تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)

____________________________________

[٣٢] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام للملائكة (فَما خَطْبُكُمْ) أي فما شأنكم وما طلبكم ولماذا جئتم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)؟ فإن الملائكة رسل الله تعالى.

[٣٣] (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا) أرسلنا الله تعالى (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط.

[٣٤] لأجل أن نرسل (عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) يطبخ حتى يكون في صلابة الحصاة ، ويسمى بالسجيل معرب «سنك كل».

[٣٥] (مُسَوَّمَةً) معلّمة (عِنْدَ رَبِّكَ) فكما يهيئ رئيس الدولة لكل نوع من الأجرام نوعا من العقوبة كذلك الله هيأ لكل نوع جريمة نوع عقاب في الدنيا وفي الآخرة ، والعذاب من جنس العمل كما أن الدجاجة من جنس البيضة (لِلْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا في العصيان ، وقد ذكرنا في كتاب «حول القرآن الحكيم» مناسبة بعض العقوبات لبعض الإجرامات ، المذكورة في القرآن الحكيم ، ثم جاء القرآن بأسلوب الالتفات ، فقال : [٣٦] (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) في قرى قوم لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسله وأحكامه.

[٣٧] (فَما وَجَدْنا فِيها) في تلك القرى (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو بيت

٢٤١

وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ

____________________________________

لوط عليه‌السلام ، وقد كانت زوجته أيضا مع الكفار ، ولما خرج لوط وأهل بيته إلا زوجته ، وابتعدوا عن المدينة ، نزل على القرى العذاب.

[٣٨] (وَتَرَكْنا فِيها) في قرى لوط التي دمرت (آيَةً) علامة وهي الآثار الباقية التي يراها الناس حين يمرون بتلك الأرض ، والبحر الميت قرب الأردن ـ إلى الآن ـ من آثار تلك القرى (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم وحيث إن الذي يخاف يعتبر دون غيره ، خصص سبحانه الآية (لِلَّذِينَ يَخافُونَ) وإلا فكونه آية يراها الكل.

[٣٩] (وَفِي مُوسى) عطف على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) أي أن في موسى عليه‌السلام آيات ، والظرف على سبيل المجاز ، إذ الآيات في مجموع القصة (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة واضحة تدل على صدقه في دعواه النبوة ، والمراد بها معاجزه عليه‌السلام.

[٤٠] (فَتَوَلَّى) فأعرض فرعون (بِرُكْنِهِ) كأن إعراضه بسبب ما كان يتقوى به من جنوده وملكه ، فموسى عليه‌السلام اعتمد على الحجة ، وفرعون اعتمد على القوة (وَقالَ) فرعون إن موسى عليه‌السلام (ساحِرٌ) إن كان عاقلا فيما يفعل (أَوْ مَجْنُونٌ) إن كان لا يعقل ، فإن قسما من المجانين الذين دخلت فيهم الأرواح الشريرة يفعلون الخوارق.

[٤١] (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) الذين كانوا معتمد فرعون في تكذيبه لموسى عليه‌السلام (فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم طرح إهانة (فِي الْيَمِ) في البحر فغرقوا جميعا

٢٤٢

وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ

____________________________________

(وَهُوَ مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه ، فقد كان تكذيبه لموسى لبقاء سلطته وسمعته ، والغرق ذهب بالسلطة ، وانفضاحه ذهب بالسمعة فصار الناس يلومونه ويلعنونه.

[٤٢] (وَفِي عادٍ) عطف على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) أي آيات في قوم عاد ، الذين أرسل إليهم هود عليه‌السلام (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) سميت عقيما ، لأنها لم تكن تلد خيرا ، كما هي عادة الرياح إذ هي تولد السحاب والمطر وتنقل ما تلقح الثمار والأزهار ، بل ولدت شرا.

[٤٣] (ما تَذَرُ) ما تترك (مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) تلك الريح (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) الرميم ما تفتت من حجر أو نبات أو غيرهما ، وإنما كانت آيات ، لأن كل أثر من تلك الريح آية وعلامة لصدق رسل الله ، وعقاب من خالف الرسل.

[٤٤] (وَفِي ثَمُودَ) عطف على (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) وثمود هم قوم صالح عليه‌السلام (إِذْ قِيلَ لَهُمْ) قال لهم نبيهم صالح عليه‌السلام (تَمَتَّعُوا) ابقوا في دوركم (حَتَّى حِينٍ) حتى زمان مقرر وهو ثلاثة أيام ، أمهلهم ثلاثة أيام لعلهم يتوبون.

[٤٥] لكنهم لم يتوبوا مع أنهم رأوا آثار العذاب (فَعَتَوْا) استكبروا (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) بالإيمان والهداية (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) بعد ثلاثة أيام ـ كما

٢٤٣

وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ

____________________________________

وعدهم نبيهم ـ والصاعقة هي ما تصعق الإنسان وتميته فجأة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) ولا يقدرون على دفعها ، وفي قوله سبحانه (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) دلالة على ضعفهم ، حيث كانوا يظنون أنهم أقوياء وبسبب هذا الظن كانوا يستكبرون ، ودلالة على تألمهم إذ لو كانت أخذتهم في حالة النوم مثلا لم يتألموا مثل هذا التألم.

[٤٦] (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أن يقوموا من كبوتهم ، فلم يكونوا كالمرضى الذين يتمكنون من شفاء أنفسهم ، وفي هذا تنبيه إلى أن عذاب الله إذا جاءهم لم يكن له علاج ، إلا بالرجوع إليه سبحانه (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) لم ينصرهم أحد ، فلا يقوم أمام أمر الله ، لا قوة ذاتية ، ولا نصرة خارجية.

[٤٧] (وَ) أهلكنا (قَوْمَ نُوحٍ) وإنما لم يعطفه ، للتفنن الذي هو مقتضى البلاغة (مِنْ قَبْلُ) هؤلاء الذين ذكروا (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله سبحانه ، ولذا أغرقناهم بالطوفان أليس في كل هذه العقوبات دلالة لكفار قريش على سوء مصير المكذب؟

[٤٨] ثم ألا يستدل هؤلاء على وجود الله وعلمه وقدرته بما يشاهدون من آثار عظمته؟ (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) فإن جعل الأنجم وجعل النظام في الكون ، من أجل الأبنية ـ لوضوح أن البناء ليس خاصا بالبناء الحجري ونحوه ـ (بِأَيْدٍ) بقوة من آد ، يئيد ، فإن قوة المبنى وإتقانه تدل على

٢٤٤

وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)

____________________________________

قوة الباني ، وقوة بنائه ، ثم إنا لم نستنفد قوانا في بناء ما يشاهدون (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) السماء ، وقد دل علم الفلك الحديث على أن الكون في توسع دائم.

[٤٩] (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) جعلناها فراشا لتستقروا عليها وتنتفعوا بها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) نحن الذين مهدنا لكم الأرض.

[٥٠] (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) من أصناف الحيوان وأصناف النبات وحتى أصناف الماء حلو ومالح وشبهه كالسماء والأرض والليل والنهار إلى غير ذلك (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فعلنا كل ذلك من خلق السماء والأرض والأزواج لأجل أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه ، ثم إنه لا منافاة بين تعدد الغاية فالخلق لأجل تطلبها الفيض والله فياض مطلق ولأجل تذكر الإنسان كما إذا سافر الإنسان لأجل صحة مزاجه ولأجل تنزهه.

[٥١] وإذ عرفتم الله وعلمتم أنه يثيب المطيع ويعاقب العاصي (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) فكما أن من يطارده الأسد يفر ، كذلك من طاردته الذنوب لزم عليه أن يفر بالأعمال الصالحة ، وسرعة الإتيان بها بمثابة الفرار ، إلى ثواب الله وطاعته (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من قبل الله (نَذِيرٌ) أنذركم إن بقيتم في الكفر والعصيان تلحقكم نتائج سيئاتكم (مُبِينٌ) واضح لوضوح الأدلة التي تدل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٤٥

وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ

____________________________________

[٥٢] (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كما كان المشركون يجعلون ذلك (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) من قبل الله (نَذِيرٌ مُبِينٌ) فاللازم أمران : الأول : توحيد الإله. والثاني : عدم عصيانه ، ولعل وجه تقديم الثاني ، في الآيتين إن الاشتغال بالمعاصي يحجب الإنسان عن الإيمان بالوحدانية ، كما قال تعالى (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) (١) كما أن وجه تكرار آخر الآية بشكل واحد لعله للتنبيه على أن الإنذار على المعاصي مثل الإنذار على المشرك ، كما قال تعالى (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٢).

[٥٣] إنهم مع إنذارك لهم إنذارا واضحا ينسبونك إلى أنك ساحر أو مجنون و (كَذلِكَ) أي أن الأمر مثل ذلك (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم (مِنْ رَسُولٍ) من عند الله (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) بعضهم قالوا ساحر وبعضهم قالوا مجنون ، أو كما تقدم في تفسير آية (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).

[٥٤] (أَتَواصَوْا بِهِ) أي أن الأولين والآخرين الذين رمى كلهم أنبياءهم بالسحر والجنون هل أوصى بعضهم بعضا بأن ينسبوا الأنبياء إلى مثل هذه النسبة؟ كلا ، إذ لا ربط بين الأمم مع اختلاف زمانهم وتباعد

__________________

(١) الروم : ١١.

(٢) الأنعام : ١٥٩.

٢٤٦

بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)

____________________________________

بلادهم (بَلْ هُمْ) الأولون والآخرون الكافرون بالأنبياء (قَوْمٌ طاغُونَ) فمشاركتهم في الطغيان أوجبت أن يرموا الأنبياء بما يكون مقتضى الطغيان والعتو على الله سبحانه ، بعد أن فقدوا الحجة في رد برهان الأنبياء.

[٥٥] (فَتَوَلَ) فاعرض (عَنْهُمْ) ولا تجادلهم بعد أن كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا العناد (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) على إعراضك بعد أن جهدت في البلاغ فلم ينفع معهم.

[٥٦] (وَ) لكن خذ طريقك في الإرشاد العام ف (ذَكِّرْ) الناس حسب قدرتك (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهم يزدادون بها بصيرة ، أو المراد بالمؤمنين الذين لهم نفوس طيبة تقبل الحق ، فاستعمل «المؤمن» فيمن له طبيعة إيمانية.

[٥٧] (وَ) إذا نفعت الذكرى المؤمنين عملوا بما هو غاية الخلقة إذ (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ويطيعون ، وإذا أطاعوا كملوا هم ، لا أن الله استفاد منهم شيئا.

[٥٨] (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) من مال كما يريد السادة من العبيد أن يعملوا لأجل جلب المال للسادة حتى يرتزق به السيد في اشتراء دار ولباس ومركب وما أشبه «فإن كل ذلك رزق» (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أن

٢٤٧

إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)

____________________________________

يطعموني يهيئوا لي طعاما ، كما يفعله الطباخ للسيد.

[٥٩] (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) لكل من يحتاج إلى الرزق من بشر وحيوان وغيرهما ، فكيف يخلقهم لأن يرزقوه؟ (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الشديد ، لا مثل قول الملوك لا متانة لها ولذا تؤول إلى الضعف والانحلال والعدم ، وإذا كان سبحانه له القوة المتين فلا حاجة له في الطعام كي يتقوى به كما أن الإنسان كذلك يتقوى بالطعام.

[٦٠] وإذا أبلغت في الإنذار ولم يقبلوا فلا تغتم إذ إنا سوف نعاقبهم (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بالتكذيب لك (ذَنُوباً) نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) مثل نصيب نظائرهم من الأمم السابقة ، وهذا تشبيه حيث إن أصل «الذنوب» الدلو العظيم المملوء ماء ، وجيء به للإشارة إلى كثرة ذنوبهم (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) العذاب لأنه سيأتيهم لا محالة.

[٦١] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) سوء لهم (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي يوم القيامة ، و «من» أي من ناحية ذلك اليوم.

٢٤٨

(٥٢)

سورة الطور

مكية / آياتها (٥٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الطور» وهي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاث ولما ختمت سورة الذاريات بعذاب الكفار ابتدأت هذه السورة بذلك ، بعد تأكيد عذابهم ، بجملة من الأيمان.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) شرع في السورة مصاحبا باسم الله ، لكي نتعلم أن كل شروع لا بد وأن يقترن باسمه ، لأنه شكر للنعمة أن يتذكر الإنسان خالقه ورازقه عند كل ابتداء ، إذ لو لا لطفه ، لم يكن الإنسان قادرا على العمل «الرحمن الرحيم» الذي يرحم كل شيء يعطيه الوجود ، ثم يرحمه بتربيته والسير به في مراحل الكمال فهو سبحانه يرحمه إيجادا ويرحمه إبقاء.

٢٤٩

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦)

____________________________________

[٢] (وَالطُّورِ) قسما بطور سيناء الذي تكلم موسى عليه‌السلام مع ربه من فوقه ، قال جمع من المفسرين أنه جبل بمدين.

[٣] (وَ) قسما ب (كِتابٍ مَسْطُورٍ) إما المراد أي كتاب ، فالطور مرفوع مكانا ، والكتاب مرفوع معنى ، فالمراد القسم بكل رفيع ، مادي أو معنوي ، أو المراد كتاب خاص ، مثل التوراة والإنجيل والقرآن ، ولا يبعد إرادة الإنجيل باعتبار أنه سبحانه وتعالى حلف بشيء لموسى عليه‌السلام ، وبشيء لعيسى عليه‌السلام وبشيء لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وهو البيت المعمور».

[٤] ذلك الكتاب (فِي رَقٍ) أي جلد رقيق (مَنْشُورٍ) نشر لقراءته ، ولعل القصد من الصفات إفادة وضوحه ، فالكتابة مسطورة ، لا مندمجة بعضها في بعض ، وهي في ورق قد نشر ، يقرأه كل إنسان ، فالكتابة جمعت بين الارتفاع معنى الظهور ، كما أن الطور جمع بين الارتفاع مادة الظهور.

[٥] (وَ) قسما ب (الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الكعبة المعظمة ، أو الضراح في السماء الرابعة أو السابعة.

[٦] (وَ) قسما ب (السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السماء ، لأنه سقف يمنع وصول أحجار النيازك إلى الأرض ، والمراد به بعض طبقات السماء.

[٧] (وَ) قسما ب (الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الذي له أمواج كشعل النيران ، أو

٢٥٠

إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)

____________________________________

المراد به حين ينقلب نيرانا ، كما في أهوال القيامة.

[٨] (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ) على الكفار (لَواقِعٌ) قطعا.

[٩] (ما لَهُ) ليس للعذاب (مِنْ دافِعٍ) يدفعه عن الكفار ، فكأن الإنسان يسرح بخياله إلى السماء ، والجبل ، والبحر ، وبيت مرتفع في وسطها ، وكتاب نشر في أحوال الكون ، «كتاب تكويني إلى جانبه كتاب تشريعي» ألا يدل كل ذلك على عظيم القدرة؟ إذا فلا بد وأن يذوقوا العذاب.

[١٠] وإنما يقع العذاب (يَوْمَ تَمُورُ) تضطرب (السَّماءُ مَوْراً) لأن النظام الكوني ينهدم فتضطرب الكواكب.

[١١] (وَتَسِيرُ الْجِبالُ) كالسحاب السائر (سَيْراً) مفعول مطلق للتأكيد.

[١٢] (فَوَيْلٌ) وسوء (يَوْمَئِذٍ) في هذا اليوم (لِلْمُكَذِّبِينَ) بالله وبرسوله وبالمعاد.

[١٣] (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) يخوضون في الكفر والعصيان (يَلْعَبُونَ) فإن عمل من لا يفكر في العاقبة لعب إذ لا هدف حقيقي له ، وإن تصور أن له هدفا.

[١٤] وذلك في (يَوْمَ يُدَعُّونَ) الدعّ الدفع العنيف (إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)

٢٥١

هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧)

____________________________________

مفعول مطلق لتأكيد العنف في سوقهم إلى جهنم.

[١٥] ويقال لهم (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) وكنتم تقولون أن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحر لا أصل له.

[١٦] (أَفَسِحْرٌ هذا) الذي ترونه في النار؟ يقال لهم ذلك تبكيتا (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) أن هذه نار؟ كما كنتم تقولون في الدنيا ، إنا لا نراك (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (١).

[١٧] (اصْلَوْها) ذوقوا النار (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) بأن تجزعوا (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الصبر وعدمه ، فأيهما لا يخفف من عذابكم (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ظاهره نفس عملكم إذ قد ذكرنا في بعض السور أن نفس العمل صار جزاء كما أن نفس البيضة والنواة تصير فرخا وشجرة ، ومن الواضح أن في مثل هذا المقام لا فرق بين الصبر والجزع ولعل هذا الكلام للكفار ، جزاء لما كانوا يقولونه للأنبياء إنهم لا يقبلون كلامهم في كل الأحوال ، فجزاؤهم النار في كل الأحوال.

[١٨] وفي مقابل هؤلاء المكذبين المصدقون ف (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) النعمة الباطنية «الجنة الظاهرية» كما أن الكفار في ألم النار

__________________

(١) فصلت : ٦.

٢٥٢

فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)

____________________________________

وألم التوبيخ والاستهزاء ، كما في «أفسحر؟ فاصبروا ...».

[١٩] (فاكِهِينَ) متلذذين (بِما آتاهُمْ) أعطاهم (رَبُّهُمْ) من النعم (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي حفظهم من ذلك العذاب ، إشارة إلى أنهم وإن استحقوا العذاب لبعض معاصيهم إلا أن الله يغفر لهم ويحفظهم من ذلك العذاب لطفا وتفضلا.

[٢٠] ويقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) الهنيء الذي لا تنغيص فيه لا من جهة الفم ولا من جهة الحلق عند الازدراء ولا من جهة العاقبة فلا أثر سيئ له بسبب ما (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من العقيدة الصحيحة ، والأعمال الصحيحة ، فإن العقيدة نوع عمل للقلب حيث بنى على شيء معين.

[٢١] في حال كونهم (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ) جمع سرير (مَصْفُوفَةٍ) قد اصطفت ففيه جمال للمنظر بالإضافة إلى كونه راحة للجسم (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) جمع حوراء واسعة العين وبيضاء الجسم فنظافة في الأبدان والأخلاق ، وعيناه واسعة العين بما يزيدها جمالا ، وقد وردت في الروايات تزويج النساء أيضا برجال الدنيا ، ولعل عدم ذكر النساء وزواجهن من باب البلاغة ، لأنه من غير المستحسن لدى العرف أن يقال للمرأة نزوجك ، بخلاف أن يقال للرجل.

[٢٢] ثم إن أولاد المؤمنين الذين لا يستحقون بأعمالهم مراتب آبائهم في

٢٥٣

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢)

____________________________________

الجنة ، يلحقون بآبائهم لتقدير إيمان الآباء (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) بأن لم يكونوا كفرة (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) حتى ينعم الآباء بمؤانسة الأولاد ، فمرة يشتغلون بالحور العين ، وتارة بالذرية ، وفي ذلك قرة أعينهم (وَما أَلَتْناهُمْ) أي ما نقصنا الآباء (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فلم نعطي للأبناء من حق الآباء بل أعطينا الأبناء زيادة على حق الآباء (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) كأن نفس الإنسان مرهونة بالعمل الصالح فإذا أعطى الله العامل استرجع نفسه فصار حرا ، وإلا بقي أسيرا في جهنم ، لأنه لم يقدم ما يفك به نفسه ، كما أن صاحب الدار الذي رهنها لأنه لم يقدم مال المرتهن لم يتمكن من استرداد داره ، ولعل قوله سبحانه (كُلُّ امْرِئٍ ...) لدفع توهم أنه إذا أعطى الذرية ما لا يستحقون فقد حصلوا الثواب بغير عمل؟ والجواب كلا ، إن الذرية كانوا مؤمنين فاستحقوا الجنة بذلك ، ولكن الله تفضل عليهم بالمزيد جزاء للآباء فدرجتهم بين جزاء لهم وجزاء لآبائهم ، أو يقال إن كلا من الآباء والذرية استحق نفس الدرجة الرفيعة واستحق الجمع بينها ، فالآية إخبار عن الواقع ، ولا إعطاء لما لا يستحق ولو إعطاء تفضلا.

[٢٣] (وَأَمْدَدْناهُمْ) استمررنا في إمدادهم ، فليس كالضيافات ، في الدنيا التي يؤتى إلى الضيف بالمأكول والمشروب أول ما يجيء فقط ، فإذا جلس ساعة مثلا ، لا يؤتى إليه مرة أخرى بهما (بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)

٢٥٤

يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧)

____________________________________

واللحم شامل للطير والسمك وسائر اللحوم.

[٢٤] (يَتَنازَعُونَ) على سبيل المزاح والمفاكهة (فِيها) في الجنة (كَأْساً) فيها خمر (لا لَغْوٌ فِيها) لا يتكلمون إذا شربوها باللغو (وَلا تَأْثِيمٌ) من ما يفعله شاربوا الخمر في الدنيا من السب والضرب والجرح وأحيانا التعدي على الأعراض وغيرها ، فإنه لا فساد في الآخرة.

[٢٥] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) يمر بهم مرورا متواصلا ، لإعطائهم الكأس والفاكهة وقضاء حوائجهم (غِلْمانٌ) جمع غلام (لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) في بياضهم وجمالهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) محفوظ في مكان نظيف بحيث لم يكن ظاهرا حتى يغير بريقه الهواء والوسخ.

[٢٦] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) من أهل الجنة (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) هذا يسأل ذاك وذاك يسأل هذا عن أحوالهم في الدنيا وما استحقوا به هذه الدرجات؟

[٢٧] (قالُوا) المسؤولون (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) في دار الدنيا حيث كنا (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) خائفين من العذاب ، إذ من لا خوف له لا يعمل صالحا ـ إلا في الأندر من النادر ـ.

[٢٨] (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بغفران ذنوبنا (وَوَقانا) حفظنا (عَذابَ السَّمُومِ)

٢٥٥

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ

____________________________________

النار النافذة في المسام وثقب الجسد.

[٢٩] (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا (نَدْعُوهُ) ندعو الله سبحانه ، ولا ندعو غيره (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ الْبَرُّ) المحسن (الرَّحِيمُ) ، ولذا أحسن إلينا ورحمنا ، رحمنا فلم يعذبنا بذنوبنا ، وأحسن إلينا بإعطائنا أزيد من استحقاقنا.

[٣٠] (فَذَكِّرْ) يا رسول الله الناس بالعقائد الصحيحة ولا يمنعك من الاستمرار في التذكير سبهم لك واتهامهم إياك بأنك كاهن أو مجنون (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بسبب إنعامه الذي أعطاك تعالى (بِكاهِنٍ) متصل بالجن يخبره بعض الأخبار الغائبة عن الحواس (وَلا مَجْنُونٍ) دخل فيه الجان فأخذ يتكلم ببعض المغيبات ـ كما كانوا يتهمون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذين الأمرين ـ.

[٣١] (أَمْ يَقُولُونَ) بل يقولون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (شاعِرٌ) إذا رأوا عدم قبول الناس افترائهم الأول «إنه كاهن أو مجنون». (نَتَرَبَّصُ بِهِ) أي نصبر وننتظر (رَيْبَ الْمَنُونِ) أي ما يقلق النفوس من حوادث الدهر ، فإذا احتفت به المشاكل انقلع عن دعواه النبوة ، أو المراد بالمنون الموت.

[٣٢] (قُلْ) لهم يا رسول الله (تَرَبَّصُوا) انتظروا (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ

٢٥٦

الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥)

____________________________________

الْمُتَرَبِّصِينَ) فكما أنكم تنتظرون هلاكي وعدم نجاحي ، فإني أنتظر نجاحي وتقدم دعوتي ، أو أنتظر موتكم ، وسوف نرى العاقبة لمن؟.

[٣٣] (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) عقولهم (بِهذا) التناقض في أقوالهم فمرة يقولون شاعر ، وأخرى كاهن وثالثة مجنون ، فهل أمثال هذه الكلمات تصدر من العقلاء؟ (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) يعرفون الحق ، وإنما يقولون الباطل لطغيانهم على الحق ، وعنادهم في الأمر.

[٣٤] (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن من تلقاء نفسه بدون أن ينزل عليه وحي (بَلْ) هم يعلمون وإنما لأنهم (لا يُؤْمِنُونَ) يرمون القرآن بهذه الأمور حتى يجعلوا لأنفسهم عذرا في عدم إيمانهم.

[٣٥] وإذا كان تقوّل من الرسول (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ) شيء جديد (مِثْلِهِ) مثل القرآن (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في قولهم «تقوله» إذ لو كان القرآن كلام البشر لتمكن بلغائهم أن يأتوا بمثله ، فعدم تمكنهم بأجمعهم من الإتيان بمثل القرآن دليل عدم كون القرآن من كلام البشر.

[٣٦] (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) خالق لهم ولذا لا يذعنون بالخالق ولا يسمعون كلامه (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) خلقوا أنفسهم؟ وحيث لا هذا

٢٥٧

أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)

____________________________________

ولا هذا كان لا بد من إذعانهم للخالق ، فلما ذا يكفرون به ويجعلون له شريكا؟

[٣٧] (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فهم شركاء لله ، والشريك لا يخضع لشريكه ، (بَلْ) ليس كل ذلك وهم يعلمون أنهم عبيد مربوبون وإنما (لا يُوقِنُونَ) فإن الانسياق وراء البرهان ـ دون الأهواء والتقاليد ـ لا يكون إلا لمن أراد التيقّن ، فنفي الإيقان عنهم باعتبار نفي آثاره ، كما يقال : لا عين لفلان إذ لم يستعمل عينه حتى سقط في بئر ، ويقال لا عقل له ، إذا لم يستعمل عقله.

[٣٨] (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) فلا يرون أنفسهم بحاجة إلى الله ، ولذا لا يؤمنون به ولا برسوله ولا بكتابه؟ (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) على الخزائن ، وإن تكن لهم فسيطرتهم على الخزائن توجب أن يزعموا غنائهم عن الإيمان؟

[٣٩] (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) مرقاة يصعدون بسببها إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) إلى الوحي فلا يحتاجون إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم كالرسول يعرفون أمور السماء فإذ زعموا ذلك ، وقالوه عنادا (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) من ادعى الاستماع (بِسُلْطانٍ) حجة (مُبِينٍ) واضحة على صدقه ، كأن يخبر عن الآتي ، كما يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخبار الغيب ، ولا يخفى أن في هذا احتجاج على منكر الله ، وعلى من جعل له شريكا ، وعلى من

٢٥٨

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢)

____________________________________

أنكر الرسول أو القرآن ، وعلى من أنكر البعث ، بأسلوب بلاغي رائع ، وباحتجاجات عقلية ، وعرفية يفهمها كل إنسان وإن لم يكن من أهل الخبرة والدقة.

[٤٠] (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) فقد كان جمع من كفار قريش يقولون إن الملائكة بنات الله (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) البنون خاص بكم؟ وبأي دليل تقولون هذا القول؟.

[٤١] (أَمْ تَسْئَلُهُمْ) يا رسول الله (أَجْراً) على الرسالة (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) التزام غرم (مُثْقَلُونَ) يحملون الثقل ، ولذا لا يؤمنون بك فرارا من إعطاء المال ، وحيث لا تسألهم أجرا والدليل معك فلما ذا لا يؤمنون؟

[٤٢] (أَمْ عِنْدَهُمُ) علم (الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما أخذوه عن الغيب وبذلك علموا كذبك ولذا لا يؤمنون بك؟

[٤٣] (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) بك ، لا حجة لهم ، ولا عندهم الغيب ، وإنما يكيدون بك ليتخلصوا منك حتى لا تدعوهم إلى الهدى ، استثقالا عن الحق ، لكن فليعلموا أنهم لا يقدرون على الكيد بك ، وإنما كيدهم على أنفسهم (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) يعود وبال كيدهم عليهم ، كما قال (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١).

__________________

(١) آل عمران : ٥٥.

٢٥٩

أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦)

____________________________________

[٤٤] (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) ولذا يشركون مع الله إلها غيره؟ (سُبْحانَ اللهِ) الله منزه (عَمَّا يُشْرِكُونَ) إذ لا شريك له ، كما دلّ على ذلك العقل ، بالإضافة إلى أنهم لا دليل لهم على الشرك ، وفي هذه الآيات تفنيد لمزاعم الكفار ، والجامع بينها إنها كانت مزاعم باطلة رائجة بينهم.

[٤٥] وقد كان الكفار يتحدون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه إن كان صادقا ، فليسقط عليهم قطعة من السماء لإهلاكهم ، مثل تحدي كل جاهل معاند ، وقد أجابهم القرآن بأنهم حتى إن رأوا ذلك عاندوا الحق ، كما هو شأن كل معاند (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) قطعة (مِنَ السَّماءِ) كأحجار الجو ، أو ما يزعمه سماء ، (ساقِطاً يَقُولُوا) من فرط عنادهم وطغيانهم ، هذا (سَحابٌ مَرْكُومٌ) تراكم وتجمع بعضه على بعض ، فلا فائدة في إتيانك يا رسول الله بهذه المعجزة.

[٤٦] (فَذَرْهُمْ) فاتركهم بعد ما رأيت من عنادهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) يموتون بأيديكم ، أو موتة طبيعية ، حتى يروا جزاءهم هناك.

[٤٧] (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) في رد العذاب فإن عذاب الآخرة ليس كمشاكل الدنيا يمكن ردها بالكيد والأساليب الدنيوية (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) كما ينصر بعضهم البعض في الدنيا ، فإن الآخرة ليس فيها

٢٦٠