تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)

____________________________________

[٢٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) حججنا الدالة على التوحيد وسائر الأصول (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) فإنهم كانوا أصحاب شؤم على أنفسهم.

[٢١] (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي أن أبواب النار عليهم مسدودة مطبقة ، من أوصد الباب : إذا سدّه وغلقه.

٦٨١

(٩١)

سورة الشمس

مكيّة / آياتها (١٦)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الشمس» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، وهي مثل السورة السابقة تصنف الناس صنفين : صنفا للنار ، وصنفا للجنة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الذي هو خير معين لمن استعان ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة والعطف لكل خلق كما قال سبحانه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١).

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

٦٨٢

وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧)

____________________________________

[٢] (وَالشَّمْسِ) أي قسما بالشمس (وَ) قسما ب (ضُحاها) أي انبساط ضوءها في الآفاق.

[٣] (وَ) قسما ب (الْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي تبع الشمس ، فأخذ من ضوئها وسار في عقبها.

[٤] (وَ) قسما ب (النَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي جلى الشمس وأظهرها وفيه لطف حيث أسند تجلية الشمس إلى النهار من باب «القلب» ، فكأن النهار لشدة ضوئه يوضح الشمس ويظهرها ، كما قال أهل البلاغة في قوله «كما طينت بالفدن السياعا».

[٥] (وَ) قسما ب (اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي يغشي الشمس فيغطيها عن الأبصار ويخفيها.

[٦] (وَ) قسما ب (السَّماءِ وَما بَناها) أي «وقسما بمن بنى السماء» والمراد به الله تعالى ، أو «ما» مصدرية ، أي وبنائها المحكم المتقن.

[٧] (وَ) قسما ب (الْأَرْضِ وَما طَحاها) «الطحو» بمعنى البسط ، أي ومن بسطها وهو الله ، أو طحوها ، على أن تكون «ما» مصدرية ـ كما سبق ـ.

[٨] (وَنَفْسٍ) أي قسما بكل نفس ، والإتيان بها نكرة للتفنن والبلاغة (وَما سَوَّاها) أي الذي صنعها ، وكون «ما» موصولة ـ هنا ـ أقرب ، بقرينة الآية التالية.

٦٨٣

فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢)

____________________________________

[٩] (فَأَلْهَمَها) أي عرّفها بطريق الإلقاء في القلب (فُجُورَها) أي عصيانها (وَتَقْواها) أي إطاعتها ، فإن كل إنسان يميز بين الخير والشر والطاعة والعصيان ، وهذه الأقسام في هذه السورة وغيرها إنما تلفت الأنظار إلى هذه الآيات والمعارف ، بالإضافة إلى كونها حلفا ، فلا يقال : أية حاجة لهذه الأيمان؟

[١٠] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) هذا هو المقسم له ، أي فاز من زكى نفسه وطهرها من الآثام والكفر.

[١١] (وَقَدْ خابَ) أي خسر (مَنْ دَسَّاها) أي أخملها وأخفى محلها بالكفر والعصيان ، فإن «دس» نقيض «زكى».

[١٢] ثم جاء السياق ليهدد الذين يدسون أنفسهم بأن مصيرهم مصير أولئك الأقوام المكذبين من قبلهم (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) أي قبيلة ثمود وهم قوم صالح عليه‌السلام (بِطَغْواها) أي بسبب طغيانها ، فإن الطغيان يوجب التكذيب والكفر كما قال سبحانه (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) (١). و «طغوى» و «طغيان» بمعنى واحد ، وهو مجاوزة الحد في العصيان.

[١٣] (إِذِ انْبَعَثَ) فقد بعثه الأشقياء لارتكاب هذه الجناية ، فانبعث (أَشْقاها) أي أشقى ثمود ، بمعنى الفرد الذي هو أكثر شقوة من غيره

__________________

(١) الروم : ١١.

٦٨٤

فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)

____________________________________

من أفراد القبيلة ، وهو «قدار» ، وهو الذي عقر الناقة.

[١٤] (فَقالَ لَهُمْ) تفريع على «كذبت» لا على «انبعث» ، والضمير عائد إلى قبيلة ثمود (رَسُولُ اللهِ) والمراد به صالح عليه‌السلام : احذروا (ناقَةَ اللهِ) بأن تمسوها بسوء (وَ) احذروا (سُقْياها) أي شربها من الماء فلا تزجروها في شربها ، فقد كان هناك نهر ، وقرر صالح أن يكون ماء النهر يوما للناقة وتعطي بعوضه اللبن بقدر احتياج القبيلة ، ويوما للناس ، وقال لهم : إن مسستم الناقة بسوء أخذكم العذاب ـ كما تقدم تفصيل القصة ـ.

[١٥] (فَكَذَّبُوهُ) أي كذب أهل قبيلة ثمود صالحا عليه‌السلام ـ المتقدم باسم «رسول الله» ـ (فَعَقَرُوها) أي نحروا الناقة وضربوا يديها ورجليها بالسيف ، والعاقر كان واحدا لكن تآمرهم على ذلك ورضاهم به أوجب إسناد الفعل إلى جميعهم (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي دمر عليهم الله تعالى ، فإن الدمدمة ترديد الحال المستكره بمضاعفة ما فيه المشقة (بِذَنْبِهِمْ) أي بسبب ذنبهم بعقر الناقة (فَسَوَّاها) أي سوى الله الدمدمة عليهم أجمعين بحيث لم يفلت منها أحد ، أو سوّى الله أرضهم بحيث استوت فلا شيء فيها.

[١٦] (وَلا يَخافُ) الله سبحانه (عُقْباها) أي عاقبة الدمدمة ، فإنه هو السلطان المطلق الذي لا معقب لأمره ، وليس كأفراد البشر ـ الذين يخافون عاقبة بعض أعمالهم ـ وإن بلغوا ما بلغوا من السلطة والشوكة.

٦٨٥

(٩٢)

سورة الليل

مكيّة / آياتها (٢٢)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الليل» ، وهي كسائر السور المكية تشتمل على قضايا العقيدة ، ويظهر من القصة الآتية أنها مدنية أو بعضها ، وهذه السورة كالسورة السابقة بصدد تصنيف الناس إلى صنفين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله الذي هو أول كل شيء ، وكما هو الأول في الكون كان من الجدير أن يبدأ به في أول كل أمر ، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بسد خللهم وغفران زللهم.

٦٨٦

وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧)

____________________________________

[٢] (وَاللَّيْلِ) أي قسما بالليل (إِذا يَغْشى) أي يحيط بظلمته على الأشياء ، وتخصيص بعض الأقسام بأمور خاصة ، من باب التفنن في البلاغة.

[٣] (وَ) قسما ب (النَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي ظهر وبان وأضاء.

[٤] (وَ) قسما ب (ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) «ما» إما موصولة ، أي الذي خلق ، والمراد به الله سبحانه ، وإنما جيء ب «ما» دون «من» لأن «من» في الغالب يستعمل للبشر ونحوهم ، وإما مصدرية أي قسما يخلق الصنفين.

[٥] (إِنَّ سَعْيَكُمْ) أيها الناس ، في الأمور ، وتطلبكم للأشياء (لَشَتَّى) جمع شتيت كمرضى جمع مريض ، أي أنه مختلف ، فمن طالب دنيا ومن طالب آخرة ، والحلف على ذلك باعتبار ما يعقبه من النتائج ، أو لتبديد أوهام الزاعمين بأن السعي ليس إلا للدنيا فحسب ، إذ ليس هناك آخرة.

[٦] (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) المال في سبيل الله (وَاتَّقى) الكفر والمعاصي.

[٧] (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بالكلمة الحسنى ، وهي الشهادتان ، وحيث إن المقام كان في الإعطاء تقدم ، ثم ذكر التقوى لأنه من أقسام الإعطاء ، ثم جاء دور العقيدة بعد ذين الأمرين.

[٨] (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي سنهوّن عليه الطريقة اليسرى ، وهي طريقة الطاعة ، أو نيسره للحياة اليسرى ، أي الأسهل ، فإن من تبع نهج

٦٨٧

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)

____________________________________

الإسلام سهلت عليه الأمور لما في الإسلام من المناهج السهلة الموجبة للسعادة والرفاه يقال «يسره» إذا سهل عليه ، و «يسرى» مؤنث «أيسر» بمعنى الأسهل.

[٩] (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بماله فلم ينفقه في سبيل الله (وَاسْتَغْنى) أي طلب الغنى بجمع المال والبخل من إنفاقه.

[١٠] (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي بالكلمة الحسنة ، وهي كلمة الشهادتين أو المراد في الموضعين «العدة الحسنى» وهي الثواب والجنة.

[١١] (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي سنهون عليه الطريقة الأعسر وهي طريقة الكفر ، وهذا على سبيل المزاوجة في الكلام ـ من قبيل (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (١) ، إذ الله سبحانه لا يسهل على أحد سبيل العسر ، وإنما المراد أنه سبحانه يخلي بينه وبين ما يعمل ـ.

[١٢] (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) أي لا يفيده ماله الذي بخل به (إِذا تَرَدَّى) أي هلك وسقط في الهاوية.

روي أن رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير ، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم ، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه ، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب ، ولقي رسول الله

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

٦٨٨

إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣)

____________________________________

صاحب النخلة فقال : تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟ فقال له الرجل : إن لي نخلا كثيرا وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال : ثم ذهب الرجل ، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله ـ وقيل اسمه أبو دحداح ـ : يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال : نعم.

فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه ، فقال له : أشعرت أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له يعجبني تمرها وإن لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إلى تمرة منها. فقال له الآخر أتريد بيعها؟ فقال : لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطى؟ قال : فما هناك؟ قال : أربعون نخلة ، فقال الرجل : جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ، ثم سكت عنه ، فقال له : أنا أعطيك أربعين نخلة ، فقال له : اشهد إن كنت صادقا ، فمر إلى أناس ، فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة ، ثم ذهب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إن النخلة قد صارت في ملكي ، فهي لك. فذهب رسول الله إلى صاحب الدار ، فقال له : النخلة لك ولعيالك ، فأنزل الله تعالى «والليل» فمن أعطى «أبو دحداح» ومن بخل «صاحب النخلة» (١).

[١٣] (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي أن اللازم على الله سبحانه ـ بقاعدة اللطف ـ أن ينصب الأدلة ويرسل الرسل ، أما الاتباع والاهتداء فعلى الناس من شاء اهتدى ومن شاء بقي على ضلاله.

[١٤] (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي الدنيا ، فمن اهتدى منحناه السعادة في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٦٠.

٦٨٩

فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)

____________________________________

الدارين ، ومن بقي على كفره حرم من خير الدنيا وسعادة الآخرة.

[١٥] (فَأَنْذَرْتُكُمْ) أيها الناس (ناراً تَلَظَّى) أي تتلظى ـ حذفت إحدى تائيه لقاعدة اجتماع التائين على رأس المضارع ـ ومعنى التلظي المتلهب والمتوقد وهذه النار عذابها أشد.

[١٦] (لا يَصْلاها) أي لا يدخلها ملازما لها (إِلَّا الْأَشْقَى) أي الأكثر شقوة ، وهو الكافر ، مقابل العاصي الذي هو أقل شقوة فإنه وإن دخل النار لكنه لا يلازمها.

[١٧] (الَّذِي كَذَّبَ) بآيات الله تعالى ، وكفر به (وَتَوَلَّى) أي أعرض عن الحق.

[١٨] (وَسَيُجَنَّبُهَا) أي سيجنب النار ، ويجعل منها على جانب ، ودخول «السين» لكون القيامة في المستقبل (الْأَتْقَى) أي الأكثر تقوى وهو المؤمن المطيع ، وأما المؤمن غير المطيع فإنه يدخل فيها وإن خرج بعد مدة.

[١٩] (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) أي ينفق ماله في سبيل الله تعالى (يَتَزَكَّى) أي يطلب الزكاة والطهارة بإعطاء ماله ، فإن الإنفاق يطهر القلب من الرذائل.

[٢٠] (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي لا يعطي الأتقى ماله لأن لأحد عليه إحسانا ، يريد بهذا الإنفاق جزاء ذلك المحسن ، و «من» لنفي

٦٩٠

إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)

____________________________________

الجنس ... والمراد أنه لا يعطي جزاء لإحسان ، وإنما عطاؤه لوجه الله سبحانه.

[٢١] (إِلَّا ابْتِغاءَ) أي طلب رضى (وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي رضاه سبحانه ، وإنما أضيف إلى «وجه» لأنه الذي يظهر عليه أثر الرضا في الإنسان ، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والاستثناء منقطع ، والتقدير لا يعطي ماله جزاء ، بل إنما يعطي قربة إلى الله سبحانه.

[٢٢] (وَلَسَوْفَ) في الآخرة ، يعطيه الله من الثواب والأجر ما به (يَرْضى) فقد ورد ما معناه أن الإنسان يعطى في الجنة بما لم يخطر على قلبه كمّا وكيفا.

٦٩١

(٩٣)

سورة الضحى

مكيّة / آياتها (١٢)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الضحى» ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، مع تركيز خاص بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيث ختمت سورة الليل بأن الأتقى يعطى حتى يرضى ، جاءت هذه السورة تبين ترضية الله سبحانه لنبيه بما يعطيه من الأجر والثواب.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال ، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بتكميل نواقصهم وغفران معاصيهم.

٦٩٢

وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥)

____________________________________

[٢] (وَالضُّحى) أي قسما بالضحى ، وهو وقت ارتفاع الشمس في كبد السماء بحيث يعم نورها ، والواو في مثل هذه المواضع استئنافية لتمليح الكلام وتوحيد السياق.

[٣] (وَاللَّيْلِ) أي قسما بالليل (إِذا سَجى) أي سكن واستقر ظلامه ، فإن «السجو» بمعنى السكون.

[٤] (ما وَدَّعَكَ) يا رسول الله (رَبُّكَ) أي ما ترك عنك الوحي توديعا لك ، بأن يكون كالمفارق الذي يودع صديقه (وَما قَلى) أي ما قلاك ، بمعنى ما أبغضك ، فإن القلى بمعنى المبغض.

روى عن الإمام الباقر عليه‌السلام إن جبرئيل أبطأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه كانت أول سورة نزلت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ثم أبطأ عليه ، فقالت خديجة : لعل ربك قد تركك فلا يرسل إليك؟ فأنزل الله تبارك وتعالى (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (١).

[٥] (وَلَلْآخِرَةُ) «اللام» للتأكيد (خَيْرٌ لَكَ) يا رسول الله (مِنَ الْأُولى) أي الدنيا ، فقد أعد لك الخير هناك ، فكيف يتركك ويقلاك في منتصف الطريق؟

[٦] (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ) يا رسول الله ، في الآخرة (رَبُّكَ) بما تشاء (فَتَرْضى) من كثرة فضله وإحسانه ، ومن جملة ما يعطى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشفاعة ـ كما لا يخفى.

[٧] ثم أخذ السياق يعدد بعض نعم الله سبحانه عليه سابقا ليؤكد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٤٢٨.

٦٩٣

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)

____________________________________

الآن في وسط الطريق بين نعمة سبقت ونعمة تأتي فكيف يقلاه بعد ذلك؟ (أَلَمْ يَجِدْكَ) الله (يَتِيماً) قد مات أبوك (فَآوى) أي آواك ، وأعطاك مأوى ومنزلا وعشيرة تأوي إليهم ، في حين أن اليتيم كان ذليلا مهانا لدى أهل الجاهلية؟

[٨] (وَوَجَدَكَ) يا رسول الله (ضَالًّا) قد تفردت في أناس جاهليين كالشيء الثمين الذي يضل في صحراء مقفرة (فَهَدى) الناس إليك فأخرجك عن الوحشة والتفرد حيث لا يهتدي الناس؟

[٩] (وَوَجَدَكَ) الله (عائِلاً) أي فقيرا لا مال لك (فَأَغْنى) أغناك بالمال ، كمال خديجة عليها‌السلام وغيره.

[١٠] وإذ قد ذاق الرسول مرارة اليتم والضلال والفقر ، فليحن على البائسين ويعطف على المنكوبين (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تقهره يا رسول الله ، بأن تزعجه وتظلمه. والرسول وإن كان منزها عن ذلك لكن الأوامر والنواهي شاملة له كشمولها لغيره من سائر المكلفين.

[١١] (وَأَمَّا السَّائِلَ) الذي يسأل المال ، وهو الفقير ومن أشبهه (فَلا تَنْهَرْ) أي لا تطرده خائبا ، بل أعطه شيئا ، أورده ردا جميلا.

[١٢] (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) التي أنعمها عليك ، والمراد بها جنس النعمة ـ ومن أعظمها الهداية ـ (فَحَدِّثْ) للناس ، حتى تظهر فضله سبحانه فإنه بالإضافة إلى كونه شكرا ، فهو تعليم للناس بأن لا يستروا النعم ، كما جرت عادة الكثيرين ، بأن يذكروا نواقص حياتهم ، ولا يذكرون فضائله سبحانه عليهم.

٦٩٤

(٩٤)

سورة الشرح

مكيّة / آياتها (٩)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «نشرح» كما تسمى سورة «ألم نشرح» و «الانشراح» أيضا ، وهي كسائر السور المكية بصدد الأمور المرتبطة بالعقيدة مع تركيز خاص بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالسورة السابقة ، وحيث كانت سورة «الضحى» بصدد الأمر المتعلق بالرسول ، جاءت هذه السورة معقبة لتلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) شروع باسم الإله الذي هو خير شعار للمعتقد به سبحانه ، وهل شيء أحسن من جعله تعالى شعارا في أول كل أمر؟ الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على كل شيء ، كما قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١).

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

٦٩٥

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)

____________________________________

[٢] (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) يا رسول الله (صَدْرَكَ)؟ وشرح الصدر توسعته بالأخلاق الفاضلة ، فكأن صدر من لم يكن حليما أو سخيا أو عالما ـ أو ما أشبه ـ ضيق كالإناء الضيق الذي لا يحتوي إلا على شيء قليل ، والنسبة إلى الصدر لأن القلب الذي هو محل الفضائل في الصدر ، ولعل وجه ذلك أن الإنسان إذا ضاق بأمر حمى قلبه ، فيحتاج إلى هواء أكثر لتبريد القلب ، فتنتفخ الرئة انتفاخا كثيرا مما يضيق الصدر حسا ، ثم أن في الاستفهام حلاوة ليس في الإخبار.

[٣] (وَوَضَعْنا) أي حططنا (عَنْكَ) يا رسول الله (وِزْرَكَ) أي حملك الثقيل ، فإن «الوزر» هو الحمل ، وذلك بشرح صدرك حتى لا يثقل عليك حمل التبليغ ، وهذا ما يحسه كل إنسان مرشد ، فإنه في أول أمره يرى حملا ثقيلا عليه من جراء الإرشاد ، ثم يتسع صدره ـ بفضله سبحانه ـ ويحس كأنه وضع عنه الثقل ، حتى يشعر أحيانا بأنه لا حمل إطلاقا.

[٤] (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) من ثقله ، و «أنقض» بمعنى أسمع الصوت فإن الإنسان إذا حمل حملا ثقيلا سمع لظهره فرقعة ، وهذا هو الإنقاض ـ وذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس ـ.

[٥] (وَرَفَعْنا لَكَ) يا رسول الله (ذِكْرَكَ) حتى يعرفك كل أحد بالصدق والأمانة وما أشبه ذلك ، هذا بالإضافة إلى ما رفعه سبحانه ـ بعد ذلك ـ من ذكره في المآذن وغيرها.

٦٩٦

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)

____________________________________

[٦] وإذ تقدم بيان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صار في اليسر بعد ما كان في العسر ، جاء السياق يؤكد هذه الحقيقة في مختلف أدوار الحياة لكل إنسان (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فإذا عسر الأمر على الإنسان واشتد كان لا بد وأن يأتي بعده يسر وسهولة.

[٧] (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) هذا للتأكيد ، مع أن فيه تأسيسا ، وهو كون «يسر» الثاني غير «يسر» الأول لأنه منكر ، بخلاف «العسر» في الموضعين فإنه واحد ، لكون اللام ـ سواء كان للعهد أو الجنس ـ توجب الإشارة إلى الحصة المعهودة ، ولذا لو قلت «اشتريت فرسا ثم بعت الفرس» فهم ان المبيع هو المشترى ولو قلت «اشتريت فرسا ثم بعت فرسا» فهم أن المبيع غير المشترى.

وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين فان مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا (١).

أقول : وقد نظم الشاعر ذلك بقوله :

إذا ضاقت بك الدنيا

تفكر في ألم نشرح

تجد يسرين مع عسر

إذا ذكرتها تفرح

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٩٠.

٦٩٧

فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)

____________________________________

[٨] (فَإِذا فَرَغْتَ) يا رسول الله من أمورك الخاصة (فَانْصَبْ) في الدعاء والعبادة ، من «النصب» بمعنى التعب ، أي أتعب نفسك في الاشتغال بالله سبحانه.

[٩] (وَإِلى رَبِّكَ) وحده (فَارْغَبْ) أي اجعل رغبتك فيما عند الله سبحانه ، فإنه هو الذي سهل عليك الأمر ، ويسر الحمل الثقيل.

٦٩٨

(٩٥)

سورة التين

مكيّة / آياتها (٩)

سميت السورة بذلك ، لاشتمالها على لفظة «التين» ، وهي كسائر السور المكية بصدد بيان الأمور المرتبطة بالعقيدة ، وحيث ختمت سورة «الإنشراح» بالرغبة إليه سبحانه جاءت هذه السورة لتؤكد بأن الله هو أحكم الحاكمين وأن بيده الأمور ، فالرغبة إليه توجب حسن الجزاء.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم «الله» الذي هو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال ، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل عباده ، ترغيبا لهم في أن يطلبوا من واسع فضله ورحمته.

٦٩٩

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥)

____________________________________

[٢] (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) أي قسما بهاتين الفاكهتين ، وإنما جاء الحلف بهما لكثرتهما في الشام وحواليها المباركة ـ التي يراد التلميح إليها لكونها مبعث الأنبياء ومهبط ملائكة السماء ـ.

[٣] (وَ) قسما ب (طُورِ سِينِينَ) يعني الجبل الذي كلم الله عليه موسى و «سينين» و «سيناء» لغتان فيه فالقسم برزق الله المادي الفواكه ، وفضله المعنوي الرسالات.

[٤] (وَ) قسما ب (هذَا الْبَلَدِ) وهو مكة (الْأَمِينِ) الذي يأمن فيه الخائف ، فكأنه لا يخون وارده بإهلاك وإيذاء.

[٥] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا جواب القسم ، والتقويم بمعنى تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف والتعديل يعني الإنسان مخلوق في أحسن طراز من جهة حواسه وظواهره ، ومن جهة مشاعره وأجهزته ، وهذا يناسب القسم ، لأن الكل إحسان وإفضال ففاكهة ، ووحي ، وإنسان ينتفع بهما في مادياته ومعنوياته.

[٦] (ثُمَّ رَدَدْناهُ) أي أرجعنا الإنسان (أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي تركناه ولم نلطف به الألطاف الخفية حتى تردى في أبعد مهوى ، وصار في أسفل من كل إنسان ، والمعنى أن الإنسان له شأنية هذا النحو من التردي إذا أعرض عن الإيمان والهدى واتبع الأهواء والشهوات.

٧٠٠