تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥)

____________________________________

«مرد» مصدر ميمي (مِنْ سَبِيلٍ) تمنيا منهم للرجوع إلى الدنيا ، حتى يعملوا صالحا ـ بظنهم ـ.

[٤٦] (وَتَراهُمْ) أي ترى الظالمين (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي النار ، والمعنى تعرض النار عليها ، وإنما جيء هكذا ، لأنهم يذهب بهم من عند النار أو من باب «القلب» كقوله «كما طينت بالفدن السياعا» (خاشِعِينَ) أي متواضعين (مِنَ الذُّلِ) الذي أخذهم حيث وجدوا مرارة النكال والحكم ، عليهم بالعذاب والهوان (يَنْظُرُونَ) إذا أرادوا النظر إلى شيء (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) فإن الإنسان الذي لم يجرم ينظر إلى الإنسان والأشياء بكل عينه ، أما المجرم فإنه يختلس النظر بخفاء ، لئلا يراه أحد فيشتمه أو يؤذيه ، أو يخجل منه ، فإن الحياة غالية في العين (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) تعريضا بهم وجوابا لما قال الظالمون لهم ، في الحياة ، بأنهم يخسرون بسبب الإيمان سعادتهم ومستقبلهم (إِنَّ الْخاسِرِينَ) هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث عذبوها وأوقعوها في النار (وَأَهْلِيهِمْ) حيث فارقوهم ، سواء كانوا من أهل الجنة ، أو من أهل النار (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإن هذا هو الخسارة الكبرى ، لا ذهاب بعض المنافع الدنيوية ، كما كان يقول الكفار للمؤمنين ، في دار الدنيا (أَلا) فليتنبه السامع (إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) لا يتحول عنهم أبدا ، والمراد

٤١

وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)

____________________________________

بالظالمين المعاندين من الكفار ، فإنهم هم المخلدون.

[٤٧] (وَما كانَ لَهُمْ) أي للظالمين (مِنْ أَوْلِياءَ) جمع ولي ، أي أصدقاء وأحباء (يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من عذاب الله ، بأن يدفعوا عنهم عذابه ونكاله ، أو أن «من دون الله» متعلق ب «أولياء» أي لا ولي غير الله ، ينصر (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بأن يتركه وشأنه ، بعد أن أراه الطريق ، فلم يهتد (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) يوصله إلى المقصد ، وهو السعادة ، إذ السبيل الوحيد ، هو سبيل الله ، فإذا تركه الإنسان ، لم يكن هناك سبيل آخر يوجب النجاة والخلاص.

[٤٨] (اسْتَجِيبُوا) أيها الناس ، ولعل الإتيان من باب «الاستفعال» لفرض بيان أن الإجابة يلزم أن تكون من القلب بطلب وإرادة ، لا مجرد إجابة لفظية ، وعمل سطحي (لِرَبِّكُمْ) بالإيمان به ، وإطاعة أوامره (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) هو يوم القيامة (لا مَرَدَّ لَهُ) أي لا رجوع لذلك اليوم ، بأن يتأخر عن موعده ، حتى يجد العصاة فرصة لاستئناف العمل (مِنَ اللهِ) إما بمعنى ، إن الله لا يرده ، أو أنه لا يرد على الله ، بأنه يرده أحد خلافا لإرادة الله (ما لَكُمْ) أيها البشر (مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) تلجئون إليه ، وتقون أنفسكم بسببه عن عذاب ذلك اليوم (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي منكر ينصركم ، أو إنكار : بمعنى أنكم لا تقدرون على الاستنكار

٤٢

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)

____________________________________

لشدة الهول والفزع ، أو لما ترون من عدم الفائدة في إنكاره.

[٤٩] (فَإِنْ أَعْرَضُوا) يا رسول الله ، ولم يؤمنوا فلا يهمك أمرهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، إذ ما (أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي مأمورا بحفظهم حتى يكون خروجهم خلاف مسئوليتك ، وما كلفت به (إِنْ عَلَيْكَ) أي ما عليك يا رسول الله (إِلَّا الْبَلاغُ) فأنت مأمور بالتبليغ والإرشاد ، وقد فعلت ذلك (وَ) هؤلاء بعداء عن الإيمان ، لما جبلوا عليه من البطر حالة الرخاء والكفر حالة البلاء وكيف هؤلاء يخالفون حتى يبتلوا بالنار ـ مع هذا الطبع الرقيق الذي لا يتحمل نقمة ولا شدة ـ؟ ف (إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) والمراد به هؤلاء ، لا كل إنسان ، وإنما جيء باللفظ العام ، لأن ذلك هو الطبع الغالب (مِنَّا رَحْمَةً) أي أوصلنا إليه من طرفنا رحمة (فَرِحَ بِها) أي بطر وتجاوز الحد ، كما قال له قومه (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١) (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي صفة تسؤهم كالفقر والمرض والخوف ، وما أشبه (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي كانت تلك السيئة جزاء لبعض أعمالهم ، والنسبة إلى «اليد» لأنها العضو الغالب في الإتيان بالأفعال ، وإلا فالمراد كل معصية (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) يجزع من البلاء ، وينسى النعماء.

__________________

(١) القصص : ٧٧.

٤٣

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)

____________________________________

[٥٠] والنعم كلها من الله سبحانه ، حتى أعظم النعم التي توجب امتداد الإنسان ـ وهي الذرية ـ فلم يبتعد الإنسان عن الله ، وهو المنعم والمتفضل عليه؟ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو خالقهما ومالكهما ، والمراد الظرف والمظروف معا (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فله الملك ، وبيده الخلق ، ومنه الإعطاء ، والمنع (يَهَبُ) أي يعطي على وجه الهبة المجانية (لِمَنْ يَشاءُ) من الناس (إِناثاً) جمع أنثى ، أي البنات ، والمراد بالجمع الجنس ـ وقد سبق ، أن كلا من الجمع والجنس ، يخلف الآخر في المعنى ـ (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) جمع ذكر ، أي البنين.

[٥١] (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي يجمع لهم ، يقول العرب : زوجت إبلي ، أي جمعت بين كبارها وصغارها (ذُكْراناً وَإِناثاً) فيعطيهم من الجنسين ، إما في بطن واحد ، أو بطون متعددة (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ) من الرجال أو النساء (عَقِيماً) لا يصير له ولد ، إما بضعف مني الرجل ، أو ضعف رحم المرأة (إِنَّهُ) سبحانه (عَلِيمٌ) بالمصالح (قَدِيرٌ) لما يشاء.

[٥٢] وإذ تقدم جملة من شؤون المعاد ، والألوهية ، جاء السياق لبيان بعض شؤون الرسالة ، كما هي العادة في السور المكية ، تبين من كل هذه

٤٤

وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ

____________________________________

الأصول نتفا وأطرافا ، وقد كان الكفار يطلبون من الرسول أن يروا الله يكلمهم وجها لوجه ، حتى يصدقوا كما قالوا (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) (١) فجاء الجواب (وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي لا يمكن للبشر مهما كان عظمه وقدره (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) وجها لوجه ، فإنه سبحانه لا يمكن رؤيته ، إذ ليس جسما ، ولا جسمانيا ، حتى يرى (إِلَّا وَحْياً) بأن يلقي في قلبه إلقاء ، فإن أصل الوحي ، هو الإلقاء الخفي بحيث لا يعرفه غير المخاطب (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بأن يتكلم الله معه ، ولا يراه تعالى ، فكان حجابا فاصل بينهما ، وهذا كناية عن عدم الرؤية (أَوْ يُرْسِلَ) سبحانه (رَسُولاً) أي ملكا ، ليكلم الإنسان عن الله سبحانه (فَيُوحِيَ) بواسطة ذلك الملك أو يوحي الملك ، ويلقي في قلب الرسول (بِإِذْنِهِ) أي بإذن الله تعالى (ما يَشاءُ) من المعارف والأحكام ، والإتيان بلفظ «بإذنه» لإفادة ، أن كلّا من مجيء الملك ، وتكلمه مع الرسول ، بحاجة إلى الإذن والأمر (إِنَّهُ) سبحانه (عَلِيٌ) أي رفيع عن إدراك البشر ، فلا يراه أحد (حَكِيمٌ) في جميع أفعاله فلا يكلم أحدا إلا الرسول ، أو ما أشبه ، أما أن يكلم كل أحد ، فليس ذلك من الحكمة لعدم قابلية مطلق البشر لكلام الله مباشرة.

[٥٣] (وَكَذلِكَ) أي كما أوحينا إلى الأنبياء السابقين ، أو بمعنى هكذا ـ

__________________

(١) البقرة : ١١٩.

٤٥

أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي

____________________________________

على تقريب تقدم بيانه ـ (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (رُوحاً) والمراد به الشريعة ، إذ هي روح الحياة السعيدة ، فإن الإنسان بدون الشريعة ، كالميت الذي لا يعقل ، ولا يشعر ، ولا يبصر ، ولا يسمع ، إذ هو خال عن الحقائق الكونية ، ضال عن طريق الرشد (مِنْ أَمْرِنا) أي ناشئا تلك الروح من أمرنا وإرادتنا ، فهو صادر عنا ، فإن الإنسان ، قد يعطي من نفسه ، وقد يعطي من غيره ، وما يعطي من النفس ، أكثر خيرا وتكرمة ، ولعل الإتيان ، ب «من أمرنا» لبيان ذلك (ما كُنْتَ تَدْرِي) يا رسول الله (مَا الْكِتابُ) قبل أن يوحى إليك (وَلَا الْإِيمانُ) قبل أن تتلقنه ، ومن البديهي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل إلقاء الله إليه الكتاب والإيمان ، لم يكن يعلمهما ، وإنما الكلام في أن الآية ساكتة عن وقت ذلك ، والظاهر أنه قبل خلق العالم ، فهو حكاية عن ابتداء خلقة الرسول في العوالم العلوية ، كما ورد «كنت نبيا ، وآدم بين الماء والطين» (١) (وَلكِنْ) نحن الذين أعلمناك (جَعَلْناهُ) أي جعلنا الكتاب والإيمان ـ باعتبار كل واحد منهما ـ (نُوراً) لدروب الحياة المظلمة (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) من الذين يقبلون الدعوة ، فالمراد بالهداية : الألطاف الخاصة ، أما إرشاد الطريق ، فهو عام لكل أحد (مِنْ عِبادِنا) جمع عبد (وَإِنَّكَ) يا رسول الله (لَتَهْدِي) وترشد

__________________

(١) مفتاح الفلاح : ص ٤١.

٤٦

إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

____________________________________

الناس (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا التواء فيه ، ولا انحراف ، فكتابك نور ، وأنت هاد ، والدرب الذي تهدي إليه ، صراط مستقيم موصل إلى السعادة.

[٥٤] (صِراطِ اللهِ) الذي قرره وجعله (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فله التكوين وله التشريع والمبدع المكون أعلم بما يصلح مما يفسد ، ولذا فإن نظامه أفضل الأنظمة ، وأصلحها للبشر (أَلا) فليتنبه السامع (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) فمنه البدء ، وإليه الختام.

٤٧

(٤٣)

سورة الزخرف

مكية / آياتها (٩٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «زخرف» وهي كسائر السور المكية بصدد بيان العقيدة ، والاستدلال عليها وحيث ختمت سورة الشورى بذكر القرآن ، ابتدأت هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله ، تيمنا ، فإن الشعار يؤثر في الشيء تأثيرا خارجيا ، لأن الإنسان يعامل بشعاره ، وواقعيا فإن لكل من الرحمن والشيطان جنودا ، فإذا ذكرت الله وحده فرّت جنود الشياطين منهزمين ، والرحمن الرحيم وصفان جيء بهما لأجل استمطار شآبيب الرحمة من ساحة القدس ، فمن ذكر الله بوصف طالبا منه تعالى أن يتفضل عليه أعطاه كما قال (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١).

__________________

(١) غافر : ٦١.

٤٨

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)

____________________________________

[٢] (حم) «حاء» و «ميم» وما أشبههما من سائر حروف الهجاء مادة هذا القرآن المعجز الذي لا يتمكن البشر من الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أو رمز بين الله والرسول ، أو غيرهما من سائر الأقوال.

[٣] (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي قسما بهذا القرآن الواضح الذي يظهر الحق ويبينه.

[٤] (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي بلغة العرب ، حين اختار منهم من يحمل هذه الرسالة ، واختار محلهم منبثقا لهذا الوحي الثمين (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهذا هو المقسم به ، أي أن الغاية من إنزال القرآن عربيا تعقلكم وتفهمكم للحقائق ، يا معشر العرب.

[٥] (وَإِنَّهُ) هذا القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) وهو اللوح المحفوظ ، وإنما سمي بذلك لأنه أصل الكتب السماوية وغيرها ، حيث إن كل شيء مدروج فيه على نحو الصواب والحكمة ، فهو المرجع الوحيد الصحيح ، كالأم التي هي أصل الإنسان ، ومنها جاء وإليها يأوي (لَدَيْنا) أي الذي عندنا (لَعَلِيٌ) أي رفيع ذو قيمة ورتبة (حَكِيمٌ) قد وضع الأشياء موضعها اللائق بها من تشريع وأخبار وبيان وغيرها ، فإن الحكمة وضع الأشياء مواضعها اللائقة بها ، ويسمى الكتاب حكيما باعتبار اشتماله على الأشياء الحكيمة.

[٦] وإذا كان هذا القرآن بهذه المثابة ، فهل ترفع اليد عنه بمجرد أن جماعة

٤٩

أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ

____________________________________

كذبوا به وأسرفوا في الابتعاد عنه؟ (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ) يا معشر الناس (الذِّكْرَ) أي القرآن (صَفْحاً) أي أنترك الوحي؟ وأصله من ضرب الحيوان على صفحة وجهه ليميل عن طريقه إلى ما يراد به ، ثم استعمل في كل تحريف لشيء عن الطريق (أَنْ كُنْتُمْ) أي لأجل أنكم كنتم (قَوْماً مُسْرِفِينَ) تسرفون وتجاوزون في الكفر والعصيان؟ كلا! لا يكون هذا ، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (١) بالإضافة إلى أنه إتمام الحجة ، وتوضيح للمحجة.

[٧] وليس هذا الأمر غريبا من هؤلاء فقد كانت عادة الأمم تكذيب الأنبياء (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) في الأمم الماضية ، و «كم» خبرية للتكثير.

[٨] (وَما يَأْتِيهِمْ) أي الأولين (مِنْ نَبِيٍ) من : لتعميم النفي (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإن الجهال إذا انقطعوا عن الحجة استهزءوا وتمسخروا حتى يغلبوا خصمهم بسبب انهيار أعصابه أمام الاستهزاء ، فلا يتمكن من مواصلة الاحتجاج.

[٩] (فَأَهْلَكْنا) بسبب الاستهزاء وعدم الإيمان (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هو

__________________

(١) الأنعام : ٩٠.

٥٠

بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً

____________________________________

أشد من هؤلاء القوم (بَطْشاً) أي قوة ومنعة ، فلا يغتر هؤلاء المشركون بالقوة والعدة ، فإنها أمام إرادة الله سبحانه لا مجال لها (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي قد سلف في القرآن أمثال أولئك الأقوام الذين أهلكناهم ، وقصصهم ، فقد سبق شباهة أولئك الكفار السابقين بهؤلاء الكفار من قومك.

[١٠] وإذ قدم بعض الكلام حول الرسالة والقرآن يأتي الكلام حول التوحيد (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي سألت هؤلاء الكفار يا رسول الله (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) هل هو الله أم الأصنام؟ لم يجدوا بدّا من الاعتراف بالحقيقة ، لأنهم لا يجدون سبيلا إلا القول بكون الخلق للأصنام ف (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَ) والإتيان بضمير العاقل ، أما من جهة تغليب من فيها عليها ، أو لما قالوا من جواز الأمرين ـ من «هن» و «ها» في غير العاقل ـ (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الْعَلِيمُ) بكل شيء فإن هذا الخلق المدهش لا يمكن إلا أن يكون من صنع قادر عالم ، والأصنام عاجزة جاهلة.

[١١] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي محلا للسكنى ، فتستقرون فيها ـ وهذا من باب الالتفات المذكور في علم البلاغة ـ (وَجَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (فِيها) أي في الأرض (سُبُلاً) جمع سبيل وهو الطريق ،

٥١

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى

____________________________________

ليتمكن الإنسان من السير والسفر (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى خالقكم حيث ترون هذه الآثار الباهرة الدالة على عالم قدير حكيم.

[١٢] (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر ، والمراد بالسماء جهة العلو (بِقَدَرٍ) فليس المطر ـ على ما يزعمه الغافل ـ يكون بكثرة لا قدر لها ، فإن الله قد حسب ذلك حسابا دقيقا ، وأنزله بقدر الحاجة لا زائدا ولا ناقصا (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أي أحيينا بسبب المطر (بَلْدَةً مَيْتاً) أي جافة يابسة لا حركة فيها ، كالميت الذي لا حراك له ، والإحياء إنما هو بإخراج النبات والثمار ، والمراد أرض البلدة التي في أطرافها ، وإنما أضيف الإحياء إليها لأنها المنتفعة بالمطر (كَذلِكَ) أي رأيتم من إحياء الأرض بعد موتها (تُخْرَجُونَ) أنتم من القبور بعد الموت للنشر والقيامة.

[١٣] (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان والنبات والمعدن وغيرها ، أو المراد بالأزواج الأصناف (وَجَعَلَ لَكُمْ) أي لمنافعكم (مِنَ الْفُلْكِ) أي السفن (وَالْأَنْعامِ) الإبل (ما تَرْكَبُونَ) عليه في البحر والبر ، وإنما قال من «الفلك» لأن بعض السفن ليست صالحة للركوب كما أن بعض الأنعام كالغنم مثلا كذلك.

[١٤] (لِتَسْتَوُوا) أي تركبوا باستواء بلا صعوبة التمايل والانحراف (عَلى

٥٢

ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ

____________________________________

ظُهُورِهِ) أي ظهور ما جعل لكم من الفلك والأنعام ، ويسمى محل الركوب ظهرا ، باعتبار باطن السفينة والحيوان ، الذي هو داخل فيهما لا يمكن ولوجه أو الاستقرار فيه (ثُمَّ تَذْكُرُوا) أي تتذكروا ويأتي إلى ذهنكم (نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) التي أنعم عليكم (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) فتشكروه على تلك النعمة (وَتَقُولُوا) في ذكركم (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي أنزهه عن المثل والشريك والقبائح ، «هذا» يعني المركب سفينة كانت أم حيوانا (وَما كُنَّا لَهُ) أي لهذا المركب (مُقْرِنِينَ) أي مطيقين مقارين له ، فلو لا تسخير الله إياه لنا ، لم نتمكن من ركوبه ، فإن الإقران الإطاقة يقال أقرنت لهذا البعير أي أطقته.

[١٥] (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون ، من انقلب ، بمعنى تغيّر حاله من حال إلى حال ، وهذا من باب تذكر الجنازة وسفر الآخرة ، من المركب وسفر الدنيا ـ وذلك من تتمة الدعاء الذي يقال عند ركوب المركب ـ.

[١٦] (وَ) بعد هذه الآيات الكونية (جَعَلُوا) أي جعل الكفار (لَهُ) تعالى (مِنْ عِبادِهِ) وهم الملائكة والمسيح وعزيز (جُزْءاً) فقالوا إنهم أولاد الله ، فإن الولد جزء من الوالد ، لأنه خلق من دمه السائل في عروقه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي كثير الكفر ، فيكفر بالله تعالى في كل أمر.

٥٣

مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)

____________________________________

في ذاته ، في صفاته ، في توحيده في الرسالة ، في المعاد (مُبِينٌ) أي بيّن الكفر ظاهره.

[١٧] ثم إن الكفار قالوا : الملائكة بنات الله فيأتي السياق لاستنكار قولهم هذا ، بالإضافة إلى استنكار أصل اتخاذه ـ سبحانه ـ ولدا (أَمِ اتَّخَذَ) أي هل اتخذ الله سبحانه (مِمَّا يَخْلُقُ) من صنوف الخلق (بَناتٍ) بأن جعل الملائكة بناتا له (وَأَصْفاكُمْ) أي أخلصكم (بِالْبَنِينَ)؟ فلو كانت البنت مكروهة ـ كما في عرفكم ـ كيف تنسبون المكروه إليه ، وتقولون إنا مختصون بالذكور؟ وهل هذا إلا تنزيل لقدر الله دون مرتبتكم.

[١٨] (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ) أي أحد هؤلاء الكفار الذين قالوا إن الملائكة بنات الله (بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي بما جعل شبها لله ، فإن ولد كل شيء شبهه ونظيره ، والمراد إذا بشر أحدهم بأن ولدت زوجته بنتا له (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي انقلب وجهه إلى السواد لكثرة الغم الذي يصيبه من هذه البشارة ، فإن الإنسان إذا اغتاظ ، توجه الدم إلى وجهه ، وحيث إن الدم يضرب إلى السواد يظهر من تراكمه لون السواد ، ولعل التعبير ب «ظل» لبيان دوام الاسوداد في وجهه مدة أيام ، لكثرة الحنق والغيظ (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غضبا ، كاظما نفسه ، لئلا يبدو منه ما ينافي شأنه.

٥٤

أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)

____________________________________

[١٩] فكيف يجعل هؤلاء الكفار البنت التي يكرهونها بهذا النحو من الكره لله سبحانه؟ (أَوَ) الهمزة للاستفهام والواو للعطف أي هل هؤلاء الكفار يجعلون لله (مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أي يكبر ويتربى في الزينة ، وهي البنت فإنها تزين بالملابس والذهب والفضة من صغرها حتى تكبر (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) أي في المخاصمة والاحتجاج (غَيْرُ مُبِينٍ) غير متمكن من إظهار حجتها ودليلها ، فإن المرأة حيث يغلب عليها جانب العاطفة لا تتمكن أن تقاوم الرجل الذي غلب عليه جانب العقل والاتزان ، وإنما جيء بالضمائر مذكرا باعتبار «من» وقد جاز في «من» و «ما» مراعاة اللفظ والمعنى ، والحاصل أنه كيف يجعل هؤلاء لله البنات الناعمة جسدا ، العاجزة حجة ، ويجعلون لأنفسهم البنين العاملين الأقوياء في الحجاج ، وهل هذا إلا انتخاب الشيء الحقير ـ بنظرهم ـ لله تعالى ، واختيار الرفيع لأنفسهم؟

[٢٠] ثم صرح سبحانه بذلك بقوله (وَجَعَلُوا) أي هؤلاء الكفار (الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ) كسائر العبيد (إِناثاً) بأن زعموا أنهم بنات الله (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي هل حضر هؤلاء الكفار خلق الملائكة حتى رأوا بأنهم إناث؟ (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) بهذا الكذب الشائن ، ولعل الإتيان ب «السين» لما ورد من تأخير كتابة العصيان مدة ، رجاء أن يتوب الإنسان ، فلا تكتب السيئة في ديوانه (وَيُسْئَلُونَ) عن هذه الشهادة يوم القيامة من أين قالوها؟

٥٥

وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ

____________________________________

[٢١] وقد كان الكفار يعبدون الملائكة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) بأن يمنعنا عن عبادتهم ، وقالوا ذلك في جواب المؤمنين الذين اعترضوا عليهم وكيف تعبدون الملائكة؟ (ما لَهُمْ بِذلِكَ) بأن الله شاء عبادة الملائكة (مِنْ عِلْمٍ) فمن أين لهم أن يثبتوا أن الله شاء عبادتهم للملائكة؟ (إِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون في نسبة المشيئة إليه سبحانه.

[٢٢] (أَمْ آتَيْناهُمْ) أي هل أعطينا وأرسلنا إلى هؤلاء عبّاد الملائكة (كِتاباً) فيه أن اعبدوهم ـ بأن لم يعلموا المشيئة عقلا وإنما علموها نقلا ـ (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل هذا القرآن الناهي لهم عن ذلك (فَهُمْ بِهِ) أي بذلك الكتاب (مُسْتَمْسِكُونَ) متمسكون آخذون به تبريرا لعبادتهم للملائكة؟

[٢٣] كلا! لا علم لهم ولا كتاب (بَلْ قالُوا) لتبرير موقفهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة هي عبادة الملائكة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ) وما بقي من تقاليدهم وعاداتهم (مُهْتَدُونَ) فالأمر لا يخرج عن تقليد صرف.

[٢٤] وليس التقليد للآباء في الضلال والانحراف خاصا بهؤلاء الكفار بل الكفار السابقون يقولون بمثل هذا القول في مقابل الأنبياء (وَكَذلِكَ) أي كحال هؤلاء (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله

٥٦

فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)

____________________________________

(فِي قَرْيَةٍ) من القرى ، والمراد بها المدينة (مِنْ نَذِيرٍ) أي رسول ينذرهم من الكفر والمعاصي (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي المتنعمون فيها ، من أترف بمعنى تنعم ، والمراد به الرؤساء والكبراء ، لأنهم دائما يقابلون المصلحين بالإنكار والتخاصم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة وملة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) نقتدي بهم ، فلا نخالفهم في الطريقة باتباعكم أيها الأنبياء ، وذلك لأن في اتباعهم إبقاء لكيانهم ، بالإضافة إلى أن الألفة توجب تزين الأليف في النظر دون الجديد.

[٢٥] (قالَ) يا رسول الله لهم (أَ) تبقون على طريقة آبائكم (وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ)؟ يعني لو كان ما أدعوكم إليه أكثر رشدا وهداية من طريقة الآباء؟ (قالُوا) في الجواب (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) من الدين والشريعة (كافِرُونَ) سواء كان أهدى أم غيره.

[٢٦] (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي من أولئك الذين تمردوا على طاعة الأنبياء عليه‌السلام وتمسكوا بالتقاليد البالية (فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو أيها الناظر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) للأنبياء؟ وفي هذا تهديد لكفار مكة إن لم يؤمنوا كانت عاقبتهم كعاقبة أولئك ، والمراد بالنظر : العلم والتفكير في أمرهم.

٥٧

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ

____________________________________

[٢٧] ثم يأتي السياق لنقل قطعة من قصة إبراهيم عليه‌السلام لشباهتها لقصة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن قومه كانوا يعبدون الأصنام فأظهر التبرؤ منهم (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ) آزر ، وكان عمه ، وإنما اسم أبيه «تارخ» وأطلق عليه لفظ «الأب» احتراما فإن الناس يسمون العم «أبا» والخالة «أما» كما في قصة يوسف عليه‌السلام «ورفع أبويه» على ما ذكره جماعة ، من أن المرأة كانت خالته لا أمه (وَ) كما قال لأبيه قال ل (قَوْمِهِ) حين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب (إِنَّنِي بَراءٌ) مصدر «برء» يطلق على المفرد والتثنية والجمع مذكرا ومؤنثا بلفظ واحد ، فهو من قبيل «زيد عدل» وإلا فالأصل «ذو براء» (مِمَّا تَعْبُدُونَ) من الأصنام.

[٢٨] وحيث إن العام شامل حتى الله سبحانه استثنى بقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني وأوجدني من العدم (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أصله سيهديني حذف ضمير المتكلم تخفيفا وتنسيقا ، وحيث إن الهداية شيء يحتاج إليها الإنسان في كل خطوة من خطوات الحياة ، صح الإتيان بالفعل المستقبل ، ولا ينافي ذلك وجودها في الإنسان سابقا ، ومن ذلك (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

[٢٩] (وَجَعَلَها) أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد ـ المستفادة من قوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ـ (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي في نسله وذريته بأن وصاهم بالتزامه والتمسك بها ، كما قال سبحانه (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ

٥٨

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)

____________________________________

وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١) (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كلما انحرفوا عن الطريق ، بأن يتذكروا الوصية فيرجعوا إلى التوحيد فإن الإنسان ـ حسب المحيط ـ ينحرف فإذا تذكر وصية جده رجع وتاب.

[٣٠] (بَلْ) لندع حديث إبراهيم إلى أحوال هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول ، الذين جاءهم الحق عيانا فقالوا إنه سحر ـ فإنّا لم نكتف بالنسبة إليهم بكلمة إبراهيم في إرشادهم ، بل أرسلنا إليهم رسولا آخر ، ومع ذلك انحرفوا ـ (مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) أي أنعمت عليهم بالصحة والنعمة وطول العمر (وَآباءَهُمْ) إذ كل جيل يلاقي الجيل السابق (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) وهو القرآن أو الشريعة (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي ظاهر مبيّن للنهج ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٣١] (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) أي القرآن أو الشريعة أو الرسول (قالُوا هذا سِحْرٌ) ظاهر الآية يناسب كون المراد بالحق القرآن لأن غيره يحتاج إلى التأويل (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) فليس من عند الله تعالى ، وإنما الذي جاء به ساحر يريد السيطرة والاستعلاء بسحره ، وقد بين في هذه الآيات مختلف صنوف النعم والإرشاد على هؤلاء : تمتيعهم لأنفسهم ، وإبقاء آبائهم ، ووصية إبراهيم عليه‌السلام ، ومجيء الرسول ،

__________________

(١) البقرة : ١٣٣.

٥٩

وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)

____________________________________

ومع ذلك لم يؤمنوا.

[٣٢] (وَقالُوا لَوْ لا) أي هلا (نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي رجل من هذه القرية أو رجل من تلك (عَظِيمٍ)؟ صفة رجل ، أي رجل عظيم من مكة أو الطائف. في تفسير الإمام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش «إلى أن قال» : قال له عبد الله بن أبي أمية : لو أراد الله أن يبعث لنا رسولا لبعث أجلّ من في ما بيننا مالا وأحسنه حالا؟ فهلا نزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وأبعثك به رسولا ، على رجل من القريتين عظيم ، إما الوليد بن المغيرة بمكة وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأما قولك لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك ، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة ، لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء ، وليس قسمة الله إليك بل الله القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه ، وليس هو عزوجل ممن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله ، فعرفته بالنبوة لذلك ، ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع فيخصه بالنبوة لذلك ، ولا ممن يحب أحدا محبة الهوى كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم وإنما معاملته بالعدل ، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين وجلاله إلا الأفضل في طاعته والأجدّ في خدمته وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين والجلالة إلا

٦٠