تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥)

____________________________________

(أَنْكالاً) جمع «نكل» ، وهي القيود والأغلال (وَجَحِيماً) أي نارا كثيرة ، فإن جحيم بمعنى ذلك ، وهي من أسماء جهنم.

[١٤] (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) «الغصة» تردد اللقمة في الحلق بحيث لا يتمكن الإنسان من إساغتها ، أي أن أطعمة النار المهيئة لهم ذات غصة فلا يتمكن المجرم من إساغتها إلا بعد علاج وصعوبة (وَعَذاباً أَلِيماً) مؤلما موجعا.

[١٥] إن هذه الألوان من العذاب إنما هي في (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) أي تتحرك وتضطرب ، فإن الزلزال من علائم القيامة ، كما قال سبحانه (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) (وَالْجِبالُ) لتكثير الهول (وَكانَتِ الْجِبالُ) في ذلك اليوم (كَثِيباً مَهِيلاً) «الكثيب» الرمل المجتمع الكثير «والمهيل» هو السائل المتناثر ، من هال : إذا حرك أسفله فتحرك وسال أعلاه ، أي تكون الجبال هكذا سائلة في الأرض.

[١٦] (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) أيها الكفار (رَسُولاً) يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (شاهِداً عَلَيْكُمْ) بما تعملون من الاعتقاد والعمل ، الصحيح أو الفاسد (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) وهو موسى عليه‌السلام.

__________________

(١) الحج : ٢.

٥٤١

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ

____________________________________

[١٧] (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) بأن لم يطع أوامره ، بل خالفه وعانده (فَأَخَذْناهُ) أي أخذنا فرعون (أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا ثقيلا بإغراقه في البحر ، وهكذا أنتم إن لم تؤمنوا أخذناكم بصنوف العذاب.

[١٨] (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) أيها الكفار ، أي تجتنبون (إِنْ كَفَرْتُمْ) في الدنيا (يَوْماً) أي من عذاب يوم ـ وهو مفعول «تتقون» (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ) جمع ولد (شِيباً) جمع أشيب ، وهو البالغ سن الشيب والشيخوخة فإن يوم القيامة لشدة أهوالها يجعل الأولاد في صورة الشيوخ ببياض الشعر ونحوه ، أي هل تتمكنون من الاتقاء عن عذاب يوم القيامة؟ وإذ لا تتمكنون فكيف تكفرون حتى تبتلوا به؟

[١٩] (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي بذلك اليوم ، أي أن السماء تنفطر بسبب أهوال ذلك اليوم ، والسماء يجوز فيها التذكير والتأنيث ، ولذا قال في مقام آخر (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) والانفطار هو الانشقاق ، بأن يرى السماء كالشيء المنشق ، لاختلال نظام المدارات ، ولون الهواء وغير ذلك (كانَ وَعْدُهُ) سبحانه بمجيء هذه الأمور (مَفْعُولاً) أي كأنه لا خلف فيه ولا تبديل.

[٢٠] (إِنَّ هذِهِ) أي صفة الأمور التي ذكرناها لأهوال ذلك اليوم (تَذْكِرَةٌ)

__________________

(١) الإنفطار : ٢.

٥٤٢

فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ

____________________________________

وموعظة لكم أيها البشر (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي سلك سبيلا يؤدي إلى رضوانه ، وهو سبيل الدين والإسلام.

[٢١] ثم عطف السياق نحو قيام الليل الذي ابتدأ به الكلام فقال (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أي في الوقت الذي هو أقرب (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) ففي بعض الليالي كان الرسول يقوم قبل ثلثي الليل بأن كان الباقي إلى الفجر ثلثان ، وفي بعض الليالي قبل النصف ، وفي بعض الليالي قبل الثلث (وَ) تقوم (طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) من المؤمنين كالإمام المرتضى عليه‌السلام والصديقة الطاهرة عليهم‌السلام وسائر الخواص.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي أن مقدار الليل والنهار بيده ، فهو المقدر لها ، والمقدر يعلم الأمور المرتبطة بما قدره ، ولذا (عَلِمَ) الله سبحانه (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لا تتمكنون من إحصاء الليل كله ، بأن تقوموا فيه من أوله إلى آخره في العبادة والطاعة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بأن لم يفرض القيام في الليل عليكم عطفا وتفضلا ، مع أن المقتضي للإيجاب كان موجودا (فَاقْرَؤُا) في الليل (ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي من الشيء الذي يقرأ ، والمراد به الصلاة والدعاء ونحوهما ، والمعنى أنه حيث لا تقدرون على القراءة كل الليل فاقرؤوا ما سهل عليكم وتيسر عندكم.

٥٤٣

عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ

____________________________________

ثم بين سبحانه حكمة التسهيل بقوله : (عَلِمَ) الله تعالى (أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) جمع «مريض» ، والمريض لا يقدر على قيام الليل (وَآخَرُونَ) منكم (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) أي يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي يطلبون الفضل والتجارة (وَآخَرُونَ) منكم (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته وسبيل دينه ، والمسافر والمحارب حيث تعبا في النهار لا يسهل عليهما قيام الليل ، ولذا خفف سبحانه عنكم ولم يلزمكم بالقيام ، أو بمقدار خاص كالنصف والثلث والثلثين (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) وسهل (مِنْهُ) أي من القرآن ، والمراد به الصلاة والدعاء والقرآن الحكيم فإن القرآن مطلق ما يقرأ ، فإن هذه العلل الخاصة أوجبت تخفيفا عاما ـ على نحو الحكمة ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في أوقاتها كما فرض سبحانه (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوها واجبها ومندوبها (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بإنفاق المال في مراضيه ، بلا من أو رياء أو سمعة أو عجب ، وكونه إقراضا باعتبار أنه سبحانه يرده على الإنسان في الدنيا والآخرة أضعافا مضاعفة.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) إلى الآخرة (مِنْ خَيْرٍ) أي طاعة وعبادة فإن ما يعمله الإنسان من الخير يقدم له إلى الجنة حتى إذا ذهب إليها وجد فيها ثواب ما عمل (تَجِدُوهُ) أي ذلك الخير (عِنْدَ اللهِ) في دار

٥٤٤

هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)

____________________________________

كرامته (هُوَ) أي تجدوه هو ـ بعينه بلا نقصان أو اختلاف ـ (خَيْراً) أي في حال كونه خيرا ، أو بحذف «تجدوا» أي تجدوا خيرا ، أو أنه بيان لهاء «تجدوه» ، (وَ) في حال كونه (أَعْظَمَ أَجْراً) أي ثوابا مما كان هو ، فثوابه في الآخرة أعظم من نفسه في الدنيا ، إذا كان في الدنيا يساوي عشرة ، فتجدون في الآخرة ثوابه مائة ـ مثلا ـ أو أعظم أجرا من الذي يبقى في الدنيا (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) اطلبوا غفرانه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) يتفضل بالرحمة فوق غفران الذنوب.

٥٤٥

(٧٤)

سورة المدثر

مكيّة / آياتها (٥٧)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المدثر» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها ، وحيث ختمت سورة المزمل بالصلاة والقرآن وسائر أنواع الخير ، افتتحت هذه السور بذكر بعض أنواعها الأخر من القيام بالتبليغ ، والتكبير ، والتطهير.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله ، ليكون لنا عونا في أمورنا ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم والفضل على العباد.

٥٤٦

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) المراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمدثر أصله من «تدثر» باب التفعل ، أدغمت التاء في الدال ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ، والمدثر هو لابس الدثار ، والدثار هو ما يلبسه الإنسان فوق الثوب الملاصق لجسده لأجل التدفئة ، وفي مقابله الشعار وهو الثوب اللاصق بالبدن ، يسمى به لأنه لاصق بشعر الإنسان.

وقد روي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أوحي إليه أخذته الرعدة من الهيبة فقال لخديجة عليها‌السلام : دثريني ، فدثرته ، فجاء النداء (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

[٣] (قُمْ) من استراحتك (فَأَنْذِرْ) الناس وخوفهم من العقاب إن تمادوا في الكفر والعصيان.

[٤] (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي كبر الله وعظمه ـ وحده دون الأصنام ـ.

[٥] (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فإن المسلم يجب عليه تطهير قلبه عن أدران الشرك بتكبير الله وحده ، وتطهير ثيابه عن الأوساخ بتقصير ذيله حتى لا يتسخ ، وتنظيفه من النجاسات. وقد روي في معنى الآية التطهير من النجاسة والتطهير بالتقصير ـ وذلك لأن المراد هو الأعم منهما ـ وفي الحديث «قصر ثوبك يكون أتقى وأنقى وأبقى».

[٦] (وَالرُّجْزَ) أي القذارة بأقسامها الشاملة للأصنام وللنجاسات الظاهرية ، وللرذائل (فَاهْجُرْ) أي ابتعد عنها.

[٧] (وَلا تَمْنُنْ) في العطاء (تَسْتَكْثِرُ) أي تطلب الكثير بعدم المنّة ، فإن ما يراد به وجه الله يضاعف ، أو المعنى لا تعط العطية تلتمس أكثر منها ـ

٥٤٧

وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣)

____________________________________

كما عن الباقر عليه‌السلام (١) ـ أو لا تمنن بعطائك ، على الناس مستكثرا ما أعطيته.

[٨] (وَلِرَبِّكَ) أي لأجله سبحانه (فَاصْبِرْ) على أذى الكفار والمشركين.

[٩] فإنه سيأتي يومهم الذي ينتقم فيه منهم (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) أي نفخ في الصور ، والنقر هو الضرب في الشيء ، ومنه نقر الغراب ، «والناقور» فاعول ، بمعنى البوق ، لأنه ينقر فيه ، فإن النفخ كالنقر.

[١٠] (فَذلِكَ) النقر (يَوْمَئِذٍ) أي يوم ينقر (يَوْمٌ عَسِيرٌ) صعب شديد.

[١١] (عَلَى الْكافِرِينَ) بالله ورسوله وما جاء به من عنده (غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير سهل ، فإن في ذلك اليوم يعذب الكافر. وهذه الجملة للتأكيد ، وإفادة أن عسر ذلك اليوم إنما هو للكافر ، لا للمؤمن التقي.

[١٢] (ذَرْنِي) أي دعني يا رسول الله (وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي في حال كونه وحيدا لا مال له ولا أولاد ، والمعنى انا أكفيك شره ، وأنتقم منه جزاء لتكذيبه.

[١٣] (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي ذا مدّ وطول ، فقد كان «وليد» الذي نزلت فيه هذه الآيات صاحب أموال كثيرة.

[١٤] (وَ) جعلت له (بَنِينَ) أي أولادا (شُهُوداً) أي حضورا عنده ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٣ ص ١٤٤.

٥٤٨

وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧)

____________________________________

وهذه نعمة أخرى بأن يكون أولاد الإنسان عنده لا يغيبون عنه.

[١٥] (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي هيأت له الأمور تمهيدا ، بأن صار ذات جاه في قومه ، ومكانة في البلد ، وهيأت له الأسباب.

[١٦] (ثُمَّ يَطْمَعُ) هذا الشخص (أَنْ أَزِيدَ) ماله وأولاده.

[١٧] (كَلَّا) لا أزيد بعد ذلك شيئا له ، فقد كفر بي ، وأبدل مكان الشكر كفرانا (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي معاندا لأدلتنا وحججنا لا يؤمن بها عنادا ومضادة.

[١٨] (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه مشقة من العذاب لا طاقة له بها ، والصعود هي العقبة الشاقة المصعد ، فإن من يكلف صعودها يشق عليه ، فقد شبه العذاب بذلك للتقريب إلى الذهن.

وقد ورد في سبب نزول هذه الآيات وما بعدها ما ذكره القمي قال : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان شيخا مجربا من دهاة العرب وكان من المستهزئين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان رسول الله يقعد في الحجر ويقرأ القرآن ، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة ، فقالوا : يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا محمد أنشدني من شعرك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هو شعر ، ولكنه كلام الله الذي ارتضته ملائكته وأنبياؤه ورسله. فقال : اتل علي منه شيئا ، فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حم السجدة ، فلما بلغ قوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ

٥٤٩

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)

____________________________________

أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) (١) قال : فاقشعر الوليد وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته ، ومر إلى بيته ولم يرجع إلى قريش من ذلك اليوم. فمشوا إلى أبي جهل فقالوا : يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبأ «أي مال إلى دين محمد» أما تراه لم يرجع إلينا؟ فغدا أبو جهل إلى الوليد ، فقال له : يا عم نكست رؤوسنا وفضحتنا وأشمت بنا عدونا وصبوت إلى دين محمد؟ فقال : ما صبوت إلى دينه ولكن سمعت منه كلاما صعبا تقشعر منه الجلود ، فقال له أبو جهل : أخطب هو؟ قال : لا ، إن الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضا. قال : أفشعر هو؟ قال : لا أما إني لقد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر. قال : فما هو؟ قال : دعني أفكر فيه فلما كان من الغد قالوا له : يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال : قولوا هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس ، فأنزل الله على رسوله في ذلك (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) وإنما سمي وحيدا لأنه قال لقريش : أنا أتوحد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة ، وكان له مال كثير وحدائق وكان له عشرة بنين بمكة ، وكانت له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها (٢).

[١٩] (إِنَّهُ) أي الوليد (فَكَّرَ) حول القرآن (وَقَدَّرَ) القول في نفسه.

[٢٠] (فَقُتِلَ) دعاء عليه ، أي قتله الله (كَيْفَ قَدَّرَ)؟ تقديرا يوافق أهواء المكذبين وأذهان العامة ، فإن الناس يسرعون إلى نسبة السحر إلى كل

__________________

(١) فصلت : ١٤.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٩٣.

٥٥٠

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦)

____________________________________

ما خرج عن طورهم ، وهذا تعجب من تفكيره وتقديره.

[٢١] (ثُمَ) للتراخي في الكلام لا في الخارج (قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تكرير لشدة التعجب منه ، وإعادة الدعاء عليه.

[٢٢] (ثُمَّ نَظَرَ) في طلب ما يدفع به القرآن ، والنظر هنا التفكر.

[٢٣] (ثُمَّ عَبَسَ) أي قطب وجهه وكلحه ، (وَبَسَرَ) البسور بدو التكره في الوجه.

[٢٤] (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أعرض عن الحق ، وأن يقول في القرآن ما علمه منه (وَاسْتَكْبَرَ) فقد منعه كبره عن القول بالحق.

[٢٥] (فَقالَ إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي يروى عن السحرة.

[٢٦] (إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) فليس وحيا منزلا من السماء.

[٢٧] ثم جاء السياق ليهدده لهذا الكلام المكذوب الذي افتراه ، فإنه لو كان سحرا لقدر السحرة على الإتيان بمثله ، ولقدر المشرعون في العالم أن يضعوا قوانين شبيهة به ، لكنه كلام الله وقد علموا به وإنما منعهم عن ذلك كبرهم وتمردهم (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم ، وألزمه إياها ، فإن «الإصلاء» إلزام موضع النار.

٥٥١

وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

[٢٨] (وَما أَدْراكَ) أيها السامع (ما سَقَرُ) أي أنت لا تدري ما هي لشدة عذابها ، حتى كأن الإنسان لا يمكن أن يعرفها على حقيقتها.

[٢٩] (لا تُبْقِي) شيئا مما يطرح فيها ، بل تأكل اللحم وتحرق الجلد والعظم (وَلا تَذَرُ) إما تأكيدا أو بمعنى أنها لا تدعهم يفنون حتى ينجوا من العذاب ، بل تحرق وتعيد ، وهكذا دواليك.

[٣٠] (لَوَّاحَةٌ) من التلويح بمعنى تغيير اللون بواسطة الشمس ونحوها (لِلْبَشَرِ) أي أنها تغير الجلود ، و «البشر» جمع بشرة ، وهي ظاهر الجلد.

[٣١] (عَلَيْها) أي الملائكة الموكلون عليها (تِسْعَةَ عَشَرَ) وهذا أحد الأعداد الممكنة ، ولا مجال لأن يقال : لماذا ليسوا أكثر ولا أقل؟ فإن أي عدد كان محل هذا السؤال ، كما أن في سائر الأعداد أيضا لا إشكال ، كثمانية أبواب للجنة ، وسبعة للنار ، وسبع سماوات طباقا وهكذا.

[٣٢] (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) أي الموكلون بها (إِلَّا مَلائِكَةً) لأنهم أقوى ، ولعدم رقتهم لأهل النار ، بخلاف ما لو كانوا آدميين (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) أي تعدادهم بكونهم تسعة عشر (إِلَّا فِتْنَةً) وامتحانا (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) حتى يتبين هل هم يؤمنون أم يضحكون من هذا العدد قائلين لا يكفي هذا العدد القليل لتعذيب الكثرة من الكفار والعصاة فإن

٥٥٢

لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً

____________________________________

مخلوقاته سبحانه موجبة للفتنة والامتحان سواء كانت نعما أو نقما في الدنيا أو في الآخرة ، وسواء كان أصل الشيء أو خصوصياته ومزاياه.

وقد ذكرنا عدد الملائكة في القرآن (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى بأن الرسول حق ، حيث يرون أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بما هو في كتبهم مما لا يعلمه أحد إلا هم فقط ، فإخبار إنسان لا يطلع على كتبهم ولم يسمع منهم بذلك يوجب تعيينهم بأنه حق وإنما تعلم ذلك بالوحي (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالرسول (إِيماناً) حيث يرون تصديق أهل الكتاب ـ الذين هم أهل الفن ـ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيوجب ذلك زيادة إيمانهم (وَلا يَرْتابَ) أي لا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) في نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا تأكيد للجملة السابقة ، فإن المؤمن قلبا من أهل الكتاب ، والمؤمن ظاهرا من سائر الناس بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في معرض الشك والزوال ، كما هو الشأن في كل ملكة إذا لم تقو ، فإذا وجد هذا الشاهد تقوت الملكة ، ولم يكن الإنسان معرضا للريب.

(وَلِيَقُولَ) اللام للعاقبة ، أي أن الغاية من تعريف عدد خزنة النار أمران : الأول زيادة إيمان المؤمنين ، وحصول العلم لأهل الكتاب بصدق الرسول. الثاني شدة نفاق المنافق ، وكفر الكافر ، فيقول (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من المنافقين (وَالْكافِرُونَ) بالرسول : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)؟ فكأنهم زعموا أن هذا العدد الخاص من

٥٥٣

كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢)

____________________________________

باب المثل ، لا أنه حقيقة مطابق لعدد الموكلين بالنار ، فأخذوا يستفسرون عن قصد هذا المثل ، فشأن المعاند حيث يستفسر حول كل كلمة من كلمات خصمه لأن التواء قلبه يوجب أن يرى كل شيء متساويا.

ثم يأتي السياق ليبين جواب هؤلاء السائلين بقوله : (كَذلِكَ) أي ببيان الحقائق ، كما بين عدد ملائكة النار (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) فإنه إذا ذكر الحقيقة نفر عنها أناس ، فذلك إضلال لهم (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إذ يتعلق بالإيمان أناس آخرون وذلك هداية لهم ، فإن إضلاله وهدايته ليسا بمعنى الجبر ، بل بمعنى إنزال آية أو بيان حكم يوجب الضلال والهدى ليمتحن الناس.

وبمناسبة بيان عدد جنوده الموكلين ، بالنار جاء السياق ليقرر حقيقة عامة بقوله : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) الموكلين بكل شيء ، المحافظين لكل خلق (إِلَّا هُوَ) سبحانه وحده ، إلا إذا أعلم ذلك لبعض ، فليس لأحد أن يقول : أن جند كذا أكثر أو أقل مما يخبر الله سبحانه (وَما هِيَ) أي سقر التي تقدم الكلام حولها (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي تذكرة لهم ، بمعنى أن ذكرها يذكرهم بالعذاب فيقلعوا عن المعاصي ، أو ان هذه السورة تذكرة لهم.

[٣٣] (كَلَّا) ليس الأمر على ما توهم هؤلاء الكفار من أنه لا حساب ولا جزاء (وَالْقَمَرِ) أي قسما بالقمر.

٥٥٤

وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)

____________________________________

[٣٤] (وَ) قسما ب (اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) ولّى وذهب ليأتي مكانه النهار.

[٣٥] (وَ) قسما ب (الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي إذا أضاء وجاء.

[٣٦] (إِنَّها) أي «سقر» التي تقدم الكلام حولها (لَإِحْدَى) الآيات (الْكُبَرِ) جمع كبري ، أي إحدى آيات الله العظمى ، فإن من قدر على خلق تلك الآيات من القمر والليل والنهار ، لقادر على خلق النار وسقر لتعذيب الكفار وغير المؤمنين ، ولعل اختيار الحلف بهذه الأمور لإيحائها بالظلمة المختلطة بشيء من الضياء ، كالنار التي هي كذلك ، كما أن سكون هذه الأمور يوحي بسكون أهل النار الشبيه بالموت بخلاف أهل الجنة الذين هم أحياء.

[٣٧] في حال كونها (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) تنذرهم بأنهم إن لم يؤمنوا بها ابتلوا بها ، كما تقول : هذه السلاسل تنذر المجرمين.

[٣٨] (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) أيها البشر (أَنْ يَتَقَدَّمَ) إلى الخير لينجو (أَوْ يَتَأَخَّرَ) بالعصيان حتى يبتلي ، فلكل إنسان أن يختار مصيره «إما إلى جنة وإما إلى النار».

[٣٩] (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من الطاعة أو المعصية (رَهِينَةٌ) كالرهن الذي هو محبوس في مقابل الدين ؛ فإن وفي الدين فك وإلا لم يفك ، وكذلك إذا وفى الإنسان بما عليه ـ من الإيمان والطاعة ـ فك وحظي بالثواب ، وإلا كان مصيره النار والبقاء في حبس الأبد.

٥٥٥

إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥)

____________________________________

[٤٠] (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) الذين يعطى كتابهم بأيمانهم ، ويؤخذ بهم ـ يوم القيامة ـ ذات اليمين نحو الجنان ، فإنهم قد فكوا أنفسهم من الرهن بأعمالهم الصالحة.

[٤١] فإنهم (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ) أي يسأل بعضهم من بعض ، أو من الملائكة ، أو من نفس المجرمين.

[٤٢] (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) وعلى الأولين ، يلتفتون بعد السؤال إلى المجرمين ، كما قال سبحانه (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ..) إلى قوله : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ* قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (١) وعلى الثالث يكون المسؤول ابتداء هو المجرم.

[٤٣] فيقولون لهم : (ما سَلَكَكُمْ) أي ما أدخلكم أيها المجرمون (فِي سَقَرَ) في هذه النار العظيمة؟

[٤٤] (قالُوا) أي المجرمون في جوابهم (لَمْ نَكُ) نحن في الدنيا (مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي ما كنا نصلي الصلوات المفروضة.

[٤٥] (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) إطعاما واجبا ، بإعطاء الزكاة ونحوها.

[٤٦] (وَكُنَّا نَخُوضُ) في الباطل (مَعَ الْخائِضِينَ) أي مع الذين يخوضون في الباطل ، وأصل «الخوض» الدخول في الشيء بجميع الجسم فكأن

__________________

(١) الصافات : ٥٢ ـ ٥٧.

٥٥٦

وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)

____________________________________

الباطل شيء يخاض فيه.

[٤٧] (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) «الدين» هو الجزاء ، أي لا نعترف بيوم القيامة ، بل نقول أنه كذب لا يكون.

[٤٨] (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي الموت ، بأن لم نتب قبل أن نموت وسمي الموت يقينا لأنه سبب لانكشاف ذلك العالم لدى الإنسان ، حتى يتيقن بما هناك.

[٤٩] وإذا كانوا كذلك في الدنيا (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي الذين يشفعون للمذنبين ، من الأنبياء والملائكة والعلماء ومن أشبههم ، إذ ذنبهم فوق حد الشفاعة ، وهذا من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ لا يشفع لهم أحد حتى تنفع.

[٥٠] ثم يأتي السياق ليستغرب من عنادهم في الباطل (فَما لَهُمْ) أي ما لهؤلاء الكفار (عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي لم أعرضوا عن القرآن الذي يذكرهم بالحقائق وبما فيه نفعهم؟ وأي خير لهم في هذا الإعراض؟

[٥١] (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) جمع «حمار» (مُسْتَنْفِرَةٌ) أي وحشية نافرة «واستنفر» بمعنى نفر ، كأنها طلبت من نفسها الفرار ، لما شاهدت من الخوف ، وتشبيههم بالحمار لعدم إدراكهم وبلادتهم.

[٥٢] (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي الأسد ، فإن الحمار إذا شاهد الأسد فر منه ، وكذلك الكفار يفرون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥٥٧

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ

____________________________________

[٥٣] (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى) أي يعطى في يوم القيامة (صُحُفاً مُنَشَّرَةً) بأن يوحي إليه وينزل عليه الكتاب من الله سبحانه كما قال سبحانه (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) (١)؟ أو المراد أنهم مع هذا الإعراض عن الحق يريد أن يعطى كتابه يوم القيامة منشورا فيه الحسنات ، إذ الكتاب إذا كان فيه سيئات يطوى لئلا يطلع عليه أحد ، أما إذا كان فيه الحسنات ينشر على رؤوس الأشهاد للافتخار والمباهاة ، وكأن الإتيان ب «بل» لإفادة أنهم مع الكفر يتوقعون هذا.

[٥٤] (كَلَّا) لا يعطون كتابا منشورا ، فإنهم لم يعملوا ما يستحقون به ذلك (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) حتى يدخلوا في زمرة المؤمنين الموجب لإعطاء كتاب منشور بأيديهم ، أو المراد أنهم حيث لا يخافون الآخرة أعرضوا عن التذكرة.

[٥٥] (كَلَّا) ليس الأمر على ما توهموا من أن إعراضهم خير لهم (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي القرآن يذكرهم.

[٥٦] (فَمَنْ شاءَ) التذكرة والاهتداء والخير (ذَكَرَهُ) أي اتعظ به ، ومن لم يشأ فهو وشأنه.

[٥٧] (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فإن التذكر له طرفان : إرادة الله

__________________

(١) الفرقان : ٢٢.

٥٥٨

هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)

____________________________________

سبحانه بإرسال الرسول وإرشاد الناس ، وتقبل الإنسان ، فتذكرهم مرتبط بإرادة الله ، وقد أراد سبحانه ، وأرشد فبقي عليهم أن يقبلوا (هُوَ) سبحانه (أَهْلُ التَّقْوى) أي أهل لأن يتقى منه ، إذ الإنسان إنما يتقي من العالم القادر الذي إذا خالفه الإنسان علم بالمخالفة وعاقب ، وكل ذلك موجود فيه سبحانه (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي أهل لأن يغفر الذنب لمن اتقاه وجاء إلى الطريق ، فاتقوه أيها الناس حتى يغفر لكم.

٥٥٩

(٧٥)

سورة القيامة

مكّية / آياتها (٤١)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «القيامة» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث ، وحيث ختمت سورة «المدثر» بما يرتبط بالقيامة ابتدأت هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله الذي هو الإله بالحق ، ولا إله غيره ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحم والفضل في الدنيا والآخرة.

٥٦٠