تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ

____________________________________

الطيبات ، هذه النار والعذاب لأنفسكم ، إذن (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) يؤلم جسدكم بالنار ، وأنفسكم بالإهانة ، لأنكم صرفتم جسدكم وأنفسكم في الملذات الضارة بسبب ما (كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فالهوان لذلك الاستكبار (وَ) بسبب ما (كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) وتأتون بالمعاصي ، فالنار لأجل تلك المعاصي الجسدية ، والسرّ أن كل طاقة قابلة لأن تصرف في الفساد وقابلة لأن تصرف في الصلاح ، فالنفط يمكن أن يصرف في طبخ الطعام ، وفي إحراق الدار والأثاث ، والماء يمكن أن يصرف في الزراعة والشرب والنظافة وفي غرق الإنسان به في بحر أو نهر أو نحوهما ، إلى غير ذلك ، والطاقات التي منحها الله للإنسان كذلك صالحة لصرفها في شراء الجنة والعزة الأبدية ، وصالحة لصرفها في شراء النار والهوان الأبدي ، وحيث صرفها الكافر في غير المصرف الصحيح كان جزاءه عذاب الهون ، ولعل قوله سبحانه «بغير الحق» لأن إرادة الكبر قد تكون لأجل إصلاح الناس ومنع المفسدين عن الفساد ، ولذا فالقيد إخراجي ، لا توضيحي.

[٢٢] (وَ) ليعتبر هؤلاء الكفار بقصص التاريخ ، حتى يعلموا أن جزاء تكذيب أنبياء الله ، والانحراف عن منهجه سبحانه يوجب خسران الدنيا ، أيضا ، بالإضافة إلى خسران الآخرة ، التي ذكر في الآية المتقدمة ف (اذْكُرْ) لهم يا رسول الله (أَخا) قبيلة (عادٍ) القبيلة الكافرة بالله واليوم الآخر وأخوهم هو «هود» النبي عليه‌السلام (إِذْ أَنْذَرَ

١٤١

قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)

____________________________________

قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) جمع حقف ، وهو رمل مستطيل مرتفع عن الأرض فيه انحناء ، وكانت قبيلة عاد يسكنون في «اليمن» في أراض رملية ، وكانت لهم مدن في تلك الأراضي (وَقَدْ خَلَتِ) أي مضت وسبقت (النُّذُرُ) جمع نذير ، أي الأنبياء (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) قبل هود عليه‌السلام (وَمِنْ خَلْفِهِ) بعد هود عليه‌السلام ـ هذه جملة معترضة ـ لإفادة أن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس جديدا بل الأنبياء كانوا مستمرين ، قبل هود وبعد هود ، وكان هود أيضا نبيا ، وكلهم وصّوا أممهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فإن لم تعبدوا الله ، أو عبدتم غير الله ف (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في هوله ، يأخذكم ذلك العذاب في الدنيا قبل الآخرة ، وهنا سؤال هو أنه لماذا عبادة غير الله ، أو عدم عبادة الله ، توجب العذاب ، فهل الله يحتاج إلى العبادة حتى يعذب غير العابد؟ والجواب أن الله ليس محتاج ، وإنما طبيعة عبادة غير الله تنتهي إلى العذاب ، كطبيعة الحنظل التي تنتهي إلى المرارة ، وطبيعة بيضة الحية التي تنتهي إلى السم ، وهنا سؤال آخر : هو أنه هل هذه الطبيعة بجعل الله ، أو خارجة عن إرادة الله ، فإن كانت بجعله سبحانه فلما ذا جعلوا هكذا؟ وإن كانت خارجة عن إرادته ، فذلك مما دل العقل على بطلانه ، إذ الله قادر على كل شيء؟ والجواب : هي بجعل الله ، وإنما جعل سبحانه هكذا ، لأن الماهيات تتطلب الفيض ، وعدم الفيض بخل لا يليق بمقامه سبحانه ، وتفصيل المسألة في الكتب الفلسفية الإسلامية.

١٤٢

قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا

____________________________________

[٢٣] (قالُوا أَجِئْتَنا) يا هود (لِتَأْفِكَنا) لتصرفنا (عَنْ) عبادة (آلِهَتِنا) فإنا لا نؤمن بك ، فجوابهم لهود عليه‌السلام لم يكن تقليدا بحتا ، وضلالا ، بدون حجة وبرهان ـ كما هو شأن كل جاهل معاند ـ (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على الشرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في كلامك وقد قالوا ذلك له على سبيل الاستهزاء.

[٢٤] (قالَ) هود عليه‌السلام (إِنَّمَا الْعِلْمُ) في وقت عذابكم (عِنْدَ اللهِ) فليس الأمر بيدي حتى أطلب الآن العذاب (وَ) أما أنا فشأني أن (أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) وقد فعلت ذلك (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) لأنكم تتركون الحجة التي أتيت بها إليكم وتأخذون بالعناد ، ولا بد أن يأتي يوم ينزل عليكم العذاب حيث لا ينفع الندم.

[٢٥] حتى إذا بلغوا كل مبلغ من العتو وأخبرهم هود بوقت عذاب الله ، وكانت بلادهم خصبة فأصابهم القحط ، ولم ينفعهم ذلك أيضا في رجوعهم ، فلا الحجة أفادت ، ولا أرضاهم الذي منّ الله به عليهم ، ولا القحط الذي أصابهم ، فاستحقوا العقاب (فَلَمَّا رَأَوْهُ) رأوا العذاب وكان ريحا سوداء لاحت لهم من الأفق (عارِضاً) أي شيئا كالسحاب ذي المطر عرض في أفق السماء (مُسْتَقْبِلَ) متوجهة (أَوْدِيَتِهِمْ) جمع وادي ، الصحراء التي تسيل فيها السيول (قالُوا) جهلا منهم بحقيقة

١٤٣

هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ

____________________________________

العارض (هذا عارِضٌ) سحاب (مُمْطِرُنا) فنخرج من القحط وأجابهم هود عليه‌السلام كلا (بَلْ هُوَ مَا) العذاب الذي (اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) طلبتموه وقلتم : فأتنا بما تعدنا ، هي (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم ولعل رياح نخوتهم تبدلت إلى رياح العذاب ، كما أن أنهار فرعون التي كان يفتخر بها في قوله «وهذه الأنهار تجري من تحتي» وصارت سببا لادعائه الألوهية ، تجمعت فصارت سببا لغرقه وهلاكه ، فإن العذاب من جنس العصيان.

[٢٦] (تُدَمِّرُ) تهلك هذه الرياح (كُلَّ شَيْءٍ) من المباني والأشجار والإنسان والحيوان (بِأَمْرِ رَبِّها) فلا يمكن أن يقف أمامها شيء فجاءتهم وأهلكتهم وأصبحوا (لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أما في المساكن ومن في المساكن فقد هلكت ، فإذا حضر إنسان تلك البلاد لم ير إلا أثار بيوتهم ، وإنما بقيت للعبرة (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) وهل العذاب كان خارقا أو كان عاديا؟ احتمالان : وعلى أي حال فالعذاب عذاب كيفما كان قال سبحانه (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (١).

[٢٧] (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) أي قوم هود عليه‌السلام (فِيما إِنْ) قد (مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) من

__________________

(١) الأنعام : ٦٦.

١٤٤

وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)

____________________________________

القوى البدنية والعقلية ، والإمكانات الكونية ، فأنتم وإياهم سواء في إعطاء الله سبحانه نعمه (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً) يسمعون به آيات الله (وَأَبْصاراً) يرون بها آثار الله (وَأَفْئِدَةً) يعرفون بها المعقولات ويميزون بها بين الحق والباطل ، وقدم السمع ، لأن السمع غالبا أكثر دركا من البصر إنه يسمع الأخبار من الأزمنة والأمكنة البعيدة بخلاف البصر الذي لا يرى إلا في شعاع محدود ، والأفئدة تتأخر في الإدراك عن السمع والبصر ، لأنهما بابان إلى الفؤاد (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ما أفاد في الدفاع عنهم (سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) لأنهم لم يستعملوها فيما يفيدهم ، وإنما لم تنفعهم في إنقاذهم من العذاب (مِنْ شَيْءٍ) من الإغناء أي ولو إغناء قليلا (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ) ينكرون بما يرونه ويسمعونه ويفهمونه من آيات (اللهِ) اللفظية ، والكونية (وَحاقَ) نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي استهزائهم ، فإن استهزاءهم صار عذابا منزل بهم ، وقد سبق أن عمل الإنسان كالبذر ينمو وينمو وينمو حتى يصل إلى ثمرة ، فاحذروا أيها الناس أن ينزل بكم العذاب كما نزل بهم ، فإنه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن لم يكن عذاب خارق ، لكن لا شك أنه تكون عذابات متناسبة والأعمال ، فإن لكل انحراف آثار سيئة ، كما هو واضح عقلا ودل عليه الدليل الشرعي.

[٢٨] واعلموا يا أيها البشر أن العذاب لم يكن خاصا بقوم هود بل كل

١٤٥

وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)

____________________________________

مخالف لا بد وأن ينال عذابه (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) ما في أطرافكم يا أهل مكة (مِنَ الْقُرى) كقرى قوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وغيرها (وَ) قد (صَرَّفْنَا الْآياتِ) التي تنبههم من الرخاء والبلاء والإعجاز ، والتصريف جعل الشيء من حالة إلى حالة ، فسبب التنبيه لهم صار عدة مرات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكنهم لم يرجعوا عن غيهم فأخذهم العذاب ، حتى يروا جزاء أعمالهم ، وحتى يعتبر بهم البشر الآتون بعدهم إنهم إذا خالفوا كان مصيرهم مصير أولئك.

[٢٩] فلو كانت تلك الأصنام آلهة ، كما كان يزعم قوم هود عليه‌السلام (فَلَوْ لا) لماذا (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ) أي الأصنام ، وجيء لهم بضمير العاقل ، لأن عبادها كانوا يزعمون أن تلك الأصنام عقلاء (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً) أي يتقربون بهم إلى الله ، حيث كان الكفار يقولون «هؤلاء شفعاؤنا عند الله» (آلِهَةً) مفعول «اتخذوا» (بَلْ ضَلُّوا) وغابوا تلك الأصنام (عَنْهُمْ) عن نصرة أولئك القوم ولذا لم ينصروهم ساعة نزول عذاب الله (وَذلِكَ) الأثر أي العذاب ، عاقبة (إِفْكُهُمْ) وكذبهم ، فإن الأصنام لم ينصروهم ، بل هي تلك الأصنام صارت سبب بلائهم وعذابهم (وَ) ذلك سبب افترائهم وقوله سبحانه (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يؤول بالمصدر ، أي افتراءهم ، ف «إفكهم» أي عدولهم

١٤٦

وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى

____________________________________

عن الحق ، و «افتراءهم» أي لجوءهم إلى الباطل فإن كل مبطل له عملان انصرافه عن الحق ، واتخاذه الباطل ، لا يقال كل مؤمن يقتل كالأنبياء والحسين عليهم‌السلام وغيرهم ، أيضا لا ينصرهم الله تعالى لإنقاذهم من أيدي الظلمة ، لأنه يقال أولئك عذبوا بالعذاب السماوي ولو كانت آلهتهم مربوطة بالسماء لم يعذبوا ، بخلاف الصالحين فإنهم قتلوا بأيدي الأشرار.

[٣٠] (وَ) كيف يكفر أهل مكة بك يا رسول الله ، وقد تمت عليهم الحجة ، وإنهم علموا بإيمان الجن بك ، وقد علم الكفار إيمان الجن ، بواسطة كهنتهم ، وهذه حجة أخرى عليهم (إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً) وجهنا إليك جماعة (مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ) حضروا قراءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقرآن (قالُوا) قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) اسكتوا حتى نفهم القرآن فهما كاملا (فَلَمَّا قُضِيَ) انتهى الرسول من قراءته (وَلَّوْا) رجعوا (إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) لهم بأنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن حاق بهم العذاب.

[٣١] (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) عليه‌السلام ولعل أولئك الجن ما كانوا مؤمنين بعيسى عليه‌السلام ، لأن في الجن ، كما في الإنس أديان ومذاهب ، أو لأن كتاب عيسى عليه‌السلام متمم لكتاب موسى أو لأن اليهود كانوا قريبين من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيتمكن الكفار من الاستفسار منهم هل هناك جن مؤمنون ، فذكر موسى عليه‌السلام من هذا الباب ، في

١٤٧

مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ

____________________________________

حال كون ذلك الكتاب (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لما قبله من الكتب المنزلة (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) الحق هو المطابقة للواقع (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) فإن الوصول إلى الهدف «الحق» قد يكون بطريق مستقيم ، وقد يكون بطريق غير مستقيم.

[٣٢] (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) الداعي الذي هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والإضافة تشريفيّة (وَآمِنُوا بِهِ) الإجابة أن يذهب الإنسان ليسمع كلام المنادي ، والإيمان هو قبول كلامه ، فإذا فعلتم ذلك (يَغْفِرْ) الله (لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) بعضها ، لأن حقوق الناس لا تسقط بالإيمان ، إلا بقدر خاص مذكور في الفقه ، فإذا كان الكافر مديونا لزيد في شراء دار وأنكر ذلك ، وآمن لم يجبه الإسلام ، إلى غير ذلك (وَيُجِرْكُمْ) يحفظكم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم ، في الدنيا وفي الآخرة إذ خلاف أوامر الله يوجب آلام الدنيا أيضا.

[٣٣] (وَ) لا يظن ظان أنه يمكنه الهرب من عذاب الله ، إذا لم يؤمن بالله فإنه (مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) ولم يؤمن به (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) لا يعجز الله بأن يهرب منه ، ولا يتمكن الله عليه فإنه لا يمكن الفرار من حكومته (فِي الْأَرْضِ) أي مكان من الأرض كأن شمله سلطان الله ، فإن المجرم بالنسبة إلى الحكومة لا يعجزها في مدينة الحكومة ،

١٤٨

وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)

____________________________________

وتعجز الحكومة في سائر الأرض ، بخلاف المخالفين لله فإنهم لا يعجزون الله في أي مكان من الأرض (وَ) لا يظن المخالف لله ، أن صنمه ينقذه من بأس الله إذ (لَيْسَ لَهُ) لذلك المخالف (مِنْ دُونِهِ) غير الله (أَوْلِياءُ) ينصرونه من بأسه سبحانه (أُولئِكَ) المخالفون لله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) واضح ، لأنهم لا دليل لهم ، ثم هم في معرض الهلاك والعذاب ـ وهذا كله كلام الجن ـ.

[٣٤] ثم إن هؤلاء الكفار ، بالإضافة إلى أنه لا برهان لهم على كفرهم ، في معرض خطر عذاب الآخرة ، وإنكارهم للبعث لا يستند إلى حجة ودليل ، فهم ينكرون الله أو يشركون به بدون دليل ، وينكرون الرسول بدون دليل ، وينكرون البعث بدون دليل (أَوَلَمْ يَرَوْا) ألا يعلموا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ) لم يعجز (بِخَلْقِهِنَ) حتى لا يقولوا انه خلق أولا ، لكنه عجز بعد ذلك فلا يقدر على الإعادة ، والدليل على عدم العجز ، التلازم بين الخلق واستمرار القدرة (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) لأن الإعادة كالابتداء ، فالقادر على بناء دار قادر على إعادتها بعد الخراب ـ مثلا ـ (بَلى) ـ نعم (إِنَّهُ) سبحانه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذه الجملة لتأكيد الكلام في قبال أن الكفار كانوا يؤكدون عدم البعث ، لأنه ليس بممكن في نظرهم ، ثم إن البعث

١٤٩

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ

____________________________________

يتوقف على علم الله بذوات الإنسان المبعثرة في الأرض وبقدرته على جمعها ثانيا ، والله عالم قادر فلما ذا الامتناع؟.

[٣٥] إن الكفار كانوا يقولون في الدنيا أن البعث والجنة والنار ليس بحق ، لكنهم يعترفون في الآخرة بكل ذلك (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) يؤتى بهم على شفير جهنم مثل «عرضت الناقة على الحوض» ويقال لهم (أَلَيْسَ هذا) الذي تشاهدونه من العذاب (بِالْحَقِ)؟ فهل هذا كذب كما كنتم تقولون في دار الدنيا؟ (قالُوا بَلى) إنه حق (وَرَبِّنا) قسما بالله ، فهم يعترفون بالله ، وبالبعث ، حيث لا ينفعهم الاعتراف (قالَ) الملك لهم إذا (فَذُوقُوا الْعَذابَ) بكل أعضاء جسمكم بسبب ما (كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) في الدنيا ، وهذا إهانة وتوبيخ.

[٣٦] وإذا تممت عليهم الحجة يا رسول الله ولم ينفعهم (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أولوا العزم هم الرسل الذين كانت عزيمتهم في الهداية والإرشاد والصبر على المحن أكثر من غيرهم ، وهم كما في رواية نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام (وَلا تَسْتَعْجِلْ) بطلب العذاب (لَهُمْ) وذلك لأن بعضهم يؤمنون وفي أصلاب بعضهم مؤمنون ، إذا عذبوا وماتوا ، لم يخرج أولئك المؤمنون إلى الوجود ، بالإضافة إلى أنه لا يهم بقائه طويلا ف (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ

١٥٠

يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)

____________________________________

يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) فإن الماضي مهما كان طويلا لا يرى إلا قليلا ، أرأيت من عمّر مائة سنة إذا تكلم يقول ذهب عمرنا كأنه لمح بصر وقوله «نهار» كناية عن أنهم أبصروا لكنهم تعاموا ، وهذا القرآن (بَلاغٌ) لهم ، وكفاية لمن أراد الرجوع إلى الحق ، فإذا خرجوا عن الطاعة بعد البلاغ فإنهم يضرون أنفسهم (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)؟ والفسق هو الخروج عن الطاعة ، ولذا يطلق حتى على الكفر.

١٥١

(٤٧)

سورة محمد

مدنية / آياتها (٣٩)

سميت بهذا الاسم وب «القتال» لاشتمالها على كلا الاسمين ، وهي كسائر السور المدنية تعالج قضايا الشريعة. ولما ختمت سورة الأحقاف بتهديد الكفار بعذاب الآخرة ، افتتحت هذه السورة بتهديدهم بعذاب الدنيا وضلال أعمالهم ، فلا تنفعهم في نجاتهم من أيدي المؤمنين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نبتدئ باسمه تعالى ، ليبارك لنا في أمورنا ، فإن اسم الله بركة ، توجب الثبات والدوام ، فإنه وحده هو الدائم ، فكلما ارتبط به كان له نسبية الدوام «الرحمن الرحيم» فإن الرحم إعطاء بدون استحقاق ، والله يعطي الإنسان خلقه ووجوده بدون استحقاق ، ثم يعطيه حوائجه بدون استحقاق أيضا.

١٥٢

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ

____________________________________

[٢] (الَّذِينَ كَفَرُوا) بإنكار الله أو التشريك معه وإنكار أنبيائه وأوصيائهم وإنكار المعاد (وَصَدُّوا) منعوا (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن طريقه بمنع الناس عن الهداية ، فهم أجرموا مرة بكفرهم ومرة بمنع الآخرين عن الإيمان (أَضَلَ) الله أي أحبط (أَعْمالَهُمْ) التي كانوا يظنون أنها تنفعهم كالصدقة وإقراء الضيف ونحوهما.

[٣] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الصفات الصالحة ، فإن الإيمان بدون العمل الصالح لا ينجي كما أن العمل الصالح بدون الإيمان لا ينفع وحيث انه كان مورد توهم أن يقول أهل الكتاب نحن أيضا مؤمنون عاملون بالصالحات ، خصص تعالى بقوله (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الواضح أن الإيمان بالقرآن يلازم الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه (وَهُوَ) أي ما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الْحَقُ) النازل (مِنْ رَبِّهِمْ) من رب المؤمنين (كَفَّرَ) الله ، أي ستر وأبطل (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) السابقة على إيمانهم (وَأَصْلَحَ) الله (بالَهُمْ) أي حالهم وشأنهم بأن وفقهم وهداهم لأن ينظموا أمورهم بحيث يكون حالهم في الدنيا والآخرة حسنا ، فإن العمل بمنهاج الإسلام يصلح شؤون الإنسان.

[٤] (ذلِكَ) الذي تقدم من ضلال أعمال الكفار ، وكفران سيئات المؤمنين وإصلاح أمرهم بسبب أن (الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) والباطل

١٥٣

وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها

____________________________________

كالمرض يبطل أثر الأطعمة الطيبة ويفسد الأعضاء الصحيحة (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) والإنسان الصحيح الجسم حتى إذا أصاب جسمه مرض طفيف دفعه الجسم واستعاد صحته ، فالسيئة مكفّرة في المؤمن (مِنْ رَبِّهِمْ) تأكيد لبطلان قولهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بالقرآن من عند نفسه (كَذلِكَ) الذي ذكر من أن الكفار اتبعوا الباطل ، وأن المؤمنين اتبعوا الحق (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي الأمثال النافعة لهم ، فالحق مثل المؤمن والباطل مثل الكافر.

[٥] وإذ ظهر أن الكفار معاندون (فَإِذا لَقِيتُمُ) أيها المؤمنون (الَّذِينَ كَفَرُوا) في حالة الحرب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) اضربوا رقابهم ضربا واقتلوهم (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أكثرتم من قتلهم والجرح فيهم ، حتى استسلموا ، يقال فلان مثخن أي ثقيل للحمل الذي عليه ، وجماعة الكفار إذا كثر فيهم القتل والجرح ، يكونون كالإنسان الثقيل الذي لا يتمكن من الحركة والقتال (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) الوثاق ما يوثق به من الحبل ونحوه أي شدوهم بالوثاق ، كناية عن أسرهم ، وبعد ذلك (فَإِمَّا) تمنون عليهم (مَنًّا بَعْدُ) بإطلاق سراحهم بدون أخذ الفدية (وَإِمَّا) تفدون وتأخذون منهم (فِداءً) مقابل إطلاق سراحهم ، وإنما تفعلون ذلك (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) الوزر الثقل ، أي أثقالها ،

١٥٤

ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)

____________________________________

فإن للحرب أثقالا كالسلاح ونحوها ، وإضافتها إلى الحرب مجازية ، وظاهر الآية أن المراد بالإثخان وشد الوثاق إنما هو لأجل انتهاء الحرب ، وكأنه جواب سؤال مقدر هو لماذا قتل الناس ولماذا أسرهم؟ والجواب حتى لا تكون حربا (ذلِكَ) الذي ذكرناه هو التكليف (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) لغلب المسلمين على الكفار بدون القتال ، لأنه سبحانه قادر على كل شيء (وَلكِنْ) لم يستأصل الكفار ولم يبدهم (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) يمتحن المؤمنين بقتالهم فيثيبهم الجنة ، والكافرين بقتالهم للمؤمنين فيجزيهم بالنار (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فلا تظنوا أنه تلف وذهب ، كما هو ظن الذين لا يعتقدون باليوم الآخر ، ولذا يفرون من الجهاد (فَلَنْ يُضِلَ) الله ، ولن يضيع (أَعْمالَهُمْ) الصالحة ، فهم أحياء ويرون جزاء أعمالهم الحسنة.

[٦] (سَيَهْدِيهِمْ) الله ، إلى الجنة ، وإنما جاء «بالسين» لأن الجنة بعد البرزخ (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي شأنهم في البرزخ ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

[٧] (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) في حال كونه سبحانه (عَرَّفَها لَهُمْ) قبل ذلك ، ومن المعلوم أن ترقب الخير يوجب سرور النفس.

[٨] ولا يظن المؤمنون أنهم إذا حضروا القتال بالأهبة والاستعداد يتركهم

١٥٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ

____________________________________

الله ، حتى يتغلب عليهم الكفار بل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) بنصرة دينه ونبيه ونصرة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَنْصُرْكُمْ) الله على عدوكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) كالإنسان الواقف على أرض صلبة ، لا إن الله ينصركم أولا ، ثم يترككم وشأنكم بل يبقى معكم يرشدكم في سبيل الحياة ، ولا يخفى أن «نصرة الله» غيبي ، وبالأسباب الظاهرة أيضا وهي أن الإنسان إذا علم أنه مع الله استبسل في القتال وارتفعت معنوياته ، مما توجب نصرته على الكفار الفاقدين للمعنويات.

[٩] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً) انحطاطا (لَهُمْ) أي فينحطون انحطاطا ، في الدنيا بالمغلوبية (وَ) في الآخرة بأنه سبحانه (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الصالحة ، فلا يثابون عليها.

[١٠] و (ذلِكَ) التعس بسبب أنهم الكافرين (كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) تكبرا وعنادا بعد أن تبين لهم أنه الحق (فَأَحْبَطَ) الله أبطل (أَعْمالَهُمْ) الصالحة ، فلا لهم دنيا سعيدة والتي تعبوا لأجلها ، ولا لهم آخرة مريحة حيث كفروا بها.

[١١] ثم اللازم على هؤلاء الكفار ، إن لم يقبلوا بالحجة والدليل ، أن يخافوا سوء العاقبة كما عاقبنا الكفار من الأمم السابقة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يسافروا إلى اليمن وإلى الشام وإلى غيرهما (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ

١٥٦

كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ

____________________________________

كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الذين كذبوا أنبياء الله عليهم‌السلام فقد (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أبادهم وأفناهم ، وآثارهم موجودة ، كما في اليمن من آثار قوم عاد ، وفي قرب الشام من آثار قوم لوط ، إلى غيرهما من سائر الآثار للأمم البائدة ، ولو لم يكونوا بائدين ، لبقيت مدنهم وأحفادهم ، لكنهم سادوا ، فعصوا ، فبادوا (وَلِلْكافِرِينَ) بك يا رسول الله (أَمْثالُها) أمثال تلك العقابات التي أنزلت بالأمم السابقة.

[١٢] وإنما نصر الله المؤمنين وأباد الكافرين (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وليّهم (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) حتى يدفع عنهم العذاب ، بل المولى الحقيقي لهم وهو الله عدوهم ومعذبهم.

[١٣] وحيث (إِنَّ اللهَ) مولى المؤمنين فإنه (يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) الجنة الحديقة سميت جنة لاستتار أرضها بالأشجار (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها ، وهذا جزاء إيمانهم وعملهم الصالح (وَ) أما (الَّذِينَ كَفَرُوا) فلا عقيدة لهم ولا عمل صالح بل (يَتَمَتَّعُونَ) في الدنيا بلا ملاحظة الهدف وبدون جعل دنياهم وسيلة أخرتهم فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) بلا ملاحظة قبل الأكل ولا ملاحظة بعد الأكل ، فإنهم يأكلون ما يحصلونه من حلال أو حرام ولا يلاحظون في أكلهم هدف

١٥٧

وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)

____________________________________

الطاعة والعبادة ، تشبيها بالأنعام التي لا تلاحظ شيئا بخلاف العاقل الذي يلاحظ ألا يكون المال سرقة ونحوها قبلا وألا يكون ضارا بعد الأكل (وَ) حيث أنهم لم يلاحظوا الهدف ف (النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي مرجعهم ومنزلهم.

[١٤] (وَ) إذا ترى يا رسول الله أن أهل مكة أخرجوك بأن أجبروك على الهروب فلا تحزن فإنا سننتقم منهم إذ (كَأَيِّنْ) أي كثير (مِنْ قَرْيَةٍ) مدينة ، فإن القرية تطلق على كل مدينة (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) من حيث المال والسلاح والرجال والعمران (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) بأنواع العذاب لما أخرجوا أنبيائهم وعتوا عن أمرنا (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) حين أخرجوا أنبيائهم ، حتى يدفع عنهم العذاب.

[١٥] كما أن اللازم ألا يغتم المؤمنين الذين أخرجهم أهل مكة فإنهم على بينة من ربهم وهذا أكبر تسلي لهم (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة واضحة في عقيدته وفي سلوكه (مِنْ رَبِّهِ) فإن الحجة إذا كانت من قبله سبحانه كانت قطعية الفائدة والصحة (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) زينه الشيطان والهوى له ، وإن كان عقله يدل على بطلانه مثل كفار مكة الذين أخرجوا المؤمنين (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)؟ ليس يتساوى هذا بذاك فلا يحزن المؤمنون لما أصابهم بعد أن علموا أنهم على حق وأن أعدائهم على باطل.

١٥٨

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ

____________________________________

[١٦] إنهم أخرجوا الرسول والمؤمنين من مكة ، لكن الله أعد لهم المدينة المنورة في الدنيا ، والجنة في الآخرة والجنة خير من منازلهم في مكة (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) مثل مدينة ليست أمثال مدن الدنيا ، فإن مدن الدنيا لا يوجد فيها الشيء المطلوب ، وإن وجد فيها فهو قليل أو فاسد أما الجنة فإن (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) غير متغير الطعم والريح ، وفيه تعريض بمكة حيث أن مياهها قليلة وآسنة لأنها تبقى في الحباب والأحواض فتتغير! وهذا وما بعده شبه تسلية للمؤمنين الذين أخرجوا من مكة (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بخلاف لبن الدنيا فإنه إذا بقي تغير طعمه (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ) لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) لا فيها سوء مذاق ولا فيها سكر بحيث تنغض لذة الشارب بخلاف خمر الدنيا.

(وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) لا يخلطه الشمع وفضلات النحل (وَلَهُمْ) للمؤمنين (فِيها) في الجنة (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) لا كمكة لا ثمار فيها ، وحيث أن المؤمنين حرموا من ما كان عندهم في مكة من الماء والشراب ، والعسل واللبن والثمار القليلة ، ولم يحرموا من زوجاتهم بل كن معهم ، لم يذكر في الآية الكريمة الحور (وَ) ما ذكر مما لهم في الجنة بدل عما حرموه ، ثم أن المؤمنين حرموا عطف وحنان الكفار الذين كانوا يعطفون عليهم قبل الإسلام ، إذ صاروا لهم أعداء ، عوض الله لهم عن ذلك برضاه وعطفه فقال سبحانه مبشرا لهم (مَغْفِرَةٌ مِنْ

١٥٩

رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ

____________________________________

رَبِّهِمْ) وهذه لذة معنوية حيث يعلمون أن الله غفر لهم ورضي عنهم ، فهل هذه النعم التي حصل عليها المؤمنون تتساوى مع ما حصل عليها الكفار من النار والماء الحار؟ وهل هؤلاء المؤمنون (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) لهم حرق النار ، وحزن أنهم يعلمون أنهم خالدون (وَ) إذا عطشوا وطلبوا الماء (سُقُوا ماءً حَمِيماً) أي حارا (فَقَطَّعَ) ذلك الماء من فرط الحرارة (أَمْعاءَهُمْ)؟ والآية ، وإن كان مساقها في المؤمنين والكافرين من أهل مكة ، كما ذكرنا ، إلى أنها عامة لكل مؤمن وكافر ـ كما هو واضح ـ.

[١٧] (وَ) إذا تبين أهوال الكفار في الآخرة فليعلم المنافقون الذين ظاهرهم معك يا رسول الله وباطنهم على خلافك ، أنهم أيضا لهم مصير الكفار ، وعلامتهم أنهم لا يعون كلامك ولا يهتمون بأمرك فإن (مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) بعد أن يحضر مجلسك في ضمن المؤمنين ، لكن ليس قلبه عندك (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من المؤمنين ، حيث أن المؤمنين وعوا كلامك وتعلموا أوامرك (ما ذا قالَ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آنِفاً) أي قبل قليل في أول وقت يقرب منا ، من استأنف الشيء إذا ابتدأ به ، كأنه عند أنفه (أُولئِكَ) المنافقون الذين هذه صفتهم هم (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فإنهم بعنادهم حصلوا

١٦٠