تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

١
٢

٣

٤

تقريب القرآن إلى الأذهان

الجزء التاسع عشر

من آية (٢٢) سورة الفرقان

إلى آیة (٥٦) سورة النمل

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٦

وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)

____________________________________

[٢٢](وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) وهم الكفار المنكرون للبعث ، الذين ليس لهم حتى الأمل والرجاء في لقاء جزاء الله وحسابه (لَوْ لا) أي هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) ليخبرونا بأن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبي (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك ، ويأمرنا بإطاعة الرسول واتّباعه ، فرد عليهم الله سبحانه بقوله (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا ، وكان الإتيان من باب الاستفعال لإفادة أنهم إنما طلبوا الكبر ، مع أن نفوسهم كانت مذعنة ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١) (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في أمر أنفسهم حيث دفعوها إلى مستوى أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون الله (وَعَتَوْا) أي طغوا (عُتُوًّا كَبِيراً) أي طغيانا عظيما وتمردوا غاية التمرد.

[٢٣] إنهم لا بد وأن يروا الملائكة لكن في وقت لا فائدة في إيمانهم حينذاك (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) عند قبض أرواحهم (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) إنما يبشرون بالجنة والثواب في هذه الدنيا ، قبل أن ينكشف لهم العالم الآخر ، أما يوم الانكشاف عند قبض الروح ، لا بشارة لهم ، وإنما عذاب ونكال ، وذلك كناية عن رفع التكليف (وَيَقُولُونَ) أي يقول الكفار في ذلك اليوم (حِجْراً مَحْجُوراً) كانت

__________________

(١) النمل : ١٥.

٧

وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ

____________________________________

العرب إذا رأى أحدهم من يريد قتله يقول حجرا محجورا دماءنا ، أي حراما محرما ، وهم حين يرون الملائكة يظنون إن هذا القول ينفع ، ولقد كانت هذه الكلمة كالاستعاذة عندنا حين نرى مكروها ، فنقول «نعوذ بالله».

[٢٤](وَقَدِمْنا) أي قصدنا وتعمدنا ، من باب استعمال المسبب في السبب ، فإن القاصد إلى عمل يتقدم إليه (إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) كانوا يظنون إنه عمل خيري (فَجَعَلْناهُ) أي ذلك العمل الخيري للكفار (هَباءً) وهو الغبار الذي يرى إذا أشرقت الشمس من الكوّة ، ومفرده هباءه (مَنْثُوراً) أي منتشرا ، فكما أن الهباء لا ينتفع به ولا يمكن التحصيل عليه كذلك أعمال هؤلاء الكفار التي ظنوها حسنات لم ينتفعوا بها ، إذ شرط القبول الإيمان ، الذي فقدوه.

[٢٥](أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وهم المؤمنون (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) أي أفضل منزلا في الجنة ، من أصحاب النار (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي موضع قائلة ، وهي من القيلولة ، وهو النوم قبل الظهر والاستراحة فيه في وقت الحر ، وقد كان هذا من فعل كبرائهم ، واستحب في الشريعة لما فيه من التنشيط للعمل بعده ، وقوله «خير» و «أحسن» يراد بهما الفضل لا الأفضلية ، إذ لا خير في مكان أهل النار.

[٢٦](وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) يأتي متعلقه في قوله «الملك يومئذ» والمراد بتشقق السماء انقلاب أوضاعها ، ففي يوم القيامة تنقلب أحوال

٨

وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧)

____________________________________

الأرض والسماء ، ولعلّ معنى التشقق أن الإنسان يرى كأنّ شقّا كبيرا أحدث في السماء ، بأن ظهر لون غير اللون المرئي الآن ، ولعل المراد بالغمام السحب التي تتراكم من الدخان والأبخرة الحادثة من جراء الانقلابات الكونية ، أو يأتي غمام يحمل الملائكة ، وهو الذي يشقق السماء ، ويكوّن لونا غير لون السماء ، حتى يرى الإنسان فيها شقا (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) كما قال سبحانه (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) وهذا حال يوجب الدهشة والاضطراب لأهل الأرض ، فقد عرفوا أن القيامة قد قامت ، وأن الملائكة عمال الله سبحانه وتعالى للحساب والتنظيم والسيطرة على الموقف نزلوا.

[٢٧](الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي يوم تشقق السماء (الْحَقُ) أي الملك الذي هو الملك حقا ، لا كملك ملوك الدنيا الذي يكون زائلا (لِلرَّحْمنِ) وإنما خص الملك به في ذلك اليوم ، لأن في الدنيا يرى بعض أقسام الملك للناس ، أما هناك فلا أحد يملك شيئا حتى ملكا ظاهريا (وَكانَ) ذلك اليوم (يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي صعبا لشدته وهوله ومشقته.

[٢٨](وَيَوْمَ) عطف على «يوم تشقق» (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) أسفا وندما لما سبق منه من الظلم ، والعض هو الأخذ بالأسنان ، وكأن النادم إنما يفعل ذلك لإرادة إيلام جسمه انتقاما لما صدر منه مما ألقاه في هذا النادم ، والعض على اليدين في الندم الشديد (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي ليتني اتبعت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتخذت معه

٩

يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)

____________________________________

في سبيل الهداية حتى لا أبتلي بهذا اليوم العصيب.

[٢٩](يا وَيْلَتى) أي يا هلاكي احضر ، أو يا قوم اطلبوا هلاكي (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً) أي الكافر الفلاني الذي أضلني (خَلِيلاً) أي صديقا حتى يقرأ في أذني ويضلني عن الرشاد ، والمراد كل صديق يفسد الإنسان ويضله.

[٣٠](لَقَدْ أَضَلَّنِي) وأغواني وصرفني خليلي (عَنِ الذِّكْرِ) القرآن ، أو الرسول (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) وحال بيني وبين الإيمان (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي كثير الخذلان ، يقال خذله إذا تركه في الشدة ، ولم ينصره ، وهذا أما من تتمة كلام الظالم ، متحير لماذا تبع الشيطان حتى يخذله في القيامة ، أو ابتداء من الله سبحانه للإلفات إلى وجوب عدم اتباع الشيطان ، فإنه يخذل في أحرج الساعات.

قال ابن عباس : نزل قوله (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) في عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف ، وكانا متخالين وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعى إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما ودعا الناس ، فدعا رسول الله إلى طعامه فلما قرب الطعام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسوله ، فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فبلغ ذلك أبيّ بن

١٠

وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)

____________________________________

خلف ، فقال صبأت يا عقبة؟ قال : لا والله ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم. فقال أبي : ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبصق في وجهه ، ففعل ذلك عقبة وارتد وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فضرب عنقه يوم بدر صبرا ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد بيده في المبارزة (١).

أقول : وبناء على هذا النزول يكون مصداق قوله «فلانا» «أبيّ» لأنه الذي كان خليلا مع عقبة ، وقد ورد في حديث آخر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين بصق في وجهه احمرّ وجهه المبارك ، ومسح البصاق بيده ، كما ورد أن الرسول جاء شاكيا إلى أبي طالب ، فأمر أبو طالب بعض خدمه أن يأخذ رحم دابة ، وجاء بها حتى رأى عقبة فأفرغها في رأسه ، كما صنع بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٣١] وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الموقف الهائل ، شاكيا إلى قومه (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي هجروا القرآن وابتعدوا عنه ، والمراد بالقوم ، إما قريش أو مطلق الناس ، لأن المراد بقوم الأنبياء ، من أرسلوا إليهم وهذا يناسب قول الظالم (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) والآية وإن كانت ظاهرة في الكفّار إلا أنها أعم ، قال الإمام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٦٩.

١١

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً

____________________________________

الصادق عليه‌السلام : ليس رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده إلى جنة أو تسوقه إلى نار ، تجري فيمن بعده إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر (١) ، وعلى هذا فهجر القرآن ـ في هذا الزمان ـ ترك العمل بأحكامه واتخاذ مناهج الكفار نظاما للحكم ، دون دساتير القرآن.

[٣٢] ويسلي الله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن ترك الأقوام للهدى إنما هو شيء قديم ، فقد كان للأنبياء أعداء يهجرونهم ، ويعادونهم (وَ) كما لك أعداء يهجرون كتابك وينصبون لك العداء (كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ومعنى جعل الله سبحانه أنه لا يأخذهم حيث يعادون الأنبياء ، وإنما يتركهم وشأنهم ، ليبلغوا أجلهم ، وليرفع مقام النبي بالصبر على المكاره. يقال : جعل الملك اللص في الطريق ، إذا لم يضرب على يده وتركه يفعل ما يشاء (مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي من الذين يأتون بالجرائم ، وهي المعاصي (وَكَفى بِرَبِّكَ) يا رسول الله (هادِياً) فإنه سبحانه يهدي الناس (وَنَصِيراً) ينصر المؤمنين بالآخرة فلا يهمك أن يقف المجرم في طريق الدعوة ويكون له الغلب المؤقت.

[٣٣] وبعد أن بين الله تعالى بعض كلمات الكفار حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن مثل «قالوا لو لا أنزل علينا الملائكة» ذكر بعض مناقشاتهم الأخر (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ) أي على الرسول (الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٨٩ ص ٨٧ ، وردت عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٢

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)

____________________________________

لا منجما ، فلو كان من عند الله كان قادرا على أن ينزله مرة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل من قبل جملة واحدة؟ ولعلهم كانوا يريدون بذلك تقوية افترائهم. أن الرسول إنما يتعلم القرآن من «عداس» وأضرابه ، كما سبق منهم هذا الافتراء.

لكن جواب هذا أن القرآن إنما يأتي بالمناسبات ، والتدرج خير لذلك من الإنزال جملة ، ولذا يكون لكل آية شأن نزول ، لا يجمل لو نزلت قبل ذلك ، أو بعده بزمان (كَذلِكَ) أنزلناه متفرقا (لِنُثَبِّتَ) ونقوّي (بِهِ) أي بالقرآن (فُؤادَكَ) أي قلبك ، فإن الوحي إذا جاء متدرجا في كل حادثة وكل أمر كان ذلك موجبا لتقوية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن ينزل جملة واحدة ، وهذا ضروري بالنسبة إلى البشر ، وإن كان رسولا معصوما ، أرأيت أن المؤمن كامل الإيمان ليزداد قوة كلما مرّ عليه آي الكتاب (وَرَتَّلْناهُ) أي رتلنا القرآن (تَرْتِيلاً) وهو التبيين من تثبيت وترسّل.

[٣٤](وَلا يَأْتُونَكَ) يا رسول الله ، المشركون (بِمَثَلٍ) سيئ لك لإبطال أمرك ، إذا أرادوا بذلك تشبيه الرسول بمن لا اتصال له بالوحي ، حيث لا بد له أن يصنع الكلام تدريجا (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) في جواب ذلك المثل ودحضه (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) لعملك من تفسيرهم ، فإنا نبيّن وجه عملك بما هو عليه ، وذلك أحسن من بيانهم الذين يريدون به إبطال أمرك.

[٣٥] إن تفسير هؤلاء المقلوب ، لأعمال الرسول ، سيودي بهم إلى أن

١٣

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)

____________________________________

يحشروا مقلوبين على وجوههم (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ) ويساقون (عَلى وُجُوهِهِمْ) سحبا على الوجوه (إِلى جَهَنَّمَ) ليلاقوا جزاء أعمالهم الكافرة في الدنيا (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي منزلا من غيرهم (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فإن سبيلهم يؤدي إلى الهلاك ، بينما سبيل المؤمنين يؤدي إلى الجنان ، وهذا في مقابل قولهم في المؤمنين «أنهم لضالون». و «شر» و «أضل» لا يراد بهما التفضيل حقيقة.

[٣٦] ثم ذكر سبحانه قصص بعض الأنبياء عليهم‌السلام الذين كذبهم الأقوام فكانت لهم العاقبة السيئة بسبب تكذيبهم ، وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنذار للمشركين (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) له يساعده في التبليغ والإرشاد.

[٣٧](فَقُلْنَا) لهما (اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهم فرعون وقومه ، والمراد بتكذيبهم ، إما بعد إتيانهما إليهم ، وإما قبل ذلك حيث لم يقبل فرعون وقومه ما بقي من علوم الأنبياء عليهم‌السلام وآثار المرسلين ، وجاء موسى وأخوه إليهم ودعياهم إلى الله فلم يقبلوا (فَدَمَّرْناهُمْ) أي أهلكنا فرعون وقومه بالغرق (تَدْمِيراً) أي إهلاكا عظيما.

١٤

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ

____________________________________

[٣٨](وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) فإن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع رسل الله تعالى (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي عبرة وموعظة (وَأَعْتَدْنا) أي هيأنا (لِلظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي (عَذاباً أَلِيماً) سوى ما حل بهم في دار الدنيا ، أو المراد العموم أي أن كل ظالم قد هيئ له عذاب مؤلم موجع.

[٣٩](وَ) أهلكنا (عاداً) قوم هود عليه‌السلام (وَثَمُودَ) قوم صالح (وَأَصْحابَ الرَّسِ) ورد أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها «شاه درخت» وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوا بينهم في الأرض وذلك بعد سليمان بن داود عليه‌السلام فأهلكوا بريح عاصفة شديدة الحمرة تحيروا فيها وذعروا منها وتضام بعضهم إلى بعض ، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة جمرا يلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار (وَ) أهلكنا (قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي بين هذه الأقوام الذين ذكروا من عاد وثمود وقوم نوح وأصحاب الرس ، والقرن هو الجيل ، يقال لهم قرن لتقارن أعمارهم.

[٤٠](وَكُلًّا) من تلك القرون والأقوام التي أهلكناها بسبب كفرهم وفسادهم (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي ذكرنا لهم أنهم إن لم يؤمنوا عذبوا

١٥

وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١)

____________________________________

كما عذب من سبقهم ـ وهذا كما نمثل لقوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (وَكُلًّا) من أولئك القرون والأقوام (تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي أهلكناهم إهلاكا ، يقال : تبره بمعنى أهلكه.

[٤١](وَلَقَدْ أَتَوْا) أي مضوا ورأوا ، والمراد كفار مكة (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) يعني قرية لوط التي أمطرت عليها الحجارة ، فإن قريته بين مكة والشام ، وقد كان أهل مكة يمرون عليها عند ذهابهم إلى الشام ولدى إيابهم (أَفَلَمْ يَكُونُوا) هؤلاء الكفار (يَرَوْنَها) أي يرون تلك القرية؟ فلما ذا لا يخافون أن يصيبهم بتكذيبهم مثل ما أصاب تلك القرية؟ (بَلْ) رأوها ، ولكنهم (كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي أنهم إنما لم يعتبروا بها لأنهم لا يقرون بالبعث والحساب ، ومن أنكر الآخرة وأنكر المبدأ ، حمل كل شيء على غير وجهه ولعلهم كانوا ينسبون قصة قوم لوط إلى الصدفة ، كما نشاهد أمثالهم في أيامنا هذه.

[٤٢](وَإِذا رَأَوْكَ) الكفار ، يا رسول الله (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أي لا يحسبونك (إِلَّا هُزُواً) أي مهزوا به ، كأنه أداة للسخرية والاستهزاء ، فيقولون على وجه السخرية (أَهذَا) الرسول هو (الَّذِي بَعَثَ اللهُ) إياه (رَسُولاً) أي كيف يمكن أن يكون هذا رسولا ، ولم يكن استهزاءهم إلا عنادا وحسدا وكبرا ، وإلا لم يكن لهم دليل ومنطق على عدم رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٦

إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ

____________________________________

[٤٣](إِنْ كادَ) «إن» مخففة من الثقيلة ، يعني إنه كاد (لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) فقد قارب أن يأخذنا إلى طريق إلهه ، فنضل طريق عبادة آلهتنا (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي لو لم يكن صبرنا على عبادتها ، فإنه أزالنا عنها ، بما يأتي به من الأدلة والحجج ، إنهم سموا طريق الله سبحانه ضلالا (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في الآخرة (حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) الذي يحل بهم جزاء على شركهم وكفرهم (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) هل هم الضالون ، أم الرسول والمؤمنون؟ والمعنى أنهم هناك يعرفون ضلال سبيلهم في الدنيا ، حيث لا منجى ولا مهرب.

[٤٤](أَرَأَيْتَ) يا رسول الله ، استفهام للتهكم بالمشركين (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) فهو يعبد ما تشتهيه نفسه ، لا ما أرشده العقل والدليل ، وقد كان الرجل منهم يعبد حجرا ثم إذا رأى حجرا أحسن منه رماه واتخذ الثاني إلها ، وهكذا (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) كفيلا تحفظه عن الضلال ، والمعنى أنك لست عليه بوكيل حتى تحزن وتغتم لأجل انحرافه وضلاله وإنما أنت مبلغ مرشد وقد بلغت وأرشدت.

[٤٥](أَمْ تَحْسَبُ) يا رسول الله ، أي تظن (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم وتعلم (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما تقوله وتقرأه عليهم؟ وهذا وإن كان بصورة الاستفهام لكنه بمعنى النفي ، أي أن أكثر هؤلاء لا يستمعون

١٧

إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)

____________________________________

إليك للتفهم ولا يعطون ألبابهم وعقولهم للتدبير وإنما هم معاندون يريدون الإنكار (إِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي البهائم التي لا تسمع سماع تفهم ، ولا عقل لها ، وإنما تسمع النداء والصوت فقط (بَلْ هُمْ) أي هؤلاء الكفار (أَضَلُّ سَبِيلاً) فإن الأنعام تهتدي إلى مصالحها أما هؤلاء فلا يعقلون صالحهم عن غير الصالح لهم ولذا يعرضون عن الحق.

[٤٦] ثم يأتي السياق للتذكير بجملة من الآيات الكونية التي توقظ الضمائر ، وتلفت العقول إلى الله سبحانه (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الروية (إِلى رَبِّكَ) أي ألم تعلم أن هذا الذي نذكره هو من فعل الله سبحانه لا مدخلية للغير في ذلك (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) فإن الشمس إذا طلعت امتد لكل شيء ظل طويل نحو المغرب ، فمن يا ترى جعل للأجسام ظلال عند إشراق النور والظل يوحي بالهدوء والبرد والراحة ، إنه الله الذي جعل هذه الظلال (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) لا يتحرك بأن يوقف الشمس في مكانها حتى يبقى الظل في مكانه ، لكنه سبحانه حسب الحكمة العليا جعل الظل متحركا بحركة الشمس فمن يا ترى جعل الشمس متحركة حتى يتبعها في الحركة الظل؟ (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي على الظل (دَلِيلاً) فإنها هي التي تحدده وتعيّنه وتدل على ماهيته ، إذ لو لا الشمس وإشراقها ، لم يعرف الظل ، والأشياء تعرف بأضدادها.

١٨

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)

____________________________________

[٤٧](ثُمَّ قَبَضْناهُ) أي قبضنا الظل ، بمعنى أخذناه (إِلَيْنا) تشبيه بالذي يقبض الشيء إلى نفسه (قَبْضاً يَسِيراً) في يسر وسهولة ، فإن الشمس كلما ارتفعت انتقص الظل حتى يعدم ولا يبقى منه شيء ، والقبض تدريجي كمن يقبض الشيء بيسر لا عنف فيه ولا اندفاع.

[٤٨](وَهُوَ) الله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أيها البشر (اللَّيْلَ لِباساً) فإنه يشتمل على الإنسان حتى يستره مثل اللباس يشتمل على الإنسان ، وفي الليل يقضي الإنسان من الأمور التي يحب سترها ما لا يقضي في النهار (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم ، والسبات قطع العمل ، ومنه سبت رأسه إذا حلقه ويوم السبت لأنه كان يوم قطع العمل (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) لانتشاء الروح في البدن فلا نوم ، ولانتشاء الناس في حوائجهم.

[٤٩](وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً) مبشرات ، فإن المصدر يستعمل للمفرد والتثنية والجمع بلفظ واحد (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمام رحمته التي هي المطر ، فإن الرياح تثير السحاب ، فإذا جاءت الرياح في فصل المطر استبشر الناس بأن وراءها الأمطار ، فيفرحون للمنافع المترتبة على المطر (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) أي جهة العلو (ماءً) أي المطر (طَهُوراً) طاهرا في ذاته مطهرا لغيره.

١٩

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١)

____________________________________

[٥٠](لِنُحْيِيَ بِهِ) أي بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً) قد ماتت بالجدب وعدم الماء ، وإحيائها بالماء ، حيث ينبت بالمطر الزرع ، ويسمن الحيوان ، ويكون وسيلة لنمو حياة الإنسان وازدهارها ، وذكر البلدة إنما هو لأن فائدة المطر تعود إليها ، وإن كانت الحياة تظهر مظاهرها ـ غالبا ـ في الصحاري (وَنُسْقِيَهُ) أي نسقي بذلك الماء (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) أي الحيوانات التي خلقناها (وَأَناسِيَ) جمع إنسان جعل الياء عوضا عن النون (كَثِيراً) أي كثير من أفراد الناس ، ولعل تأخير الإنسان لأن احتياج الأنعام إلى ماء المطر أكثر ، فإن الإنسان يستخرج الماء إن لم يجده على ظاهر الأرض ، وهكذا بالنسبة إلى النبات والحيوان ، فإن احتياج النبات أكثر.

[٥١](وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) أي صرفنا المطر (بَيْنَهُمْ) بأن أدرناه في جهات الأرض لانتفاع الكل ، فلا يمطر مكانا دون مكان (لِيَذَّكَّرُوا) نعم الله سبحانه ، بما أودع فيهم من الفطرة ، أصله «تذكر» أدغمت التاء في الذال ـ على القاعدة ـ ثم جيء بهمزة الوصل لئلا يمتنع الابتداء بالساكن (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا لله سبحانه ولفضله وإحسانه ، ويحتمل أن يكون الضمير في صرفناه عائدا إلى القرآن.

[٥٢](وَلَوْ شِئْنا) بأن كانت المصلحة تقتضي ذلك (لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً)

٢٠