تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)

____________________________________

الرسول حيث إنه أعرف الناس بالله وشؤونه لا بد وأن يكون أسرع الناس إلى عبادة ولد الله ، لا يخفى ان الجملة الشرطية لا تنافي استحالة الطرفين ـ كما ذكروا ـ.

[٨٣] (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنزه الله تنزيها عن هذا القول ، فسبحان مصدر منصوب بفعل مقدر أي أسبح سبحان (رَبِّ الْعَرْشِ) جيء بهذا الوصف للدلالة على عظم مقامه سبحانه فكيف يمكن أن يتخذ ولدا (عَمَّا يَصِفُونَ) أي يصف هؤلاء المشركون الله سبحانه به فيقولون «له ولد».

[٨٤] (فَذَرْهُمْ) أي دعهم يا رسول الله (يَخُوضُوا) في باطلهم ، وأصل الخوض هو الارتماس في الماء ، ويسمى المحدّث الذي غرق في الحديث خائضا ـ تشبيها ـ (وَيَلْعَبُوا) في الدنيا ، فإن أعمالهم الدنيوية لعب ـ إذ هي مثله في عدم الفائدة والفناء بسرعة ـ (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) فيه بعذاب الأبد ، وهو يوم القيامة ، وهذا تهديد لهم.

[٨٥] (وَهُوَ) وحده إله الكون كله لا إله سواه ولدا كان أو شريكا فهو (الَّذِي فِي السَّماءِ) هو (إِلهٌ) بلا شريك (وَفِي الْأَرْضِ) هو (إِلهٌ) بلا شريك ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله ، بمعنى أن كلّا من خلقه وتشريعه حسب الحكمة والصلاح (الْعَلِيمُ) بمصالح عباده ، وقد سبق

٨١

وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)

____________________________________

أن العلم والحكمة أمران فرب عالم غير حكيم ورب حكيم غير عالم ، إذ الحكمة ملكة وضع الأشياء مواضعها وتلك تجتمع مع العلم كما يمكن أن توجد بدونه.

[٨٦] (وَتَبارَكَ) أي دامت بركته ، وإنمائه للخيرات (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) من ملك وإنسان وهواء وغيرها ، فلا منازع له ، ولا شريك ولا ولد (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فهو وحده يعلم وقت قيام القيامة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إلى حسابه وجزائه ترجعون أنتم أيها البشر بعد الموت.

[٨٧] فهو وحده إله مالك خالق ، لا شأن للأصنام في خلق أو ملك ، أما من يعبدها بزعم أنها تشفع له فهو في غلط (وَ) ذلك لأنه (لا يَمْلِكُ) الأصنام (الَّذِينَ يَدْعُونَ) هؤلاء الكفار لهم (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله ـ وإنما جاء الاستثناء لأنهم كانوا يدعون الله أيضا ـ (الشَّفاعَةَ) وإنما جيء بضمير العاقل للأصنام لتنسيق الكلام بين الكفار وبين جوابهم فهم يعتبرون الأصنام عقلاء (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) وهم عيسى وعزيز والملائكة ، فإن الكفار كانوا يعبدونهم ، ولهم الشفاعة في الآخرة ، أنهم يشهدون بالحق ، وأنهم ليسوا بآلهة ، وإنما أنبياء وملائكة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم ليسوا بآلهة ، وهؤلاء لا يشفعون من جحد الحق وكفر

٨٢

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)

____________________________________

به ، فلا ينتظر الكفار شفاعة الآلهة التي يعبدونها ، فأصنامهم لا تشفع إطلاقا ، والأنبياء والملائكة يشفعون لغيرهم ، لا لهم.

[٨٨] ومن عجيب الأمر أنهم يعبدون غير الله ، مع أنهم معترفون بأن الله وحده خالقهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي سألت هؤلاء الكفار ـ يا رسول الله ـ (مَنْ خَلَقَهُمْ)؟ وأخرجهم من العدم إلى الوجود (لَيَقُولُنَ) في جوابك (اللهُ) خلقنا (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي إلى أين يصرفون بعد هذا الاعتراف؟ والمعنى فكيف ينصرفون من عبادة الله إلى عبادة الأصنام؟.

[٨٩] ولا يجد الرسول أمام عناد هؤلاء إلا أن يشكو ربه منهم (وَقِيلِهِ) أي قول الرسول (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) بعد أن بلغتهم وأنذرتهم وقمت بواجب الإرشاد.

[٩٠] (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) يا رسول الله ، أي أعرض عنهم ، فإن المعرض يعطي صفحة وجهه للطرف بعد ما كان مقبلا عليه بمقدم وجهه (وَقُلْ) لهم (سَلامٌ) أصله أن الذاهب يدعو لمن بقي بالسلامة ، ثم استعمل في كل معرض ومودة ، تشبيها ، وإن لم يكن قصده سلامتهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) في الدنيا حين ضنك عيشهم ، أو عند الموت ، أو في القيامة ، بأنهم كانوا على خطأ ، حين لم يقبلوا منك ، واستمروا في كفرهم وعنادهم.

٨٣

(٤٤)

سورة الدخان

مكية / آياتها (٦٠)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الدخان» وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، بالنسبة إلى التوحيد والرسالة والمعاد ، ولما ختمت سورة الزخرف بالوعيد للكفار ، ابتدأت هذه السورة ـ في أوائلها ـ بالعذاب.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) شروع باسم الإله الذي له كل شيء ، ويملك كل أمر ، فلا أحق منه بالابتداء وجعله شعارا ، الرحمن الرحيم لعباده في الدنيا ، ويرحم المؤمنين خاصة في الآخرة.

٨٤

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)

____________________________________

[٢] (حم) «حاء» و «ميم» جنس هذا الكتاب المعجز الذي عجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أو رمز بين الله وبين الرسول ، وهل ذلك تكرار لما سبق من مثل هذه اللفظة ، أو لمدلولات مختلفة ، وإن تماثلت الرموز؟ احتمالات ، إلى غير ذلك من الأقوال في فواتح السور.

[٣] (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي قسما بهذا الكتاب ـ وهو القرآن ـ الظاهر ، وقد مرّ أن الله سبحانه يحلف بمختلف صنوف خلقه ، دلالة لعظمة كل خلق ، وإن كان في النظر أمرا هينا ، نحو «والتين والزيتون».

[٤] (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا الكتاب الذي هو القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ذات بركة ونماء ، والمراد بها ليلة القدر ، ومحتمل ليلة القدر أربع ، التاسع عشر والواحدة والعشرين والثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك وليلة النصف من شعبان ، فقد نزل القرآن في ليلة القدر ـ جملة واحدة ـ إلى البيت المعمور في السماء ، ثم نزل منجما إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مبتدأ بالسابع والعشرين من رجب يوم مبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نزلت سورة «اقرأ» (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) للكفار والعصاة ، بأنهم إن استمروا على كفرهم وعصيانهم عوقبوا في الآخرة بالعذاب والنار ، وقوله «إنا ...» هو المقسم به ، لقوله (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ).

[٥] (فِيها) أي في الليلة المباركة (يُفْرَقُ) أي يبين ويميز ويفصل (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي كل أمر مقدر محكم مرتبط بهذا العالم ، فإن التقديرات من العام إلى العام تجري في ليلة القدر من كل سنة ، وقد ورد متواتر

٨٥

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي

____________________________________

الأحاديث أن الملائكة ينزلون بتقديرات العام ، إلى الإمام الموجود بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ففي دورنا هذا تنزل الملائكة في ليلة القدر على الإمام المهدي عليه‌السلام بتقديرات كل إنسان وكل أمة من العام إلى العام.

[٦] نأمر بذلك (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) فإننا نصدر الأوامر بالتقديرات (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) للرسل إلى الأمم ، ولذا أرسلنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الأمة ، وزودناه بالكتاب المبين الذي أنزل في ليلة مباركة.

[٧] وإنما نرسل الرسل (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي نرحم الناس رحمة بالإرسال ، إذ الرسل يبيّنون للناس ما يصلحهم في دنياهم وأخراهم (إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لما يتكلم به الناس ولكل صوت (الْعَلِيمُ) بما يفعلون ، فهو يعلم سر الناس ونجواهم ، فليحذر الناس الذين أرسل إليهم أن يخالفوا الله سبحانه.

[٨] (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقها ومربيها (وَما بَيْنَهُما) من الإنسان والملك والجن والأشجار وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ) أيها الناس (مُوقِنِينَ) أي ذوي يقين وعلم ، لعلمتم بصحة هذا الخبر ، وهذا في قبال من لا يبالي ولا يتبع الأمر ليتقين ، والحاصل إن أردتم العلم برب الكون لعلمتم أن ربه هو الله.

[٩] (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده لا شريك له (يُحْيِي) الأموات ، كما يحي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٤ ص ١٤.

٨٦

وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ

____________________________________

الأرض وغيرها (وَيُمِيتُ) الأحياء من إنسان وحيوان ونبات ، ومن ظن أنه يميت أحدا بواسطة القتل فقد اشتبه ، فإنه إنما يهيئ السبب كما يهيئ الزرّاع والوالد سبب الزرع والولد ، أما الزرع والولد فمن الله سبحانه ، هو (رَبُّكُمْ) خالقكم ومربيكم (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) الذين سبقوكم ، فهل يتمكن أحد أن يدعي أن المسيح أو الملائكة أو عزير أو الأصنام خلقوه؟ كلا!

[١٠] (بَلْ هُمْ) أي هؤلاء الكفار (فِي شَكٍ) من التوحيد (يَلْعَبُونَ) بالشريعة والدين ، والمراد يفعلون فعل اللاعب ، لأنهم لا يرون للدين قيمة ولا يدركون أنه مرتبط بمصيرهم في الحياة الدنيا والآخرة.

[١١] (فَارْتَقِبْ) أي انتظر يا رسول الله (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) فإن من أشراط الساعة أن يشمل العالم دخان مظلم يمكث أربعين يوما ، والمعنى أنهم إن لعبوا مقابل هذا الجد ، وشكّوا مقابل هذا الأمر المتيقّن ، فدعهم حتى يأتيهم العذاب ، في يوم القيامة.

[١٢] (يَغْشَى) أي يحيط ذلك الدخان ب (النَّاسَ) وهو من أهوال القيامة ويقال لهم (هذا) الذين ترون وتترقبون (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم وموجع لمن كفر وعصى.

[١٣] وهناك يقولون (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) أي ارفع عذاب الدخان

٨٧

إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥)

____________________________________

وسائر ما يترقبونه من أنواع العذاب (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) بما أرسلت وبمن أرسلت.

[١٤] (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي كيف يمكن أن يقبل هناك ـ في القيامة ـ تذكرهم واعترافهم وإيمانهم؟ (وَ) الحال أنهم وقت كانوا في الدنيا (قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) ظاهر الصدق ، والمراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١٥] (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) وأعرضوا عن الإيمان به وبما يقول (وَقالُوا) في شأنه (مُعَلَّمٌ) يعلمه القرآن بعض الأعجميين (مَجْنُونٌ) فليس نبيا بل مجنون قد علّمه بعض الناس هذا القرآن ، فيردده لا شعوريا لأطماع وغايات ، والمعنى أنه لا يفيد هناك إيمانهم وقد فات أوان الإيمان حين كانوا في الدنيا.

[١٦] ألسنا ذكرنا أحوال هؤلاء في الآخرة؟ وألم يطلبوا كشف العذاب؟ فإنا نمهلهم في الدنيا قليلا ، لنرى ماذا يصنعون؟ وسمي كشفا للعذاب مع أنهم لم يعذبوا بعد ، للتشابه لفظا ، كقوله :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) الدخان وغيره ، والمراد بالكشف : عدم تعذيبكم فيما بقي من أعماركم (قَلِيلاً) في الأيام القلائل المستقبلة ما دمتم في الدنيا (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى الكفر والعصيان ، فكيف قلتم : إنا

٨٨

يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ

____________________________________

مؤمنون ، وها نحن نراكم عائدون في الكفر؟ وهذا من أبلغ أساليب الالتفات المذكور في علم البلاغة فكأنه صار ما أخبر سبحانه من الدخان ، ثم طلبوا فأجيبوا ، وها هم عائدون إلى الكفر ، ومن قبيله ما يحكى عن بعض الزهاد ـ عملا ـ أنه كان يذهب إلى المقابر ، فيستلقي في قبر كأنه ميت ، ثم يفكر بالمحاسبة والعذاب والأهوال ، فيقول «رب ارجعوني» ثم يجيب ـ كأنه نداء يأتيه من الأعلى ـ أرجعناك إلى الحياة ، فيقوم ويرجع أهله شاكرا أن استجيب له ، لأن يدرك ما فات منه.

[١٧] وليتذكر هؤلاء الكفار (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) أصل البطش الأخذ الشديد باليد للتعذيب ، والمراد نأخذ الناس لتعذيبهم ، والبطشة الكبرى ، هي الأخذ في يوم القيامة (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ننتقم من كل كافر وفاسق ، و «يوم» منصوب بالمقدر ، أو ب «منتقمون».

[١٨] (وَلَقَدْ فَتَنَّا) أي امتحنا ، فإن الفتنة بمعنى الامتحان (قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي فرعون وقومه ، فإنه كثيرا ما يطلق «قوم فلان» أو «آل فلان» أو ما أشبه ، ويراد به هو وقومه وآله (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) ذو كرامة على الله سبحانه ، وهو موسى عليه‌السلام.

[١٩] فقال لهم (أَنْ أَدُّوا) أي أعطوا ، من الأداء ، كما يقال «أدّ الأمانة» (إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أي أطلقوا سراح بني إسرائيل الذين هم في أسركم ، فقد كان

٨٩

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ

____________________________________

بنو إسرائيل معذبين في سجون فرعون ، وتحت اضطهاده ، فقال له موسى أطلق سراحهم ، وهذا كقوله (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١) (إِنِّي لَكُمْ) يا آل فرعون (رَسُولٌ أَمِينٌ) مؤتمن فيما أؤديه لا أخونكم ولا أخون الوحي ، فما أقوله كله وحي بلا زيادة أو نقصان.

[٢٠] (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي لا تتجبّروا على الله بترك طاعته ، فكأن الكافر والعاصي يرى نفسه فوق رتبة الله ، ولذا لا يستعد أن يتبعه ويطيع أمره (إِنِّي آتِيكُمْ) يا آل فرعون (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة ودليل ظاهر وهي الأدلة التي أقامها على وجود الله وسائر صفاته والخوارق التي كان مزودا بها.

[٢١] ولما دعاهم موسى عليه‌السلام توعدوه بالقتل والرجم ـ كما هي عادة الطغاة أمام المصلحين ـ فقال لهم موسى (وَإِنِّي عُذْتُ) أي استجرت ولذت (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) بخالقي وخالقكم (أَنْ تَرْجُمُونِ) أي ترجمونني بالحجارة ، وحذف ياء المتكلم تخفيفا وتنسيقا.

[٢٢] (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) أي لم تصدقوني فيما جئتكم به (فَاعْتَزِلُونِ) أي اتركوني لا لي ولا علي.

[٢٣] ولما رأى موسى أن القوم مصرون على الكفر والضلال (فَدَعا رَبَّهُ)

__________________

(١) الأعراف : ١٠٦.

٩٠

أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥)

____________________________________

أي ناجى ربه قائلا يا رب (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) مصرون على الاجرام لا ينفع فيهم البلاغ.

[٢٤] فاستجاب الله دعائه في خلاصه من فرعون وقومه فأوحى إليه أسر يا موسى ، والإسراء هو السير ليلا (بِعِبادِي) أي بني إسرائيل (لَيْلاً) وإنما أمروا بالخروج لئلا يعلم فرعون بهم فيأخذهم عاجلا قبل الهروب والفرار (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي أن فرعون سيتبعكم ، وهذا إما تعليل قوله «ليلا» أو مقدمة لبيان غرق فرعون وبشرى لهم ، أو حث لهم على الإسراع ، حتى لا يدركهم الطلب.

[٢٥] (وَاتْرُكِ) يا موسى (الْبَحْرَ) الذي تعبرون منه (رَهْواً) أي ساكنا على حاله بعد أن خرجتم منه ، بأن يبقى على حاله ذي طرق وجواد ، حتى يطمع فرعون في عبوره فيغرق. وذلك لأن ضربه بالعصي بقصد إرجاعه إلى ما كان ، كان بيد موسى ، فأمره سبحانه أن لا يفعل ذلك (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي أن فرعون وقومه الذين يتبعونكم محكوم عليهم بالغرق جزاء لكفرهم وعصيانهم.

[٢٦] وسار موسى واتبعه فرعون في البحر بجنوده ـ كما فصّل سابقا ـ فيأتي السياق ـ بعد ذلك ـ ليبن كيف أن غرقهم لم يؤثر شيئا لا في الأرض ولا في السماء (كَمْ تَرَكُوا) أي خلف فرعون وقومه ، بعدهم (مِنْ جَنَّاتٍ) جمع جنة وهي البستان ، تسمى جنة لستر أرضها بالأشجار والنخيل (وَعُيُونٍ) جارية.

٩١

وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)

____________________________________

[٢٧] (وَزُرُوعٍ) جمع زرع وهو ما لا ساق له كالحنطة والشعير (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي مجالس ومنازل فاخرة ، ذات كرامة ورفعة في الأنظار.

[٢٨] (وَنَعْمَةٍ) بفتح النون ، والغالب لغير العارف ، أن يقرأها بكسر النون (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) متنعمين متلذذين ، كما يتنعم آكل الفاكهة.

[٢٩] (كَذلِكَ) أخرجناهم وأهلكناهم وبقيت دورهم ونعمهم بعدهم (وَأَوْرَثْناها) تلك النعم (قَوْماً آخَرِينَ) هم بنوا إسرائيل ، حيث رجعوا إلى مصر وصاروا فيها ملوكا وسادة.

[٣٠] (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ) أي على آل فرعون (السَّماءُ وَالْأَرْضُ) وهذا كناية عن أنه لم يتغير شيء في الكون بهلاكهم ، وقد ورد أن السماء والأرض تبكيان لموت النبي والإمام والعالم والمؤمن (١) ، وبطبيعة الحال أن البكاء من جنسهما المناسب بهما ، وإن كان يحتمل البكاء حقيقة ـ وما ذلك على الله بعزيز ـ (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي لما حكم عليهم بالعذاب ، لم يمهلوا حتى يتوبوا ، فلا يظن الكافر أنه إذا جاء العذاب يتمكن من التوبة والاستمهال ليصلح ما فات منه.

__________________

(١) هناك روايات حول بكاء السماء والأرض على النبي والإمام والمؤمن ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، قال : لم تبك السماء على أحد منذ قتل يحيى بن زكريا عليه‌السلام حتى قتل الحسين عليه‌السلام فبكت عليه «كامل الزيارات : ص ٨٩» ، وورد في مجمع البيان : ج ٩ ص ١٠٩ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكاءهما على المؤمن.

٩٢

وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)

____________________________________

[٣١] (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) المؤمنين بموسى (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) عذاب فرعون الذي كان يهينهم ويذلهم ، من قتل الأبناء واستحياء النساء.

[٣٢] (مِنْ فِرْعَوْنَ) الذي كان يأمر بتعذيبهم (إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي متجبرا متكبرا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يسرف ويتجاوز الحد في الظلم والتعذيب.

[٣٣] (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي اخترنا بني إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) أي على بصيرة منا باستحقاقهم ، لا اختيارا اعتباطيا (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عوالم زمانهم ، فإنهم كانوا مختارين على سائر الكفار في زمانهم ، لأنهم كانوا مؤمنين ، وغيرهم كانوا كفارا ، وهذا كما يقول : الشريف الفلاني أكبر أشراف العالم ، يريد أشراف زمانه لا كلّ شريف كان أو سيكون.

[٣٤] (وَآتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم ، والنسبة إليهم باعتبار إعطاء موسى عليه‌السلام ، كما يقول الملك : أعطيت القبيلة الفلانية كذا وكذا ، فيما إذا أعطى رئيسها (مِنَ الْآياتِ) الخارقة (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي امتحان ظاهر ، حتى يكون المؤمن على بصيرة ، والكافر عن عناد يستحق العقاب الأليم ، وهي مثل العصا واليد وفلق البحر ، وتضليل الغمام ، والمن والسلوى وغيرها.

[٣٥] وبعد التكلم عن التوحيد والرسالة ـ في بعض جوانبها ـ يأتي السياق

٩٣

إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)

____________________________________

لذكر المعاد (إِنَّ هؤُلاءِ) الكفار المعاصرون لك يا رسول الله (لَيَقُولُونَ) منكرين للمعاد.

[٣٦] (إِنْ هِيَ) أي ما العاقبة ونهاية الأمر (إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) التي تزيل حياتنا (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بمبعوثين ، فليس للإنسان موتتان وحياتان ، كما تقولون أنتم أيها المؤمنون ، وإنما قالوا «الأولى» مع أنهم لا يعتقدون بموتة أخرى ، لتوحيد السياق مع كلام المؤمنين الذين كانوا يحاجوهم.

[٣٧] (فَأْتُوا) أيها المؤمنون المدّعون للبعث (بِآبائِنا) الذين ماتوا من قبلنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في مقالكم أن الإنسان يبعث بعد الموت ، ولكن كلامهم تافه إلى أبعد الحدود ، إن المؤمنين لم يدعوا أنهم يعيدون الأموات وإنما ادعوا إعادة الله لهم عند القيامة ، فأي ربط بين الكلامين؟ ولذا لم يأت السياق لجوابه ، فإن جواب المعاند السكوت.

[٣٨] (أَهُمْ خَيْرٌ) أي هل هؤلاء الكفار خير من حيث كثرة الأموال والجيوش والقوة (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) وقد كان تبع ملكا مؤمنا ، وقومه كافرين ، وكانوا كثيري الأموال والقوى (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم؟ والجواب مقدّر ، أي أن أولئك كانوا خيرا من هؤلاء ، ومع ذلك (أَهْلَكْناهُمْ) لما كفروا بالله وعصوا رسله ل (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) وهذا تهديد لهؤلاء بأن مصيرهم مصير أولئك

٩٤

وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ

____________________________________

إن تمادوا في الكفر والطغيان.

[٣٩] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من صنوف الخلق (لاعِبِينَ) أي بلا غرض وغاية كما يفعل اللاعب ، حتى نترك هؤلاء يلعبون ، كما سبق (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) (١).

[٤٠] (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) لأجل غاية هي إطاعة البشر ، كما قال تعالى في الحديث «خلقت الخلق لأجلك وخلقتك لأجلي» وفي القرآن الحكيم (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر الناس وهم الكفار (لا يَعْلَمُونَ) أن الخلق بالحق ، بل يظنون أنه صدفة فلا غاية ولا غرض ، ولكل امرئ ما يشاء أن يعمل.

[٤١] وإذا كان الخلق بالحق ، قرر هناك يوم للحساب والجزاء ـ كما أن لأجل ذلك أيضا نزلت الكتب وشرعت الشرائع ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وهو يوم القيامة الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل ، وبين أهل الجنة وأهل النار (مِيقاتُهُمْ) أي وقت حساب الناس (أَجْمَعِينَ) بلا تخلف أحد منهم عن ذلك الموعد.

[٤٢] ثم وصف ذلك اليوم بأنه يوم عجيب لا يفيد فيه إلا رحم الله سبحانه التابع للإيمان والعمل الصالح (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ

__________________

(١) الدخان : ١٠.

(٢) الذاريات : ٥٧.

٩٥

مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ

____________________________________

مَوْلًى شَيْئاً) المراد بالمولى هنا الصاحب ، سمي به لأنه يتولى شؤون صاحبه أي لا ينفع صاحب لصاحبه ، أصلا (وَلا هُمْ) أي الناس (يُنْصَرُونَ) بأن ينصرهم أحد لإنقاذهم من عذاب الله ، فيما استحقوا العذاب.

[٤٣] (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي تفضل عليه سبحانه بغفران ذنبه ، وإدراكه الشفاعة ، بعد أن كان قابلا لذلك ، بالإيمان الصحيح (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره فلا يرد بأسه عن أحد استحقه (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين.

[٤٤] ثم بين سبحانه مقام كل من الفريقين هناك ، فقال (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) وهي شجرة تعطي ثمارا بشعة مرة.

[٤٥] (طَعامُ الْأَثِيمِ) أي من كثرت آثامه ومعاصيه ، فإن «أثيم» فعيل من «الإثم».

[٤٦] (كَالْمُهْلِ) وهو النحاس المذاب ـ أو ما أشبه (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) أي إذا أكله الأثيم غلى وفار في بطنه من شدة الحرارة.

[٤٧] (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي مثل غلي الماء الحار الشديد الحرارة.

[٤٨] ثم يقال للزبانية الموكلين بالنار (خُذُوهُ) أي خذوا هذا الأثيم

٩٦

فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١)

____________________________________

(فَاعْتِلُوهُ) يقال «عتله» إذا دفعه بشدة وعنف ، أي فادفعوه من أطراف النار (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي في وسط النار ، حيث العذاب والألم أكثر ، وسمي وسط الشيء سواء ، لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به.

[٤٩] (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ) للتعذيب والإهانة (مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي الماء الحار الشديد الحرارة ، فهو في وسط النار ، وفي بطنه زقوم يغلي ، وعلى رأسه يصب الماء الحار.

[٥٠] ويقال له لإذلاله في مقابل كبريائه في الدنيا (ذُقْ) هذا العذاب (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) فإن الكفار يقولون في الدنيا ، بلسان حالهم ، أو لفظا ، إننا أعزاء كرماء فكيف نتبع الدين؟ فيقال لهم هذا القول هناك على وجه السخرية والاستهزاء ، وقد ورد أن أبا جهل قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، فنزلت هذه الآية.

[٥١] ثم يقال لهم (إِنَّ هذا) العذاب والجزاء (ما كُنْتُمْ) أيها الكفار (بِهِ تَمْتَرُونَ) أي تشكون في دار الدنيا ، فذوقوه الآن جزاء لشككم وإصراركم على الكفر والعناد.

[٥٢] ولننظر إلى مقام المؤمنين الورعين هناك (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا الكفر والمعاصي في دار الدنيا (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي في محل مأمون

٩٧

فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى

____________________________________

من العذاب والآلام.

[٥٣] (فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَعُيُونٍ) أي أنهر جارية ، أو عيون صافية ، ومعنى «في» إنهم في محل فيه «عيون» و «أشجار».

[٥٤] (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) وهو الحرير الرقيق (وَإِسْتَبْرَقٍ) هو الحرير الخشن ، ولكل فضل ، فالأول ألين مسا ، والثاني أكثر جمالا في العين ، في حال كونهم (مُتَقابِلِينَ) يقابل بعضهم بعضا في مجالسهم ، يتحدثون هناك ، ولا تأخذهم وحشة الانفراد.

[٥٥] (كَذلِكَ) حال أهل الجنة (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ) جمع «حوراء» وهي المرأة البيضاء الملائكية الجميلة (عِينٍ) جمع عيناء ، وهي من وسعت حدقتها ، وذلك مما يزيد من جمال المرأة.

[٥٦] (يَدْعُونَ فِيها) أي يطلبون في الجنات (بِكُلِ) قسم من ال (فاكِهَةٍ) أي الثمرة (آمِنِينَ) أي في حال كونهم لا يخافون نفادها أو ضررها ، أو المراد مطلق الأمان من كل مكروه ، وكرر ذلك لأهميته.

[٥٧] (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) فهم خالدون في ذلك النعيم أبد الآبدين ، وقد شبه الموت بالمعلومات ، ولذا نسب إليه الذوق (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) استثناء منقطع ، إذ الموتة الأولى إنما هي في دار الدنيا ،

٩٨

وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)

____________________________________

والمعنى أن هؤلاء لا يلاقون الموت إلا في الدنيا ، أما في الآخرة فلا موت لهم ، وقد سبق وجه الاستثناءات المنقطعة عموما ، وأن الكلام المتقدم يفرض خاليا عن القيد ، وذلك لتكثير الفائدة ، فتنحل الجملتان إلى ثلاث جمل (وَوَقاهُمْ) أي حفظهم الله سبحانه (عَذابَ الْجَحِيمِ) فليس عدم موتهم من قبيل عدم موت أهل النار ، الذي (يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) (١).

[٥٨] (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي يتفضّل سبحانه بهذه النعم على أهل الجنة فضلا ، إذ لا يستحق أحد على الله شيئا (ذلِكَ) الفضل (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الفلاح والظفر بالمطلوب الذي ليس شيء أعظم منه.

[٥٩] (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي سهلنا القرآن (بِلِسانِكَ) العربي ، يا رسول الله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما أودع في فطرتهم من المبدأ والمعاد ليفوزوا بذلك الثواب وينجوا من تلك النار والعقاب.

[٦٠] (فَارْتَقِبْ) أي انتظر يا رسول الله هذا الوعد (إِنَّهُمْ) أي الكفار (مُرْتَقِبُونَ) أي منتظرون ، فإن كل واحد من الخصمين ينتظر ما يحل بالخصم الآخر ، وهذا تهديد لهم ، بأنهم سيلاقون جزاء أعمالهم كما تقول لمن تريد تهديده ، «انتظر فإني منتظر معك» أي سترى ما يحل بك.

__________________

(١) إبراهيم : ١٨.

٩٩

(٤٥)

سورة الجاثية

مكية آياتها / (٣٨)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «جاثية» وهي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاث ولما ختمت سورة الدخان بذكر القرآن ، وإنه ميسّر بلسان الرسول ، افتتحت هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين بالله في أمورنا كلها ، فالظرف متعلق ب «نستعين» على بعض الأقوال ، فإن الإنسان يحتاج إلى العون في كل خطوة من خطى الحياة ، واسم الله أحق شيء يستعان به ، الرحمن الرحيم ، الذي له الرحمة المكررة ولعل التكرار ، لإفادة أنه يرحم ، ثم يرحم ، بخلاف سائر الناس الذين إذا وجدوا أن من رحموه ليس أهلا قطعوا الرحمة منه.

١٠٠