن الطاعة ، فالباقي منهم قسى قلبه ، وغير الباقي خرج عن الطريق.

[١٨] لكن الله لا يترك دينه بين ذاك وهذا بل إنه كما يحيي الأرض بعد اليباب يحيي الدين بعد الاندراس (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بسبب المطر ، وكيفية تحديد الله للأمم ، أن الأمة السابقة تأخذها النخوة والغرور فلا تعمل صحيحا بل تأخذ في عمل الباطل ، وأمة جديدة صفت أذهانها عن الرواسب والأنانيات تأخذ في العمل

٣٣٤

قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ

____________________________________

ولذا تأخذ مكان الأمة السابقة ، وقد جعل الإسلام الشورى في الحكم وكون رئيس الدولة المجتهد العادل المخالف لهواه المطيع لأمر مولاه ضامنا لبقاء الإسلام غصنا طريا (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) الدلالات الواضحات على صحة ما نقول (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تفهمون ما نقول وتعملون بموجبه.

[١٩] وحيث كان الكلام قبلا في إعطاء المال في سبيل الله رجع الكلام إليه فقال سبحانه (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) أصله «تصدق» أي أعطى الصدقة (وَ) الذين (أَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وإنما سميت الصدقة صدقة ، لأنها تصديق لله في ما يقول فالمعنى إن الذي صدق الله في إعطاء المال ، وقد جعله قرضا حسنا (يُضاعَفُ لَهُمْ) عند رد ما أعطوا (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وقد تقدم تفسير الآية ، فلا حاجة إلى التكرار.

[٢٠] نعم إنه لا ينفع مجرد إعطاء الصدقة إذا لم يكن كامل الإيمان ولذا قال سبحانه (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فشرط القبول الإيمان بالله والرسول وإعطاء الصدقة قرضا حسنا بإخلاص وبدون ربا (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) لكثرة تصديقهم لأنهم صدقوا بالله وبكل أنبيائه وبما وعد من إعطائهم المال ، إلى غير ذلك (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأن الله يجعلهم شهداء على غيرهم ، في الآخرة ، إذ الإنسان العادل المعتدل

٣٣٥

لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً

____________________________________

في سلوكه يكون شاهدا على غيره (لَهُمْ) لهؤلاء المؤمنين المصدقين (أَجْرُهُمْ) أجر الصديقين (وَنُورُهُمْ) ونور الصديقين (وَ) بالعكس منهم (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) فلم يؤمنوا ولم يعملوا صالحا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) لا أجر حسن لهم ، ولا نور لهم ، بل يعيشون في حر النار وظلام الدخان.

[٢١] (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) فهي صورة للآخرة الحقيقية ، مثل ملاعب الأطفال التي هي صورة للأشياء الحقيقية في الدنيا (وَلَهْوٌ) تلهي الإنسان عن الواقع الذي هو الآخرة (وَزِينَةٌ) مظهر لا واقع له كما يتزين الإنسان ببعض المظاهر التي لا تغير من الواقع شيئا (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) يفتخر الإنسان على إنسان ثان وبالعكس وهي حالة بدائية يتصف بها الأطفال (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) حيث كل ما يريد أن يكون أكثر من الأخر مالا وولدا بينما لا يفيد أيهما له فائدة حقيقية ، ثم كل ذلك إلى الزوال والفناء (كَمَثَلِ غَيْثٍ) مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) الزراع (نَباتُهُ) قد أعجبوا بها وفرحوا بما لا دوام له ولا بقاء (ثُمَّ يَهِيجُ) هيجانا إلى الفساد (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) قد ذهب رونقه وجماله (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) يابسا متكسرا فالدنيا في نضارتها الخلابة ثم سرعة زوالها مثل

٣٣٦

وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ

____________________________________

النبات السريع الزوال هذا حال زينة الدنيا ، في الدنيا (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ) في قبال أهل الدنيا المغترين بها ، الذين مثل دنياهم ما تقدم أهل الآخرة الذين لهم (مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) غفران لذنوبهم ورضي الله لهم الذي هو أعظم شيء لأنه نعمة روحية ، والنعمة الروحية أفضل من النعمة الجسدية (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) لمن أقبل إليها ولم يطلب بها الآخرة الباقية ، فإنها تغر الإنسان عن منافعه الواقعية.

[٢٢] وإذا عرف الإنسان حال الدنيا وحال الآخرة فليسرع إلى تحصيل الآخرة (سابِقُوا) من المسابقة تحريض لطلب الآخرة بكل سرعة ممكنة ، كما يفعل المسابق في الدنيا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أسباب الغفران (وَجَنَّةٍ عَرْضُها) سعتها (كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كسعتهما والفضاء وسيع جدا حتى أن كل السماء والأرض في جنبه كحبة أرز في صحراء غير متناهية (أُعِدَّتْ) هيأت تلك الجنة (لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فليتشوق إليها كل عاقل (ذلِكَ) إعطاء الجنة للمؤمنين (فَضْلُ اللهِ) لأنه ليس بواجب عليه سبحانه إعطاء الجنة للمطيع (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ومشيئته تابعة للصلاح الذي لا يكون إلا للمؤمن العامل بالصالحات (وَاللهُ

٣٣٧

ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ

____________________________________

ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي لا يعرف مدى فضله وسعة رحمته إلا هو.

[٢٣] وحيث ذكر سبحانه وجوب القتال والإنفاق وشوق المطيعين بالجنان وأنذر المخالفين بالعقاب جاء دور بيان أن ما يصيب الإنسان عامة «والتي منها ما يصيبه حال الحرب من الموت والجرح وما أشبه» مثبوت عند الله ولا يضيع أجره (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كالجرب وأكل الجراد المزارع (وَلا) حرف عطف (فِي أَنْفُسِكُمْ) كالمرض والجرح (إِلَّا) مكتوبة (فِي كِتابٍ) ثابتة في علمنا ، ولعل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) برأه بمعنى خلقه (إِنَّ ذلِكَ) كناية في كتاب من قبل تكونه (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لأنه سبحانه عالم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى الأبد ، والإشكال بأنه إذا كان سبحانه عالما لا يمكن تخلفه ، واضح الجواب : لأن العلم ليس بعلة ، كما أنك إذا علمت بطلوع الشمس غدا لا تكون علة لطلوعها.

[٢٤] وقد ذكرنا ذلك لكم بأنه ثابت في الكتاب (لِكَيْلا تَأْسَوْا) لا تحزنوا (عَلى ما فاتَكُمْ) من نعم الدنيا ، وقد ذكر سبحانه تبعا لذلك «وإن لم يكن الكلام منصبا عليه» قوله (وَ) لكي (لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أعطاكم من نعيم ، فإن من علم أن كل شيء يصيبه من خير وشر مقدر

٣٣٨

وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)

____________________________________

كائن ، لا يحزن حزنا متزايدا ولا يفرح فرحا متزايدا ، لأن شدة الحزن والفرح ، لمحزن ولمفرح فجائي ، والعلم يرفع الفجائية ألا ترى أن من يعلم أن غدا يموت ولده لا يحزن مثل حزن من لا يعلم بذلك بل يفاجأ به ، إلى غير ذلك ثم المراد «عدم الحزن المخرج للإنسان إلى الجزع» و «عدم الفرح المخرج للإنسان إلى البطر» (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) من اختال بمعنى تكبّر (فَخُورٍ) كثير الفخر ، فإن من فرح فرحا متزايدا بالنعمة ، ولم يخف عواقبها أخذ في الكبر والافتخار على الناس.

[٢٥] ومن هو المختال الفخور؟ هم (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) عن الإنفاق فإن الذين يفرحون الفرح المطغي ممن لا يؤمن بأن المال جاءه بكتابة من الله ، وإنه زائل وله حساب دقيق «للتلازم بين العلم بالكتابة وبين التواضع والإنفاق ، كالتلازم بين عدم هذا العلم وبين التكبر والبخل».

(وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) إذ البخلاء يريدون بخل الناس حتى لا تقع اللائمة عليهم (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن أوامر الله سبحانه فلا ينفق فليعلم أن الله أمر بالإنفاق لمصلحته هو لا لأن الله بحاجة إلى المال وإن (اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) إذ غنى ما سوى الله مجازي (الْحَمِيدُ) فلا يحتاج إلى الإنفاق ليكثر المؤمنين حتى يحمدوه ، فإنه المحمود بالذات سواء حمده أحد أولا.

٣٣٩

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ

____________________________________

[٢٦] ومن كونه غنيا حميدا يتبين أن إرساله الرسل والأحكام ليس لأجل حاجته وإنما لأجل الناس أنفسهم (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) بالأدلة البينة الواضحة (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) جنس الكتب السماوية (وَ) أنزلنا (الْمِيزانَ) ومعنى إنزاله تقريره ، وحيث إنه من مكان رفيع معنى ، صح «أنزلنا» كما يقال هذه الأمور من فوق إذا كانت من الرئيس ، والمراد كل ميزان للحق والباطل ، سواء كانت موازين للأخلاق أو المعاملات أو المعاشرات أو الموازين الحديدية ونحوها ، لأن كل الموازين العلمية والعملية إنما قررها الله سبحانه ، (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، فلا يظلم أحد أحدا ، فالكتاب لبيان الحكم ، والميزان لتطبيق ذلك الحكم على المجتمع ، ومن يخالف؟ فله الحديد (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) إنزاله باعتبار تقديره في السماء (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) بالقتل والقصاص ونحوهما (وَ) فيه (مَنافِعُ لِلنَّاسِ) لأن كثيرا من الحاجات تكون بسبب الحديد (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) عطف على فيه بأس ، أي أنزلنا الحديد للبأس والمنفعة والامتحان (مَنْ يَنْصُرُهُ وَ) ينصر (رُسُلَهُ) إذ استعمال الأسلحة الحديدية في مجاهدة الكفار نصرة لله ولرسله (بِالْغَيْبِ) في حال كون الله ، أو الرسول غائبا عنهم إذ الناس لا يرون الله ، وكثيرا لا يرون الرسول ، ومع ذلك يجاهدون ، ومعنى «ليعلم الله» أي ليتحقق علمه في الخارج ، لكن ليس طلب الله للنصرة عن

٣٤٠