تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ

____________________________________

[١٧] فكان مثله (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) في تغريره ثم خذلانه وتسليمه إلى عذاب الله (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) بأن وسوس إليه وزين الكفر في نظره حتى أطاعه فكفر (فَلَمَّا كَفَرَ) وخالف الله سبحانه بما استحق به عذابه (قالَ) الشيطان (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) أيها الكافر لا أنصرك ولا أخلصك من عذاب الله (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وهل الخائف يتمكن من نصرة غيره؟ وكذلك ابن أبيّ غرّ بني النضير وبني قينقاع حتى حاربا الرسول ، فلم ينصرهما بل خذلهما.

[١٨] (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي عاقبة الشيطان والإنسان الذي غرّه فكفر ، (أَنَّهُما فِي النَّارِ) حال كونهما (خالِدَيْنِ فِيها) أي استحقا النار ولقيا العذاب ، ذاك بإغرائه ، وهذا بكفره (وَذلِكَ) العقاب (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر اغترارا بكلام الشيطان.

[١٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه ، فلا تتركوا أوامره ، وتخصيص الخطاب بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به وإلا فالتقوى تجب على كل أحد (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ) أي لينظر كل إنسان ويفكر في (ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ليوم القيامة ، هل أنه قدم الصالح أو الفاسد ، الثواب

٣٨١

وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)

____________________________________

أو العقاب بمعنى لزوم تقديم الشيء الحسن وإن كل عمل يعمله الإنسان فإنما يراه غدا (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا أوامره وزواجره (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) مطلع على أعمالكم فيجازيكم غدا عليها.

[٢٠] (وَلا تَكُونُوا) يا أيها المؤمنون (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) بأن آمنوا ثم نسوا الله فخالفوه ، كأهل الكتاب ، وليس المراد نسيانهم له حقيقة ، بل أعم من ذلك وممن ترك الأوامر ، فإن العالم التارك كالناسي في عدم الامتثال (فَأَنْساهُمْ) الله (أَنْفُسَهُمْ) أي جعلهم الله ناسين حتى أنهم لم يعملوا لنجاتها وخلاصها كالإنسان الذي ينسى نفسه فلا يهتم بشأنها (أُولئِكَ) الذين تلك صفتهم (هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله تعالى.

[٢١] وهل يتساوى هؤلاء الذين يدخلون النار جزاء لكفرهم وعصيانهم مع الذين يدخلون الجنة جزاء لإيمانهم وعملهم الصالح؟ كلا (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها (وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) الدائمون فيها (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) الذين فازوا بالثواب والنجاة.

[٢٢] وكيف لا يخشع الكفار للقرآن حتى يؤمنوا بما جاء به ، والحال أن القرآن لو نزل على جبل لخشع؟ فما يخشع له الجبل الجامد ، كيف

٣٨٢

لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ

____________________________________

لا يخشع له القلب القاسي (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (١) (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) بأن كان الجبل هو المخاطب بالقرآن الموظف للعمل به (لَرَأَيْتَهُ) أي رأيت يا رسول الله ، أو أيها الرائي ، ذلك الجبل (خاشِعاً) خاضعا خائفا (مُتَصَدِّعاً) أي منشقا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وخوفه ، وهذا إما على نحو الحقيقة باعتبار أن للجماد إدراكا وان كنا لا نعرف كيفية إدراكه ، كما قال سبحانه (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (٢) وقال (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣) وقال (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٤) وقال (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) (٥) وإما على المجاز كناية عن قوة ما في القرآن من النفوذ والمضي حتى إن الجبل ـ مع عظمته ـ لو عقل لخشع وتصدع ، فكيف لا يخشع الإنسان؟ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي هذا المثل وما أشبهه نبينها للناس ، وهذا مثل لشدة نفوذ القرآن ومضيه ، لتقريب عظمة القرآن إلى الأذهان (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي لكي يتفكروا فيما ضرب له المثل ، فإن المثل يقرب الذهن إلى الممثّل له ، فيكون مجال التفكير فيه أوسع.

[٢٣] ثم أتى السياق لبيان جملة من صفات الله سبحانه ، لبيان خضوع الوجود كله له تعالى كما أن الجبل يخضع لكلامه (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

__________________

(١) البقرة : ٧٥.

(٢) سبأ : ١١.

(٣) فصلت : ١٢.

(٤) الإسراء : ٤٥.

(٥) الأحزاب : ٧٣.

٣٨٣

عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ

____________________________________

أي لا متصرف في الكون ولا معبود بالحق إلا هو وحده بلا شريك (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فيعلم كل شيء سواء كان غائبا عن الحواس كالملك والجن وما أشبههما ، أو تشهده الحاسة وتدركه كالمرئيات والمسموعات وما إليهما. أو عن الباقر عليه‌السلام انه قال : الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان (هُوَ الرَّحْمنُ) المتفضل على جميع خلقه (الرَّحِيمُ) المتفضل على المؤمنين ، فاطلاعه اطلاع رحمن رحيم لا اطلاع قسي غليظ شديد.

[٢٤] (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والتكرار يفيد التركيز في مقابل عبّاد الأوثان والطبيعيين ومن إليهم (الْمَلِكُ) السيد المطاع المالك للكون (الْقُدُّوسُ) المنزه من كل نقص وعيب وآفة وقبيح ، من القدس وهو الطهارة والنزاهة (السَّلامُ) الذي سلّم الكون منه تعالى ، فليس كالملوك المفسدين للعباد والبلاد ، أو المعنى انه السالم من الآفات ، حتى كأنه قطعة من السلام من باب «زيد عدل».

(الْمُؤْمِنُ) الذي سلّم خلقه من ظلمه ، أو واهب الإيمان ، أو بمعنى أن له تعلقا بالخلق كما أن للمؤمن تعلقا بالخالق ، فإن أصل الإيمان التعلّق بشيء (الْمُهَيْمِنُ) المسيطر على الكون ، من الهيمنة بمعنى السيطرة (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه أو هو ما قل وجوده وكثر نفعه ، والله أظهر المصاديق لذلك ، لتفرده واحتياج الكون إليه (الْجَبَّارُ) الذي يجبر الكسر ، أو الذي يقهر غيره ، فإن الكون كله

٣٨٤

الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)

____________________________________

مقهور له مسيّر بإرادته (الْمُتَكَبِّرُ) الذي تكبر وتعالى عن كل ما يوجب نقصا وحاجة (سُبْحانَ اللهِ) أنزهه تنزيها (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عما يشرك به المشركون من الأصنام والأوثان.

[٢٥] (هُوَ اللهُ) المستجمع لجميع صفات الكمال ـ لأن الله علم لذاك الذات المستجمع ـ (الْخالِقُ) الذي قدّر كل شيء (الْبارِئُ) الذي نفذ التقدير بالإيجاد (الْمُصَوِّرُ) الذي صور كل موجود بصورة خاصة ، فإن الشيء يحتاج إلى التقدير والتصميم قبل الإيجاد ـ وهو الخلق ـ ثم إلى إخراج ذلك المقدر إلى الوجود ـ وهو البرء ـ ثم إلى تصوير ذلك الموجود بصورة خاصة ـ وهو التصوير ـ (لَهُ) تعالى (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فهو العالم ، لا الجاهل القادر لا العاجز الكريم لا البخيل ، وهكذا فله كل اسم حسن (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينزهه كل شيء عن النقائص والقبائح ، تنزيها تكوينيا ، أو حسب إدراكها ـ كما تقدم ـ (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في أفعاله فلا يفعل شيئا عبثا ، بل حسب الحكمة والصلاح.

٣٨٥

(٦٠)

سورة الممتحنة

مدنية / آياتها (١٤)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل من هذه المادة وهو قوله «فامتحنوهن». وهي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام بالإضافة إلى قضايا العقيدة والإيمان. وإذ ختمت سورة الحشر بصفاته سبحانه الموجبة لأن لا يتخذ الإنسان غيره تعالى ملكا وإلها وسيدا ، ابتدأت هذه السورة بتحريم اتخاذ أعداء الله ، أولياء. وقد نزلت هذه الآيات في «حاطب ابن أبي بلتعة» وكان سبب ذلك أن «حاطبا» كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكة ؛ فكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه خبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهل يريد أن يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألوه عن ذلك؟ فكتب إليهم حاطب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد ذلك ـ وذلك حين عزم الرسول على فتح مكة ـ ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية ، فوضعته في قرونها ، وذهبت نحو مكة ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بذلك ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام والزبير بن العوام في طلبها ، فلحقاها ، فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام : أين الكتاب؟ فقالت : ما معي شيء ، ففتشوها

٣٨٦

فلم يجدوا معها شيئا ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئا ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : والله ما كذبنا على رسول الله ، ولا كذب رسول الله على جبرائيل ، ولا كذب جبرائيل على الله جل ثناؤه.

والله إن لم تظهري الكتاب ، لأذهبن برأسك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : تنح يا علي عني حتى أخرجه ـ حيث علمت أن الإمام يفعل ذلك لو لم تعطه الكتاب ـ فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام وجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول الله : يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب : والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقا ، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلي بحسن صنع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم ، فقام عمر وأراد أن يضرب عنق حاطب مستأذنا رسول الله في ذلك ، لكن حاطبا توجه إلى الرسول يستصرخه ، فعفا عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر عمر بالكف عنه فنزلت الآيات (١) ، تحذيرا للمسلمين أن يكرر منهم مثل ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبتدئ باسم الإله الذي له ما في الكون المستحق لجميع المحامد ـ فإن الله علم على هذا الذات ـ وهل هناك أحق بتقديم اسمه من اسم الله تعالى؟ وذكر الاسم دون أن يقال «بالله» للاحترام حتى أن اللازم أن يشرع بذكر الاسم ، لا بذكر نفس الذات ، الرحمن الرحيم الذي رحمته وسعت كل شيء ، وله رحمة خاصة بالمؤمنين ، كما قالوا في لفظ «الرحيم» أنه خاص بعباده المؤمنين.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١١٢.

٣٨٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) الذي يعاديني بالكفر والعصيان (وَعَدُوَّكُمْ) الذي يعاديكم بالاستهزاء والمحاربة وسائر أنواع العداوة (أَوْلِياءَ) توالونهم وتنصرونهم ، جمع «ولي» في حال كونكم (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تبذلون لهم ودكم وحبكم ، عمل المحب لمحبه ، كما فعل «حاطب» بأهل مكة الذين هم أعداء الله وأعداء المسلمين (وَقَدْ كَفَرُوا) أولئك الأعداء (بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) الإسلام والقرآن والرسول ، وهم (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) عن بلادهم ـ كما فعل كفار مكة ـ والإخراج إنما كان ل (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي لإيمانكم (بِاللهِ رَبِّكُمْ) وهل يوالي الإنسان مثل هذا العدو؟

(إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) أيها المؤمنون من بلادكم (جِهاداً فِي سَبِيلِي) أي لأجل الجهاد في سبيل الله (وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي طلبا لرضاي والمعنى أن غرضكم من الخروج والهجرة الجهاد وطلب رضا الله ، فلا توادوا عدو الله وعدوكم ـ أهل مكة ـ (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تعلمونهم في السر بينكم وبينهم مودة وحب (وَ) هل يخفى عملكم هذا على الله؟ كلا ف (أَنَا أَعْلَمُ) من كل أحد (بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي بخفايا أموركم وظواهرها فلا يغيب عليّ

٣٨٨

وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ

____________________________________

شيء ، وسأجازيكم عليها (وَمَنْ يَفْعَلْهُ) أي يفعل الإسرار بالمودة (مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي عدل عن طريق الحق إلى المهلكة ، وسواء الطريق : وسطه.

[٣] (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي إن يصادف كفار مكة لكم أيها المؤمنون في الحرب (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) يبادرونكم بالمحاربة ، فعل العدو بعدوه ، وهذا لنفي ما زعمه حاطب من أنهم أحباؤه ، فتأتي الآية لتبين إن إظهار حبهم له ولعائلته إظهار مكذوب لا حقيقة له (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (أَيْدِيَهُمْ) بالضرب والقتل (وَأَلْسِنَتَهُمْ) بالسب والقذف (بِالسُّوءِ) أي بما يسيئوكم ، فلا يتركون وسيلة من وسائل الإساءة إلا عملوها بالنسبة إليكم (وَوَدُّوا) أي أحب هؤلاء الكفار (لَوْ تَكْفُرُونَ) أنتم بالله كما كفروا هم ، فلا يسبب إهلاككم مودّة أمثال هؤلاء الكفار فإنه :

[٤] (لَنْ تَنْفَعَكُمْ) أيها المؤمنون (أَرْحامُكُمْ) أي قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) والمعنى لا يحملنكم التحفظ على القرابة والأولاد على مخالفة الله والرسول وموادة الكفار ، كما فعل حاطب حيث أراد التحفظ على أهله بمكة فخالف الرسول بأن كتب إلى الكفار ، يعلمهم بقصد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتح مكة (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ) الله (بَيْنَكُمْ) فيدخل أهل

٣٨٩

وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ

____________________________________

الإيمان الجنة ويدخل أهل الكفر والعصيان النار ، فلا تفعلوا ما تستحقون به النيران (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يبصركم ويرى أعمالكم ، فلا تفعلوا ما تستحقون به سخطه وعقابه.

[٥] (قَدْ كانَتْ لَكُمْ) أيها المؤمنون (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي اقتداء حسن ، الأسوة هي القدوة وهو اسم لما يؤتسى ويقتدى به (فِي إِبْراهِيمَ) الخليل عليه‌السلام (وَالَّذِينَ) آمنوا (مَعَهُ) أي فاقتدوا بهم أيها المؤمنون في مقاطعة الكفار (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) الكافرين (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) جمع بريء ، فلا نواليكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ومن أصنامكم التي تعبدونها ، والمعنى لا علاقة لنا بها ، بل نظهر انها باطلة ليست بآلهة ، فعل العدو بعدوه ، وإن لم تكن معاداة حقيقية بين الإنسان وبين الجماد (كَفَرْنا بِكُمْ) أي قالوا لقومهم جحدنا طريقتكم ، أو خطاب للأصنام ، والإتيان بلفظ العاقل لتوحيد سياق كلام المؤمنين مع كلام الكافرين فإنهم كانوا يزعمون العقل والإدراك للأصنام (وَبَدا) أي ظهر (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أيها القوم الكافرين (الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ) وهو أشد العداوة الموجبة لكون العداء في الباطن ، من «بغض» (أَبَداً) أي إلى الأبد ما دمتم أنتم على الكفر (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) وتخلعوا عبادة الأصنام (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) أي اقتدوا بإبراهيم ، إلا في هذا القول ـ

٣٩٠

لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)

____________________________________

الذي قال لأبيه وذلك كان قبل نهي الله سبحانه ـ (لِأَبِيهِ) أي عمه آزر (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي أطلب غفران الله لك ، وكان ذلك لموعدة وعده إياه ، فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه ، فلا ينبغي للمسلم أن يقتدي بذلك ، بأن يستغفر للكافر ويحتمل أن الاستثناء من قوله «إنا برآء منكم» أي قالوا للكفار إنّا أعداء لكم ، إلا إبراهيم وعد عمه بالاستغفار قبل أن يتبين أنه عدو لله ، ثم قال إبراهيم لعمه (وَما أَمْلِكُ لَكَ) يا عم (مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فإذا أراد بك شيئا لم أملك أن أرد العقاب عنك ، ثم قال إبراهيم والمؤمنون به (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) فقد وكلنا أمورنا إليك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) الإنابة هي الرجوع أي رجعنا إليك في أمورنا ، فإن الإنسان باعتبار أنه مخلوق لله تعالى كأنه جاء من عنده ، فهو إذا أطاع كان بمنزلة الراجع إليه سبحانه ، تشبيها للمعقول بالمحسوس (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي ان منتهى أمورنا إليك ، ونعود في يوم القيامة إلى حسابك وجزائك.

[٦] (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تجعلنا امتحانا لهم فإن الكافر يمتحن بالكفر وبإيذاء المؤمنين وبالعصيان ، وإذا وقع المؤمن مورد امتحان الكافر ، أو ذي وقد لا يطيق ذلك ، أو المراد لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نتحمله (وَاغْفِرْ لَنا) أي استر علينا وامح سيئاتنا (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب القاهر في سلطانه (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء حسب الصلاح والحكمة ، ولعل حكاية هذه

٣٩١

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ

____________________________________

الجمل لتعليم المسلمين كيف يدعون الله سبحانه.

[٧] (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المؤمنون في عصر الرسالة (فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) «في» بمعنى النسبة ، أي بالنسبة إلى إبراهيم ومن آمن معه اقتداء حسن ، فهم خير مقتدى لكم في أعمالكم ، ومقاطعتهم للكفار وإنما كرر ذلك لما رتب عليه بقوله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي أن هذه الأسوة والاقتداء إنما هي للذي يرجو ثواب الله سبحانه «ليعتقد بالجزاء والحساب في الآخرة» أما المنكر لذلك فلا معنى لاقتدائه بمن اعتقد بالله وهذا للإشارة إلى التلازم بين الإيمان وبين الاقتداء (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عن هذا الاقتداء ، فلم يقتد بإبراهيم ، بل اتخذ من الكفار أولياء (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) الذي لا يحتاج إلى أحد وإلى عمل (الْحَمِيدُ) المحمود بذاته فلا يحتاج إلى طاعة المطيع وحمد الحامد ، والمعنى : أن الذي يعرض يضر نفسه ، ولا يضر الله سبحانه لغناه المطلق.

[٨] وإذا تريدون أيها المؤمنون موادة أهل مكة لما بينكم من الصلات النسبية والسوابق فلعله سبحانه يهيئ وسائل هدايتهم حتى لا يكون محظور في موادتهم (عَسَى اللهُ) أي لعله سبحانه (أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ) أيها المؤمنون (وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ) أي اتخذتموهم أعداء (مِنْهُمْ) أي من أهل مكة (مَوَدَّةً) بسبب الإسلام (وَاللهُ قَدِيرٌ) على ذلك (وَاللهُ

٣٩٢

غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ

____________________________________

غَفُورٌ) لما سلف منكم من موادتهم في حال كفرهم (رَحِيمٌ) يتفضل عليكم بالرحمة بالإضافة إلى الغفران والعفو.

[٩] وإذا كان المفهوم من الآيات السابقة ما يشمل تحريم موادة كل كافر استثنى السياق من ذلك بقوله (لا يَنْهاكُمُ) أيها المؤمنون (اللهُ عَنِ) موادة (الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي) أمر (الدِّينِ) أي من جهة أنكم متدينون بالإسلام (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) بأن كان كافرا مسالما (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل اشتمال عن قوله «عن الذين» أي لا ينهاكم الله عن بر هؤلاء (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي تعدلوا فيما بينكم وبينهم ، بأن تبادلوا الحب والوداد قيل ان المسلمين استأمروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يبروا أقرباءهم من المشركين (١) وقيل ان قتيلة بنت عبد العزيز قدمت مشركة على بنتها أسماء بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت هذه الآية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي الذين يعدلون في أمورهم.

[١٠] (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ) أيها المؤمنون (عَنِ) موادة (الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) فقاتلوكم من جهة أنكم متدينون (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) منازلكم ، في مكة وغيرها (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي تعاون

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٤٥٠.

٣٩٣

أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ

____________________________________

بعضهم مع بعض في تشريدكم من بلادكم (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي ينهاكم الله عن توليهم واتخاذهم أولياء وهذا بدل اشتمال عن قوله : (الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ)(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي يتخذهم أولياء وأحباء (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان لله والرسول.

[١١] وبمناسبة الحديث عن موادة الكفار يأتي السياق ليذكر بعض أحكام النساء مما له رابطة بالكلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) من دار الكفر إلى دار الإسلام (فَامْتَحِنُوهُنَ) أي اختبروهن حتى تعرفوا صدق إيمانهن وهجرتهن. في الصافي عن القمي قال : إذا لحقت امرأة من المشركين بالمسلمين تمتحن بأن تحلف بالله أنه لم يحملها على اللحوق بالمسلمين بغض لزوجها الكافر ولا حب لأحد من المسلمين وإنما حملها على ذلك الإسلام ، فإذا حلفت على ذلك قبل إسلامها (١).

و (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) منكم فليس عليكم إلا الإيمان والعمل حسب ذلك (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أي صادقات في إيمانهن من الحلف وسائر العلامات والإمارات (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي إلى بلاد الكفار (لا هُنَ) أي المؤمنات

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٦٢.

٣٩٤

حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ

____________________________________

(حِلٌ) أي حلال (لَهُمْ) فإن الكافر لا يحق له مس المسلمة (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فإنهم يصبحون كالأجانب بالنسبة إلى المؤمنات (وَآتُوهُمْ) أي أعطوا الكفار ـ الأزواج ـ أيها المؤمنون ، حين حبستم نساءهم عن الرجوع إليهم (ما أَنْفَقُوا) على المرأة من المهر فإن الزوجة تردّ على زوجها صداقها الذي أعطاها ثم يتزوجها المسلم (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا حرج عليكم أيها المؤمنون (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) فإن إسلامهن أبطل عقدهن السابق بالكفار ـ على تفصيل مذكور في الفقه ـ.

(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي أعطيتم النساء مهورهن ، بمعنى أن الحلّية متوقفة على العقد والمهر (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي لا تعقدوا أيها المسلمون على الكافرة ، فإن الإمساك هو الأخذ ، وعصم جمع عصمة وسمي العقد عصمة لأنه به يعصم كل من الزوجين عن الفجور ، والكوافر جمع كافرة ، وكما لا يجوز الابتداء على عقد الكافرة كذلك لا يجوز البقاء على العقد فيما لو أسلم الرجل ، وبقيت المرأة كافرة ـ على تفصيل مذكور في الفقه (١) ـ وجاءت هذه الجملة بمناسبة نكاح المسلمة بالكافر ، يعني كما لا يجوز نكاح المسلمة للكافر كذلك لا يجوز نكاح المسلم للكافرة

__________________

(١) موسوعة الفقه : ج ٦٥ ، كتاب النكاح جزء ٤.

٣٩٥

وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ

____________________________________

(وَ) إذا لحقت منكم ـ أيها المسلمون ـ امرأة بدار الكفر ، بأن كفرت وارتدت وذهبت إلى الكفار (سْئَلُوا) واطلبوا من الكفار (ما أَنْفَقْتُمْ) عليها من المهر (وَلْيَسْئَلُوا) أي الكفار (ما أَنْفَقُوا) من المهر على امرأة كافرة أسلمت والتحقت بكم ـ لقاعدة التقابل بين الفئتين ـ فهم يطالبون مهر نسائهم إذا أسلمن والتحقن بكم وأنتم تطالبون مهر نسائكم إذا كفرن والتحقن بهم.

(ذلِكُمْ) «ذا» إشارة إلى ما تقدم من الأحكام و «كم» خطاب للمؤمنين (حُكْمُ اللهِ) الذي قرره (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أيها المسلمون والكافرون (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأحكام وما يصلح للبشر (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهي فليست هذه الأحكام إلا حسب الصلاح والحكمة ، قالوا وقد كان من بنود صلح الحديبية أن الرجال يردون كل إلى المحل الذي فر منه ، فإذا جاء رجل من الكفار إلى المسلمين ردوه ، وكذا بالعكس ولم يكن ذكر للنساء في بنود الصلح وإذ تم الصلح وكتبوا الكتاب جاءت «سبيعة بنت الحرث» مسلمة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء زوجها في طلبها وكان كافرا فقال يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اردد علي امرأتي فنزلت هذه الآية (١).

[١٢] (وَإِنْ فاتَكُمْ) أيها المؤمنون (شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أحد من نسائكم (إِلَى الْكُفَّارِ) بأن لحقن بهم مرتدات (فَعاقَبْتُمْ) أي غزوتم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٣٧.

٣٩٦

فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)

____________________________________

وأصبتم من الكفار عقبى ـ وهي الغنيمة ـ وامتنع الكافر أن يعطيكم مهر زوجتكم التي لحقت بهم (فَآتُوا) أي أعطوا أيها المؤمنون (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) أي المؤمنين ارتدت زوجاتهم وفرت إلى الكفار (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) من المهور عليهن. والحاصل أن الزوجة إذا فرت ولم يقبل الكفار أن يدفعوا مهرها إلى زوجها المسلم أعطى الإمام مهرها لزوجها من الغنيمة التي حصلت من المعاقبة (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه فلا تخالفوا أمره بأن تمنعوا الزوج المسلم عن المهر إذا فرت زوجته ولم يبذل الكفار مهرها (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإن من مقتضيات الإيمان التقوى.

روي في الجوامع أنه لما نزلت الآية المتقدمة أدى المؤمنون ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يردوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فنزلت هذه الآية (١). قال القمي : وكان سبب ذلك أن عمر بن الخطاب كانت عنده فاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة فكرهت الهجرة معه وأقامت مع المشركين فنكحها معاوية بن أبي سيفان فأمر الله رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها (٢). وروي عن الصادق والباقر عليهما‌السلام أنهما سئلا ما معنى العقوبة ها هنا؟ قالا : إن الذي ذهبت امرأته فعاقبت على امرأة أخرى غيرها يعني تزوجها فإذا هو تزوج امرأة أخرى غيرها فعلى الإمام أن

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٣٩.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٦٣.

٣٩٧

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ

____________________________________

يعطي له مهر امرأته الذاهبة (١). أقول : فعلى هذا فمعنى «عاقبتم» تزوجتم بأخرى عقيبها ، كما أنه لا يبعد أن يكون القيد سواء كان بالمعنى السابق أو هذا المعنى من باب القيد الغالب لا أن له خصوصية فإنّ على الإمام إعطاء المهر للمسلم الفارّة زوجته سواء أراد التزويج أم لا وسواء غنموا أم لا. والله أعلم.

[١٣] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) أي النساء اللائي يردن الإيمان فهو من باب مجاز المشارفة نحو «من قتل قتيلا فله سلبه» (يُبايِعْنَكَ) أي يردن بيعتك وقد كان ترتيب بيعة النساء أن يضع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده في ظرف من الماء فيخرجها ثم تأتي النساء فيضعن أيديهن في ذلك ومعنى البيعة أن المبايع يبيع كل شيء له لله والرسول ، كما قال سبحانه (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) (٢) (عَلى) شرط (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ) بأن يوحدنه ولا يتخذن معه شريكا (شَيْئاً) أي أيّ نوع من أنواع الشريك كان (وَلا يَسْرِقْنَ) لا من أزواجهن ولا من غير أزواجهن (وَلا يَزْنِينَ) بالرجال الأجانب سواء كنّ ذوات بعل أم لا (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) لا بالإسقاط ولا بالوأد ولا بسائر أقسام القتل (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ) أي بكذب يكذبنه في مولود يوجد لديهن

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣١٣.

(٢) التوبة : ١١١.

٣٩٨

بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)

____________________________________

(بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم بأن يزنين فيلدن من الزنى ثم ينسبنه إلى أزواجهن! فإن المولود إنما يلد بين الرجلين ويرتضع بين اليدين ، وهذا غير النهي عن الزنى ـ الذي سبق ـ.

وقال بعض : إن المرأة في الجاهلية كانت تلتقط المولود ثم تنسبه إلى الزوج فنهين عن ذلك (١) (وَلا يَعْصِينَكَ) يا رسول الله (فِي مَعْرُوفٍ) قال الإمام الصادق عليه‌السلام : هو ما فرض الله عليهن من الصلاة والزكاة وما أمرهن به من خير (٢) ، أقول : وكان الإتيان بقوله : «في معروف» مع أن الرسول لا يأمر إلا بالمعروف ، التنبيه على أن الرسول شأنه الأمر بالمعروف ترغيبا لهن للعمل بأوامره (فَبايِعْهُنَ) أي اقبل بيعتهن ولهن الجنة والثواب على مثل هذه البيعة (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) أي اطلب من الله غفران ذنوبهن السالفات (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر الذنب (رَحِيمٌ) يتفضل بالإضافة على الغفران ، بالرحمة والفضل.

روي إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بايعهن وكان على الصفا ، وكان عمر أسفل منه وهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من أن يعرفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ، فقالت هند : إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بايع الرجال يؤمئذ على الإسلام والجهاد فقط .. فقال : ولا تسرقن فقالت هند : إن أبا سفيان رجل ممسك وإني

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٩٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧٩ ص ٧٦.

٣٩٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)

____________________________________

أصبت من ماله هناك فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرفها.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا تقتلن أولادكن فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا وأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب عليه‌السلام يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى وتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما قال : لا تأتين ببهتان ، فقالت هند : والله إن البهتان قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولما قال ولا يعصينك في معروف فقالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في كل شيء (١).

[١٤] وأخيرا يأتي السياق ليعود إلى ما استبدئ به من تحريم موادة الكفار الذي لأجله نزلت السورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً) من الكفار (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، فقد روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم ، ومعنى التولي الموادة والمحابة واتخاذهم أولياء (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) فإنهم منكرون لها (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) بأن يرجعوا إلى الدنيا ، فهم والكفار سواء في عدم الاعتقاد بالآخرة ، وان أظهر أولئك الاعتقاد بها كذبا وتدليسا.

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ١٤ ص ٢٧٩.

٤٠٠