تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ

____________________________________

احتياج ف (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على إهلاك من يريد (عَزِيزٌ) لا يحتاج إلى أحد ، وإنما أمر بالجهاد لينتفع الناس بالجهاد في دنياهم وآخرتهم.

[٢٧] ثم ذكر سبحانه بعض أفراد الرسل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ) فقد كان بعض ذريتهما أنبياء (وَالْكِتابَ) أعطينا بعضهم كتبا جديدة (فَمِنْهُمْ) من ذريتهما (مُهْتَدٍ) اهتدى بالأنبياء (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي من أولئك الذرية (فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله سبحانه.

[٢٨] (ثُمَ) بعد نوح وإبراهيم عليهما‌السلام (قَفَّيْنا) أتبعنا (عَلى آثارِهِمْ) آثار ذينك النبيين وذريتهما (بِرُسُلِنا) أرسلنا رسولا بعد رسول (وَقَفَّيْنا) أتبعنا (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) رسلا أيضا ولعل عدم ذكر موسى عليه‌السلام أن الكلام في الأول والوسط والآخر فنوح أول «نبي» وإبراهيم وسط كذلك ، وعيسى آخر قبل نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَآتَيْناهُ) أعطيناه (الْإِنْجِيلَ) فلما ذا ينكر النصارى الرسول وقرآنه أليس أرسل لهم رسولا وأعطوا كتابا؟ (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) اتباعا حقيقيا

٣٤١

رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)

____________________________________

لا من حرّف دينه وغيّر كتابه (رَأْفَةً) صفة داخل القلب (وَرَحْمَةً) صفة داخل القلب إذا ظهرت في الخارج (وَرَهْبانِيَّةً) مشتقة من رهبة بمعنى ما يظهر من العبادة على الجوارح من آثار رهبة القلب ، ورهبان جمع راهب (ابْتَدَعُوها) بدعة حسنة أي طبقوا أمر الله بالرهبة على كيفية خاصة فإن للإنسان أن يطبق الكلي على بعض أفراده ، مثل أن يطبق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الوقوف على حسب ما وقفها أهلها» على بناء المدرسة الدينية ، فهي مجعولة باعتبار جعل الله الكلي ، ومبتدعة باعتبار الفرد ، ولذا لا منافاة بين قوله تعالى «جعلنا» وبين قوله «ابتدعوها» (ما كَتَبْناها) الرهبانية (عَلَيْهِمْ) بالصيغة الخاصة (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) فإنهم لما ابتدعوها كتبناها عليهم بالصيغة الخاصة لأجل طلب رضى الله ، فهي مجعولة بالكلية ، مبتدعة بالصيغة الخاصة ، مكتوبة بعد ذلك لأجل رضى الله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) لأن الرؤوف الرحيم الراهب يجب عليه التصديق بما جاء من عند الله ، لكنهم بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وباختلافهم قبل ذلك ، وجعلهم الإله ثالث ثلاثة ، وبتحريفهم الإنجيل ، وبغشوتهم على الناس ، تركوا رعاية تلك الأوصاف (فَآتَيْنَا) أعطينا (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) أي بقوا على إيمانهم ، لأن للإنسان في كل يوم إيمانا جديدا (أَجْرَهُمْ) الذي يستحقون بسبب بقائهم على إيمانهم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله.

٣٤٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ

____________________________________

[٢٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم (اتَّقُوا اللهَ) في أعمالكم (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيمانا صادقا لا يشوبه النفاق ، إذا آمنتم بالرسول إيمانا صادقا (يُؤْتِكُمْ) يعطكم الله (كِفْلَيْنِ) أي نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) نصيبا لأجل إيمانكم بالله ، ونصيبا لأجل إيمانكم برسوله والمراد أيها المؤمنون بعيسى عليه‌السلام آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعطيكم الله رحمة لأجل إيمانكم بعيسى عليه‌السلام ورحمة لأجل إيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) بين الناس فإن الإنسان المحكّم عقله والمتبع لله ورسوله يكون له نور يعرف به الحق من الباطل فيحكمه الناس في أمورهم ويستشيرون منه في أعمالهم كمن عنده المصباح في الليل المظلم حيث يستنير الناس بنور مصباحه (وَيَغْفِرْ) الله (لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ) كثير الغفران (رَحِيمٌ) بعباده فيغفر ذنوبهم ، ويعطيهم الجنة من رحمته.

[٣٠] يقال في العرف «إن المطلب كذا ، حتى لا يعلم زيد» أي أتركه حتى لا يعلم ، إذا كان إنسانا معاندا لا يريد العلم ، والظاهر من الآية هو هذا ، أي أن من آمن بالله والرسول له كفلان ونور وغفران (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي اتركهم حتى لا يعلموا ، وإنما يتركون لأنهم معاندون ، فيبتدئ قوله سبحانه (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ

٣٤٣

اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)

____________________________________

اللهِ) أن مخففة من الثقيلة ، واسمه ضمير محذوف ، أي أنهم لا يقدرون على إعطاء أو منع شيء من فضل الله ، فلا يقدرون على منع فضله «بالكفيلين والنور والغفران» عن المسلمين ، كما لا يقدرون على منح مثل هذا الفضل لأنفسهم و «أن لا يقدرون» عطف على «لئلا يعلم» أي أنهم لا يعلمون الحق ، ولا يقدرون على صرف الأجر (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) وهذا تأكيد لبيان أنهم «لا (يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ)(يُؤْتِيهِ) يعطي الله ذلك الفضل ل (مَنْ يَشاءُ) ممن اتبع أوامره (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) نسأله سبحانه أن يمنحنا من ذلك الفضل وهو المستعان.

٣٤٤

تقريب القرآن الى الأذهان

الجزء الثامن والعشرون

من آية (١) سورة المجادلة

إلى آية (١٣) سورة التحريم

٣٤٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٣٤٦

(٥٨)

سورة المجادلة

مدنية / آياتها (٢٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل هذا الباب. وهو قوله «تجادلك» وهي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام إلى جنب بيان العقيدة وحيث ختمت سورة الحديد ببيان فضله سبحانه افتتحت هذه السورة بذكر مصداق من مصاديق فضله ، وذلك تلبية الله لرغبة المرأة التي جاءت الرسول تجادل في زوجها ، بأن جعل لها مخرجا من تلك المشكلة التي وقعت فيها ، ببيان حكم الظهار.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبتدئ باسم الإله المستحق لجميع المحامد وأنواع التعظيم ، ففي الابتداء باسمه أداء لحقه في التقديم ، وإتيان بمقتضى عظمته ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على كل شيء ، وعلى كل أحد ، فهو «يعطي من سأله» و «يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه ، تحننا منه ورحمة».

٣٤٧

قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)

____________________________________

[٢] (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ) المرأة (الَّتِي تُجادِلُكَ) أي تراجعك وتتكلم معك يا رسول الله (فِي) أمر (زَوْجِها) واسم المرأة «خولة» واسم زوجها «أوس» (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) حالها وما نزل من المكروه (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أي تخاطبكما أنتما يا رسول الله ، ويا أيتها المرأة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع الكلام (بَصِيرٌ) يبصر الأحوال ، فأنتما باطلاعه سبحانه استماعا وإبصارا ، قال في المجمع ـ بتلخيص ـ : نزلت الآيات في امرأة من الأنصار من خزرج. واسمها «خولة» وزوجها «أوس» وذلك أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها ، فلما انصرفت أرادها ، فأبت عليه ، فغضب عليها ، وكان امرءا فيه سرعة ولمم ، فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال ، وكان الظهار من طلاق أهل الجاهلية ، فقال لها : ما أظنك إلا وقد حرمت عليّ ، فقالت : لا تقل ذلك وأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاسأله؟

فقال : إني أجد أني أستحي من أن أسأله عن هذا. قالت : فدعني أسأله؟ فقال : سليه فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي ، وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني ، وقد ندم فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به؟ فقال : ما أراك إلا حرمت عليه ـ أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحرمة الموقتة التي تحل بالكفارة ـ فقالت : يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا ، وأنه أبو ولدي وأحب الناس إلي؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أراك إلا حرمت عليه ، ولم أؤمر في شأنك بشيء

٣٤٨

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ

____________________________________

فجعلت تراجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمت عليه هتفت وقالت : اشكوا إلى الله فاقتي وحاجتي وشدة حالي ، اللهمّ فأنزل على لسان نبيك ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام. وقالت : انظر في أمري جعلني الله فداك.

فنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادعي زوجك فتلا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «قد سمع الله» إلى تمام الآيات ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال : إذا يذهب مالي كله والرقبة غالية وأنى قليل المال فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال : والله يا رسول الله إني إذا لم آكل ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشى عيني ، قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال : لا والله إلا أن تعينني على ذلك يا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني معينك بخمسة عشر صاعا وإني داع لك بالبركة ، فأعانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك (١).

[٣] ثم بين سبحانه ذم «الظهار» بقوله (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (مِنْ نِسائِهِمْ) أي يقولون لهن : «أنت كظهر أمي» فإن هذا اللفظ كان طلاقا في الجاهلية ، ومعناه : أنه كما يحرم على ظهر الأم ، كذلك تحرمين أيتها الزوجة علي ، وقد أقر الإسلام كون هذا اللفظ محرّما للزوجة ، إذا اجتمع فيه شروط الطلاق ، من كونه بمحضر العدلين وما أشبه ، إلا أنه حرم الطلاق بهذا النحو وجعل الرجوع فيه الكفارة (ما هُنَ) أي لسن الزوجات ، المقول فيهن هذا القول (أُمَّهاتِهِمْ) فإن مجرد اللفظ لا يجعل من الزوجة أمّا (إِنْ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٤٠٨.

٣٤٩

أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا

____________________________________

أُمَّهاتُهُمْ) أي أمهات هؤلاء المظاهرين (إِلَّا) النساء (اللَّائِي) جمع التي (وَلَدْنَهُمْ) فلا أمومة حقيقية بين المظاهر والمظاهر منها (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) فإن تشبيه الزوجة بالأم قول منكر ، فلا شرعية لهذا القول ، وكل شيء لا يكون له حقيقة ولا شرعية فهو باطل (وَزُوراً) أي كذبا ، فإن المظاهر إذا جعل ظهر امرأته كظهر أمه ، ولم يكن بحقيقة كان كذبا ، لكن لا ييأس القائل من عفو الله وفضله فإن أبواب التوبة مفتوحة (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) كثير العفو عن العصاة (غَفُورٌ) لذنوبهم. وأما الفرق أن العفو هو عدم العقاب ، وذلك لا يلازم الستر بحيث لا يكون ذنبه ظاهرا ، كما نرى أن الحكومات قد تعفوا عن مجرم لكن جرمه مذكور ثابت في الدفتر ، أما الغفران فهو الستر للمعصية ، حتى تمحى عن ديوانه سبحانه.

[٤] ثم جاء السياق ليبين حكم الظهار وما يترتب عليه (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) المظاهرة مشتقة من «الظهر» والإتيان ب «من» لأن الظهر يبتدأ من جانب المرأة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) بأن يريدون الرجوع إلى النساء ونقض كلامهم السابق المقتضي للتحريم فاللازم عليهم لحلية الوطي ورجوع الزوجة كما كانت (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي يجعل عبدا مملوكا حرا بالعتق ، وإنما قيل له رقبة بعلاقة الجزء والكل (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي يمس أحد الزوجين الآخر ، وهو كناية عن الجماع ، فإن الجماع لا يحل قبل التحرير

٣٥٠

ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ

____________________________________

(ذلِكُمْ) ذا إشارة إلى التحرير و «كم» خطاب ، أي أن وجوب التحرير عليكم مما (تُوعَظُونَ بِهِ) والوعظ هو التحرير عن عمل يوجب العقاب ، فإن ترك التحرير والمماسة موجب للعقاب لأنه عصيان (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من المماسة بدون الكفارة أو بعدها (خَبِيرٌ) عالم مطلع ، فلا تفعلوا ما يوجب عليكم عقابا.

[٥] (فَمَنْ) ظاهر من زوجته وأراد العود و (لَمْ يَجِدْ) أي لم يتمكن من عتق رقبة إما لعدم وجود المال لاشترائه ، أو لعدم وجود أصل العبد ـ كما في زماننا ـ فكفارته صيام (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) التتابع هو التوالي ومجيء الواحد بعقب الآخر ، أي أن يصوم شهرين بلا فصل إفطار يوم بين أيام الشهرين (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي يجامعا الرجل والمرأة (فَمَنْ) ظاهر و (لَمْ يَسْتَطِعْ) العتق ولا الصيام وأراد الرجوع فعليه إطعام (سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فقيرا بأن يشبع بطنهم أو يعطي لكل واحد ثلاثة أرباع من الحنطة ـ مثلا ـ (ذلِكَ) الحكم بالكفارة للمظاهر المريد للعود إنما شرع (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي ليرسخ الإيمان في قلوبكم فإن رسوخ الإيمان إنما هو بتتابع الأعمال والتكاليف ، فإن التكاليف توقظ القلب وتقوي الملكة فيه ، وحيث إن الإيمان كسائر الصفات شيء تدريجي يحدث آنا بعد آن ، صح الإتيان بالفعل باعتبار المستقبل ، كقوله «اهدنا الصراط» وقد تقدم تفصيله (وَتِلْكَ) الكفارات

٣٥١

حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ

____________________________________

(حُدُودُ اللهِ) أي هي الحدود للإيمان التي قررها الله سبحانه ، فلا يسمح للمؤمن الخروج منها ، بالعصيان ، كما لا يسمح للإنسان أن يخرج من حدود المدينة نحو الأعداء (وَلِلْكافِرِينَ) بحدود الله المنكرين لها (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٦] (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) حاده بمعنى خالفه (وَرَسُولَهُ) بأن لا يمتثلون أوامرهما (كُبِتُوا) أي أذلوا وأخزوا ، من الكبت بمعنى الإذلال (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكفار والمشركين ، وإذلالهم بنصرة الإسلام عليهم في الدنيا ، وعذابهم في الآخرة (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ) أي علائم وأدلة (بَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات ، على أصول العقيدة ، وأحكام الشريعة ، فلا عذر للشخص أن يقول لم أعرف ولم أدر (وَلِلْكافِرِينَ) بالآيات (عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويذلهم.

[٧] والعذاب المهين إنما هو في (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي يحييهم ويحشرهم (جَمِيعاً) فلا يترك منهم أحد ، ولا مفر لأحد من بأسه سبحانه (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم الله (بِما عَمِلُوا) إخبارا لأجل العذاب ، فإن المجرم يعد جرمه أولا ثم يعاقب لئلا يقول عذبت ظلما (أَحْصاهُ اللهُ) أي عدده سبحانه في كتابه وحفظه (وَنَسُوهُ) فإن الغالب إن الإنسان ينسى أعماله التي عمل بها (وَاللهُ عَلى كُلِّ

٣٥٢

شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ

____________________________________

شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي شاهد حاضر ، فيعرف كل ما يصدر من الإنسان ، ويأمر الملائكة بتثبيته ، ليجازي به يوم القيامة.

[٨] (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تدرك ، فإن الرؤية قد تكون بالعين ، وقد تكون بالقلب ، والمخاطب هو الرسول أو كل من يتأتى منه العلم (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لا يغيب عنه شيء من الأشياء؟ فكيف لا يعلم أعمال الجاحدين والكافرين؟ والاستفهام تقريري ، وهو بمثابة الدليل لقوله (يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) و (اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ثم أكد عموم علمه سبحانه بأنه شامل حتى للأسرار التي يفضي بها الإنسان إلى إنسان سرّا وفي إخفات (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى) «من» زائدة لعموم النفي ، و «النجوى» هو الحديث السري يدور بين اثنين أو أكثر في منأى من الناس (ثَلاثَةٍ) أي ثلاثة أشخاص (إِلَّا هُوَ) سبحانه (رابِعُهُمْ) يسمع ما يقولون.

(وَلا) نجوى (خَمْسَةٍ) أشخاص (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) يسمع كلامهم (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) بأن يكون المتناجين اثنين (وَلا أَكْثَرَ) بأن يكونوا أكثر من خمسة (إِلَّا هُوَ) سبحانه (مَعَهُمْ) بالعلم والاطلاع (أَيْنَ ما كانُوا) من بقاع الأرض ، وغيرها (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم (بِما عَمِلُوا) في الدنيا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ليجازيهم عليه فإن

٣٥٣

إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ

____________________________________

الثواب والعقاب بعد الإخبار تكريما للمثاب ، وإهانة للمعاقب ، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم الأشياء كلها فلا يخفى عليه شيء.

[٩] (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله (إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) قال ابن عباس : إنها نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة ، فكان ذلك يحزنهم فشكوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهى الرسول عن النجوى فلم ينتهوا عن ذلك ، فأنزل سبحانه هذه الآية (١) (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) غير مبالين بالنهي.

(وَيَتَناجَوْنَ) فيما بينهم (بِالْإِثْمِ) فيكنّ بعضهم لبعض آثامه (وَالْعُدْوانِ) أي التعدي على الناس والتعدي عن الحق (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) بأن كان بعضهم يوصي بعضا بعصيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَإِذا جاؤُكَ) هؤلاء المتناجون بالباطل (حَيَّوْكَ) يا رسول الله (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) أي تحية ظاهرها مليح وباطنها قبيح ، فقد كان اليهود يقولون للرسول عوض التحية «السام عليك» والسام هو الموت ، يخفون ذلك موهمين أنهم قالوا «السّلام عليك» وقد كان فريق آخر يقول في تحيته «أنعم صباحا ، وأنعم مساء» وهي تحية أهل الجاهلية ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٤١٣.

٣٥٤

وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩)

____________________________________

فنهاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك وقال «قد أبدلنا الله بخير من ذلك تحية أهل الجنة السّلام عليكم» والاستفهام في قوله «ألم تر» للإنكار ، أي لماذا يفعل هؤلاء هكذا (وَيَقُولُونَ) هؤلاء اليهود والمنافقون (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي بعضهم لبعض أو خلجانا في صدورهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي لو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيا حقا ، فهلا ينزل الله علينا العذاب؟ أليس ذلك دليل على أنه ليس بنبي؟ ويأتي الجواب لاستفهامهم التعنتي هذا (حَسْبُهُمْ) أي كافيهم عقوبة (جَهَنَّمُ) التي (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها يوم القيامة (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمحل لسكناهم ، أما عدم تعذيب الله فلأنه لا يعذب الله في الدنيا كل عاص ، وإلا ما ترك على ظهرها من دابة.

[١٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) بعضكم مع بعض (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي لا تفعلوا كفعل المنافقين واليهود ـ كما سبق ـ (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) أي بأفعال الخير ، كأن يناجي أحدهم الآخر بأن ينفق في سبيل الله (وَالتَّقْوى) كأن يناجيه في ترك معصية أو فعل طاعة مما يتقي به عن عذاب الله (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي إلى حسابه وجزائه تنتقلون بعد المبعث والحياة الآخرة.

٣٥٥

إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ

____________________________________

[١١] (إِنَّمَا النَّجْوى) الذي يتعاطاه الكفار والمنافقون (مِنَ) أعمال (الشَّيْطانِ) وإيحاءاته ، وإنما يوحي إلى أوليائه بذلك (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بأن يظنوا أن المتناجين ينقلون فيما بينهم خبرا محزنا ، أو يدبرون مؤامرة ، أو يستهزئون بالمؤمنين أو ما أشبه (وَلَيْسَ) نجواهم (بِضارِّهِمْ) أي لا يضر المؤمنين (شَيْئاً) فان النجوى ليس إلا عملا باطلا لغوا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن الله مطّلع على نجواهم ، فإن اقتضت حكمته أن لا يحول بينهم وبين ما دبروا من المكر ، كان يضرهم ، أما إذا لم يرد الله سبحانه ضرر المؤمنين حال بينهم وبين ما يدبرون بالنجوى ، فاللازم أن يتوجه المؤمنون إلى الله بالضراعة ليدفع كيد الكفار والمنافقين عنهم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بأن يكلوا أمرهم إليه سبحانه ، فإنه نعم الحفيظ.

[١٢] وإذا فرغ السياق من بيان أدب من آداب المجالس ، بذكر بعض الأمور المرتبطة بالنجوى ، بمناسبة تحدث المرأة مع الرسول حول الظهار ، الذي كان حوارا في المجلس ومما يحدث في المجالس ، جاء السياق ليبين أدبا آخر من آداب المجالس فقال سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ) والقائل أيّ شخص كان (تَفَسَّحُوا) أي اتسعوا (فِي الْمَجالِسِ) بأن تجمعوا أنفسكم في

٣٥٦

فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

____________________________________

الجلوس ، حتى يتسع المكان لشخص آخر (فَافْسَحُوا) ووسعوا المكان (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يوسع الله لكم الأمر ، أو يوسع الله لكم منازلكم في الجنة ، فقد ورد أن المسلمين كانوا يتنافسون على المجلس في محضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفسح بعضهم لبعض (وَإِذا قِيلَ) لكم (انْشُزُوا) أي قوموا عن أماكنكم ليجلس غيركم ، من «نشز» بمعنى ارتفع (فَانْشُزُوا) أي فقوموا ، قالوا وكان سبب نزول هذا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكرم أهل بدر ، وذات يوم والناس آخذون مكانهم حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورد بعض أهل بدر فلم يفسح الجالسون لهم مكان ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض الجالسين قوموا حتى يجلس أهل بدر ، فقاموا لكن الكراهية بدت في وجوههم واستغل المنافقون ذلك فقالوا لمن أقيم : أهكذا عدل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقيمكم ليجلس غيركم ذلك المكان؟ فنزل ذلك (١).

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) إيمانا صحيحا من الأعماق (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) في الدنيا وفي الجنة ، فهذا الامتثال للرسول بالقيام حسب أمره موجب لرفعتكم في الدنيا والآخرة ، وفيه تناسب حسن بين قيامهم من المجالس ، ورفعة درجتهم ، والدرجات إنما هي بحسب مراتب الإيمان والعلم ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٤١٧.

٣٥٧

خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً

____________________________________

خَبِيرٌ) أي عالم مطلع فيجازيكم حسب أعمالكم.

[١٣] وبعد ذلك جاء السياق لبيان أدب آخر من آداب مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه تلميح إلى أن ذلك أدب عام ، فقد سبق منا أن أمثال هذه الآيات إنما أتي بها للإلماع إلى الخطوط العامة في الأحكام والآداب ، وإن لم يكن لها مصاديق خارجية بعد موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يرتبط بتلك الآيات مباشرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي أردتم الإسرار في أذنه ، فإن الفعل يأتي بمعنى الإرادة كهذه الآية ، كما أن الإرادة تأتي بمعنى الفعل كقوله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (٢) وما أشبه ذلك (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) أي أمام النجوى (صَدَقَةً) فقد كان الأشراف ـ في زعمهم ـ يأتون إلى الرسول يناجونه بالترهات ، إظهارا لفضلهم ـ كما جرت عادة أمثالهم إلى هذا اليوم ـ يريدون إراءة الناس ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع لقولهم ويرعاهم فجاءت هذه الآية رادعة لهم ، وفيه الأمر بتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنفاع الفقراء ، والنهي عن الإفراط في السؤال ، والميز بين المخلص والمنافق ، ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، فلما سمعوا بهذه الآية انتهوا ، باستثناء الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فصرف دينارا عشرة دراهم ، وأخذ يعطي درهما للفقير ويناجي ، ودرهما آخر ويناجي ، وهكذا حتى أنفق العشرة (٣).

__________________

(١) الأحزاب : ٣٤.

(٢) البقرة : ١٨٦.

(٣) راجع بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ٣٧٨.

٣٥٨

ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ

____________________________________

(ذلِكَ) أي إعطاء الصدقة قبل النجوى (خَيْرٌ لَكُمْ) لأن فيه تحصيل الثواب ، وأداء الواجب ، والدلالة على السخاء ، وتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَطْهَرُ) لأن التصدق يطهّر النفس من الرذيلة والشح (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدقون به قبل النجوى (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر عليكم ترك ذلك (رَحِيمٌ) بكم فلا يكلّفكم التصدق بل يجوّز لكم النجوى بدون الصدقة ، وستره سبحانه إنما هو بعدم إيجابه التصدق ، حتى يأثم المناجي بدون التصدق ، فلا يقال : لا مجال لقوله «غفور» في المقام ، إذ الغفران عن الذنب ولا ذنب في المقام؟ ولما نزلت هذه الآية لم يتقدم أحد من النجوى إلا الإمام كما سبق ، فأنزل الله سبحانه رفع الحكم بقوله :

[١٤] (أَأَشْفَقْتُمْ) أي هل خفتم من الفقر أيها المسلمون (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صَدَقاتٍ)؟ وكان الإتيان بالجمع باعتبار كون «النجوى» جنسا شاملا لأفراد متعددة ، فلكل فرد صدقة ، وهذا استفهام توبيخي ، بأنه كيف تركتم هذه الفضيلة للخوف من الفقر مع العلم أن الصدقة لم تكن محددة ، فكان يكفي القليل منها (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي لم تتصدقوا ، وتركتم النجوى بخلاف من الإنفاق (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن عفى تقصيركم في هذه الفضيلة فاعملوا بسائر أحكام الإسلام فقد رفع عنكم هذا الحكم فلا مانع بعد ذلك من النجوى بدون الصدقة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بالإتيان بها بحدودها (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي

٣٥٩

وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ

____________________________________

أعطوها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر أوامرهما (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فأنتم بعينه وتحت اطلاعه ، فلا تعملوا ما يخالف أوامره حتى تستحقوا العقاب.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم درهما (١) ، أقول : قوله «ءأشفقتم» لا ينافي عدم وجود النسخ في القرآن ، لأن الظاهر كون الأمر بتقديم الصدقة في الآية السابقة ، كان امتحانيا من قبيل رؤيا إبراهيم عليه‌السلام ، ولإظهار فضيلة الإمام عليه‌السلام ـ كذا يقول المنكرون للنسخ ـ.

[١٥] وبمناسبة ما تقدم من النجوى ، أتى السياق ليبين احترام السر وأنه لا يجوز إظهاره للأعداء (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي (إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) بالصداقة والوداد (قَوْماً) من الكفار (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قال في المجمع : والمراد به قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود ويفشون إليهم أسرار المؤمنين (٢) (ما هُمْ) أي ليس هؤلاء المنافقين (مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (وَلا مِنْهُمْ) أي من الكفار ، بل

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٢٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ص ٤١٩.

٣٦٠