تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٨

وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

____________________________________

مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (وَ) إذا قيل لهم لم تنافقوا (يَحْلِفُونَ) لتبرئة ساحة أنفسهم (عَلَى الْكَذِبِ) بأنا لا نساير الكفار ولا ننافق (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون في قولهم وأنهم منافقون.

[١٦] (أَعَدَّ اللهُ) أي هيأ الله (لَهُمْ) أي لهؤلاء المنافقين (عَذاباً شَدِيداً) في الدنيا بالخزي والفضيحة وفي الآخرة بالنار والنكال (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من النفاق وموالاة أعداء الله تعالى.

[١٧] (اتَّخَذُوا) هؤلاء المنافقون الذين حلفوا لكم (أَيْمانَهُمْ) جمع يمين وهي الحلف (جُنَّةً) أي سترة وترسا يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة إذا ظهر منهم النفاق (فَصَدُّوا) أنفسهم ، والناس الضعاف الإيمان (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الموصل إلى مرضاته (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يذلهم ويهينهم جزاء على نفاقهم.

[١٨] (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أي لا تفيد هؤلاء المنافقين في دفع عذاب الله عنهم (أَمْوالُهُمْ) التي جمعوها (وَلا أَوْلادُهُمْ) الذين خلفوهم (مِنَ اللهِ) أي من بأس الله ونكاله (شَيْئاً) فلا تدفعان عنهم ولو بعض العذاب (أُولئِكَ) المنافقون (أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها ، كالصاحب الذي يلازم صاحبه (هُمْ

٣٦١

فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ

____________________________________

فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد ، وقد روي أن الآيات نزلت في منافق كان يجالس اليهود ويأخذ عنهم نفاقا ، فلما اطلع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمره نهاه ، فقال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يأخذ عنهم صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجودة في التوراة ، وحلف على ذلك كذبا وتغطية لأمره ، لكن الوحي فضحه وفشى أمره.

[١٩] هم أصحاب النار في (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي هؤلاء المنافقين يحييهم بعد الممات للحساب والجزاء (جَمِيعاً) بغير أن يترك منهم أحدا وهذا التأكيد لئلا يحتمل أحد أنه يترك ، كما هو الشأن في الدنيا إذ يترك بعض القوم ـ جهلا أو نسيانا ـ في الدعوات العامة وما أشبهها (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي الله سبحانه ، بأنهم كانوا مؤمنين في دار الدنيا (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الحال ظانين أن الله لا يعلم أمرهم ، وينطلي عليه كذبهم بمجرد الحلف (وَيَحْسَبُونَ) أي يظنون (أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) بأن أيمانهم الكاذبة تروج هنا ، كما كانت تروج في الدنيا لدى المؤمنين (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في كلامهم ويمينهم فلا تروج الأيمان المكذوبة هناك ، بل يعرفون بالكذب والدجل.

[٢٠] (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ) على هؤلاء المنافقين (الشَّيْطانُ) أي استولى عليهم ، والاستحواذ هو الاستيلاء ، من «حاذ» بمعنى «حاز» كالذي يحوز شيئا لنفسه ويختاره لشخصه (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) حتى أنهم

٣٦٢

أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)

____________________________________

لا يذكرونه سبحانه حتى يخافوا منه ، فينقلعوا عن النفاق والعصيان (أُولئِكَ) المنافقون (حِزْبُ الشَّيْطانِ) جماعته وأتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا دنياهم وآخرتهم ، فإن الدنيا تزول ، ولهم في الآخرة النار.

[٢١] ثم انتقل السياق من المنافقين ، إلى كل مخالف لله ورسوله (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) أي يتجاوزون حدوده بالمخالفة (وَرَسُولَهُ) فيما جاء من الأحكام (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) فلا أحد أذل منهم في الدنيا والآخرة ، وكأن الأذلون فرقة سابقة على الإسلام ، فهؤلاء المحادون في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعده داخلون في أولئك ، وكأن هؤلاء أكثر ذلّا وهوانا من العصاة من المؤمنين ، وبهذا الاعتبار عبر عنهم بالأذل ، أو أنهم أذل من الكافر غير المحادد.

[٢٢] وهل يظن هؤلاء المحادون أن عملهم يثمر لهم نجاحا ، أو للإسلام هبوطا؟ كلا! فقد (كَتَبَ اللهُ) في اللوح المحفوظ وقرر (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) على كل محاد ومخالف ، وقد جرب العالم صدق هذه المقالة ، فالآخذون بزمام العالم حتى في هذا اليوم المظلم هم الرسل كموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهم من الأتباع أكثر من نصف أهل العالم ، ومناهجهم سارية ـ قليلا أو كثيرا ـ في كل العالم (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على نصر أنبيائه (عَزِيزٌ) غالب في سلطانه ، فلا يتمكن أحد على أن يغلبه أو يغلب رسله ، وقد روي أن المسلمين لما

٣٦٣

لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

____________________________________

رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى قالوا : ليفتحن الله علينا الروم وفارس فقال المنافقون : أتظنون أن فارسا والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ فأنزل الله هذه الآية (١).

[٢٣] ثم جاء السياق ليبين وظيفة المسلم أمام الكافر ، وأنه يلزم عليه أن لا يواد الكافر مهما كان ، خلافا لأولئك المنافقين الذين كانوا يوادون الكافرين (لا تَجِدُ) يا رسول الله ، أو أيها المسلم (قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صحيحا (يُوادُّونَ) الموادة المحابة ، من باب «المفاعلة» (مَنْ حَادَّ اللهَ) أي خالف الله (وَرَسُولَهُ) بترك أوامرهما والكفر بهما ، والمعنى : إنه لا تجتمع موالاة الكفار مع الإيمان ، فمن والاهم فليس بمؤمن ، وان أظهر الإيمان (وَلَوْ كانُوا) أي كان الذين يحادون الله ورسوله (آباءَهُمْ) ، أي آباء المؤمنين (أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) بأن قربت قرابتهم ، فإن الكفر يقطع قرابة المؤمن بالكفار وإن بقي رجحان بعض أقسام الصلة ، إذا كان الكافر أبا أو أما أو ما أشبه ، كما قال سبحانه ، (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (٢) (أُولئِكَ) الذين لا يوادون الكفار (كَتَبَ) الله أي أثبت (فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) لقمان : ١٦.

٣٦٤

الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)

____________________________________

الْإِيمانَ) بالألطاف الخفية بهم حيث رآهم في طريق الحق.

(وَأَيَّدَهُمْ) أي قوّاهم الله سبحانه (بِرُوحٍ مِنْهُ) أي بروح من عنده تعالى ، فإن المؤمن الصامد توجد فيه روح قوية توجب التزام أحكام الله سبحانه ، حتى أن أقوى أسباب الكفر لا تتمكن من زحزحته (وَيُدْخِلُهُمْ) الله في الآخرة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ) من عسل وخمر ولبن وماء حال كونهم (خالِدِينَ) أي دائمين باقين (فِيها) أي في تلك الجنات (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) حيث علم فيهم الإيمان الراسخ والعمل الصالح (وَرَضُوا عَنْهُ) بما منحهم من الفضل والإيمان في الدنيا والجنان في الآخرة (أُولئِكَ) المتصفون بتلك الصفات (حِزْبُ اللهِ) جماعته وأتباعه ـ في مقابل حزب الشيطان ـ (أَلا) فلينتبه السامع (إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين فازوا وظفروا بخير الدنيا وسعادة الآخرة ، قالوا نزلت هذه الآية في «حاطب» حيث كاتب أهل مكة يخبرهم بإقبال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحوهم للفتح ، بعد ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أصحابه أن يفشوا الخبر ، فلما عوتب في ذلك ، اعتذر بأن أهله في مكة فأراد أن يكون له يد على أهلها ، حتى لو كانت الدائرة على المسلمين راعى أهل مكة يده عندهم ، فلا يؤذوا زوجته وأهله.

٣٦٥

(٥٩)

سورة الحشر

مدنية / آياتها (٢٥)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الحشر» وهي كسائر السور المدنية تشتمل على النظام بالإضافة إلى قضايا العقيدة وحيث ختمت سورة المجادلة بذكر حزبي الرحمن والشيطان افتتحت هذه السورة بذكر غلبة حزب الرحمن على حزب الشيطان.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) باسم الإله نبتدئ السورة ، لتكون معلّمة بعلامة الإيمان ويكون تعليما للمسلمين : بلزوم أن يبدءوا أعمالهم باسمه سبحانه ، الرحمن الرحيم الذي خلقه ، بالخلقة أولا ، واللطف والتربية والعناية ثانيا.

٣٦٦

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ

____________________________________

[٢] (سَبَّحَ لِلَّهِ) أي نزهه سبحانه عن النقائص ، ويجوز في سبح تعديه بلا واسطة نحو «سبحه» وتعديه مع الواسطة نحو «سبح له» باعتبار أن التسبيح له لا لغيره (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والمراد الظرف والمظروف ، والمراد بالتسبيح إما التكويني بأن كل شيء يدل على وجود الإله وسائر صفاته ، دلالة الأثر على المؤثر ، أو التسبيح بألسنتها التي لا نفقهها ، كما قال :

كل شيء في الكون يشعر لكن

منع الناس عن شعور المشاعر

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه (الْحَكِيمُ) يفعل الأشياء حسب الحكمة والصلاح.

[٣] (هُوَ) الله سبحانه (الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) كل أهل الكتاب كفار ، لكن منهم من آمن بالرسول ، فخرج عن الكفر ، ومنهم من لم يؤمن فيقال له «كفر» إما باعتبار استمراره في الكفر من قبيل «اهدنا» ، أو باعتبار أنه كان إلى قبل بعثة الرسول مؤمنا ـ إذ كان تكليفه هو دينه ـ فإذ جاء الرسول ولم يؤمن صار كافرا والمراد بهم هنا يهود «بني النضير» (مِنْ دِيارِهِمْ) بأن سلط المؤمنين عليهم وأيدهم ، حتى يتمكنوا من إخراجهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الحشر هو الجمع من مكان

٣٦٧

ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا

____________________________________

إلى مكان آخر ـ ولعل المراد لأول مرة في إخراج اليهود من المدينة بصورة جماعية ـ ثم بعد ذلك أخرج غيرهم ، حتى لا يبقى في جزيرة العرب اليهود إطلاقا ، فإنهم أهل مؤامرة ودسائس ، فأراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إخلاء البلاد منهم ومن كيدهم ، لئلا يدبروا المؤامرات على الدين الجديد.

(ما ظَنَنْتُمْ) أيها المسلمون (أَنْ يَخْرُجُوا) أي اليهود بهذه السرعة لما كنتم تعلمون من شدة بطشهم وشوكتهم (وَظَنُّوا) أي اليهود (أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ) أي تمنعهم من المسلمين (حُصُونُهُمْ) جمع حصن وهي القلعة التي يتحصن فيها الإنسان خوفا من العدو المهاجم (مِنْ) بأس (اللهِ) بأنه سبحانه إذا أراد بهم شيئا وقفت حصونهم أمام إرادته (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي جاءهم أمر الله بالخراب لقلاعهم ، والتشريد لهم (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي لم يظنوا أنهم يمكن أن يؤتوا من تلك الجهة بأن ألقى الرعب في قلوبهم وأرخى قواهم ، وكسر شوكتهم ومنعتهم (وَقَذَفَ) أي ألقى الله سبحانه (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي الخوف ، فإنهم لما رأوا كثرة شوكة المسلمين انهارت قواهم ، وأول الهزيمة هو : الرعب وخور القوى وانهيار الأعصاب (يُخْرِبُونَ) أي أولئك اليهود (بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) فقد كانوا يهدمون بيوتهم لئلا ينتفع بها المؤمنون (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) فقد كان المؤمنون يخربون بيوتهم ليصلوا إليهم ويهزموهم (فَاعْتَبِرُوا) واتعظوا

٣٦٨

يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)

____________________________________

(يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي أصحاب العقول ، بأن الله سبحانه إذا حاده جماعة كيف يهزمهم ويغلب عليهم ، حتى أنهم بأنفسهم يهدمون بيوتهم التي هي أعز ما يكون لديهم ، والمراد بالاعتبار النظر في الأمور ليرى الإنسان بها أمورا أخر لها ارتباط وثيق بها.

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في «بني النضير» وتفصيل قصتهم على ما في «قادة الإسلام» (١) : قتل أحد أصحاب الرسول نفرين ممن كانا في عهد الإسلام ، وكان قتله لهما اشتباها ، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستقرض ديتهما من بني النضير ، وهم يهود قرب المدينة ، عددهم زهاء الألف ، فأظهروا قبول إقراض الدية ، ودعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى داخل الحصن.

لكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبى واتكأ على جدار الحصن ، وهناك نزل عليه جبرئيل وأخبره بأنهم عازمون على الغدر به ، وتبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك من حركاتهم ، حيث إنهم تآمروا بينهم أن يذهب أحدهم على سطح الجدار الذي كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متكئا عليه فيلقي على رأس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجرا حتى يقضي على حياته الشريفة.

قفل الرسول راجعا إلى المدينة ، قبل أن يأخذ القرض ، وأرسل رسولا إلى بني النضير إذ نقضتم ميثاقكم وأردتم الغدر ، فاخرجوا من بلادي ولقد أمهلتكم عشرة أيام ، وحينذاك لم يجدوا مناصا عن الخروج إلا أن بعض المنافقين ، وعدهم النصر ، ونهاهم عن الخروج ، فلم يخرجوا ، وأخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنهم لن يخرجوا فليفعل

__________________

(١) للمؤلف.

٣٦٩

وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣)

____________________________________

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بدا له وعزموا على القتال ، فخرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جمع من أصحابه ، ورايته بيد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وحاصروا حصونهم وأخذوا يحتلون بيوتهم ، فكانت اليهود تنسحب من دار إلى دار ، وكلما انسحبت هدّمت البناء الذي في معرض الاحتلال واستماتوا ، فأراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع آمالهم عن أراضيهم ، فأمر بقطع نخيلهم. يئس اليهود عن النجدة ، وأرسلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولا يطلبون منه أن يسمح لهم بالخروج جميعا ، فأذن لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بشرط أن لا يحملوا أكثر مما تحمله إبلهم فقط ، لكنهم لم يقبلوا ، وبقوا مستميتين ، ولما ضيق عليهم الحصار قبلوا شرط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الرسول جزاهم عن عنادهم ، فلم يسمح لهم بحمل شيء من أموالهم ، وإنما أذن لهم بالخروج بدون حمل أثقالهم ، فقبلوا الشرط وخرجوا وحدهم ، وخلوا أموالهم كلها للإسلام ، فقسم الأموال بين المهاجرين الأولين ، وأعطى منها لنفرين من الأنصار ، وبجلاء بني النضير استراح المسلمون من عدو لدود لهم ، كان يكيد لاجتثاث الإسلام من جذوره.

[٤] (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ) أي حكم الله (عَلَيْهِمُ) أي على بني النضير (الْجَلاءَ) أي الانتقال من ديارهم ، والجلاء عن أوطانهم (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بأن أمر الرسول بقتلهم وإهلاكهم كما أنه سبحانه فعل ذلك ببني قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) لما تمادوا في كفرهم وعصيانهم.

٣٧٠

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)

____________________________________

[٥] (ذلِكَ) الإخراج لهم عن ديارهم ، وإعداد النار لهم في الآخرة بسبب أنهم (شَاقُّوا اللهَ) أي عادوه (وَ) حاربوا (رَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) بالمخالفة والمحاربة (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي فليستعد للعقاب الشديد ، لأنه تعالى «أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة».

[٦] (ما قَطَعْتُمْ) أيها المسلمون (مِنْ لِينَةٍ) أي نخلة كريمة من أنواع النخيل ، وإنما سمي لينة للين ثمره ، وتقبل سعفه للتصنيع (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) أي جذوعها بأن لم تقطعوها ـ فقد قطع المسلمون بعض النخيل لبني النضير وتركوا بعضها قائمة ـ (فَبِإِذْنِ اللهِ) فقد تحرج المسلمون عن هذا العمل ، بأنه إن لزم القطع فكان ما أبقوا غير جائز ، وإن لزم الإبقاء كان ما قطعوا غير جائز ، ولذا جاء البيان ليبرر موقفهم ويطمئن قلوبهم ، فإن ما احتيج إلى قطعه في الحرب والتنكيل قطع ، وما لم يحتج إلى قطعه أبقي ، (وَلِيُخْزِيَ) أي يذل الله (الْفاسِقِينَ) أي أولئك اليهود بهذا القطع والإبقاء ، فما قطع أورث فيهم حسرة كيف قطع المسلمون ما غرسوه وربوه ، وما أبقي أورث فيهم حسرة كيف أبقي حتى ينتفع المسلمون به؟

[٧] ثم يأتي السياق ليبين أحكام الغنيمة التي غنموها في إجلاء بني النضير ، بأنها خاصة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقربائه لأن المسلمين لم يتعبوا لأجلها

٣٧١

وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)

____________________________________

وذلك بخلاف الغنيمة التي تعب المسلمون في تحصيلها ، فإنها تقسم خمسة أقسام أربعة منها للمسلمين ، وواحدة منها للرسول وأقربائه ، وإنما خصص القسم الأول بالرسول وآله ، لأنهم لما منعوا من الزكاة احتاجوا إلى سد نفقاتهم وذلك إنما هو بالفيء والخمس ، ولأنه لا بد وأن يكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصة زائدة ليتمكن من إدارة شؤون المسلمين المرتبطة بأمور الدولة ـ كما تخصص لرؤساء الحكومات ـ اليوم ـ حصة معينة من الخزينة لسد نفقاتهم المرتبطة بالشؤون العامة ـ (وَما أَفاءَ اللهُ) الفيء هو الغنيمة ، وأصله بمعنى الرجوع ، وإنما سميت الغنيمة فيئا ، لبيان أنها كانت بيد الكفار غصبا ، فرجعت إلى أصحابها الشرعيين وهم المؤمنون الذين خلق الله لهم كل شيء (عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي من بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ) أيها المسلمون ، و «ما» نافية ، والإيجاف تسيير الخيل والركاب من وجف يجف ، بمعنى تحرك باضطراب ، إذ الفتح بالقهر يلازم الاضطراب في الحركة (عَلَيْهِ) أي على ذلك الفيء (مِنْ خَيْلٍ) هي الفرس (وَلا رِكابٍ) هي الإبل ، أي أنكم لم تحصلوا على تلك الغنيمة بسبب الفتح بخيل أو إبل حتى يكون لكم ذلك الفيء.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من الكفار بإيقاع الرعب في قلوبهم حتى يفتح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدنهم بلا حرب ولا تعب (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيتمكن من تسليط الرسل على الكفار بلا حرب.

٣٧٢

ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ

____________________________________

[٨] وإذا تمهدت هذه المقدمة ـ وهي أن المسلمين إن لم يتعبوا على هذا الفيء ـ جاء السياق ليذكر حكمه ، وانه ليس لهم ، وإنما هو للرسول وآله (ما أَفاءَ اللهُ) أي ما أرجع الله سبحانه (عَلى رَسُولِهِ مِنْ) أموال (أَهْلِ الْقُرى) الكافرة التي حصل الرسول عليها بدون حرب (فَلِلَّهِ) تعالى ـ تشريفا للرسول ـ وإلا فكل شيء له سبحانه (وَلِلرَّسُولِ) بتمليك الله إياه (وَلِذِي الْقُرْبى) أي أهل بيت رسول الله وقرابته ، والمراد بهم الأئمة الطاهرون عليهم‌السلام.

(وَالْيَتامى) جمع يتيم وهو من مات أبوه (وَالْمَساكِينِ) جمع مسكين وهو الفقير الذي أسكنه الفقر من الحركة (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع في سفره الذي لا يعرف من أمره شيء ، ولذا ينسب إلى الطريق. وقد ثبت أن المراد بهؤلاء السادة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم بين سبحانه الحكمة في جعل الفيء هكذا بقوله : (كَيْ لا يَكُونَ) الفيء (دُولَةً) وهي اسم للشيء الذي يتداوله القوم فيما بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) حتى لا يعمل في الفيء ما كان يعمل في الجاهلية ، فقد كان إذا وقع غزو أخذ الرؤساء الأموال ، ومن المعلوم أن الرؤساء يتداولون المال بينهم بالضيافة والزواج لأبناء بعضهم من بنات بعض ، واستقبال بعضهم لبعض وهكذا مما يوجب نقل المال من هذا الرئيس إلى ذاك الرئيس فيبقى الفقراء محرومون ، وهذه العلّة أي قوله «لكي» مع العلة السابقة وهي «فما أوجفتم» يتمّان

٣٧٣

وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)

____________________________________

المطلوب ، إذ لا يخلو أمر الفيء بين أن يكون للرؤساء ، كالجاهلية ، أو للمسلمين كالغنائم ، أو للرسول وآله ، وإذ قد نفي الأول لأنه يوجب احتكار المال بين الأغنياء ، والثاني لأن المسلمين لم يتعبوا في تحصيله حتى يستحقوا شيئا ، لم يبق إلّا الثالث.

ثم لما كان هذا الحكم شاقّا عليهم نزل قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) أي أعطاكم من الأحكام (فَخُذُوهُ) أي تمسكوا به واعملوا بفحواه (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) وبين لكم حرمته (فَانْتَهُوا) عنه ولا ترتكبوه (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه فلا تخالفوه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن ترك أوامره وخالفه. قال في المجمع ـ ناقلا ـ إن الآية نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له : يا رسول الله خذ صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوه

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

فنزلت الآية فقالت الصحابة سمعا وطاعة لأمر الله وأمر رسوله (١).

[٩] ثم بين سبحانه وصف الطوائف الأربع من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين خصص بهم الفيء ـ الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ـ وليس ما يأتي من الوصف إلا كحكمة للتشريع حال نزول الآيات لا إنها أوصاف مشروطة دائما.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٤٣٢.

٣٧٤

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ

____________________________________

(لِلْفُقَراءِ) بدل لقوله (لِذِي الْقُرْبى ...) أو (وَالْيَتامى ..) وهذا هو الأوفق بما ثبت من أن الإمام الذي يأخذ الفيء لا يشترط فيه الفقر ـ إلا أن يكون حكمه حال النزول ، كما ذكرنا ـ فلا تخصيص (الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا من مكة إلى المدينة (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أخرجهم الكفار ظلما وعدوانا (وَأَمْوالِهِمْ) إذ خلفوا أموالهم وراء ظهرهم (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون هؤلاء المهاجرون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) بأن يتفضل سبحانه عليهم عوض ما خلفوه وراءهم من الديار والأموال (وَرِضْواناً) بأن يرضى عنهم (وَيَنْصُرُونَ اللهَ) أي ينصرون دينه سبحانه (وَرَسُولَهُ) بالجهاد بين يديه لإعلاء كلمة الإسلام (أُولئِكَ) المتصفون بتلك الصفات (هُمُ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا في إيمانهم حيث أتوا بمقتضيات الإيمان.

[١٠] وإذ جرى مدح المهاجرين ، جاء السياق ليمدح الأنصار ، بقوله (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) يعني المدينة ، وهي دار الهجرة ، ومعنى «تبوؤا» اتخذوها منزلا ، ومبوءا ، من «باء» بمعنى رجع ويسمى المنزل مبوءا لأن الإنسان كلما خرج رجع إليه (وَالْإِيمانَ) أي تبوؤا الإيمان ، فهو كالمنزل الذي يتخذه الإنسان محل استراحة ورجوع ، فكلما نزل به أمر رجع إلى الإيمان يستلهمه العلاج والخلاص ، أو أن التقدير «آثروا الإيمان» (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل هجرة المهاجرين إلى المدينة ، فإن أهل المدينة آمنوا قبل هجرة المهاجرين

٣٧٥

يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا

____________________________________

(يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من مكة وسائر القرى الكافرة ـ وهذا هو خبر «الذين» ـ والمعنى كما أن للمهاجرين المدح بما تقدم ، للأنصار المدح بأنهم يحبون المهاجرين (وَلا يَجِدُونَ) أي هؤلاء الأنصار (فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لا يحسدون المهاجرين من جهة ما آتاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غنائم بني النضير ، (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي يقدمون المهاجرين في الإسكان والإحسان ، على أنفسهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ) أي بهؤلاء الأنصار (خَصاصَةٌ) أي احتياج وفقر ، فإنهم يرجحون المهاجرين على حاجة أنفسهم ، ومثل هذا الإنسان أعظم ثوابا ممن ينفق وهو غني.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي من يحفظ بلطف الله سبحانه ، من بخل النفس ، بأن لا تغلبه نفسه فتبخل (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالدرجات الرفيعة.

[١١] وإذ فرغ السياق عن المهاجرين والأنصار ، جاء ليمدح التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة بقوله (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ) بأن أسلموا من بعد المهاجرين والأنصار ، قولهم هذا ـ مما يدل على رسوخ الإيمان فيهم ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَ) اغفر (لِإِخْوانِنَا

٣٧٦

الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ

____________________________________

الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) من المهاجرين والأنصار وغيرهم (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي حقدا وغشّا وعداوة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) من مضى منهم أو من عاصرناهم وإنما قال «لا تجعل» لبيان أن اللطف منه سبحانه ، حتى إذا لم يلطف بإنسان كان معرضا للغل ، والمعنى لا تتركنا على أحوالنا ، حتى يستولي علينا الشيطان والنفس ، فتكون أنفسنا معرضا للغل (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ) بعبادك (رَحِيمٌ) بهم ، وهذا تعليم للمؤمنين كيف ينبغي أن يكونوا اتجاه من سبقهم ، وتجاه سائر المؤمنين المعاصرين لهم.

[١٢] وإذا سبق مدح المؤمنين وبيان صفاتهم ، جاء السياق ليظهر طرفا من أحوال المنافقين بقوله : (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي ، والاستفهام للتعجب والاستنكار (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) بأن أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي كفروا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد بهم يهود بني النضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي أخرجكم الرسول من دياركم وبلادكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) موافقة لكم ، فلا نبقى في بلادنا ، (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في أمر قتالكم (أَحَداً) يعنون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَبَداً) فإذا أمرنا بقتالكم لا نقاتلكم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) بأن قاتلكم الرسول والمسلمون (لَنَنْصُرَنَّكُمْ)

٣٧٧

وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ

____________________________________

أي نكون في جهتكم ضد الرسول والمسلمين (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ) أي هؤلاء المنافقين (لَكاذِبُونَ) في أقوالهم ، فلا يخرجون مع بني النضير ولا يقاتلون معهم فقد قالوا : إن عبد الله بن أبي كان يحرض اليهود على الاستمائة وقتال الرسول ويمنيهم بهذه المواعيد الكاذبة ، وكان كما قال الله سبحانه كذب حين أتى وقت العمل.

[١٣] (لَئِنْ أُخْرِجُوا) أي أخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني النضير (لا يَخْرُجُونَ) أي هؤلاء المنافقون (مَعَهُمْ) تشاركا معهم في الفرار والتخلص (وَلَئِنْ قُوتِلُوا) أي قاتلهم المسلمون (لا يَنْصُرُونَهُمْ) كما زعموا (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على فرض مستحيل (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) أي ينهزمون عن مقابلة الرسول والمسلمين ويسلمون بني النضير طعمة سائغة لحراب المسلمين (ثُمَ) اليهود (لا يُنْصَرُونَ) على فرض أنهم بقوا معهم ولم يولوا الأدبار ، لأن المنافقين أذل من أن يتمكنوا من المقاومة أمام الرسول وكتائب المسلمين المجاهدة.

[١٤] ثم يأتي السياق ليبين أن المنافقين خائفون من المسلمين أشد الخوف فكيف يتمكنون من نصرة اليهود في قبال المسلمين؟ (لَأَنْتُمْ) أيها المسلمون (أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا (فِي صُدُورِهِمْ) أي صدور هؤلاء المنافقين ، أو اليهود ، وإنما قال «في صدورهم» لأن الصدر مكان

٣٧٨

مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى

____________________________________

القلب والقلب مبعث النفس التي تحمل الخوف والاطمئنان (مِنَ اللهِ) فهم لا يخافون من الله قدر ما يخافون منكم ، لأنهم يرونكم ولا يرون الله سبحانه ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم حتى يخافونه ، (ذلِكَ) أي شدّة خوفهم منكم بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يعقلون ولا يعرفون عظمته سبحانه ، ومن لم يعرف الملك لم يهبه.

[١٥] ثم بين سبحانه أن قتال اليهود للمسلمين ليس مثل سائر الحروب ، فإنهم لشدة خوفهم من المسلمين واختلاف الكلمة فيما بينهم لا جرأة لهم على المقاتلة السافرة ، وذلك مما يشجع المسلمين على القتال (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المسلمون ، هؤلاء اليهود (جَمِيعاً) أي في حال اجتماعهم ـ وذلك لبيان شدة ضعفهم حتى أن جميعهم لا يتمكنون من القتال إلا بالكيفية الآتية ـ أو المراد بضمير الفاعل : اليهود والمنافقون ، وجميعا لتأكيد ذلك (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي لا يبرزون لحربكم إلا وهم متحصنون بالقرى ذوات الحصون والامتناع (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) جمع جدار ، يرمونكم بالنبل والحجارة وما أشبه.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعني أن عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فلا ائتلاف بينهم ولا اتحاد ، حتى تتفق قلوبهم ويشجعوا في مقاتلتكم (تَحْسَبُهُمْ) أي تظنهم يا رسول الله ، أو أيها الرائي (جَمِيعاً) أي متفقين متراصين (وَ) الحال ليسوا كذلك بل (قُلُوبُهُمْ شَتَّى) جمع

٣٧٩

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)

____________________________________

شتيت كمرضى ومريض ، والشتيت هو المتفرق ، أي أن قلوبهم متفرقة (ذلِكَ) الذي ذكر في وصفهم بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما فيه الرشد مما فيه الغي ، ومن لا يعقل يكون بما ذكر له من الصفة ، وهذه الصفات في اليهود إنما تولدت من منهجين ينهجون عليهما الأول : ـ زعمهم بأنهم شعب الله المختار. والثاني : تكالبهم على المادة ، فإن الاتفاق وسائر الفضائل إنما تتولد من التواضع وتحكيم الروحيات في الأمور ، فإذا زعم كل إنسان أنه فاضل لم يرضخ لغيره مما يسبب التشتيت ، وإذا اتجه الإنسان نحو المادة لم تهذب نفسه حتى ينبع منها الخير والفضيلة ، ولذا نرى عبر التاريخ ، اليهود بين معتد ، وبين مطارد ، إن صار لهم شيء اعتدوا ثم جاء من يطاردهم ، وهكذا دواليك ، وقد رأينا في عصرنا قصة اعتدائهم في «ألمانيا» ومطاردة «هتلر» لهم ... ثم اعتدائهم في المسلمين ، وأخذت السحب تتجمع هنا وهناك لمطاردتهم.

[١٦] ومثل بني النضير (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) وهم بنو قينقاع الذين نقضوا عهد الرسول فأمرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عاقبة عملهم السيئة ، و (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع في الآخرة ، وقد كان عبد الله بن أبيّ المنافق وعدهم النصر ، فلم ينصرهم ، كما غر بني النضير وخذلهم حين التحموا بجيش المسلمين.

٣٨٠