تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)

____________________________________

بأمره ، كما إذا أمر بالمناداة ، وهكذا إذا أمر بنحو المناداة كما ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم برفع أصواتهم في تلبية الحج ، حين أمره جبرائيل عليه‌السلام «بالعج والثج» أي رفع الصوت ، وذبح الهدى (١).

[٧] وحيث ذكر سبحانه أدب المؤمنين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر تكليف بعضهم اتجاه بعض (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) بخبر (فَتَبَيَّنُوا) فتعرفوا وتفحصوا هل صدق في خبره أم لا ، فإن ظهر أنه كان صادقا رتبوا الأثر عليه وإلا فاتركوا خبره ، وإنما أمرنا بالتبيّن ل (إِنْ) لا (تُصِيبُوا قَوْماً) بمكروه من جراء خبر ذلك الفاسق (بِجَهالَةٍ) بجهل منكم بالواقع ، اعتمادا على خبر ذلك الفاسق (فَتُصْبِحُوا) تكونوا (عَلى ما فَعَلْتُمْ) من الأخذ بخبر ذلك الفاسق وترتيب الأثر عليه (نادِمِينَ) فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث وليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق وكان بينه وبينهم عداوة ، فلما سمعوا بمجيئه استقبلوه ، فظن أنهم يريدون قتاله ، ولم يتحقق في الأمر ، وإنما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال إنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فأظهر الرسول الاهتمام بقتالهم ، فنزلت الآية الكريمة ، هكذا في بعض الروايات غير النقية السند ، وفي بعض الروايات الأخر ، أنها نزلت في بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين اتهمت ماريا بالزنى ، والظاهر أنه لا منافاة بين الأمرين ، لأن الآية عامة تشمل كل ما كان كذلك ، فهما مصداقان ، ويمكن نزولها مرتين ، كما في بعض الآيات حيث نزلت مرتين ، حالها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٣٧٨.

٢٠١

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ

____________________________________

حال ما إذا رأيت إنسانا يظلم فتقول له (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ...) وإذا رأيت آخر يظلم ، تقرأ له نفس الآية ، ثم لا يقال كيف أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفاسق لجمع الصدقات؟ ثم كيف همّ بقتالهم مع أن العقلاء لا يعتمدوا على خبر الفاسق ، والجواب أن فسقه لم يكن ظاهرا قبل ذلك ، بل أظهره القرآن ، والرسول أظهر إرادة القتال ، لا إنه أراد أن يقاتل واقعا وكثيرا ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يظهر شيئا لمصلحة ، وإن كان لا يريده واقعا ، وقد كان إظهار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن بعض الصحابة أشار إليه بحرب بني المصطلق كما ورد في التفاسير (١).

[٨] ولذا قال سبحانه (وَاعْلَمُوا) أيها المسلمون (أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فلا تسيئوا الأدب معه ، بالكذب عليه ، كما كذب الوليد ، ولا تشيروا عليه بما تشتهون ، كما أشرتم إليه بحرب بني المصطلق ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) من الأمور التي تشيرون عليه بها ، ف «الأمر» اسم جنس (لَعَنِتُّمْ) لوقعتم في العنت ، لأن كل أحد يأتي إليه ، ويقول له ما يرى هو من نظرته الخاصة ، بينما الرسول لا يعمل إلا بما يصلح العموم ، كما هو شأن الكبراء حيث يلاحظون المصلحة العامة ، وإلا فهذا يقول ضد ذلك ، وذلك يقول ضد هذا ، وكل يريد تنفيذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يشير به إليه ، ومن المعلوم أن ذلك يوجب مشقة المسلمين ، لأن معنى سماع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامهم ، أن يطرد هذا ويعاقب هذا ، وهلم جرا ، ثم بين سبحانه ، أن ترك إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٢٠.

٢٠٢

وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ

____________________________________

للمؤمنين الذين يشيرون إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآرائهم ، لا يسبب لأولئك المؤمنين كراهية للإيمان أو للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن العادة عند الناس أن كبراءهم إذا لم يقضوا حوائجهم كرهوهم ، بل أحيانا صاروا ضد أولئك الكبراء ، لكن المؤمنين ليسوا كذلك ، فليس التفافكم أيها المؤمنون حول الرسول ، لإطاعته لكم ولأخذه بأقوالكم (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) وصرتم تحبون الإيمان حتى صرتم تحبون الرسول ، وإن لم يأخذ بنصائحكم وإرشاداتكم (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) قد يكون الشيء محبوبا لكنه غير مزين ، كولد الإنسان القبيح المنظر ، وقد يكون محبوبا وجميلا ، كولده الجميل ، وهكذا الإيمان محبوب وجميل ، وذلك حيث خلق الله فطرة الإنسان ، بحيث يحب المحبوب ويرى جمال الجميل ، ولذا نسب الفعلين «حبب ... وزين» إلى نفسه تعالى (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) جعله مكروها (وَالْفُسُوقَ) أي الكذب ، وقرينة (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) وأصل الفسوق الخروج ، ويسمى الفاسق فاسقا لخروجه عن الطاعة (وَالْعِصْيانَ) كل معصية و (أُولئِكَ) الذين يحبون الإيمان ويكرهون الكفر والعصيان (هُمُ الرَّاشِدُونَ) لهم رشد عقلي ، حيث يحبون الجميل ، ويكرهون القبيح.

[٩] حبب الله إليهم الإيمان ، وكره إليهم الكفر والعصيان (فَضْلاً مِنَ اللهِ) زيادة على أصل خلقتهم وإعطائهم النعم المادية ، وإنما تفضل الله ذلك عليهم ، دون الكافرين والعصاة ، لأنهم تهيئوا لاستماع كلام الله

٢٠٣

وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ

____________________________________

وسلكوا طريق العقل والفكر (وَنِعْمَةً) الإعطاء فضل ، والمعطي ـ بصيغة المفعول ـ نعمة ، تسبب أن ينعم بال الإنسان (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال الملتفين حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذا جعل بعضهم بحيث حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر والعصيان (حَكِيمٌ) يضع الأشياء موضعها ويعطي كل ذي حق حقه.

[١٠] وحيث كان الانسياق وراء قول الوليد يوجب اقتتال المؤمنين ، بعضهم مع بعض ، لكن الله عصم رسوله ، فلم تقع مثل هذه الحرب ، كأن الكلام محل سؤال أنه إذا وقعت مثل هذه الحرب فما ذا هو التكليف؟ وقد أجاب القرآن عن ذلك بقوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الجمع باعتبار المعنى ، فإن كل طائفة تتكون من جماعة من الأفراد (فَأَصْلِحُوا) أيها المسلمون الخارجون عن المعركة (بَيْنَهُما) بالنصيحة والدعوة إلى الكف عن القتال والتصالح فيما بينهما (فَإِنْ) لم تقبل إحداهما النصح بل (بَغَتْ) من البغي بمعنى الظلم والتعدي (إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) وهذا هو الغالب أن تكون إحداهما باغية ظالمة ، فإن قوله «فإن بغت» ليس المراد به أنه ليس من أول النزاع باطل وحق ، إذ لا يعقل حقان متقاتلان ، بل الجاهل منهما ببطلانه ، يظهر له جهله في الأثناء ، ويعلم أنه باغ (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) بالكف عن القتال والرجوع إلى الوحدة الإسلامية (فَإِنْ فاءَتْ) وتركت القتال واستعدت لأن تقبل حكم

٢٠٤

فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)

____________________________________

الإسلام في العداء الذي وقع بينها وبين الطائفة الأخرى (فَأَصْلِحُوا) أيها المؤمنون الخارجون عن المعركة (بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) فإن الإصلاح يمكن أن يكون بالجور ، بأن تقبل الطائفة الأضعف بما يوجب هضم بعض حقها (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الذين يحكمون بالقسط وقد ورد في بعض التفاسير أن الآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج بالسعف والنعال ، وكان ذلك في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأصلح بين الجانبين (١) ، ولا يخفى أن ما ورد في تأويل الآية بقتال الإمام في البصرة ، لا يدل على إيمان من حاربه ، إلا بالمعنى العام للإيمان ، إذ كثير ما يطلق الإيمان على الظاهري منه.

[١١] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الإيمان فكما أن الأخ النسبي يحنو على أخيه كذلك المؤمن يحنو على المؤمن (فَأَصْلِحُوا) أيها المؤمنون (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إذا حدث بينهما شقاق وشجار (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوه فلا تنازعوا ، وإن تنازع اثنان منكم فلا تتركوهما أعداء بل أصلحوا بينهما (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فإن المتقي لا يعلم هل يموت على التقوى وهل يبقى على التقوى في مستقبل عمره ، فكونه مرحوما ليس مقطوعا به ، بل لعله يرحم.

[١٢] وإذ كان المؤمنون إخوة ، فاللازم عليهم أن لا يفعل البعض ما يسيء

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٢٠.

٢٠٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ

____________________________________

إلى البعض الآخر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) رجال من رجال (عَسى أَنْ يَكُونُوا) أولئك الذين سخر منهم (خَيْراً مِنْهُمْ) من الساخرين ، وعسى بمعنى لعل ، وهذه العلة لتأكيد النهي ، وإلا فالسخرية محرمة عقلا وشرعا ، حتى بالنسبة إلى المساوي والأدون (وَلا) تسخر (نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى) لعل (أَنْ يَكُنَ) تلك المسخر منهن (خَيْراً مِنْهُنَ) من الساخرات وفي الصافي عن القمي أنها نزلت في عائشة وحفصة حيث كانتا تسخران من صفية وتقولان لها يا بنت اليهودية فشكتهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قولي لهما أبي هارون نبي الله وعمي موسى كليم الله وزوجي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله ، ولما قالت لهما ذلك ، قالتا : علمك هذا رسول الله (١) (وَلا تَلْمِزُوا) لا تعيبوا باللسان أو بالإشارة (أَنْفُسَكُمْ) لأن عيب الآخرين ، من المؤمنين عيب على النفس ، لأن المؤمنين وحدة واحدة ، كما قال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) التنابز باب المفاعلة من النبز بمعنى أن يجعل كل واحد منهما للآخر لقبا سيئا ، والنبز حرام ، وإنما جاء بلفظ التنابز للدلالة على أن النبز لا بد وأن ينتهي إلى المنابزة (بِئْسَ الِاسْمُ) أي العلامة لأنه مشتق من الوسم (الْفُسُوقُ) الخروج عن طاعة الله ، بأن كانت علامة المؤمن الفسوق

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٣٢١.

(٢) النساء : ٣٠.

٢٠٦

بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا

____________________________________

(بَعْدَ الْإِيمانِ) بعد أن آمن وصار شعاره واسمه «المؤمن» ثم يصبح شعاره واسمه «الفاسق» لأنه فعل ما نهى الله عنه (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) عن ما ارتكبه من المعصية (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم حيث أنهم عصوا ثم لم يتوبوا ، أما من تاب بعد عصيانه فلا يستحق أن يسمى ظالما.

[١٣] وبعد أن نهى المسلمون من التقاتل ، نهوا عن الاستهزاء واللمز والنبز ، ومن الواضح أن كل مرتبة متأخرة أنزل من المرتبة السابقة ، ولذا جاء السياق لينهي عن الأنزال من تلك أيضا وهو سوء الظن ، فقال سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) أي الظن السيئ وإنما قال كثيرا لأنه لا بد وأن يوجد في الكثير من الظن السيئ الظن المحرم ، بخلاف قليل الظن فإنه بما لا يكون فيه المحرم ، بالإضافة إلى أن قليل الظن ليس تحت اختيار الإنسان فإنه حالة نفسية قد تأتي بدون الاختيار فلا يمكن النهي عنه ، أما كثير الظن فإنه تحت الاختيار إذ الكثرة لا تحصل إلا بالتتبع والانسياق وراء الإنكار ، وإنما نقول اجتنبوا كثيرا من الظن ل (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وقد قرر في علم أصول الفقه وجوب الاجتناب من أطراف الشبهة المحصورة فإذا كان بعض الظن إثما وجب الاجتناب من الأطراف المحتملة لذلك ، والظن السيئ إما حرام بنفسه ، وإما حرّم لأنه مقدمة للعمل المحرم ، إذ الذي يظن سوء غالبا ما يرتب الأثر العملي على ظنه السيئ (وَلا تَجَسَّسُوا) لا تبحثوا عن عورات

٢٠٧

وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا

____________________________________

المسلمين وأمورهم الخفية (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) والغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره ، ولو بالإشارة (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) فالغيبة بمنزلة أكل لحم الأخ الميت في شدة قبحه وكراهته ، ولعل التشبيه من باب أن للأخ ذاتا وذكرا فكما أن قطع قطعة من لحمه ولوكها في الفم قبيح كذلك قطع قطعة من ذكره «عرضه» ولوكها في الفم كذلك ، وقد جعل كونه غائبا مثل كونه ميتا في عدم شعور كليهما بما يصنع بلحمه وبذكره (فَكَرِهْتُمُوهُ) فكما كرهتم أكل لحمه أكرهوا أكل عرضه (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوه في عصيانه ، وإذا اتقيتم الله وتبتم عما سلف منكم ف (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ) كثير قبول التوبة (رَحِيمٌ) يرحم العباد فلا يعاقبهم بعد توبتهم.

[١٤] وحيث أن المعاصي السابقة الذكر تنشأ من رؤية الإنسان نفسه أرفع من غيره ، بيّن سبحانه أن لا رفعة لأحد على أحد إلا بالتقوى ، وإذا حصلت التقوى امتنع الإنسان عن تلك المعاصي (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) آدم وحواء عليهما‌السلام أو أب وأم كل فرد ، فلا تفاضل في أصل الخلقة (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) تجتمعون تحت عنوان واحد ، كاللغة والمدنية واللون ونحوها (وَقَبائِلَ) تجتمعون في أب تتشعب القبيلة وتنحدر منه ، وهذان أيضا لا يوجبان التفاضل ، وإنما جعلناكم شعوبا وقبائل (لِتَعارَفُوا) لأجل أن يتعرف بعضكم على

٢٠٨

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ

____________________________________

بعض بسبب القبيلة ، أو بسبب أنه من الشعب الفلاني (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أكثركم تقوى فمن أراد الرفعة عند الله فليجدّ في أن يكون أكثر تقوى من الآخرين ، وكلما زاد الإنسان تقوى زاد كفاءة ، منتهى الأمر أن الكفاءة عند أهل الدنيا ، عبارة عن الكفاءات الدنيوية فقط ، وعند الله هي الكفاءات الدنيوية بالإضافة إلى الكفاءات الأخروية ، لأن الإسلام دنيا وآخرة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بكل أموركم (خَبِيرٌ) والخبير فوق العليم ، لأنه عبارة عن العلم والتجربة ، فالذي تعلم الطب ولم يجرب لا يسمى خبيرا ، بخلاف ما إذا جرب ، والمراد به في الله سبحانه أنه في غاية العلم والإدراك ، فمن أطاعه علم ذلك وجزاه ومن عصاه علم ذلك وأخزاه.

[١٥] وإذ تقدم شرائط الإيمان ، بالانتهاء عن كل معاصي الله تعالى ، حتى من مثل الظن الباطني ، ذكر سبحانه أن الذي لم يشتمل على هذه الشرائط لا يحق له أن يقول آمنت (قالَتِ الْأَعْرابُ) هم أهل البادية ـ كما تقدم الكلام في ذلك ـ (آمَنَّا) بك يا رسول الله وبما جئت به (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) لعدم توفر شرائط الإيمان فيكم (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام هو الانقياد والدخول في السلم وإظهار الشهادتين ، وهذه كانت موجودة في الأعراب (وَلَمَّا) وبعد لم (يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) لأنه إذا دخل القلب حصلت الطاعة بجميع أوامر الإسلام ، ولا يخفى أنه قد يطلق الإيمان ويراد به

٢٠٩

وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ

____________________________________

الإسلام ، وقد يطلق على الأخص من الإسلام (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل أمر ونهي (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم (مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) بل يعطي أجوركم كاملة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لسابق الذنوب (رَحِيمٌ) بعباده يتفضل عليهم زيادة على غفران ذنوبهم ، وقوله «لا يلتكم» تشويق للأعراب أن يؤمنوا زيادة على إسلامهم.

[١٦] وإنما لم يدخل الإيمان في قلوب الأعراب بعد ، لأن المؤمن الصادق هو الذي كانت له صفات خاصة مما لا تتوفر في هؤلاء الأعراب ف (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) هم (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إيمانا من عمق قلوبهم (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكوا في صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمة الله ولإنقاذ المستضعفين من براثن المستنكرين ، وكان الإنقاذ لأجل أمر الله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا في دعواهم الإيمان ، وإنما قال سبحانه (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لأن كثيرا ممن أسلموا كانوا يشكون حين ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمرهم بأمر لا يلائم أذواقهم.

[١٧] وإذا كان لكم إيمان صادق فالله يعلم ذلك ، بدون أن تقولوا بأفواهكم آمنتم فلا حاجة إلى قولكم ، بل اللازم واقع الإيمان (قُلْ) لهم يا رسول الله (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ)؟ أي تخبرونه بقولكم : آمنا؟ وهذا

٢١٠

وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

استفهام إنكاري (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهل من يعلم كل شيء يخفى عليه إيمانكم ـ إن كان لكم إيمان ـ حتى يحتاج إلى إخباركم بأنكم آمنتم؟ (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذا أعم من «يعلم ...» لأن الأول يشمل الموجودات فقط ، وهذا يشمل حتى غير الموجودات ، قال بعض المفسرين روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية (١).

[١٨] وإذا كان اللازم أن لا يتفوه الإنسان بأنه مؤمن ، لأن الله لا يحتاج إلى ذلك بل هو عليم بكل شيء ، فمن اللازم المؤكد أن لا يمنّ الإنسان بإيمانه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) يا رسول الله (أَنْ أَسْلَمُوا) فيعدون إسلامهم عليك منّة (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) فأنتم الذين انتفعتم بإسلامكم ، لا أنا (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) لأنه أكبر إعطاء من الله للإنسان حيث يبصر بسببه طريقه في الدنيا ويسعد به في الآخرة ، ومعنى المنة أنه أحسن إليه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادعاء الإيمان ، وإلا فعدم منة الله ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

[١٩] (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب عن الحواس فيهما

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٣٢.

٢١١

وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)

____________________________________

فكيف يخفى عليه إيمانكم؟ وكيف يخفى عليه صدقكم وكذبكم في الإيمان؟ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يرى قلوبكم التي فيها الإيمان والتي ليس فيها الإيمان ، ويرى أعمال جوارحكم التي تأتون بها حسب إيمانكم أو حسب عدم إيمانكم ، فلا يخفى عليه سركم ولا علنكم.

٢١٢

(٥٠)

سورة (ق)

مكية / آياتها (٤٦)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذا اللفظ : «ق» وهي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة ولما ختمت سورة الحجرات بأحوال المنافقين وأشباههم ، افتتحت هذه السورة بأحوال الكافرين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الذي من تمسك به كان من الناجين ومن انحرف عنه بكفر أو نفاق كان من الهالكين «الرحمن الرحيم» الذي يرحم تفضلا في إيجاد الإنسان ، ثم يرحم في إعطائه ما يحتاج إليه من الأمور المادية والمعنوية.

٢١٣

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً

____________________________________

[٢] (ق) ورد عن الصادق عليه‌السلام أن «ق» هو الجبل المحيط بالأرض وخضرة السماء منه وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها (١). أقول : إن الأمواج المحيطة بالأرض مما يشملها الهواء ، سميت بالجبل ، لأنها مثله في الارتفاع والشموخ ، ومن المعلوم أن تراكم الذرات في هذا الجو السيّال يسبب لونا خاصا ، هو لون السماء ، ولو لا هذا الغلاف الجوي لهلك الإنسان ، لما تكون الأرض معرضا لتساقط الأحجار ، ملايين الأحجار من الجو ـ كما ثبت في العلم الحديث ـ وقد تقدم الكلام في فواتح السور وفي إعرابها (وَالْقُرْآنِ) قسما بالقرآن (الْمَجِيدِ) ذي المجد أي العظمة والشرف ، وجواب القسم محذوف أي قسما بالقرآن المجيد ، أنه حق ، بقرينة ما بعده ـ وهناك احتمالات أخر مذكورة في التفاسير.

[٣] (بَلْ عَجِبُوا) الكفار (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) هو الرسول الذي ينذرهم من عاقبة كفرهم (مِنْهُمْ) من جنسهم لا من جنس الملائكة والجن ، والمراد بالمنذر هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا) كون النبي منذرا من قبل الله تعالى (شَيْءٌ عَجِيبٌ) هو الشيء الذي لم يألفه الإنسان ولم يتوقعه.

[٤] وحيث كان أنذرهم بالعاقبة السيئة بعد الموت قال الكفار ـ بصدد بيان تعجبهم ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) لأن الميت بعد زمان من موته يتحول إلى تراب ، أنرجع أحياء ، كما يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وقد حذف جواب

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٩ ص ٣٧٣.

٢١٤

ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)

____________________________________

«إذا» لوضوحه (ذلِكَ) الذي يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من الرجوع أحياء (رَجْعٌ بَعِيدٌ) يبعد في نظرنا أن يكون له حقيقة.

[٥] ولماذا بعيد هل لأنا لا نقدر على الإعادة؟ وجوابه : أن الذي يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة أو لأن أجزائه تنتشر في الأرض ، ولا نتعرف أين سقطت تلك الأجزاء؟ وجوابه (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ما تأكل من أجسادهم إذا ماتوا ، فإذا علمنا ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم وسائر أجزائهم ، مع أن أكل الأرض شيء لا يراه حتى من ينظر ، فكيف لا نعرف أجزاءهم المبعثرة بعد تحولها إلى تراب (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) يحفظ كل شيء ، وهو اللوح المحفوظ ، ومن المعلوم أنه سبحانه لا يحتاج إلى الكتاب ، وإنما ذكر ذلك لتقريب أذهان الكفار ، وفي ذلك الكتاب يحفظ خصوصيات الإنسان الحي ، والأجزاء المبعثرة من الميت فإذا أريد بعث الميت أعيد بدون زيادة ولا نقيصة ، بتلك الخصوصيات والمزايا التي كان له حال الحياة.

[٦] (بَلْ) إنهم زادوا على التعجب ، بأن كذبوا بالحق ، فلم يقفوا على الشك والتردد ، مع أنهم لا حجة لهم في هذا التكذيب لأنهم في أمر مضطرب فقد (كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) وهو الرسول والقرآن ، وما جاء به الرسول من العقيدة والشريعة ، وتكذيبهم بدون دليل أفظع من تعجبهم السابق ـ ولذا قال سبحانه «بل» (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) مضطرب

٢١٥

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)

____________________________________

فتارة يقولون أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاعر ، وتارة كاهن وتارة مسحور ، وتارة ساحر ، وتارة يعلمه بشر ، وذلك يدل على أنهم لا يستندون إلى حجة.

[٧] (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) حين كفروا بالله ، وبقدرته على البعث (إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) ألا يدل ذلك على الإله العليم والقدير؟ وهل من علمه وقدرته إلى هذا الحد ألا يقدر على البعث؟ (كَيْفَ بَنَيْناها)؟ فإن نظام تسيير الكواكب الدقيق من أغرب البناءات (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) فرجة خالية عن النظام ، والدليل على عدم الفرجة ، أن الكواكب تسير بانتظام معين على طول الزمان ، ولو كان مكان في السماء بدون نظام كان الكوكب إذا وصل إليه سبّب اضطرابه ، ولكن هذا ما ليس بموجود.

[٨] (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها ، فهي مدورة لا مثل الإبرة والهرم وما أشبه مما ليس قابلا للسكنى (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جمع راسية ، وهي الجبل ، أي الجبال الثابتة ، والإلقاء بمعنى الخلق من قبيل قولهم «ضيق فم الركية» فليس المراد الإلقاء بعد خلق الأرض ، ولو لا الجبال لتفتت الأرض في دورانها السريع (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) من كل صنف (بَهِيجٍ) يبتهج به الإنسان ويفرح عند النظر إليه ، لحسنه وجماله.

[٩] وإنما فعلنا كل ذلك (تَبْصِرَةً) ليتبصر به (وَذِكْرى) وليتذكر به (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى ربه عن غفلته مفكر في بدائع خلقه ، والفرق بين

٢١٦

وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)

____________________________________

التبصرة والتذكرة ، أن الأولى لمن لا يعرف فيكون ما خلق سبب عرفانه ، والثانية لمن عرف ونسي فيكون ما خلق سبب تذكرته.

[١٠] (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) المطر (مُبارَكاً) كثير البركة ، والبركة من «برك» بمعنى ثبت ودام فإن ماء السماء دائم لأنه يختزن في فجاج الأرض فيكون عيونا وأنهارا ، فينتفع به الإنسان طول حياته (فَأَنْبَتْنا بِهِ) بماء السماء (جَنَّاتٍ) بساتين للجمال والانتفاع بمختلف الانتفاعات (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد ، كالحنطة والشعير وغيرهما.

[١١] (وَ) أنبتنا به (النَّخْلَ باسِقاتٍ) أي طوالا ، والمراد بالنخل جنسه ، ولذا جاءت صفته جمعا (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) منضود بعضه فوق بعض ، والطلع وعاء الثمر.

[١٢] أنبتناها (رِزْقاً لِلْعِبادِ) والرزق يشمل الرؤية أيضا ، لأن كل ما يعطيه الله للإنسان مما يتمتع بمنظره أو بشمه أو بأكله أو بلبسه أو غير ذلك ، فهو رزق ، والمراد بالعباد أعم من الإنسان والحيوان ، لأن كل ذي روح عبد لله (وَأَحْيَيْنا بِهِ) بذلك الماء الذي أنزلناه من السماء (بَلْدَةً مَيْتاً) أرضا ميتة لا زرع فيها ولا ما يتبع الزرع من الإنسان والحيوان ، وحياة الأرض تحركها والتحرك عليها ، وسمى الأرض بلدة ، مجازا بالمشارفة لأن الماء يجعل الأرض بلدا (كَذلِكَ) كما أخرجنا من السماء الماء ومن الأرض النبات (الْخُرُوجُ) تخرجون أنتم من قبوركم عند بعثكم.

٢١٧

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ

____________________________________

[١٣] وإن كذبك هؤلاء الكفار ، يا رسول الله ، فلا تغتم ، فإنا سوف نجازي المكذبين (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قبل كفار مكة (قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) الذين رسوا نبيهم في الأرض وأقبروه حيّا ، وكانت مدنهم بين إيران وروسيا ، وكانوا على نهر يسمى إلى اليوم بنهر «أرس» وتفصيل القصة مذكورة في قصص الأنبياء وفي التفاسير كتفسير الصافي في سورة الفرقان (١) (وَثَمُودُ) قوم صالح عليه‌السلام.

[١٤] (وَعادٌ) هم قوم هود عليه‌السلام (وَ) قوم (فِرْعَوْنُ) فإنه قد يطلق اسم الكبير على كل قومه (وَإِخْوانُ لُوطٍ) عليه‌السلام ولعل التعبير بالإخوان لأجل التفنن البلاغي ، كما أن الظاهر أنه لأجله ، اختلف التعبير بقوم وأصحاب ، وذكر فرعون ، إلى غير ذلك.

[١٥] (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الغيضة وهم قوم شعيب عليه‌السلام (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وحيث سبق تفاصيل قصص هؤلاء لم نكررها (كُلٌ) كل هؤلاء (كَذَّبَ الرُّسُلَ) المرسلة إليهم (فَحَقَ) فثبت وحل (وَعِيدِ) وعيدي عليهم بالعذاب ، وفي هذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتهديد لهم.

[١٦] (أَفَعَيِينا) هل عجزنا (بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي هل أصابنا العجز بعد أن خلقنا الخلق أولا ، وفي بعض التفاسير أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ (٢) لكن المتبادر من الآية ما ذكرناه (بَلْ هُمْ) لا ينكرون

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٤ ص ١٣.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٣٩.

٢١٨

فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧)

____________________________________

أنا لم نعجز عن الخلق الأول وإنما ينكرون البعث لأنهم (فِي لَبْسٍ) واشتباه والتباس (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) فليس إنكارا للسابق وإنما شكا بالنسبة إلى اللاحق ، ويحتمل أن يراد ب «لبس» أي لباس ، لأن خلايا الإنسان تتبدل كل آن فهم على طول الزمان في خلق جديد فمن يعرف كونه يبعث كل آن كيف ينكر البعث في الآخرة.

[١٧] إننا نعلم أن الإنسان ينساق وراء وساوس نفسه في البعث ، مع أن اللازم أن ينساق وراء الدليل والبرهان (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) فمنا البدء ومنا الإعادة (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) من إنكار البعث وغيره (وَ) كيف لا نعلم وساوس نفسه والحال أنا (نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) الوريدان هما العرقان المكتنفان بصفحتي العنق في مقدمه ، وإضافة الحبل إليه للبيان ، أي الحبل الذي هو وريد ، ومعنى قربه سبحانه قربه علما واطلاعا ، فإن الله لا مكان له ، ولعل ذكر حبل الوريد ، لأنه مربوط بالقلب وبالمخ فهو وسط بينهما ، ولا أقرب منه إلى الإنسان ، الذي إنسانيته بمخه وقلبه.

[١٨] نحن أقرب (إِذْ) في الزمان الذي (يَتَلَقَّى) يأخذ ويسجل (الْمُتَلَقِّيانِ) الملكان الموكلان بالإنسان لحفظ أعماله وأفكاره ، فالمراد أنه غني عن الملكين لأنه أقرب إلى الإنسان منهما ، إلا أنه تعالى حيث جعل الدنيا دار الأسباب ، جعلها سببا لحفظ الأعمال ، كما جعل عزرائيل سببا لقبض الأرواح (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ)

٢١٩

ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)

____________________________________

فإن أحدهما في طرف اليمين والآخر في طرف الشمال ، ملازم للإنسان كالقاعد إلى جنبه.

[١٩] (ما يَلْفِظُ) الإنسان (مِنْ قَوْلٍ) وذكر اللفظ من باب المثال ، وإلا فكل عمل للإنسان بل وكل فكر له مراقب ، (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) يراقبه ويحفظه ، وهو الملكان ، وحيث أنه أراد جنس الرقيب لم يأت بصيغة التثنية (عَتِيدٌ) مهيأ حاضر لا يشتبه.

[٢٠] (وَ) هكذا تستمر رقابة الملكين للإنسان إلى أن (جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) إليه فإن للموت سكرة تغطي عقله كالسكران (بِالْحَقِ) بالذي قاله الأنبياء من حقائق الآخرة ، والتي كان ينكرها الكفار ، فيرونها معاينة عند موتهم ، ويقال لهم حينذاك و (ذلِكَ) المجيء (ما كُنْتَ) أيها الإنسان (مِنْهُ تَحِيدُ) تفيء ، فالآن قد وصلت إليك حيث لا ينفعك الندم والتوبة.

[٢١] وبعد ذلك (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) فكما أنه إذا أريد جمع الناس نفخوا في الأبواق إعلاما لهم حتى يجتمعوا كذلك إذا أراد جمع الخلائق وإحيائهم للبعث ، ولعله سمي صورا لخروج صور الناس منه ، كما ورد في الحديث ، أن للصور ثقبا بعدد الخلائق ، فتخرج النفوس منها عند البعث (ذلِكَ) اليوم (يَوْمُ) تحقق (الْوَعِيدِ) الذي وعدناه في الدنيا ، فقد كنا وعدنا المؤمن بالثواب والكافر بالعقاب ، وفي هذا اليوم يرون ذلك.

٢٢٠